قضايا إقليمية

مستقبل المنطقة وفق «عقيدة نتنياهو» الجديدة
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

يُستشف مما ورد (ويرد) في خطابات رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، تبنّيه عقيدة جديدة على الصعيدين السياسي والأمني، مستلهمًا فيها آخر التطورات الإقليمية، وحالة التفسخ وعدم الاستقرار والتطرف والاضطراب الأمني السائدة في المنطقة.
أمام هذا الواقع لم يعد نتنياهو يكترث مطلقًا بإمكان معاودة المفاوضات مع الفلسطينيين، ولا بأي خطة إسرائيلية مستقلة للتسوية مع سوريا أو سواها.

 

الاتجاه المعاكس
تقوم «عقيدة نتنياهو» هذه، في ما يتعلّق بالصراع المزمن في المنطقة، على أساس قلب المفاهيم والمعادلات القديمة السائدة، منذ فترة طويلة، ومفادها أن السلام الاسرائيلي - الفلسطيني قد يساهم في دفع المصالحة الأوسع نطاقًا بين إسرائيل والعالم العربي. فنتنياهو يرى أنّ الأمر يسير حاليًا في الاتجاه المعاكس، أي أنّ المصالحة الأوسع نطاقًا بين إسرائيل والعالم العربي، قد تساهم في دفع السلام الإسرائيلي الفلسطيني. وحسب رأيه، «يجب تحقيق هذا السلام من خلال التطلّع ليس إلى القدس ورام اللـه فحسب، بل أيضًا إلى عواصم عربية أخرى». ويقول: «أعتقد بأنّه يمكن تحقيق السلام من خلال دور فعّال للدول العربية، أو تلك المستعدّة منها لتقديم المساهمات الحيوية».
وهو يضيف أنّ «المقولة المقدسة» التي كانت تعتبر أنّ جوهر الصراع في الشرق الأوسط يعود إلى ملابسات القضية الفلسطينية وتعقيداتها، قد تحوّلت إلى ضحية من ضحايا الثورات العربية أو ما سُمّي «الربيع العربي».
تؤيد عدّة أطراف في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي هذه العقيدة، ومن المؤيدين، العنصري أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» الذي قال إن «الدول العربية المعتدلة باتت تدرك أنّ التهديد الذي تواجهه يأتي من جانب المنظّمات الإسلامية المتطرّفة، ولذلك بالإمكان اليوم، ولأوّل مرّة، التوصل إلى تسوية شاملة تكون شروطها على إسرائيل مقبولة».
ويرى وزير المالية الإسرائيلي الأسبق يائير لبيد، رئيس حزب «يوجد مستقبل»، أن الجامعة العربية وعلى رأسها مصر، تشكّل مفتاحًا لتحقيق تسوية سياسية للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وأنه يستحيل تحقيق ازدهار اقتصادي في إسرائيل في المدى البعيد من دون إنجاز تسوية كهذه.

 

من الاعتراف بإسرائيل إلى الاعتراف بالصهيونية
من ناحية أخرى، تصرّ عقيدة نتنياهو على مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وتؤكّد أنّ السلام لن يحلّ ما لم يفعلوا ذلك، وأن تحقيق السلام لن يتسنى إلّا بعد اعترافهم بـ«حق» الشعب اليهودي في أن يعيش هنا في دولة سيادية أو دولة قومية خاصة به، على حدّ قوله.
ولعلّ الأمر الأعمق والأخطر في هذه السيرورة هو تطلّع نتنياهو إلى أن يتحوّل الاعتراف باسرائيل بهذه الطريقة، إلى اعتراف بالصهيونية وبممارساتها الاستعمارية العنصرية. وبالتالي يتحوّل الاعتراف الفلسطيني والعربي بالاحتلال، من اعتراف بحكم الأمر الواقع، إلى اعتراف مبدئي بشرعيّته التاريخية. وهذا لا يعني سوى أنّها، أي الصهيونية، كانت تاريخيًا على حق، فيما كان الفلسطينيون والعرب جميعًا على باطل. وبموازاة ذلك، تتضمّن «عقيدة نتنياهو» ضرورة موافقة الفلسطينيين على ترتيبات أمنيّة بعيدة المدى، وفي طليعتها بسط السيطرة الإسرائيلية على غور الأردن. ومع أن فكرة هذه السيطرة ليست جديدة، إلّا أنّها لم تطرح قط في ما مضى كمطلب مركزي، كما تطرح الآن. ورغم أنّ كثيرين من مسؤولي المؤسسة العسكرية الإسرائيلية سبق أن أكّدوا عدم وجود حاجة جيوستراتيجية جوهرية لمنطقة غور الأردن أمام التطوّرات التكنولوجية الهائلة في أنواع الأسلحة وإمكاناتها، وأنّه يمكن حماية حدود إسرائيل من دون التشبّث بهذا الشريط الجغرافي، فقد نجح نتنياهو في تحويل هذا المطلب إلى عقبة كأداء بوجه أي مسعى للتسوية.
وتتعالى يومًا بعد يوم أصوات تؤكّد أنّ «المشروع الاستيطاني» في مناطق الضفّة الغربية قد تحوّل إلى مشروع ضخم لا رجوع عنه، مع ما يعنيه ذلك من دلالة سحب البساط من تحت أقدام مشروع «حل الدولتين». ففي حين كان من الممكن في الماضي كبح جماح بعض المستوطنين، فإن هؤلاء باتوا يسيطرون اليوم على الحزب الحاكم، الليكود، ويحركون خيوط سياسة الحكومة، ويتحكمون في شؤون الإدارة وكأنها ملك لهم. ولا يوجد اليوم أي حزب إسرائيلي مركزي أو أي زعيم يستطيع مواجهتهم، والتصدّي لهم. وهكذا حلّت محلّ الدولة التي كانت قادرة في أيام آرييل شارون على تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة العام 2005، دولة عاجزة حتى عن وقف أعمال مثيرة للاشمئزاز تقوم بها جماعات من الرعاع، مثل مجموعة «تدفيع الثمن» و«زعران التلال».

 

إنتظر وراقب
حسب رأي أحد منظّري اليمين الإسرائيلي، تبدو أفضل مقاربة بالنسبة إلى إسرائيل، عقب فشل مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، هي العودة إلى معادلة رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل إسحاق شامير، والقائمة على مبدأ «عدم فعل أي شيء»، والاكتفاء بإدارة الصراع، واعتماد سياسة «انتظر وراقب»، من دون الإقدام على أي خطوات، بما في ذلك خطوات جذرية أحادية الجانب. وفي عقيدة نتنياهو أن حلّ هذا الصراع على المدى البعيد مستحيل، في حين أن إدارته، بهدف خفض معاناة الطرفين، وتقليص خسائر إسرائيل الدبلوماسية إلى حدّها الأدنى، هي أمر في متناول اليد.
ويرى نتنياهو أيضًا أنّ ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل، بقصد تغيير الوضع القائم، أمر مستبعد، وفرضية أنّ الوقت الذي يمرّ هو في غير مصلحتها إنّما هي فرضية خاطئة بكل بساطة.
وفي واقع الأمر، يعتقد نتنياهو أن المسألة الفلسطينية ستصبح أقل بروزًا في الساحتين العربية والدولية مع مرور الزمن، ومع تعمّق التشبيك الاقتصادي والأمني بين الأطراف الإقليمية ذات المصلحة. ومن المستبعد في رأيه، بالتالي، أن تواجه الولايات المتحدة، بزعامة ترامب، ضغوطًا عربية اشتراطية في ما يخص القضية الفلسطينية، ما لم تقدم إسرائيل على اتخاذ خطوات جذرية في موضوعي التهويد والاستيطان. ولا يملك الفلسطينيون من جهتهم، كما هو معروف، أي تأثير ملحوظ في المسائل الإستراتيجية المهمّة حقًا، مثل انتشار الأسلحة النووية أو الطاقة، التي من شأنها أن تحثّ القوى الكبرى على التدخل. وإذا كان للفلسطينيين في ما مضى، دور مؤثّر ومهم في «الإرهاب» الدولي، فإنّ الأمر لم يعد كذلك، خصوصًا وأنّهم أصبحوا حاليًا، كثيري الاعتماد على المساعدات الدولية، وهزّ الأمن الإسرائيلي بعنف زائد عن اللزوم من قبلهم، من شأنه أنّ يهدد سبل عيشهم ويحرمهم الرواتب والإعانات، كما يُعرّضهم لردود إسرائيل الانتقامية.
والنتيجة المرجّحة من هذا كلّه، في عقيدة نتنياهو، هي أن معظم دول العالم تستطيع التعايش مع مسألة فلسطينية معلّقة إلى أجل غير مسمّى، خصوصًا وأنّ هناك ما يكفي من النزاعات الإقليمية الخطيرة التي تغلي برفق على نار هادئة وفق مصالح مشغّليها.