اقتصاد ومال

مسار أعمال التنقيب والمسح منذ منتصف القرن الماضي
إعداد: تريز منصور

ليست المرة الأولى التي يفتح فيها لبنان موضوع التنقيب عن «الذهب الأسود»، بما أن التوقّعات عن احتمال وجوده تعود الى منتصف الأربعينيات، عندما بدأت محاولات حفر بئر تجريبية في المنحدر الغربي في جبل تربل شمال مدينة طرابلس. وفي الماضي القريب أحيت نتائج المسح الزلزالي للشواطئ الإقليمية اللبنانية العام 2003، آمال وجود النفط ومعادن أخرى في غير منطقة لبنانية.

 

منذ منتصف القرن الماضي!
لعل منطقة البقاع من النماذج الهامة التي عاشـت هذه التجربة منتصف القرن الماضي، وهذا ما أكدته الدراسات ونتائج عمل الشركات التي قامت بالتنقيب، وأشارت الى احتمال كبير، أن تكون المناطق البقاعية هذه تختزن كميات من «الذهب الأسود»، إلا أن التجربة لم تكتمل ولأسباب مختلفة. وقد اتفق بعض الآراء على ربطها بالواقع السياسي وحساب السلطة حينذاك، وربطت آراء أخرى بين إقفال هذا الملف، وبين تكلفة إنتاج الغاز والنفط، التي تصل الى ضعف السعر المتداول.
اليوم يطالب متابعو الملف بطي تلك الصفحة، والإستفادة من الإنطلاقة الجديدة المتمثلة بالنتائج الإيجابية للمسح الزلزالي الذي أجرته عدة شركات أجنبية، وأظهر وجود النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية. ويقترح المعنيون بالملف عدم التنقيب في البر اللبناني قبل رسم خارطة معدنية للبنان، لأن الإرتجال والتسرّع بعد طول انتظار يؤديان الى نتائج غير سليمة، ويؤكدون أن إنجاز خارطة متكاملة يؤسس لاستثمار ما تختزنه الأراضي اللبنانية من معادن متنوعة، فالهدف ليس البحث عن الغاز والبترول فحسب، بل استخراج الحديد والفوسفات والذهب وغير ذلك... كما أن وضع الخارطة يساعد على استكشاف الثروة المائية والحفاظ عليها.
 

سُحمر ويُحمر
قد يكون من المهم العودة الى تاريخ اهتمام لبنان بـ«الذهب الأسود»، حيث كانت عمليات البحث والتنقيب عن النفط تجري في الأراضي اللبنانية، بحيث تمّ حفر سبع آبار بين العامين 1948 و1966، لم تسفر عن نتائج إيجابية، لكن النظريات والدراسات التي قامت بعد هذه الفترة، جاءت لتؤكد أماكن وجود النفط، ولا سيما في المياه الإقليمية اللبنانية, من دون استبعاد وجوده ايضاً في المناطق البرية.
قبل الحديث عن الغاز الطبيعي والبترول في الآبار التي حفرت في بلدتي سُحمر ويُحمر في البقاع الغربي في خمسينيات القرن الماضي، لا بد من العودة قليلاً الى البدايات، فالدراسة الأولى حول احتمال وجود البترول في لبنان بحسب بعض المصادر تمّت العام 1830، عندما نفّذ العالمان دوموفل بلاكنهورن دراسة جيولوجية غير مكتملة، تلاهما العالم لويس دوبرتريه، الذي أكمل هذه المهمة من دون تحقيق دراسة جيوفيزيائية، تمهّد لحفر آبار تجريبية تحدد كمية المخزون. أما أول عملية تنقيب فعلية عن البترول فقد حقّقتها شركة بترول العراق العام 1948 في جبل تربل شمالي لبنان، وقد اكتشفت الشركة مواداً بترولية ثم طمرت البئر الواقعة عند سفح الجبل من دون أن تُعرف الأسباب.
ويذكر العالم اللبناني الراحل الدكتور غسان قانصوه في أكثر من مقابلة صحافية أن تجارب حفر لاحقة نفّذتها شركة «غيتي أويل» التي كانت تملك نصف «شركة الزيوت اللبنانية». وقد جرى حفر آبار تجريبية في لبنان العام 1953، وثبت بالدليل القاطع، أن أرضنا تزخر بالبترول والثروات المعدنية والغاز، إذ تفجّر الغاز من البئر التي حفرت في يُحمر بطاقة 50 متراً مكعباً في اليوم، تحت ضغط 50 جوية (Atmosphère), ومن ثم طمرت البئر. كما حفرت إحدى الشركات الألمانية العام 1960 لحساب الشركة اللبنانية للزيوت بئراً في منطقة القاع الى عمق 2557 متراً.
ويشير الدكتور قانصوه في مكان آخر الى أن الشركة قد حفرت العام 1963 بئراً في بلدة سُحمر، تفجّر منها الغاز على عمق 180 متراً تحت الأرض على الطبقة الجيولوجية نفسها، الموازية للآبار الغازية في سوريا وتركيا والعراق. كما حفرت الشركة عينها بئراً في منطقة عدلون جنوبي مدينة صيدا.
وفي هذا الإطار قامت شركة إيطالية هذه المرة لحساب الشركة اللبنانية للزيوت العام 1963 بحفر بئرين إحداهما في منطقة تل ذنوب والأخرى في منطقة سُحمر البقاعية. كما جرت محاولات فردية في منطقة عبرين (شرقي بلدة البترون) من قبل شركة ريشارد شاهين بواسطة متعهد محلي.

 

الحُمّر ومناطق «الذهب الأسود»
يمتلك لبنان مخزوناً جيداً من مادة الحُمّر وفق الدكتور غسان قانصوه، وهي موجودة في بلدات سُحمر ويُحمر وكوكبا وحاصبيا، وتبيّن وجود «الغيلسونيت» أي الإسفلت الصافي بنسبة 99 في المئة، والذي لا يستعمل لفرش الطرقات، إنما لإنتاج البويا السوداء، أو يوضّب كمبيد للحشرات، ويبلغ ثمن الطن الواحد منه نحو ثلاثة آلاف دولار (في حينها).
ومن ناحية أخرى، أجرت شركات ألمانية دراسات جيوفيزيائية في الهرمل في منتصف القرن الماضي... وتبيّن وجود نفط وغاز. وعاودت شركة بلغارية التنقيب قرب قاموع الهرمل العام 1982، وأكدت تقارير لقوى الأمن الداخلي أن الفريق البلغاري عثر على النفط الخام على عمق 380 متراً. ويرى قانصوه أن الثروة التي يختزنها لبنان تتجاوز احتمال وجود البترول والغاز الطبيعي والحُمّر الى معادن أخرى هي:
• الحديد: مرجيا، عكار، جبل القاموع، حرف البرابيس، حرار الزعرورة، ضهر البيدر، البقاع الغربي، بيت الدين، عين عار، بشري وبلوزة (مئات الملايين من أطنان الحديد).
• الذهب: اللقلوق، بريتال، قونور وحدشيت.
• الألمينيوم: حصرون، حملايا، وادي الجماجم، ترشيش وجعيتا.
• الفوسفات: البقاع الغربي، عين فجور قرب لبّايا، نحلة وصيدا.
• الفحم الحجري: بيت الدين، حيتورة، قيتولي، زحلتا، أرصون، زبدين، قرنايل، جزين، ميروبا، قرطبا وبشري.
• النحاس: تأكد وجوده في بريتال الغنية بالذهب والفضة والرخام والصلصال، والأونيكس الغالي الثمن.
ولا بد من الإشارة الى أن منطقة البقاع شهدت في العقد الأخير من القرن الماضي، اشتعال عدد من آبار المياه الجوفية، عندما حاول أصحابها زيادة عمقها نتيجة شح المياه، ولعل أبرزها في التل الأخضر مطلع العام 1999، حيث ختمت القوى الأمنية فتحة البئر بالشمع الأحمر بناءً على توصية وزارة النفط. وهناك حادثة مماثلة حصلت العام 1994 في قطعة أرض في بلدة المرج، والعام 1999 شبّ حريق كيميائي في حاصبيا حيث يوجد أكبر منجم للحمّر.

 

ماذا عن القوانين؟
في الفترة الممتدة من العام 1953 الى العام 1966، نشطت عمليات البحث والتنقيب في عدة مناطق لبنانية، لكن النتائج لم تأت على مستوى التوقعات، وبالتالي لم تثر شهية الشركات العالمية، فتراجع الإهتمام بالموضوع في حينه، لكنه لم يتوقف، إذ ظلّ مثار جدل بين الحين والآخر.
وإذا كان ثمة جدوى تعلّق على الإهتمام الحاصل اليوم حول هذا الملف، فهي تتمثّل من دون شك في إعادة تسليط الضوء عليه، خصوصاً أن هذا الملف قطع خلال الأعوام الماضية أشواطاً كبيرة ببطء وإنما بثبات.
لقد أعيد طرح ملف البترول والغاز العام 2003، وتمّ تكليف شركة «سبكتروم» إجراء المسح الزلزالي الثنائي البعد، ثم كلّف المكتب الإستشاري «دوي بالأنتين» باقتراح من مجلس الخصخصة بإعداد مشروع قانون التنقيب عن النفط والتعاقد مع إختصاصيين لاستكمال مراحل العمل وصولاً الى التنقيب، ورسى الإختيار على شركة «أي تي انرجي»، التي أشارت الى أن المطلوب السير في اتجاهين: إجراء المسح وترسيم الحدود البحرية، الذي تمّ عن طريق التعاقد مع المعهد العالمي لدراسة البحار «ساوث هامبتون». المعهد أجرى بدوره تحديداً للمواقع انطلاقاً من نتائج المسح الزلزالي للمياه الإقليمية فضلاً عن تحديد المناطق الاقتصادية وتقسيمها الى مقاطع، ودعا الى وضع قانون للتنقيب. بعد ذلك تمّ التعاقد مع شركة «ECL» لتقدير حجم المخزون، وجاءت النتيجة: توافر الغاز والنفط.
ولمزيد من التأكد استعين برئيس مركز البحوث العلمية الذي توافرت لديه في ذلك الوقت منحة فرنسية ضمن مشروع «شاليمار»، أجري بموجبه مسح جديد للساحل لهدف مزودج: دراسة الزلازل والمسح الجيولوجي، وقد جاءت النتيجة مزدوجة: وجود البترول والزلازل، وكانت متطابقة مع نتائج المسوحات السابقة.

 

من يحمي نفط لبنان؟
لقد تعاقب أكثر من وزير على تولي ملف الطاقة، وقد مضى 7 أعوام على بدء العمل الجدي فيه بالتزامن مع بدء كل من إسرائيل وقبرص العمل عينه، والنتيجة أن كلاهما بدأتا التنقيب في حين أن لبنان ما يزال يتخبّط في صراعاته الداخلية.
وبعد إقرار مجلس النواب قانون التنقيب عن النفط (17/8/2010)، والذي يشكل حدثاً يضع لبنان على الخارطة النفطية، يجب الإسراع في إنجاز آليات التنقيب ومواجهة الضغوط الإسرائيلية المتوقعة والهادفة الى حرمان لبنان حقوقه النفطية.
فتحريك الملف وإقرار القانون لن يحميا حقوق لبنان في النفط، إذا لم تتخذ الإجراءات العملية لتحقيق ذلك، ولا بد من ترسيم الحدود البحرية.
وعلى الرغم من أن لبنان قطع أشواطاً بعيدة في مجال ترسيم حدوده، فإن الحاجة الآن الى تسجيل الترسيم لدى الأمم المتحدة من طرف واحد لأنه يتعذّر التوافق مع جميع دول الجوار على ذلك. وأولى الخطوات المطلوبة بعد إنجاز المشروع في مجلس الوزراء وإحالته على المجلس النيابي للمصادقة عليه، هي إنجاز تسجيل ترسيم الحدود لدى الأمم المتحدة.
أخيراً، كل الأبحاث والدراسات دلّت على توافر الغاز والنفط على السواء وآخرها التقرير الصادر عن شركة «ECL» الإنكليزية الذي أكّد وجود المادتين. ويشير التقرير الى أنه تمّ تحديد 87 بئراً وقد أبرز العمل على 12 منها وجود كميات لا تقل عن 18 مليار برميل. ووفق تقديرات خبراء النفط، إن مردود 18 مليار برميل لن يقل عن 54 مليار دولار حداً أدنى (على أساس احتفاظ الدولة بما يعادل 30 دولاراً بعد حسم تكاليف كل برميل). إلاّ أن لبنان لن يتمكّــن من الإستفادة من ثروته هذه قبل 8 سنوات على الأقل من إقـرار القـانون وبــدء استدراج العروض للــشركات المهــتمــة بالتنقيب. الخطوات المقبـلة لن تكون صعـبة باعتبــار أن المــواقع مــوجودة ومحددة، إنما المطلــوب ربطها بعضها ببعض، على قاعدة توزيع عادل في ما بينها وإجراء استدراج العروض لعمليات التنقيب، وتحضير البنى التحتية للحفر والتخزين، وأخيراً الإستخراج وتحديد الأرباح وتوزيعها.
ويبقى السؤال الأهم: هل تحظى الأجيال المقبلة بفرصة التنعّم «بذهب لبنان الأسود»، التي سوف ترسم مستقبله الإقتصادي والسياسي على حد سواء؟