مستقبل العرب بين التغيير والغير

مستقبل العرب بين التغيير والغير
إعداد: الدكتور نسيم الخوري
أستاذ ومدير سابق لكلية الاعلام والتوثيق – الجامعة اللبنانية

المقدمة

وصل العنف في بلاد العرب إلى ذروته بعدما تأسّس في العقود الفاصلة بين الألفيتين الثانية والثالثة. وافتتح العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين بالحروب الاستباقية والنزاعات الأهلية والمذهبية والتهجيرية المستمرّة بين الفئات المتعدّدة. وكان القرن العشرون قد أقفل أبوابه على "مئة وسبع حروب في العالم كانت في معظمها بين مجموعات إتنية ودينية. وكان للمسلمين فيها أيضًا أدوار وصراعات وقتال في ما بينهم وضدّ غيرهم إذ دارت حروب بين المسلمين وغير المسلمين في البوسنة والشيشان وكوسوفو ومقدونيا وأذربيجان وطاجيكستان وكشمير والهند والفيليبين وأندونيسيا وفلسطين ولبنان والسودان ونيجيريا وغيرها، وفي نقطة وداع ألفية واستقبال أخرى أي مع حلول العام 2000، كان العالم مشغولًا ب 32 نزاعًا مسلّحًا ، اضطلع المسلمون في 23 منها بأدوارٍ ملحوظة"[1].

يجعل هذا الحضور الكثيف للمسلمين في ميادين الحروب مميّزين عن غيرهم من الشعوب والحضارات الأخرى. لكن لا يمكن أن تكون جميع خلفيات هذا العنف وتوصيفاته الناتئة ودوافعه وأشكاله دينية محضة، كما يبرز الإعلام العالمي الصورة اليوم في عين العالم. هناك هزائم وجروح وإحباطات متراكمة عبر التاريخ، لدى العرب والمسلمين تجاه أنظمتهم وتجاه نسخ الحكم الإسلامي المتعدّد الذي يحتلّ عقل الغرب وأدبياته، كما حيال هذا الغرب وأميركا تحديدًا، حيث يستمرّ استغلالهم أو استخدامهم وسحب ثرواتهم وكنوزهم عبر مختلف الأساليب والأحداث المعاصرة بما جعلهم وقودًا قبل مواقد إسقاط الإتحاد السوفياتي أو منظومة الإلحاد وبعدها. وإذا كانت شعوب الشرق الأوسط قد منحت كنوز الأرض والسماء، فإنّ الطمع الدولي الواسع بخيراتهم ومشاركتهم إيّاها سيفضي منطقيًّا إلى مدّ الأيدي إلى أنظمتهم وعقائدهم وديانتهم. وتستمرّ بذلك مفارقات السياسات الغريبة والمحيّرة نفسها حيالهم من دول كبرى لم تشبع بعد من تحيّزها التاريخي المنفّر وغير المفهوم أو المبرّر لإسرائيل. ويبرز العالم العربي جاهزًا للإرهاب الإسلامي ولردود الفعل، خصوصًا بعدما انفجرت مشاعر الإحباط السلبية والمكتومة أحيانًا كثيرة فبلغت حدود الكراهية والاستعداء لكلّ ما يمتّ بصلة إلى أميركا وأوروبا والأنظمة الغربيّة.  وقد عبّر عن هذا المناخ العدائي خير تعبير البيت الأبيض بلسان رئيسه السابق جورج دبليو بوش بعد مصيبة أميركا في 11 أيلول 2001 بسؤاله: لماذا يكرهوننا؟ هو يقصد المسلمين، مع أنّ جواب هذا السؤال قد يكون مضمرًا ومعروفًا، وهو شرّع أبوابًا وحروبًا إقليمية لتأديب هؤلاء من ناحية ودعوتهم إلى تلطيف صورة الإسلام في عين الغرب.

منذ الثورة الإسلامية في طهران (1979) وعناوينها الكبرى وفي رأسها مهمّة تحدّي أميركا والعالم و"إسرائيل" بالثورة الإسلامية ومناصرة المستضعفين في الشرق الأوسط، وفي طليعتهم العرب والفلسطينيين في صراعهم التاريخي مع إسرائيل، بلغ المشهد مستويات من القلق لدى مرجعيات الدول الإسلامية الأخرى المتحالفة تاريخيًا والمستقرّة في تحالفها مع الغرب. وعلى الرغم من الخلافات الكبرى بين تلك المرجعيات والتباين في علاقاتها الدولية لحماية مصالحها، ساد مناخ من التقارب في ما بينها، بهدف إرساء توازن مطلوب وضروري مع نفوذ إيران المتعاظم عربيًا. وسهّل هذا المناخ من عبور الغرب المتأزّم إقتصاديًا إلى جعل شعوب المنطقة أكثر تجذّرًا في إسلاميتهم وأكثر قبولًا لتحويل بلادهم إلى أسواق متعطّشة للسلاح لتكديسه في مخازنها، أو لامتحان فعاليته في بلادهم، خصوصًا عندما طغت صورة إيران النووية على كلّ إنشغال آخر. وبدت تركيّا بعد نشوء حزب "العدالة والتنمية" (2002) وكأنها دولة الإرشاد الأعلى الإسلامية، المتأنّية مع رجب الطيّب أردوغان في إدّعاء مناهضة التعصّب الديني، والجاهدة في تقديم نفسها منذ عقد، بأنّها النسخة الإسلامية المعتدلة أوالمقبولة من العالم والمتماهية للأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا.

وبعد سقوط البرجين، ظهر الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 ثمّ تهاوي أنظمة "ثورات الربيع العربي" أشبه بسجّادتين حمراوين تختلط فوقهما الهويات وتتصارع الأفكار والمذاهب والأنظمة بين المستورد والأصيل. لقد تفشّت مظاهر الصراعات الإسلامية وتعاظم العنف حول مسائل مذهبية عتيقة كان يمكن التصديق أنّها إندثرت. فتحت تركيّا ذراعيها كدولة إقليمية سنيّة عظمى أو تراودها العظمة على من حولها، في الوقت الذي كشفت فيه عن ملامح بارزة كقاعدة غربية أطلسية ثمينة، تحتضن العديد من قادة الإخوان المسلمين المصريين والليبيين والسوريين والأردنيين المقيمين فيها منذ فترات طويلة. يمكن إرجاع العلاقات بين تركيا والإخوان والقيادات الإسلامية إلى العلاقات الشخصية التي راكمها نجم الدين أربكان والتي تجلّت في فترة حكم حزب" الرفاه" الإسلامي بزعامته في العام 1997.

وقد أورثت تبادلية العنف الغامض والمتنامي بين الأنظمة المستهدفة والشعوب المطالبة بإسقاطها، تألّقًا تركيًا وإيرانيًا وحماسة كبيرة في هندسة التغيير وإذكاء الحماس الشعبي، بما جعل من إسطنبول وطهران والرياض بالإضافة إلى مصر عواصم أساسية تتجاذب الإسلام والمسلمين والعروبيين. وإستقطبت هذه العواصم وغيرها كقطر الوفود والمؤتمرات والندوات الإقليمية والدولية الإسلامية المصرية والتونسية والسورية واللبنانية والليبية والعالمية. وأورثت تلك السياسات تحدّيات كبرى وإنقسامات بل تشظيات بين محورين أساسيين ذات طابع إسلامي. وظهرت معادلة غريبة تربط بين تعاظم العنف في بلاد "الثورات" وتعاظم الدور التركي في اجتذاب فعاليات السنة ومقاتليهم وممويلهم وإعلامييهم. بدا الحماس التركي نقيضًا لإيران الراعية لحركات المقاومة في المنطقة ولكسب الشارع العربي أو جذبه ولو على حساب الدول الأخرى مثل السعودية ومصر. يمكن المجازفة في القول أنّ النسخة الإسلامية التي روّجت لها الإعتدالية التركية، تكشّفت في ما بعد عن وجود مجموعات إسلامية موكولة برعايتها وقد لا تحصى تسمياتها. نشهدها تتدفق نحو جنوبها مثلاً، من "جماعة الإخوان" و"قوات التحالف" و"الجيش الحر" و"حركة أحرار الشام" و" جيش الإسلام" و"لواء صقور الإسلام" و"لواء جند الأقصى" و"لواء الحق" إلى "حركة حزم" وصولاً إلى "جبهة النصرة" و"دولة الإسلام في العراق وبلاد الشام، داعش" التي أعلنت نفسها "دولة الخلافة"[2] وصولاً إلى "خورسان"[3]. وإنعكس هذا الانقسام والإرهاب التكفيري على المجتمعات الإسلامية الأخرى التي وجدت نفسها مقيمةً في قلب هذه الصراعات. ولم يتردّد الكثير من فئات المسلمين في العالم وهم تحت العين العالمية، تعويضًا عمّا هم فيه من ضياع وقلق وتحديات، من إظهار البهجة أو إضمار الشرّ بمناخات "الجهاد" وإشعال اليقظات الدينية المكبوتة كلّها، بحثًا عن هويّة جديدة مزعومة للإسلام الأمبراطوري الجديد الذي أجازف بتسميته مستحيلاً.

كان يمكن وصف "اليقظة الإسلامية" في الشرق الأوسط التي فضّلت إيران تسميتها بالصحوة الإسلامية، بأنّها تحمل نوعًا من الحنين الأمبراطوري التركي والإيراني الذي تجلّى في بعث الإسلام، بالإضافة إلى القلق والتنافس السعودي والقطري على مفهوم المرجعية الدينية والذي انسحب على معظم البلدان العربية والخليجية. وكان يمكن أن نلحظ تنامي فورة المسلمين الكبرى التي إتّخذت أحجامًا ملحوظة بعد تزاحم الأمبراطوريات العظمى الأميركية والروسية والصينية والأوروبية فوق العتبة السورية وفي مجلس الأمن في زمن صار الحديث مألوفًا وغير مثبت عن إنهيار القطبية الأحادية والعودة مجددًا إلى الحرب الباردة في تقاسم النفوذ الدولي والإقليمي. وجاءت مجموعة دول "البريكس"[4] لتزيد القناعات بانتفاء الأحادية الأميركية بعد إعلان الرئيس باراك أوباما الإنسحاب الأميركي العسكري من العراق (بدءًا من العام 2011).

وكان يصعب تقدير حجم الحروب والعنف الذي يفترضه هذا المناخ الغامض والفوضوي في محوري النفوذ أو محاوره، إلا بالإشارة إلى أمرين أذكيا هذا المناخ: الأوّل ظهور أدبيات طاغية عربية وغربية يرضيها الترويج لما سمّي ب"الإسلام الجديد" أو "الإسلام المعتدل" والتي تترك مسائل خلافية بين التيارات الإسلامية، وهذا ما كان يجابه بالرفض بالطبع كونه مناقضًا كليًّا لجوهر الإسلام. لم تضف هذه التسميات الجديدة المقترحة سوى ردود فعلٍ عنفية، فكلمة اللّـه الثالثة والأخيرة تختزن كلّ جديد أو حديث في الفكر الإسلامي حيث لا طلاق على الإطلاق بين الدين والدنيا. وقد أثبتت تركيا المتهادية من صيغة العلمنة نحو الإسلام قوّة الدنيا في الدين. وعلى العكس، فاقمت الحروب والأفكار والحلل والأزياء المقترحة للمسلمين والإسلام، التزمّت والتصلّب ووصم الآخر بالكفر والاستعمار الجديد أو الصليبية الجديدة التي تتآمر على المسلمين. الأمر الثاني، وهو غير منفصل عن الأوّل، وقد زاد الأمور تعقيدًا أيضًا هو أنّ حلول عصر العولمة، من الناحية الإتصالية على الأقل، أسقط الحدود وأزال الأغطية بين وعن الدول والشعوب والمجتمعات المتنوّعة الثقافات بسهولة وسرعة قياسية، مع أنّ تلك الحدود كانت قد تطلّبت  لرسمها أو لرفعها حربين عالميتين كلّفت البشرية ملايين الضحايا والمآسي والخرائب البشرية والحضارية التي لم يبرأ العالم منها نهائيًا بالمعنى السياسي. فلا يعقل، إذًا، أن تسقط الحدود مجدّدًا في الشاشات أو تسحب الدول الخرائط مجددًا، ولا تسقط معها السلطات والشعوب في صراعات كبرى ومن دون أكلاف أو دماء وحروب.

عندما تتيه الشعوب التي اعتادت القمع، وتتزعزع التقاليد والخصوصيات الدينية والحضارية المألوفة، يحتدم الصراع بسهولةٍ أكبر، ويسقط الجميع في فوضى عارمة لا يعود ينفع معها التستّر أو التخفّي أو المكابرة أو الاحتفاء بالماضي أو إدارة الظهر للحاضر أو المستقبل. فالمعاصرة ضرورة فتنت بها الشعوب بمقتنياتها المتدفّقة وأربكت الحكّام الذين وجدوا صعوبات هائلة للّحاق بشرائح الشباب والشعوب. وقد ساعد في ذلك إمكان تجاوز الأميّة المتفشيّة في الوطن العربي على إعتبار أنّ الخبرة باتت تتجاوز المعرفة. يكفي لأيّ إنسان يعرف من إستعمال سبابته فوق شاشة كومبيوتر أو خلوي ليصبح فاعلاً على مستوى العالم. لا يمكن، إذًا، إزاحة تأثيرات المعاصرة التقنيّة وفضائحها في خرق سياسات الحجب لدى الأنظمة أو في الإندلاق الإعلامي القاسي لدى الفصائل الإرهابية. بدت مقتنيات العولمة وكأنّها المطر الذي يهطل بغزارة فوق الصحاري خلال عقدين فصلا القرنين العشرين والحادي والعشرين، ولم يعد يقوى أيّ عربي أو مسلم أو أيّ إنسان على إيقاف سيوله إلاّ بالمزيد من الحجب والقمع الذي يؤدّي إلى العزلة ومضاعفة المطالبة بالتغيير. إنّه المطر الذي يصبّ فوق أراضي مراكز القرار العالمية الكبرى وبرامج التنسيق بين الدول، فيسهّل تمرير إستراتيجيات التغيير عبر ما سمّي بالفوضى التي لم تصل، على ما يبدو إلى مرحلة الخلق. إنّنا أمام زمن"بازيلي" من Puzzle اللعبة الزهيدة الثمن القائمة على فكرة السهولة في تفكيك الصور وإعادة تركيبها. حتّى الأولاد نراهم يلعبون بخرائط أوطانهم فيركّبون قطعها ثم بنقرة إصبع يعملون على تفكيكها، لكنّ إعادة التركيب تستلزم قسطًا من  الذكاء ودقّة ملاحظة والوقت اللازم.

 

السلمية ليست عقيدة

لقد وصلت التظاهرات "السلمية الشعبية" الشبابية المطالبة بالتغيير وإسقاط الأنظمة إلى إعتبارها، من قبل فصائل الإرهابيين، تواطؤًا ونكرانًا وإنحرافًا عن جوهر الإسلام الذي يفرض حمل السلاح والجهاد في سبيل اللـه، ولاسيّما أنّ السلطات العربية منصاعة تاريخيًا للغرب وتنفّذ إملاءاته بالقمع والديكتاتورية وتسهيل الفساد والإهمال وكلّ ما يشوّه روح الإسلام. ووصل أو "أدخل التغيير المنشود إلى مستوى نرى فيه "أحرار الشام" و"جبهة النصرة" و"داعش" وغيرها من قدامى وطلائع الإخوان المسلمين المقاتلين الذين التحقوا بالقاعدة... لا فرق في النظرة  إلى الدين بين قاعدة الظواهري ودواعش البغدادي أو تنظيمات الإخوان الذين يفاخرون بالعنف في الإسلام... يرفض أبو محمد العدناني ثورات الربيع السلمية في خطبةٍ عنوانها: السلمية دين من؟ قائلاً بنبرة حادّة: "ومن يزعم أنّ دين اللـه يقوم بالدعوات السلمية فقد ضرب بكتاب اللـه وسنّة نبيّه عرض الحائط... وتحوّلت سوريا والعراق تحديدًا ولبنان، ساحات مفتوحة لاستقبال ضحايا التهميش والإرهاب، الآتين من دول النفط وبلدان الغرب ليصبح ميدان الصراع نسخةً مماثلة لأفغانستان، لكنّها تجري اليوم على تخوم أوروبا الغربية والشرق الأقصى؟"[5] .

وجاءت عناوين التغيير غريبة يختلط فيها الأصيل بالمتطرّف والغريب بالغربي،  فتشدّ عصب التديّن وعضد المتديّنين المسلمين. ففي الوقت الذي تراجع فيه العقل العربي تقدّمت فيه غرائز فصائل "الجراد الأسود" الإرهابي وفق تسمية الدكتور أمور عبد اللـه[6]. وأعملت جلدًا وذبحًا وقطع رؤوس ونحرًا وصلبًا وحرق كنائس وجوامع وحسينيات وإحراق مخطوطات نادرة، وتهديم آثارات قديمة ونسف مقرّات نادرة بهدف شطب التاريخ والتراث، وتكفير الجماعات وتهجير الأقليات وتطهير بلاد الرافدين من التنوّع الديني (عرب، أكراد، تركمان، أشوريون، كلدان، سريان، أرمن، إيزيديون، صابئة..ألخ). وتراجعت لفحات التغيير فوق لسان الغرب الملحّة بالعناوين التي تدفّقت على بلاد الشرق العربي، وبانت الإستحالة بتحقيقها مثل المطالبة بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل وإشاعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على الطراز الغربي ما أربك الشرائح الواسعة المقيمة في الشريعة أبديًا كما أربك الحكّام الذين يحكمون بنظرهم وفق الإسلام وأصوله.

وقع الكثير من المسلمين في جاذبية الإرهاب كردود فعلٍ أو إستراتيجيات منسّقة ومدروسة لقلب الحكومات الإسلامية والعربية وإستهداف الإسلام، خصوصًا إذا ما أخذنا في الإعتبار أنّ أجهزة الأمن والمخابرات وتجارة الأسلحة تجاوزت بكثير السياسات ورجال السياسة والحكام والمسؤولين[7]. نعم تراجعت السلطات التقليدية للحكومات في دول "الثورات العربيّة" وغيرها لمصلحة المرجعيات العسكرية والأمنية والشبكات المخابراتية الواسعة، وعلى هوامشها تتقدّم تحديات الثروات السريعة والجرائم السهلة والخطف والخطف المضاد وطلب الفديات وإزدهار مصانع السلاح وتجاراته والعمولات والسمسرات. أمام هذا المناخ أفرغت السلطات التقليدية المتنوّعة من معانيها، ومثلها الدين كما أفرغ الموت والحياة برخصهما من معانيهما الإنسانية الكبرى. لقد جنح الإرهابيون بالعرب نحو عصور من الانحطاط الثاني، أو  أصابهم الحنين نحو حياة البداوة الأولى التي تفترض العدد البشري كباعث للطمأنينة في فعل الغزو بالرماح،  أو أنّهم تاقوا إلى العصر الوثني في قلب التديّن.

 يكفي لتذكّر ذلك، العودة إلى قايين وهابيل اللذين ولدا شقيقين من آدم بعدما عرف زوجته التي لم تذكر النصوص اسمها. الأوّل رعى المواشي والأبقار وقدّمها قربانًا للرب، بينما حرث الثاني الأرض وأنبت زرعها وثمارها وقدّمها بدوره قربانًا  للرب الذي نظر إلى هابيل وأشاح بنظره عن قايين. وعندما اشتعل قايين غيظًا وغيرةً من شقيقه هابيل قتله. وكانت المذبحة الأولى في النص القديم، الذي كرّس الفكر الوثني في السلوك اليهودي وامتدّ إلى المسيحية عندما تناول اليهود رمزهم المسيح، ليصير الذبيحة التي بها اكتفى الرب والتي ربّما لم تعتق البشر من الإمعان في تقديم الذبائح للتكفير عن ذنوبهم. واستمرّ المسلمون أصحاب كلمة اللـه الثالثة في تقديم الذبائح تنقيبًا عن القيم الكبرى، لكنّ أصحاب الولائم السياسية والإقتصادية في القرن الحادي والعشرين ينهمكون بالدم والذبائح كأرذل الثياب والمظاهر وأشرس الإستراتيجيات والصور، عبر المجموعات الإسلامية المتنوّعة ليظهروا الإسلام للعين العالمية، وكأنّه صوت الوثنية المعاصر المشتّت الذي لا مرجعية له تضبطه، والذي يبعث في بلادنا من جديد نسخًا لا عدّ لها تعمل كلّها ما تبتغيه وما يبتغيه الآخرون باسم الإسلام حتّى تقليدهم لتاريخ اليهود لتتشوّه صورة الرب. "كان العبرانيون، على سبيل المثال، يأكلون الفطير سبعة أيّام، ويذبحون الأغنام حسب عشائرهم ويرشّون دم الذبائح بباقات الزوفا على جدران بيوتهم وعتباتها، لتكون مميّزة عن بيوت المصريين فيعرفها الربّ حين مروره، فلا يصيبهم الهلاك حين يضرب الربّ أرض مصر"[8]. ألأجل ذلك نرى الكهنة المسيحيين في "عيد الغطاس" يرشّون بيوت المؤمنين من المسيحيين بالماء المقدّس وليس بالدم؟ وهل قلّد "الدواعش" المسلمين يهود التوراة إذ يرسمون إشارة النون: "ن" على بيوت المسيحيين في بلاد الشام بمعنى نصارى "تحضيرًا" لاقتلاعهم منها، ومن الشرق، كما حصل في الموصل ونينوى والعراق؟ عندما دخل الغزاة العثمانيون إلى السويداء وارتكبوا "مجزرة الدم" بحقّ الدروز، وجرت اعتقالات واسعة في صفوف الثوّار وقادتهم... طلب العثمانيون من المشايخ التأشير على بيوت الثوار حتى يحرقوها ويقتلوا أهلها، فما كان منهم إلا أن وضعوا الشارات على جميع البيوت بما فيها بيوت المشايخ، وذلك للحؤول دون تطبيق طلب الأتراك وإيقاف هذا الحقد؟ هل فكّر واحد من أهل الموصل بوضع ال "ن" فوق منزل كلّ مواطن للحدّ من اقتلاع المسيحيين من هناك؟[9].

ليس الإسلام تكفيرًا أو تأشيرًا للمسيحيين، وعليهم أو على غيرهم من الأقليات وتنكيلاً بهم أو أسلمتهم أو دفعهم من الشرق نحو أقبية الغرب الذي طلّق المسيحية وخرج من ميراثها العظيم فسبقته السياسة. "فالعرب هم من رحم بلاد الشام. وليس المتدفّقين من وراء سدّ مأرب سوى روافد أغنت العروبة، ولا يمكنهم أخذهم بكلّيتهم، ومثلهم الباقون في الجزيرة بعد الإسلام، كان لا يمكنهم العبور إلى الدنيا لو لم يتطعّموا بحضارة بلاد الشام، والإسلام نفسه لم يكن ليتخذ مداه الحضاري إلا عندما خرج من الجزيرة"[10].

 

أيّ إسلام يعرض اليوم؟

يضعنا هذا العنوان/السؤال، أمام الكلام الذي قاله بغضب هنري كيسينجر عندما كان وزيرًا للخارجية الأميركية في العام 2005، وقيل بعد ذلك في إسطنبول وبعد سقوط بغداد بعامين:

"إذا أردت مهاتفة مرجعية في قارة أوروبا، فأيّ رقم أطلب؟ في البلدان الإسلامية تبدو المرجعية مسألة أشدّ خطورة. فإذا أردت التكلّم مع المسلمين، فهل تتّصل بالقاهرة أم الرياض أم طهران أم أنقره أم إسلام أباد أم جاكرتا؟ لكلّ من هذه البلدان خيار منطقي، لكن لا يستطيع أيّ منها التحدّث بكلام ذي معنى باسم الإسلام، كمجموعة ذات مرجعية مقبولة من باقي المجموعات"[11].

كان كيسنجر يصوّب أو ربّما يجادل فكرة صديقه المفكّر صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية  "صراع الحضارات" الذي اعتبر الحضارة الإسلامية حضارة واحدة بصفة الجمع لا حضارات بصيغ متعدّدة، على اعتبار أنّ، في رأي كيسنجر، هناك حضارات إسلامية لا حضارة واحدة. وقد يكون هنتنغتون قد اقتنع بالتصويب إلى الحدّ الذي دفعه إلى إلقاء تلك المحاضرة/الوثيقة الثمينة في إسطنبول بحضور أردوغان وكبار القادة وصفوة النخب التركية ليعلن فيها من هناك أنّ: "الإسلام أقلّ توحّدًا من أيّ حضارة أخرى لأنّ الانقسامات القبلية والدينية والسياسية والثقافية تحفّز العنف بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وغير المسلمين، ولأنّ مجموعات وحكومات إسلامية مختلفة، كما في السعودية وإيران، تتنافس في ما بينها لترويج نسختها الخاصّة من الإسلام، كما أنّها تدعم المجموعات الإسلامية التي تقاتل غير المسلمين من البوسنة إلى الفيليبين"[12].

يسحبنا كلام كيسنجر إلى عين غربية لم تغمض عن المسلمين في صعودهم المعاصر. يمكن إرجاعه إلى ارتفاع معدّلات الولادة في معظم المجتمعات الإسلامية التي تفرز شرائح شبابية متعلّمة لكنها عاطلة عن إيجاد أعمال تليق بهم وتحقّق لهم ذواتهم ومستقبلهم. لهذا نرى هجرات كبيرة منهم نحو البلدان الغربيّة التي لا تخرطهم فيها كما يصعب عليهم الإنخراط فيها. وتكون النتيجة صدمة ومواربة واستحالة القبول أو الذوبان في تلك المجتمعات التي تدفعهم إلى الانخراط في مجموعات ومجتمعات إسلامية، تتحوّل بفعل حرص هؤلاء على نقاوة إسلامهم أو بارتداد الغربيين أنفسهم نحو التديّن والتعصّب، إلى تأسيس أو الانخراط في منظّمات أصولية وأحزاب سياسية أو إلى المجموعات الإسلامية لتنتج علاقات باردة وجافة وخلافية وعنيفة بين المسلمين والآخرين، وكلّها تعزو الميول نحو إعادة تأكيد الهويّات الإسلامية في بلدان غربية "محكومة" أنظمتها "بدين" معاصر جديد هو حقوق الإنسان، يمكن لها تخطّيه أينما كان في تقاطع المصالح الدولية، ولكن لا يمكن لها تخطّيه في عواصم الغرب. لماذا؟ لأنّ الرأي العام بالمرصاد الذي يفترض من تلك الأنظمة اللجوء إلى إستراتيجيات هائلة من أجل الرأي العام، أو صناعته لوقوفه إلى جانب قرارات أنظمته.

 

ما هو الحلّ الأميركي المقترح لجعل المسلمين في تشظياتهم وأعبائهم أصحاب حضارة واحدة؟

"إيجاد دولة قيادية في الإسلام هو أمر جيّد للإسلام وللعالم على حدّ سواء. وعندما تسيطر دولة أو دولتان على العالم الإسلامي، كما هي الحال مع حضارات أخرى، وذلك خلافًا لما يحصل مع الإسلام منذ نهاية الأمبراطورية العثمانية، سيصبح العنف أقلّ بين المسلمين، وعلى الأرجح بين المسلمين وغير المسلمين... إنّ تركيا و"إسرائيل" ديمقراطيّتان مستقرّتان ومزدهرتان في منطقة غير ودودة وغير مستقرّة. كما أنّهما القوّتان العسكريّتان الأقوى في الشرق الأوسط وكانت لكلتيهما ولاتزال، علاقات أمنية وثيقة مع الولايات المتحدة... إن تركيا كدولة إقليمية عظمى قادرة على تأدية هذا الدور المرجعي للمسلمين،  لكنّ إيران هي أيضًا  الدولة الإقليمية العظمى التي تجول في خاطر أميركا، والتي لا يمكن إغفال دورها في مستقبل الشرق الأوسط ومستقبل الإسلام،" كي تضطلع تركيا بهذا الدور، ليس لها من خيار سوى التخلّي عن عقائد الماضي وتكييف سياساتها لمواجهة المخاطر والتحدّيات والحروب الآتية غير المتوقعة"[13].

وقد يكون كتاب "ستيفن كينزر" المعنون: "العودة إلى الصفر، إيران، تركيا ومستقبل أميركا"، من المؤلّفات اللافتة التي جادلت عبر 300 صفحة نظرية إيران وتركيا كدولتين عظميين إقليميتين تتكاملان مع أميركا لأنّ "لهذه البلدان الثلاثة مصالح إستراتيجية مشتركة وشراكة تجمعهم، فضلاً عن أنّ بعث القيم المشتركة التي تجمع بين شعوبها تاريخيًا ، يمكنه أن يشكّل مثلّث القوة للقرن الحادي والعشرين" من دون إهمال المثلّث القديم الذي يجمع من ناحية بين الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" وبينها وبين المملكة العربية السعودية والذي خدم مصالح واشنطن إبّان الحرب الباردة، لكنّه لم ينتج شرقًا أوسطيًا مستقرًّا... أضحت تركيا الدولة المسلمة الأكثر ديمقراطية في العالم ، وفي هذا إثبات حيّ أنّ في إمكان الإسلام والحرية أن يزدهرا جنبًا إلى جنب...ويتناسب هذا الأسلوب التركي جيّدًا مع المقاربة الأميركية للسياسة العالمية. ولا ينبض القلب الديمقراطي، في حماسة، على غرار تركيا إلاّ في دولة مسلمة واحدة في الشرق الأوسط، هي إيران، الدولة الوحيدة التي قد تبرز المنافس لتركيا، بل وحتى تتفوّق عليها على صعيد الحريات السياسية... فمن تحت الطبقة السميكة من حكم رجال الدين، يزدهر مجتمع مدني حيّ. وما من جيل في العالم يفهم الديمقراطية أفضل ممّا يفهمها الشباب الإيراني أو يتمنّاها بأكبر قدرٍ ممكن من الحرارة. وتشكّل حميتهم جزءًا من جسر القيم الذي سيربط بين إيران والولايات المتحدة الأميركية في المستقبل"[14].

وبانتظار إيران، كان العقل الأميركي يستدرك مشكلتين أو عائقين جوهريين في مقاربته للدور التركي الإسلامي القيادي ومدى تقبّل تركيا هذه من العرب والمسلمين:

الأولى هي "أنّ إرث أتاتورك العصري والعلماني الغربي الذي جعل تركيا ذا وجه أوروبي يحتاج إلى التبديل والتغيير والتنقيح. ولو كان أتاتورك حاضرًا لما تردّد على الموافقة لأن تعيد تركيا تحديد دورها في عالم القرن الحادي والعشرين المختلف جدًا. ففي أميركا، يعيدون باستمرار تفسير أفكار آبائهم المؤسّسين مثل واشنطن وجيفرسون وهاملتون وأدامس وفرانكلين، لتكييفها مع ظروف الواقع المتغيّر بتقدّم الزمان والتجارب".

"هناك عائق محتمل آخر أقلّ أهمية أمام تولّي تركيا دورًا قياديًا في الإسلام هو جيرانها. كان معظم هؤلاء الجيران تاريخيًا جزءًا من الأمبراطورية العثمانية، وكان على معظمهم، بما في ذلك العرب، النضال للحصول على استقلالهم. ومازال التاريخ يترك لديهم مخاوف على تركيا العمل على تطمينهم. وإذا نجحت فستكون في موقع يسمح لها بالحدّ من النزاعات بين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين وغير المسلمين"[15].

 

العين العربية و"حريم السلطان"

في ضوء ما تقدّم يمكننا تصوّر الجهود الإستراتيجية السياحية والثقافية والإعلامية، وسيل الدعايات والسياسات التي تدفّقت بها تركيا على جيرانها المسلمين، من أجل إزالة هذا العائق الذي يجعلهم يرونها بعيون راضية، تحقّق معظم التوصيات والأفكار التي استفاضت فيها تقارير التنمية الدولية التي سبقت ورافقت "ثورات الربيع العربي". يصعب رصد دينامية تركيا التي فتحت أبوابها على العرب والمسلمين، في العقد الماضي، وكأنّها كانت تسابق فكرة منافستها مع إيران. سآخذ مثالاً واحدًا معبّرًا يؤشّر إلى إنهماك العرب والمسلمين بصورة تركيا، تسهيلاً ربّما لقبولها كمرجعية محتملة:

في 2 تشرين الثاني 2011، إنقسمت أبصار العرب والمسلمين وبيوتهم  وألسنتهم إلى وجهتين: قسم أنثوي بمعظمه مشدوه ومسمّر بفرحٍ عظيم أمام الشاشات لمتابعة  "حريم السلطان"[16] المسلسل الذي يحكي حياة السلطان العثماني سليمان القانوني الخليفة المسلم ثاني من لقب "أمير المؤمنين" من آل عثمان، والذي سيطرت في عهده الدولة الإسلامية على قارات ثلاث وأصبحت أقوى دولة في العالم . أنتج المسلسل تركيًّا العام 2010، واستغرق بثّه سنواتٍ ثلاثًا مجايلاً "ربيع العرب". وكلّف إنتاج الحلقة الواحدة منه 550 ألف دولار وعرض في 45 دولة، وتمّت دبلجته ب 12 لغة وجاء أصلاً باللهجة السورية.

وقسم ثان ذكوري بمعظمه كان متبرّمًا ممّا تبثّه الشاشات في وجع العرب لسببين: أوّلًا لأنّه يكره تاريخ الأمبراطورية العثمانية، وأحابيل تركيا المسكونة بالحلم الأمبراطوري المقيم في ذاكرتها، وثانيًا لأنّه لم يفهم  سرّ هذا الإنجذاب الخاطف إلى حياة السلاطين وأجواء الحريم وفخر الثياب والمجوهرات والحفلات الموسيقية والمكائد وقطع الرؤوس والمؤامرات، والذي جعل العرب نصفين. لقد أورث هذا الإنقسام الكثير من المشاجرات والمشاحنات بين أفراد المنزل الواحد مع أنّ في كلّ بيت ربّما أكثر من جهاز تلفزيوني.

في أيلول 2014، توفيت"ميرال أوكاي" كاتبة "حريم السلطان"، وقطعت أنفاس القسم الأوّل من المشاهدين للوقوف على الحلقة الأخيرة من المسلسل الدرامي، كما قطعت أنفاس القسم الثاني بانتظار نتائج غارات تحالف الخمسين الدولي بقيادة أميركا أوباما لضرب داعش أو "دولة الخلافة" حيث تبرز البوابات التركيّة والحدود المشرّعة على الإرهابيين نحو العراق وسوريا التي قد لا يبقى منهما سوى النبرة.

أقام معظم العرب في الشاشات، وبقهرٍ عظيم، متابعين مشاهد "ربيع العرب" الدامي أي بعد شهر ونصف من المباشرة ببث "حريم السلطان"، أي منذ 17 كانون الأول 2011،  تاريخ  انتحار محمد بوعزيزي حرقًا أمام مبنى البلدية في تونس. ربيعان لا يلتقيان أبدًا: "ربيع حريم السلطان" وربيع سقوط الأنظمة والسلاطين والحكّام. يتشارك الربيعان بصور العنف والخراب بين ماضي العرب وحاضرهم. أبدع الخيال الدرامي للمسلسل في تقديم تاريخ تركيا الذهبي بنسخة إسلامية معاصرة مغرية للكثير من المسلمين، بينما "أبدع" إرهابيو الإخوان المسلمين ومتفرّعاتهم بنقل صور الواقع الإسلامي البائس والمقلق من البوابة التركية. كانت الصورة التركية التي فتن بها الكثيرون، عنصرًا متقدّمًا في ورش "الماكياج" للتخريب العالق بتركيا في الشرق الأوسط. ونجد عشرين مليون وسبعين ألف وثيقة عربيّة و150 ألف شكوى حول"حريم السلطان" المسلسل الأضخم في تاريخ الدراما التركية، وعالمًا من النقاشات والسجالات حول وظيفة المسلسل بين أن يكون تشويهًا لصورة تركيا وأردوغان أو هو على العكس طعمًا للصورة الراقية والزاهية للمسلمين في زمن تدمير بلاد الإسلام.

أستعيد تلك التواريخ المذكورة، وأربط في ما بينها للتأشير إلى تركيا "النموذج" المقترح يمضى حاسرًا عن نسخته الإسلامية في الوقت نفسه، الذي تحوّلت فيه أراضيه وعواصمه وفنادقه وتبرّمه للإشتراك بالتحالف الأربعيني لضرب داعش أو مطالبته بمنطقة منزوعة السلاح في شمالي سوريا للغرض نفسه، تحوّلت إلى معقل ومقلع إقليمي لمستقبل سوريا والعراق ومستقبل الحركات الإسلامية. تعزّز العنف بين المسلمين وبينهم وبين غير المسلمين. واحتلّ "حريم السلاطين" المسلسل الرقم واحد الذي خطف العيون حتى البلقان عمّا انخرطت فيه دول العالم هربًا من كوارث القتال في أكثر من بلدٍ عربي.

وهنا تكرّ الأسئلة التي لا تنتهي: هل تمكّنت تركيا من مصالحة العرب مع الماضي العثماني بمسلسلها وأنشطتها المماثلة التي لا تحصى؟ وهل نجحت في تقديم نسختها الإسلامية بما يرضي الغرب ولا يرضي العرب؟ هل أشرق  وجه السلطنة العثمانية من جديد؟ هل برزت صورة تركيا فدرالية قبل نشوء الفدراليات والخرائط الجديدة في الشرق الأوسط، تتعايش فيها الطوائف الدينية والمجموعات العرقية؟ هل نجحت في تقديم نفسها أمة عظيمة ثقافيًا وفنيًا بمفاهيمها الشرقية الساحرة وبإسلامها المحبّ للأديان والمتذوّق للأدب والفنون؟ أسئلة كثيرة من المبكر الإجابة عنها، لأنّ العيون الإسلامية التي تفرح بسقوط الأقنعة فوق بوّابة إسطنبول كثيرة.

 منذ مئة عام أي العام 1914، تردّد العثمانيون بين الوقوف مع دول الحلفاء أو دول المركز فسقطت الأمبراطورية الإسلامية، وفي العام 2014 تتردّد تركيا بين أن تستمر في الوقوف إلى جانب المسلمين الإرهابيين أو تنخرط في التحالف الدولي لقتال "دولة الخلافة" داعش. لكنها لن تتمكّن، بالطبع، من الاستمرار في تأدية هذا الدور الخطير الموحى به أميركيًا، لأنّ إيران تنخرط في قلب ما عرف بالهلال الممتد من طهران إلى جنوبي لبنان نزولاً نحو الخليج على أطراف اليمن أوّلاً. ولأنّ العالم بدا منقسمًا إلى محورين يتقاتلان فوقه ثانيًا. ولأنّ المسلمين العرب بدوا متشظين بين سنّة وشيعة علاوة عن الإنقسامات الهائلة بين فصائلهم المتنوّعة ثالثًا. ولأنّ الجميع، رابعًا، يعمل شرقًا وغربًا بتوظيف المواقف وشبكات إستيراد المقاتلين والمتموّلين، والتنافس في التحميس والتجييش وتهريب المقاتلين والأسلحة المستوردة نحو العتبة السورية والعراقية واللبنانية، وكلّهم يتبارزون بشبكات الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي وتجارة النفط بأبخس الأثمان. تحوّلت تلك البقع التاريخية إلى نسخ تضاهي أفغانستان إن لم تتجاوزها في مجالات قادة المجموعات التكفيرية، ومافيات الخطف والتجارة بالأرواح والأطفال والأعضاء والسلاح والمخدّرات والجنس المباح وجهاد النكاح، ممّا يوصم قرونًا دموية متثائبة بالعنف ومستعصية على الحلول العسكرية عربية كانت أم تحالفات خارجية.

 

نحو إستعادة تجربة أفغانستان  

يمكن للتفكير أن ينصرف مجدّدًا نحو تجربة أفغانستان بشكلٍ مضاعف وأشدّ خطورة، عندما يرى وزير الدفاع الاميركي السابق "ليون بانيتا" يتوقّع بأنّ "استمرارية الحرب ضد "داعش" ستستغرق 30 عامًا لصعوبتها، ولكون هذا التنظيم المتطرّف قد يمتد لدول في الشرق الاوسط غير العراق وسوريا ليشمل اليمن والصومال وليبيا ونيجيريا، محمّلاً الرئيس باراك أوباما بسياساته المتردّدة وقراراته خلال السنوات الثلاث الماضية، مسؤولية هذه الأحداث وتطوّراتها، لعدم ضغطه على الحكومة العراقية بما يكفي لتسمح ببقاء قوة أميركية بعد انسحاب القوات القتالية نهاية 2011 [17].

وقد لا يكون هناك من ضرورة للاجتهاد بحثًا عن الجهاد "غير المقدّس" الذي يعود بنا إلى علاقة الإخوان المسلمين بالغرب وخصوصًا بريطانيا أو لعلاقتهم بمعظم هذه الحركات الإسلامية المتنوّعة، لسبب بسيط، وهو أنّ الشرق العربي والإسلامي كان ولايزال كلّه على علاقات مع الغرب وأميركا مع أنّه قد لا يمكننا اليوم من المخاطرة بتحديد مصطلح الغرب بدقّة كما هو مألوف. هناك مظهر متجدّد وقد يستحيل تصويبه في العلاقات الدولية وتشابك المصالح الذي يولّد اليوم تداخلاً معقّدًا بين القارات، هذا إن لم يكن وسيبقي العرب والمسلمين محكومين به إلى زمنٍ بعيد.

قد تسقط المفاجآت عندما نعود إلى الوراء لنرى واشنطن بالأمس "تؤذّن للجهاد في كابول"[18]وكأنّها بعدما تعلّمت الآذان هناك تؤذّن مجددًا في الطائرات فوق بلاد الشام. كتب محمّد حسنين هيكل في التأذين الأوّل: "بأنّ أميركا والدول القوية العظمى مثلها تدأب، في تحقيق إستراتيجياتها ومصالحها، على "إطلاق الأفكار قبل إطلاق النار... وفي يوم قادم من المستقبل سوف تقف الأمة العربية محاسبة، تطلب التحقيق في شأن السياسات التي ساقتها إلى تلك المغامرة على جبال أفغانستان وفي أعماق كهوفها"[19]. لكنّ  الزمان والأحداث المتلاحقة لم يتح وضع الأمة العربية في موقع المحاسبة، غير أنّ هناك وفرة في المصادر الدولية التي تعرّضت بالتقصي والبحث فى دخائل ما جرى على جبال أفغانستان وخفاياه وفي كهوفها وضمنه دور السياسة العربية هناك. إستند هيكل إلى ثلاثة مصادر "تقنع أي باحث عن الحقيقة بأنه وجد جوابًا لسؤاله كي يبدأ من هناك حقّه العام أن يعرف وأن يتخذ لنفسه ولو بالضمير موقفًا محاسبًا". والمصادر المختارة التي إعتمدها هيكل هي ثلاثة كتب[20]. وتتفق محصّلة هذه الكتب الثلاثة...على مجموعة من الحقائق الأساسية المتّصلة بإدارة الولايات المتحدة لحربها الباردة ضد الاتحاد السوفياتي (وهي الحرب التي بدأت أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، واستراتيجيتها الصاخبة إستخدام العقائد والمسلمين ضد الخصم الشيوعي الأخطر) ومن أهمّها:

أ - إن المخابرات المركزية الأميركية متعاونة مع المخابرات العسكرية الباكستانية، سبقت إلى إدارة عمليات "حرب نفسية"، هدفها إثارة المشاعر المعادية للاتحاد السوفياتي داخل جمهورياته الجنوبية وفيها غالبية إسلامية، مستغلّةً في ذلك فجوة أو جفوة طبيعية بين النظام السوفياتي "المادي" في فلسفته، وبين الإسلام "الروحاني" في مبادئه، وبالطبع فإن دافع المخابرات الأميركية لم يكن "الحرص على الدعوة أو صدق الإيمان"، وإنما "إقلاق وإزعاج" الاتحاد السوفياتي فى أكثر المواقع إثارة للمواجع.

ب - إن استعمال أفغانستان قاعدة لإدارة عمليات إقلاق وتوجيهها وإزعاج الاتحاد السوفياتي، بدأ على استحياء أوائل الخمسينيات، واشتد في الستينيات، وبلغ الذروة أواخر السبعينيات ـ حين أصبح هدف مجلس الأمن القومي الأميركي وعلى رأسه في ذلك الوقت "زبجنيـو برجينسـكي" (مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي) ـ استفزاز الاتحاد الســوفياتي بتصعيد النشاط المعادي له في أفغانستان من المستوى النفسي إلى المستوى العملي والوصول في ذلك إلى درجة ترغمه ـ ولو كارهًا ـ على التدخّل عسكريًا في أفغانستان، فإذا تحقّـق ذلك فهذه هي الفرصة لتحويل ذلك البلد إلى فيتنام سوفياتية تؤثّر عليه بمقدار ما أثّرت فيتنام الأميركية على أصحابها.

ج - وكان تقدير "برجينسكي" ـ كما عرضه على الرئيس جيمي كارتر (وبالاعتماد على روايات كارتر وبرجينسكي قبل أي مصدر غيرهما) ـ أن الولايات المتحدة لا يصحّ لها أن تظهر علانية في أفغانستان (عندما تتحوّل إلى فيتنام سوفياتية)، وإنما الأفضل أن تظل بعيدة بمسافة كافية، وأن تترك المعركة للمسلمين يخوضونها باسم "الجهاد الإسلامي" ضد "الإلحاد المادي". وأهم من ذلك يتكفّلون بتمويلها لأن العبء أثقل مما تستطيع وكالة المخابرات المركزية أن تُحَمِّلَه على ميزانيتها، كما أنه أكبر مما يقبل به الكونغـرس في الموافقة على اعتمادات لعملية ســرية تقدم إليه "مستقلة لوحدها"، زيادة على ذلك، فإن الذهاب إلى "لجنة الأمن" (المتفرّعة من لجنة الشؤون الخارجية) لطلب الموافقة على مبالغ بهذا الحجم يؤدّي إلى كشف العملية (لأن الكونغرس "مبني من الفخـار"، ما فيه يرشح خارجه)، وذلك يحرج السياسة الأميركية، والإحراج في مثل هذه الحالة خطر؛ لأنه قد يؤدي لتعقيدات دولية من الأفضل تجنّبها وكان معنى ذلك في تقدير "برجينسكي":

ـ إن الولايات المتحدة لابد لها من ترتيبٍ يُمَكِّنها من "العمل على الأرض"، والصرف على العمل وإدارته تحت إشرافها، من دون أن يظهر دليل يثبت عليها شيئًا تتورّط بسببه في ما لا ضرورة له.

ـ يتداعى من ذلك أن الولايات المتحدة وهي تخوض معركة استنزاف الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بـ:"سلاح الجهاد"، عليها أن تجد "وكالة إسلامية" معتمدة تحمل المسؤولية على الأرض ـ وتدفع تكاليف العمل ـ وتتلقى التوجيهات بشأن خططه وتوقيتاتها من الأجهزة الأميركية المعنية. ومع أن هذه المواصفات لما هو مطلوب أميركيًا في أفغانسـتان بدت شــبه مستحيلة في معادلاتها ـ فإن "برجينسكي" عرض تصوّرات رآها قادرة على شـبه المستحيل".

ويسرد محمد حسنين هيكل تفاصيل مذهلة عبر أوراقه الإحدى عشرة توازيًا ربّما مع 11 أيلول 2001 التي رأى فيها بأنها تحمل توقيع جهاز دولة كبرى ليخلص إلى "أنّ الإسلام قد أسيء إليه مرّةً ثانية في 11 أيلول2001، كما أسيء إليه مرّةً أولى باستدعائه للجهاد بواسطة المخابرات المركزية الأميركية. جاءت المرّة الثانية بالطيران الأميركي يضرب "جند اللـه" ضربًا بلا هوادة، حتّى أنّه بدا وكأنّه عقاب للمسلمين جميعًا حتّى أولئك الذين لم يشاركوا في الجهاد الإسلامي".

"وكان الموضوع من أوّله إلى آخره كارثة أصابت العرب في أنفسهم وقضاياهم ومستقبلهم. ثمّ إنّ الشظايا طاولت أطرافًا عربية وإسلامية بادرت وتطوّعت للخدمة. وسمحت بأن يكون الجهاد الإسلامي مركبة مجانية للسيطرة الأميركية. ثمّ تصوّرت خطأ أنّ ما تطوّعت ليوفّر لها حصاناتٍ وحقوقًا، لكنها نسيت نسيانًا لا يستحق الغفران لطبائع القوى أو طبائع الأمبراطوريات"[21].

 

الكتاب الرابع: الخيارات الصعبة

أليس هذا ما يحصل اليوم وسيجري ربّما في المستقبل؟

 أضمّ إلى الكتب الثلاثة ، كتاب “Hard Choices” [22] أو «الخيارات الصعبة» لهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة والذي إعتبر بإجماع لافت بأنّه جواز مرور قد يحقّق تطلّعها إلى رئاسة البيت الأبيض بعد إنتهاء ولاية أوباما. وعلى الرغم من أنّ مضمونه قد خضع لقسطٍ غير موضوعي من التحريف والتخويف من قبل العديد من المحلّلين والمعلّقين العرب، وخصوصًا المصريين منهم، إلى درجة جعلت كلينتون تعبّر عن ضيقها من هؤلاء بقولها: “I’m done with crazy Egyptian conspiracy theories” أو لقد "مللت من ترداد المصريين لنظرياتهم المجنونة عن المؤمرات"[23]. حمّلوا النص، ربّما، أكثر ممّا يحتمل في موضوع الروابط الواضحة بين الإرهاب الداعشي والإدارة الأميركية خلال فترة تولّيها للسياسة الأميركية الخارجية بين 2009 و2014، لكنّ هذه القراءات المجافية للمضمون كانت مفيدة وتؤشّر إلى القلق من الإرهاب الذي حلّ بالمنطقة العربيّة الذي تزامن نشره مع إنتشار إرهاب "دولة الخلافة" داعش وتوسّعها في رقعة بلاد الشام والمسلمين إلى ذروة القتال بين السنة والشيعة، كما إلى الصراعات بين قطر والسعودية ومصر وتركيا وسوريا وإيران. وباتت الهموم والخطب تغالي إلى درجة التنظير عن توازن التهديدات بين داعش المتمددة نحو البقاع والشمال وحزب اللـه الذي يقاتل إلى جانب النظام في سوريا، ناهيك عن التهديدات الإسرائيلية.   

تناولت الوزيرة كلينتون في القسم الخامس من كتابها مواقفها من أحداث الربيع العربي والثورات المتعاقبة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ومواقفها من الاقتتال في سوريا الذي كان منصبًّا من قبلها على تسليح المعارضة السورية والتي كانت منكرة ومفتتة بل غير موجودة في دوائر القرار في البيت الأبيض أو مراكز التقارير لدى المخابرات المركزية الأميركية. ولم تغفل كلينتون تناولها لأسرار السياسة الإيرانية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومسار البحث عن الهدنة التي بقيت تلوكها الهشاشة. يمكن اختصار هذا الموقف اليائس من العرب والمسلمين في الكتاب، بإشارتها إلى أنّك إذا كنت تتطلّع أو "تدعو إلى إصلاحات في الشرق الأوسط، فهو أمر يشابه أن تضرب رأسك بالحائط". لكنها لم تخفِ قطّ تهاون الدبلوماسية الأميركية حيال مراعاتها للإخوان المسلمين والتضخّم الذي كان ملحوظًا ومسموحًا به للإرهاب، بما يعنيه من مقاتلين وجماعات وتدريب وتسليح جعلت التشظيات بين سكّان تلك المنطقة متنوّعة ومتفاقمة إلى حدود ضياع الخيارات. وجاء دخول أميركا الحرب في العراق وليبيا وسوريا وخصوصًا دبلوماسيًا في مصر بعد ثورة 30 تموز التي أنهت حكم الإخوان ليجعل "الخيار الحقيقي لمصر والدول الأخرى أقلّ صعوبة لكن البدائل المتبقيّة كانت، في نظرها، نادرة تنحصر في مشاهدة المنطقة العربيّة والإسلامية تغرق أكثر في الرمال"[24]. ليست هيّنة هذه الصورة المتشائمة التي تسمح بالقول إننا كنا نعيش المرّة الثالثة في الإساءة للإسلام تضاف إلى المرّتين السابقتين المذكورتين مع دراسة محمد حسنين هيكل. 

ومن الطبيعي أن تعيدنا هيلاري كلينتون إلى تذكّر"ثمار" مصطلح" الفوضى الخلاّقة" الذي أطلقته زميلتها السابقة وزيرة الخارجية الأميركية الأستاذة الجامعية كونداليزا رايس فتجتاح به ألسنة العرب ونصوصهم لمرّتين: الأولى عندما نشرت الواشنطن بوست تقريرًا مفصّلاً حول الحرب الأميركية على العراق وتقول رايس في ذلك التعريف للفوضى الخلاقة "إن الفوضى التي تفرزها عملية التحوّل الديمقراطي في الشرق الأوسط في البداية، هي نوع من الفوضى الخلاقة التي ربما تنتج في النهاية وضعًا أفضل مما تعيشه المنطقة الحالي"[25]. أمّا المرّة الثانية فجاءت عندما حطّت طائرتها في بيروت آتيةً من "إسرائيل" التي كانت تدكّ لبنان بالحمم والقذائف في حرب تموز 2006، تاريخ انتصار المقاومة على إسرائيل الذي قلب الكثير من المعادلات في الشرق الأوسط. 

إنّ أقسى العجز، يتّضح أمام صورة واحد يذبح أو يصلب أو يجلد أو يقتلع وتنتشر صوره في الأرض وآخر يستسلم إلى الخوف بعبثية جوفاء. نعثر على الواقعين، مثلاً، في البحث المستحيل عن مصطلحات أدمن عليها العرب مثل التماس المساعدة من "المجتمع الدولي" أو "اﻷسرة الدولية" أو "الأم الحنون" وغيرها من الكلمات الرخوة التي فقدت معانيها التقليدية في السياسة وبناء اﻷوطان ولم يكن لها مضامين كبرى أساسًا. ماذا يعني المجتمع الدولي اليوم؟ وأين هي مفاهيم القرابة والأخلاق والإنسانية وحقوق الإنسان التي قد تذكّرنا ب"القرية الكونية" التي حققتها وسائل الإعلام منذ غزو أميركا لفيتنام، وهي ليست سوى مدنٍ  متوحشة تعجّ بكائنات مفترسة وانتحارات لا تحترم هندسة الغرائز الحيوانية في الغزو والقتل. ترتعب الأقليات في الشرق ومثلهم المسلمون الذين ما عادوا ينظرون إلى الوراء من تلك الظاهرات. في خلدهم خواف وسفن قد تمخر بهم المحيطات إلى أرصفة الدول التي تخطّّط وتدعو إلى الغربة وغربلة شعوب  الشرق، وتنقيته من المعارك أو المشاهد المتعكّرة والمعروكة بين المسلمين وبينهم وبين العالم.

ويبقى السؤال العالق بشفاه النص بحثًا عن المستقبل: ما الحكمة الدينية في نحر العقل والرأس على إيقاعات اللـه أكبر؟ إنّه الإرهاب المصوّر بأدوات العولمة فوق السطوح في زمنٍ الإنحسار المخيف للعقل السياسي الإسلامي والعربي والعالمي.

العرب والمسلمون أمام زمنٍ طويل ما عاد ينفع فيه البحث الدؤوب المستحيل عن الإسلام الجديد بنسخته المستحيلة، وكأننا نعيش في ملامح حرب عالمية ثالثة، يؤذّن فيه المسلمون بكلّ توجّهاتهم وتطلّعاتهم بأصوات واحدة متشابهة وصرخات متعدّدة بالشهادتين، لكنّهم يملأون الغرب والشرق بسياساتهم المشتّتة وأنظمتهم المتحيّرة، وحضاراتهم التي تتجاوز كثرتهم في العالم. ويستمرّ المسلمون أسرى أزماتٍ فكرية وحضارية كبرى تجعلهم يتأرجحون بين دولة عظمى وأخرى أقلّ عظمة، وبين نسخٍ من النصوص والأفكار والأنظمة، ويستمرّون في التأرجح بين مفاهيم الحداثة والتحديث والتراث والمعاصرة والغير والتغيير للإبقاء عليهم بلادًا من الكنوز الأرضية والسماوية المهدّدة بالذوبان، بين استبدادية الإنتاج واستبدادية الإستهلاك.على أنّه ما يستحقّ التأمّل أنّ نقفل هذه المقاربة بحكمةٍ إغريقية تقول:" إنّ الآلهة لا تعاقب البشر حين تغضب عليهم، وإنّما تسلّط عليهم أنفسهم وكفى"!

 

[1]-     صموئيل هنتنغتون، "السياسة العالمية ودور تركيا في المستقبل القريب"، محاضرة ألقاها في إسطنبول يوم الخميس في 16 حزيران  2005 ولم تنشر خارج تركيا. وقد موّل المحاضرة "أي كاي بنك" وهاندان دميروز من "سليبريتي سبيكرز". وقد جاء نص المحاضرة في 4210 كلمة.

 

[2]-     أنشئ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في العام 2006 إثر إجتماع فصائل جهادية على معاهدة سميت آنذاك "حلف المطيبين"، وذلك بعد مقتل زعيمه الأول أبومصعب الزرقاوي الذي أسس جماعة التوحيد والجهاد العام 2004، وكثّف عملياته في العراق حتى مقتله العام 2006.  نتج عن ذلك مبايعة أبي عمر البغدادي الذي قُتل مع  خليفته أبو حمزة المهاجر في نيسان 2010، ليتولى بعده زمام التنظيم أبوبكر البغدادي. استمر أبوبكر البغدادي على نهج سلفه أبي عمر في مبايعته تنظيم القاعدة بالخلافة وتطوّرت عملياته النوعية في العراق باستفادته من خبرات عناصر جديدة ذات خبرة قتالية جاءته من شتى أنحاء العالم، مع نخبة انضمت إليه من ضباط حزب البعث التابع للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وكان من أبرز تلك العمليات اقتحام سجني "أبوغريب" و"الحوت".

 

  راجع أيضًا:" ما هو تنظيم داعش؟ مسيرته منذ الإنشقاق عن القاعدة وحتّى إعلان دولة الخلافة"، صحيفة الحياة، 11 تمّوز 2014.

[3]-     مجموعة من مخضرمي تنظيم القاعدة ضمّت متطرفين من أفغانستان وباكستان واليمن. ظهرت التسمية في شهر تمّوز من العام 2014. يتبعون أيمن الظواهري زعيم القاعدة. جنّدوا الوافدين إلى سوريا والعراق لتدريبهم وإعادتهم عبر تركيا إلى بلادهم بهدف تنفيذ عمليات إرهابية فيها: www.alshouruq.net.

 

[4]-     هو مختصر للحروف الأولى باللغة اللاتتينية BRICS المكوّنة لأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم. وهي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. عقدت أول قمة بين رؤساء الدول الأربع في ييكاتيرينبرغ، روسيا في حزيران 2009 حيث تمّ الإعلان عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية. وعقد أول لقاء على المستوى الأعلى لزعماء دول "برهص" في تموز 2008، وذلك في جزيرة هوكايدو اليابانية حيث اجتمعت آنذاك قمة "الثماني الكبرى". وشارك في قمة "برهص" رئيس روسيا دميتري مدفيديف ورئيس جمهورية الصين الشعبية هو جين تاو ورئيس وزراء الهند مانموهان سينغ ورئيس البرازيل لويس ايناسيو لولا دا سيلفا.  واتفق رؤساء الدول على مواصلة التنسيق في أكثر القضايا الاقتصادية العالمية آنية، بما فيها التعاون في المجال المالي وحل المسألة الغذائية. انضمت دولة جنوب أفريقيا إلى المجموعة العام 2010، فأصبحت تسمى بريكس بدلاً من بريك سابقًا.

تشكل مساحة هذه الدول ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40% من سكان الأرض. ومن المتوقّع بحلول العام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول، اقتصاد أغنى الدول في العالم حاليًا - حسب مجموعة غولدمان ساكس البنكية العالمية التي كانت أول من استخدم هذا المصطلح في العام 2001. ومن المتوقع أن تشكل هذه الدول حلفًا أو ناديًا سياسيًا في ما بينها مستقبلاً  . http://ar.wikipedia.org/wiki/

 

[5]-     هيثم المنّاع، "من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم"، دراسة مطوّلة من خمسة أوراق نشرتها المؤسسة الإسكندينافية لحقوق الإنسان. وقد إعتمدنا على الورقة الخامسة المنشورة  بعنوان: "خلافة داعش: ماذا عن المستقبل؟"، آب 2014، راجع:

  .www.rsgleb.org/modules.php?name=News&file

وأيضًا : منتديات البراق الإسلامية أو منتدى عين صادقة على ملاحم الجهاد عبر موقع غوغل حيث لا يمكن حصر الآراء والإجتهادات والفتاوى المماثلة لما نحن فيه.

 

[6]-     www.peyamner.com/Arabic/PNAnews.aspx?ID

 

[7]-     يسمّي هيثم المناع حقّان فيدان مسؤول المخابرات في تركيا وقاسم سليمان رئيس المخابرات في الحرس الثوري الإيراني وبندربن سلطان في السعودية وعلي مملوك وجميل محسن في سوريا، وهؤلاء يمسكون بالقضايا الأمنية الكبرى التي تقرّر مصائر بلادهم أكثر من الطبقات السياسية. المصدر نفسه.

 

[8]-     العهد القديم (خروج، 12، 12-14).

 

[9]-     أحمد علي القضماني، "صفحات من التاريخ، الإنتفاضة العامية في جبل العرب"، 1888-1889، الجبهة، 4/6/2005،

 .www.aljabha.org/?i=12338   

[10]-    المطران جورج خضر، "العروبة والإسلام"، جريدة النهار، بيروت، 20 أيلول 2014. 

 

[11]-    صموئيل هنتنغتون، المحاضرة نفسها.

 

[12]-    صموئيل هنتنغتون، المحاضرة نفسها.

 

[13]-    ستيفن كينزر، "العودة إلى الصفر، إيران، تركيا ومستقبل أميركا"، نقله إلى العربية انطوان باسيل، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2012، ص22-23. ويقدّم هذا الكتاب رؤية جديدة لإعادة بناء شراكات أميركا الإستراتيجية في الشرق.

 

[14]-    المرجع ما قبل السابق.

 

[15]-    المرجع ما قبل السابق.

 

[16]-    إعتمدت في المعلومات المتعلّقة  بمسلسل "حريم السلطان" على :

  ar.wikipedia.org

www.elaph.com

www.donynews.com

[17]-    2014/10/7، صحيفة (يو اس ايه توداي) www.all-agencies.com/l.php?id=220534

 

[18]-    محمّد حسنين هيكل، "دفاتر أزمة! الدفتر الثاني، واشنطن تؤذّن للجهاد في كابول"، جريدة السفير، السبت 2 شباط 2002، العدد 9117، بيروت، لبنان، ص: 11- 14.

 

[19]-    المرجع نفسه.        

 

[20]-    كتاب "طالبان: الإسلام والنفط والصراع الكبير فى وسط آسيا" ومؤلفه عميد الصحفيين الباكستانيين "أحمد رشيد"، وقد ظهر هذا الكتاب ونشر فى لندن لأول مرة في العام 2000، ثم أعيد نشره من جديد ثلاث طبعات في العام 2001 .

 ـ كتاب "الحروب غير المقدسة: أفغانستان، أميركا، والإرهاب الدولي"، ومؤلفه الصحافي الأميركي المخضرم "جون كولي" الذي قام بتغطية منطقة الشرق الأوسط لسنوات طويلة لكبرى وكالات الأنبـاء الأمريكية  ABC، وقد نشر الكتاب لأول مرة عام 1999، وأعيدت طباعته مرة ثانية في العام 2000، ومــرة ثالثــة في العام 2001.

 ـ كتاب "غسـيل الواقــع" (وتــلك هي الترجمة الأقرب إلى معنى العنوان الإنكليزي White Out)، والسطر الثاني من هذا العنوان هو: "وكالة المخابرات المركزية الأميركية والمخدرات والصحافة"، وقد اشترك في تأليف الكتاب إثنان من نجوم التحقيق بالعمق، أولهما "ألكسندر كوكبيرن" وهو الآن محرّر مجلة "ذي نيشن"، وكاتب مجموعة من أكثر الكتب رواجًا. والثاني "جيفري سان كلير" وهو صحافي مشهـود لـه فى متابعة نشاط أجهزة المخابرات الدولية ـ وقد نشر الكتاب في العام 1998  في لندن، وكانت هناك جهود مُلِحَّة نجحت في ما سعت له، ولم يطبع الكتاب فى نيويورك كما كان مقدرًا. المرجع نفسه.

 

[21]-    محمد حسنين هيكل، م.ن.

 

[22]-    Hillary Rodham Clinton, “Hard Choices”, Simon & shester, 5 jun 2014.

 

[23]-    في مقابلة لها مع "إيريك تراجر" في الواشنطن بوست، 11 حزيران 2014 أي بعد خمسة أيّام من صدور كتابها.

 

[24]-    الواشنطن بوست، 19 نيسان 2005.

 

[25]-    دايفيد ج. روثكوبف، "الطبقة الخارقة، نخبة التسلّط العالمي وأيّ عالمٍ تبني"، ترجمة حنان محمّد كسروان، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط:2،  بيروت، لبنان، 2012، ص:299.

 

The future of the Arabs between Change and Others

Muslims are characterized by their remarkable presence in the field of wars. However, it is not possible that this violence, in all its aspects, characteristics and grounds has pure religious motives, as depicted by the international media. They have cumulated defeats, injuries and setbacks throughout history because of their regimes and versions of the multiple Islamic reigns that haunt the West and its mentality. As a result, the Muslims are fully aware that they are being constantly abused, their riches and treasure exploited through different means and contemporary events and this turns them into a sort of fuel that is being used during conflicts in addition to continuously complaining from the repercussions of such incidents.

If the Middle Eastern Muslims were given the riches of the earth and heaven, greed or wide presence in their region will logically lead to reaching out to their regimes, beliefs and religion. Therefore, the future of Arabs and Muslims is torn between two centripetal forces: The centripetal force of change that is taking the world by storm and dragging them to it, whether whole or half heartedly, and the centripetal force of this change being inevitably centralized in Others, namely the regional and international forces, most of them non Arabic and non Islamic. Arabs are eventually divided between extremists who refuse change for the mere fact that it is induced by the West and the Others on one hand and enthusiastic toward this inescapable change and globalization. The remaining category includes the conciliatory faction that seems to be dormant and secluded from the current events.

The future of the Arabs stretches to a long bloody era where the impossible and constant search for neo-Islam in its impossible version no longer works. It is as if we are living in the prospects of a 3rd World War where Muslims, with all different expectations and aims, share a unified prayer and multiple cries of the two Shahadas. However, they fill both the East and the West with their dispersed politics, their perplexed regimes and their civilizations that outnumber their presence in the world. Muslims remain captives of major intellectual and cultural crises that cause them to swing between one powerful country and another less powerful, and between versions of texts, ideas and regimes. They also continue being torn between the past and the future and between the concepts of modernization, heritage, contemporarization, Others and change which leads them to remain a nation threatened to be dissolved between the autocracy of production and that of consumption. There is no change without the Others, and the imported tenacity in clinging to the mentality rejecting any interaction is a behavior that might lead civilization to downfall and maybe even death. For the world has become flat instead of round and the change that accompanies the movement of people and time is inevitable.

While waiting for the prospects of the cruel, distant and costly change, Arabs take refuge in the Greek wisdom: “The Gods do not punish humans when they are angry with them. Instead, they suffice in putting the authority into the own hands of those humans”.

Le futur des Arabes entre le changement et autrui

Les musulmans se distinguent par leur présence remarquable dans les lieux des guerres…Cependant une telle violence ne peut être basée seulement sur des motivations purement religieuses comme l’illustrent les médias internationaux à travers les images diffusées au monde entier. Leur histoire est pleine de défaites, de blessures et de déceptions vis- à-vis leur régime en premier lieu et vis-à- vis les différentes versions du gouvernement islamique qui préoccupe la pensée de l’Ouest, lequel les exploite toujours, à user de leurs ressources sous différentes formes et événements afin de devenir l’essence de tout conflit. Même si les musulmans du Moyen- Orient furent dotés des bienfaits de la nature, l’avidité ou la présence internationale large dans leurs zones aboutira logiquement au fait que leurs régimes, dogmes et religions seront visés. C’est alors que le futur des Arabes et des Musulmans apparait tiraillé entre deux facteurs: le facteur de changement envahissant le monde et auquel ils seront entrainés à plein ou à contre gré, et le facteur stipulant que ce changement serait sans doute lié à autrui, c’est-à-dire les forces régionales et internationales, dont la majorité n’est ni arabe ni islamique. Fait que les Arabes seront divisés en deux parties: les arabes radicaux refusant le changement juste pour le fait qu’il émane d’autrui, de l’Ouest, et les arabes favorables au changement vu que les Arabes ne peuvent échapper point au déterminisme de la mondialisation et du changement. Reste à mentionner les conciliatoires qui paraissent toujours latents, loin de tout ce qui se déroule sur la scène mondiale.

Le futur des Arabes s’étend vers un temps prolongé et sanglant où il est inutile d’être à la recherche du nouvel Islam et sa version impossible, comme si nous faisons face à une troisième guerre mondiale durant laquelle les musulmans, aux différentes aspirations, appellent à la prière d’une voix unanime et semblable, prononçant la Chahada diffusant dans l’Est et l’Ouest leurs politiques tiraillés, reflétant leurs régimes épars et leurs civilisations qui dépassent leur population nombreuse dans le monde. Les musulmans sont toujours prisonniers de crises intellectuelles et de civilisations importantes qui les rendent tiraillés entre un Etat puissant et un autre moins puissant, entre des copies de textes, de pensées et de régimes. Ils continuent à se sentir déchirés entre le passé et le futur, ou entre les concepts du modernisme et de la tradition, entre le changement et autrui. C’est alors qu’ils demeurent menacés par la fusion entre la productivité dictatoriale et la tyrannie de la consommation. Pas de changement sans autrui. S’attacher aux pensées refusant l’interaction représente une attitude qui menace les civilisations jusqu’à leur anéantissement. Le monde est devenu plat non pas rond, et les prédictions ne réussissent plus à briser le trajet du changement simultané du mouvement de l’humanité et du temps.

En attendant ces traits du changement cruel, lointain et coûteux, les Arabes se justifient en appliquant le proverbe grec: «Une fois coléreux, les Dieux ne punissent pas les humains, mais il suffit qu’ils se battent entre eux».