قضايا إقليمية

مراجعات في هوية إسرائيل التاريخية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

تعتبر إسرائيل الدولة الوحيدة من بين دول العالم قاطبة، التي أوجدتها الأمم المتحدة من العدم، وهي كذلك الدولة الوحيدة التي كان قبولها في هذه المنظمة الدولية مشروطاً بشروط ومقروناً بحملات مسعورة من الأضاليل والأكاذيب والخداع، وقد استغرقت عملية تلفيق انضمام هذا الكيان وهضمه في المؤسسة العالمية بمؤازرة الدولتين الكبريين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في حينه، مدة ستة أشهر، حتى تم استصدار قرار عسير بقبولها كعضو في المنظمة. والواقع أن صوتي هاتين الدولتين كانا الصوتين الوحيدين اللذين ارتفعا في جلسة مجلس الأمن في مطلع شهر كانون الاول 1948 دفاعاً عن قبول هذه العضوية، أما باقي أعضاء المجلس فكان في تقديرهم جميعاً أن هذا القبول سابق لأوانه، لأن مستقبل فلسطين ومصيرها السياسي كانا لا يزالان مطروحين على بساط البحث... وكان من الملفت في تلك المرحلة المبكرة، ارتفاع صوت كندا بملاحظة تحذيرية تقول: إن قبول عضوية إسرائيل «يجب ويتحتم أن يكون مرتبطاً بصورة وثيقة باستعدادها لتنفيذ توصيات الجمعية العامة».

 

وبحسب الأصول المرعية الإجراء، أعلنت لجنة القبول في مجلس الامن أنها لم تتمكن من حيازة المعلومات الضرورية اللازمة التي تخولها اتخاذ قرار البت في مسألة العضوية في حين اتخذت الجمعية العامة القرار رقم 194، القاضي بانشاء لجنة توثيق بغية احلال السلام في فلسطين، وبمنح الفلسطينيين حق العود الى ديارهم والتعويض عليهم. وعلى الرغم من ذلك وبتحريض أميركي - سوفياتي وخروجاً على المألوف، قرر مجلس الأمن التصويت مجدداً على قبول العضوية، لكن النتيجة كانت سلبية. وفي شهر شباط 1949 استطاعت أميركا أن تُقنع كلاً من فرنسا والمملكة المتحدة بقبول عضوية إسرائيل. أما الصين فبقيت مصرة على ضرورة التقيد بالإجراءات المتبعة، اي احالة المسألة ثانية الى لجنة القبول.
وذكرت إسرائيل في كتابها السنوي للعام 1950 - 1951 أن بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة كانت ترغب في أن تختبر نواياها المبيتة بعد توقيعها على بروتوكول لوزان - الخاص بالتقسيم وعودة اللاجئين الفلسطينيين ورسم الحدود وقضية القدس - قبل الموافقة على طلبها الانتساب والحصول على العضوية. وقد لجأت إسرائيل من أجل ذلك الى الكذب والاحتيال للحصول على الأغلبية المطلوبة. وفي هذا السياق أعرب الجنرال كارل فون هورن، كبير المراقبين الدوليين في فلسطين بين عامي 1958 و1963 مع المراقبين الذين كانوا يعملون تحت إمرته، عن ذهولهم لمقدرة الإسرائيليين «على اختراع الأكاذيب وتشويه الصورة الحقيقية، واختلاق القصص والأكاذيب، واستعمال كل وسائل الدعاية لزرع الأكاذيب في أذهان الشعب الأميركي وفي أذهان مؤيديهم في أميركا والعالم». وأضاف: «في حياتي كلها لم أكن أعتقد أنه يوجد إنسان على وجه الأرض كالإنسان الإسرائيلي، يستطيع أن يحوّر الحقيقة بهذا الشكل وبتلك الخبرة ويجعلها تخدم مصالحه».

 

وهكذا فإن إسرائيل التي تسولت العضوية من الأمم المتحدة بتعهدها الوفاء ببعض الإلتزامات الأساسية، لم تبذل أي جهد من أجل التنفيذ.
فقرار التقسيم رقم 181 لم ينفذ، بل ان بن غوريون، رئيس الحكومة آنذاك، أعلن في الكنيست في نهاية عام 1949: «ان إسرائيل تعتبر قرار التقسيم قراراً غير مشروع وغير موجود».
والقرار الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين والتعويض عليهم ورقمه 194 لم ينفذ على الإطلاق. بل إن وزارة الخارجية الإسرائيلية تقدمت في شهر تموز 1949 بمذكرة رسمية الى اللجنة الفنية المنبثقة عن لجنة التوقيف الدولية تقول: «إن الساعة لا يمكن أن ترجع الى الوراء... إن عودة أي لاجئ عربي الى مكان إقامته الأصلية انما هي شيء من المستحيل».
وقد استندت إسرائيل في عنادها ورفضها للشرعية الدولية الى جماعات الضغط الصهيونية الناشطة في الولايات المتحدة منذ العام 1942، إنطلاقاً من مؤتمر بالتيمور. وما من شك بأنه كان لهذه الجماعات دور بارز جداً في صوغ السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط بنوع خاص، وقد استفادت هذه المجموعات من عدة عوامل تاريخية كان من بينها صعود النازية وما ارتكبته من مذابح بحق اليهود وسواهم، الأمر الذي أوجد مناخاً ملائماً للتعاطف مع المطالب الصهيونية الداعية الى توفير «ملجأ» ليهود أوروبا المتضررين من النازية.

 

وعندما غرق البيت الأبيض في هلوسات الحرب الفيتنامية التي أفقدته توازنه وصوابه، تسلل القادة الصهاينة إليه لكي يفرضوا «الاستقرار» حسب زعمهم على شعوب الشرق الأوسط ودوله، وبالتالي لكي يفرضوا في الحقيقة «السلام الصهيوني»، لقاء أن تتحول أميركا الى مصدّر السلام الأساسي لإسرائيل، وهو الأمر الذي تحاشاه ثلاثة من الرؤساء الأميركيين السابقين قبل جونسون، وهم ترومان وآيزنهاور وكينيدي. والقرار في هذا الاتجاه كان سيعني الدمج ما بين المصالح الأمنية والقومية الأميركية في المنطقة وبين المصالح الإسرائيلية، الى درجة لا مثيل لها في تاريخ العلاقات الخارجية الأميركية.

وهذا ما حصل بالفعل في حرب عام 1967 ضد العرب تحت ذريعة مواجهة الكراهية العربية والأسلحة الروسية وصواريخ عبد الناصر الجديدة. وقد لخص ستيفن غرين في كتابه «الإنحياز» هذه العلاقات الشاذة بقوله:

 

«إن أميركا انحازت ليس الى إسرائيل كأمة، بل الى جانب أصحاب النهج العسكري في ذلك البلد، وعلى رأسهم شارون وبيغن وشامير».
أما الرئيس ترومان فبررها بالقول: «بخصوص الموقف من فلسطين فإن وزارة الدفاع كانت تتحدث دائماً عن أمرين: الأول هو عدم قدرة الولايات المتحدة على إرسال قوات الى هناك في حال نشوب اضطرابات. والثاني هو الثروات النفطية في الشرق الأوسط». وأضاف يقول: «كان رأي وزير الدفاع فورستال دائماً أنه من الخطر على مصالحنا النفطية في الشرق الأوسط أن نستثير عداء العرب لنا، أما في وزارة الخارجية فإن المتخصصين في شؤون الشرق الأدنى ومن دون استثناء، كانوا غير محبذين لفكرة إنشاء الدولة اليهودية، على أساس أن تأييدنا لهذه الفكرة سيورثنا عداء العرب الذي سيؤدي بهم الى الدخول في المعسكر السوفياتي، أما أنا فلم أكن مقتنعاً قط بآراء الدبلوماسيين هذه». وقد علّق بن غوريون على موقف ترومان هذا بالقول: «إنه رجل يعرف كيف يستمع الى نصيحة مستشاريه، ولكنه يعرف أيضاً متى يتبع رأيه الشخصي»، وخلف هذا الكلام يكمن بالتأكيد احتياج الرؤساء الأميركيين باستمرار الى العون اليهودي والمساعدات المالية اليهودية في معركة الانتخابات الرئاسية.

 

لقد خرجت إسرائيل منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 باستنتاج فحواه أن حصولها على السلاح الأميركي هو أمر هام للغاية ليس فقط لاعتبارات عسكرية، بل أيضاً بسبب قيمته السياسية في الصراع مع العرب. وقد أغرى ضعف الجيش المصري، حسبما أظهرته معارك عام 1967 والمعارك التي خاضها في اليمن، خصوم الرئيس عبد الناصر في الإدارة الأميركية لانتهاج سياسة أكثر عداء في مواجهته، الأمر الذي عكس نفسه في السلوك الأميركي العدواني عام 1967 بنوع خاص، وتوصل خصوم عبد الناصر الى أن اختفاءه عن المسرح السياسي هو الطريق الوحيد لتنفيذ المشاريع الأميركية الصهيونية المشتركة في المنطقة. وفي هذا المجال يقول مستشار الأمن القومي للرئيس السابق جيمي كارتر: «يجب على العرب أن يفهموا أن العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأميركية - العربية. لأن العلاقات الأميركية الإسرائيلية علاقات حميمة مبنية على التراث التاريخي الذي يتعزز باستمرار بواسطة النشاط السياسي لليهود الأميركيين. بينما العلاقات الأميركية - العربية لا تحتوي على أي عامل من هذه العوامل».
وما من شك، في الخلاصة، ان الصهيونية استفادت كثيراً من الأخطاء العربية وحالة الشرذمة التي حكمت الواقع العربي على مدى عشرات السنين من أجل تحقيق الإنجازات التالية:

 

1- إشعار الدول المعنية بوجود الكيان الصهيوني كدولة قائمة بقوة لا يمكن انكارها على مختلف الصعد السياسية والإستراتيجية في منطقة بالغة الحساسية من العالم.
2 - السعي لكسب تأييد هذه الدول للمواقف الصهيونية في الهيئات الدولية مهما بدت هذه المواقف غير قانونية وغير أخلاقية.
3 - زيادة وزن إسرائيل وثقلها الدولي من خلال توسيع رقعة استنادها الجيوسياسي - الاقتصادي، وبالتالي زيادة قدرتها على المناورة وتزييف الحقائق وتكريس الأمر الواقع.

 

بين العامين 1958 و1963 أعرب المراقبون الدوليون عن ذهولهم لمقدرة الاسرائيليين «على اختراع الأكاذيب وتشويه الصورة الحقيقية واستعمال كل وسائل الدعاية لزرع الأكاذيب في أذهان الشعب الأميركي وفي أذهان مؤيديهم في أميركا والعالم»