الذاكرة الأمنية

مديرية المخابرات

عين النسر الثاقبة تراقب الـ 10452 كيلومترًا مربعًا

 

عندما أُنشئت مجموعة مكافحة الإرهاب والتجسس نهاية السبعينيات، في الشعبة الثانية، كوحدةٍ أساسية تجهيزًا وتدريبًا ومهمات، كان ثمة مَن راهن على دور جديد لتلك الشعبة، التي خلافًا لكل التصورات السائدة ظلت فاعلة طوال سنوات الحرب، بحسب ما تُبيّن مراجعة ذاكرتها وأرشيفها، الحافلَين بالتقارير الدقيقة والحساسة، حول العديد من الملفات التي طبعت تلك المرحلة.


أدت مديرية المخابرات دورًا عسكريًا خلال معركة «فجر الجرود» عبر مجموعات منها، ولكن بالتأكيد لم تكن تلك المرة الأولى التي تؤدي فيها مثل هذا الدور من خلال القوة الضاربة وفرع مكافحة الإرهاب والتجسس، وخصوصًا في أواخر الثمانينيات.
في العام ١٩٩٠، ومع إقفال آخر صفحة في كتاب الحرب اللبنانية، كانت مديرية المخابرات قبلة أنظار اللاعبين والفاعلين من محليين وإقليميين على الساحة الداخلية يومها. وقد شكلت مادة نقاش لجهة دورها على طاولة لقاء النواب اللبنانيين في الطائف، والذين انتهوا إلى وثيقة وفاق وطني، أقرت مبدئيًا دورًا محددًا لتلك المديرية يمكن اختصاره بالأمن العسكري، أي حصر نشاطها داخل المؤسسة العسكرية.

 

«رياح الوفاق» ومعادلات الأرض
غير أنّ الممارسة والأوضاع التي كانت قائمة، دفعت بسفينة المديرية عكس ما اشتهت «رياح الوفاق»، بقرارٍ فرضته المعادلات التي قامت على الأرض، والتي أكدت ضرورة تفعيل دورها الأمني، داخل الجيش وخارجه، خصوصًا أنّها الجهاز الوحيد القادر على ملء الفراغ وسدّ الثغرات على هذا الصعيد.
هكذا بدأت ورشة العمل على إعادة هيكلة مديرية المخابرات وتجهيزها وتدريب عناصرها وتفعيل عملها، عبر استحداث فروع ومكاتب، ووظائف، كمركَزي مساعد أول ومساعد ثانٍ، على سبيل المثال لا الحصر، واستحداث قسم للجامعات قبل تحويله إلى مكتب مستقل لاحقًا، في ظل الفورة الشبابية التي شهدتها الجامعات اللبنانية، باعتبارها ساحات صالحة للمواجهة مع السلطة، في معارك إثبات الذات وتأكيد الأحجام.

 

جنوبًا: دور فاعل للعمل الاستخباراتي حتى في الشريط الحدودي المحتل
كان لشبكات المديرية دور أساسي في معركة صيدا وحصر النفوذ الفلسطيني فيها داخل مخيم عين الحلوة في العام ١٩٩١، إذ كان الدور الفاعل للعمل الاستخباراتي، والاستثمار الجيد للمعلومات التي كانت راكمتها الاستخبارات اللبنانية طوال الفترة السابقة، فنجحت في تحقيق الأهداف وتسهيل عمل الوحدات العسكرية في الميدان، في معركة حُسمت بسرعةٍ، بأقل كلفة بشرية.
كذلك، أدت المديرية دورًا اساسيًا في ورشة دمج الوحدات العسكرية، عقب معركة «فجر الجنوب»، فاستطاعت إعادة توحيد القطع العسكرية واستيعاب عناصر الميليشيات، تتويجًا للمصالحة الوطنية، وضبط حركة المجندين مع إعادة العمل بقانون خدمة العلم، تحقيقًا لمبدأ الانصهار الوطني.
هذه المهمات لم تمنع المديرية من تنفيذ عمليات أمنية دقيقة وحساسة، حتى داخل الشريط الحدودي المحتل، وتوقيف عملاء لإسرائيل شاركوا بعملياتٍ إرهابية، إلى جانب عشرات العمليات المتفرقة على أكثر من صعيد، بناءً لتكليف الجيش ضبط الأمن على الأراضي اللبنانية كافة، عملًا بقرار مجلس الوزراء.

 

عدو شبح
شهد فجر العام ٢٠٠٠، نقطة سوداء في التاريخ اللبناني، مع خروج ظاهرة الإمارات الإسلامية إلى العلن لأول مرة بشكلٍ سافر في أحداث الضنية التي انتهت بانتصار الجيش، وفي الوقت نفسه تمّ الكشف عن ثغرات أساسية، ناتجة عن الدور الذي سبق وأُنيط بالمديرية وتركيز نشاطها بمجالاتٍ معينة. يومها حصلت المديرية على صورة مطبوعة لشخصٍ ملتحٍ تبين لاحقًا أنّها عائدة لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ما فتح النقاش في أروقة اليرزة الداخلية حول التحديات الجديدة وإمكانات المديرية، لتنطلق ورشة من نوع جديد ضد عدو شبح، في مسيرة بدت ثقيلة الحركة زمنيًا، استمرت حتى العام ٢٠٠٥.
ترك زلزال شباط من هذا العام، موجاته الارتدادية على التركيبة الأمنية التي كانت قائمة، والتي تعرضت لتسونامي أسقطها بالضربة القاضية. فشُلّ من شلّ، وحُيّد من حيّد، وضُرب من ضرب. من بين هؤلاء كانت مديرية المخابرات التي تمّ التعامل معها «بالمفرق»، في لحظة متغيرات داخلية وإقليمية، عجزت عن مجاراتها، نتيجة انقلاب الطاولة فوق رؤوس الجميع مع الخروج السوري من لبنان.

 

عشية نهر البارد
استيعاب اغتيال رئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري، شرّع أبواب المؤسسات اللبنانية أمام «الغرب الأميركي» الذي أعاد تفعيل التزاماته الأمنية والعسكرية مع القوى المسلحة الرسمية، منخرطًا في عمليات إصلاح وتدريب، فوجد الضباط اللبنانيون ضالتهم بعد استخلاص العبر من نتائج معركة الضنية. باختصار، كان هناك توجه أميركي - غربي واضح لبناء مديرية مخابرات على قياس خوض معارك ضد عدو لا متماثل اسمه الإرهاب، لغايةٍ في نفس عواصم القرار التي كانت بدأت تشتم نذير توسع المنظمات الإرهابية وتمددها في طول الأرض وعرضها.
هكذا كانت الأوضاع عشية ٢١ أيار ٢٠٠٧، موعد معمودية نهر البارد، التي بّينت تطور القدرات البشرية والتقنية على صعيد الجيش ككل، ومديرية المخابرات بشكلٍ خاص، سواء من خلال المهمات الخاصة داخل المخيم وجمع المعلومات الميدانية، وصولًا إلى سرعة ومهنية التحقيقات التي أدت إلى كشف عشرات الإرهابيين المتخفين داخل الأراضي اللبنانية، لينتهي انتصار أيلول بنقلةٍ نوعية على الأصعدة كافة في ما خص المؤسسة العسكرية، ويمهّد لاحقًا لإشراقة «فجر الجرود».

 

عين النسر
كان التركيز على العدو الإرهابي قد بدأ يحتل هامشًا أساسيًا من مساحة العمل الأمني، غير أنّ اتجاه البوصلة لم يضع، إذ ظلت عين النسر الثاقبة مفتوحة صوب الحدود الجنوبية، فكان انهيار عشرات شبكات التجسس الإسرائيلية، والدور الفعّال لمديرية المخابرات خلال عدوان ٢٠٠٦. فقد تمكّن الجيش نتيجة المعلومات الأمنية المتوافرة، من تأمين سرعة الانتشار حتى الخط الأزرق، وقبلها ضمان سلامة الأهالي عقب التحرير في العام ٢٠٠٠.
 

تحقيق الأهداف بصفر خسائر
دخل الجيش اللبناني ومعه مديرية المخابرات، عصر الإرهاب، مع احتدام الصراع في سوريا، فكان التنسيق مع الأجهزة الصديقة والحليفة، على الصعد كافة، ما أدى بعد سلسلة خروقات أمنية، إلى نجاح أمني باهر، سمح بالقضاء شبه التام على الخلايا الارهابية، بجهد لبناني محض، جسّدته عشرات العمليات النوعية التي أثنى عليها الخبراء العسكريون الأجانب، والتي كانت حصيلتها تحقيق الأهداف بصفر خسائر.
أفضت هذه المسيرة إلى انتصار آب الكبير وتحرير الحدود الشرقية، وإنهاء الوجود العسكري والأمني للمجموعات الإرهابية، وحصر فكرها ببعض البقع التي تحظى بوضعٍ إقليمي - دولي معين، في معركةٍ كان لمديرية المخابرات إسهام أساسي فيها، من خلال اختراق العدو وتأمين المعلومات الاستخباراتية، وكذلك حماية الظهير الخلفي للقوى العسكرية، ما ترجم انهيارًا سريعًا للعدو.
لقد راهن اللبنانيون على جيشهم ووحداته العسكرية، وكذلك على مخابراته، فكسبوا الرهان، ووفى أصحاب الوعد، فسقط المجرمون في حق العسكريين والمواطنين الأبرياء في قبضة المديرية، لينتهوا إمّا قتلى أو سجناء في يد العدالة اللبنانية، في رحلة حقّقت خلالها مديرية المخابرات نقلة نوعية، تنظيمًا، وعملًا، وإمكانات، بمساعدة الأصدقاء حينًا، وبالاتكال على الذات أحيانًا.
٢٠١٩، عيد الجيش الـ74، بإمكان اللبنانيين أن يطمئنوا إلى المستقبل، بعدما ثبتت بالدليل قدرات رجال أمن مؤسستهم العسكرية التي قطعت دابر التطرف، رغم أنّ الحرب لم تنتهِ ضد عدو غادر جنوبًا، وآخر إرهابي. وسيبقى أصحاب العهد على الوعد أوفياء، عين نسرهم الثاقبة تراقب «من فوق» الـ١٠٤٥٢ كيلومترًا مربعًا، مخالبه جاهزة للانقضاض، شباكه تنسج مظلة أمان، ودائمًا، أبدًا، للتضحية جاهزون بكل أمانة وشرف، شعارهم: «إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنع بما دون النجومِ».
في العيد الــ74 للجيش رسالة للبنانيين، ذاكرتكم الأمنية في الحفظ والصون لم تُمسّ خلافًا للاعتقاد السائد منذ 30 سنة.