مستقبل كردستان وسقوط "الحلم الكردي"

مستقبل كردستان وسقوط "الحلم الكردي"
إعداد: العميد الركن المتقاعد نزار عبد القادر
ضابط متقاعد في الجيش اللبناني

المقدّمة

كانت الحركة الوطنية الكردية قد بدأت تتشكل في نهاية الحرب العالمية الأولى مع سقوط الإمبراطورية العثمانية. ففي أثناء تشكيل الجمهورية التركية واتجاهها إلى العلمنة، اعتقد الأكراد أنّها ستهدّد حتمًا طموحاتهم السياسية، وتتعارض كليًا مع تطلعاتهم لإقامة دولة مستقلة.

وظهرت في الفترة السابقة خلافات سياسية أساسية حول مستقبل كردستان حيث توزّع الأكراد بين خيارين: الأوّل، فكرة إقامة كيان ثقافي مستقل ضمن إطار الخلافة الإسلامية العثمانية. والثاني، فكرة قيام كيان قومي يرتكز على أفكار ومبادئ الثورة الفرنسية ومبادئها. وما شجّعهم على الخيار الثاني كان الحماس الذي أبداه الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في مؤتمر السلام في باريس في العام 1918 لإقامة كردستان المستقلة.

بلغ هذا الإنقسام حدوده القصوى في أعقاب هزيمة السلطنة العثمانية في العام 1918، حيث سارع الاستقلاليون إلى تشكيل بعثة خاصة وإيفادها إلى فرساي للمطالبة بالاعتراف بالأمة الكردية[1].

نصّت معاهدة "سيڤر sèvres" التي وقعت في 10 آب 1920 على توصيته في الفصل 111 (البند 64) على إقامة دولة كردية على جزء من أرض كردستان، لكن عادت معاهدة لوزان التي وقعت في 24 تموز من العام 1924 لتنقض هذا الوعد بإقامة دولة كردية، وألحقت المناطق الكردية بالدولة التركية وإيران والعراق وسوريا. لم تقرّر سلطات الانتداب الفرنسي والبريطاني المصير النهائي لمناطق شمالي العراق الغنية بالنفط، حيث بقي مصيرها معلّقًا ما بين الدولتين المنتدبتين، وذلك طمعًا من كل منهما باستغلال الثروات النفطية، ووضعت منطقة الجزيرة السورية تحت الانتداب الفرنسي[2].

كان الإقليم الكردي الإيراني قد أُبقي خاضعًا للسيطرة الإيرانية، في الوقت الذي كانت بعض أجزائه خاضعة لسيطرة الزعيم الكردي الثائر "سيمكو".

بعد سقوط معاهدة sèvres عادت السلطات البريطانية وقرّرت ضم المناطق الكردية في شمالي العراق إلى المملكة العراقية. واعترفت عصبة الأمم في العام 1925 بهذا الضم، مع وجود وعد بريطاني بإقامة كيان كردي مستقل في شمالي العراق[3].

لن نتحدث في هذا البحث عن الثورات والصراعات التي شهدتها المناطق الكردية في شمالي العراق في ظل الوجود البريطاني أو في ظل الدولة العراقية المستقلة، وخصوصًا في ظل حكم البعث، ووجود صدام حسين على رأس الدولة. ولكن سنركّز الحديث عن فترة إنشاء الأقاليم والتي بدأت في آذار من العـام 1970 بعد الاتفاق بين المعارضة الكرديــة والحكومة العراقية عقب سنوات طويلة من القتال. لكن في العام 1991 وبفعل انتفاضة الشعب العراقي ضد نظام صدام حسين، عاد القتال إلى شمالي العراق، حيث شنت القوات العراقية حملات قاسية لإخضاع الأكراد، ممّا اضطر الكثير من السكان إلى الفرار والنزوح عن ديارهم. بعد إنشاء منطقة حظر طيران في نهاية حرب الخليج الأولى في العام 1991 عاد السكان واستكمل الأكراد حربهم ضد القوات العراقية، وتحولت المنطقة بحكم حماية الحلفاء إلى منطقة مستقلة بعد مغادرة القوات العراقية للمنطقة في تشرين الأول في العام 1991 لكن لم يعلن أيّ من الحزبين الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردي والاتحاد الوطني الكردستاني الاستقلال في ذلك الوقت.

وقد أدّى غزو العراق في العام 2003 والمتغيرات السياسية اللاحقة إلى وضع دستور جديد للعراق، شارك الأكراد في وضعه والتصديق عليه في العام 2005، حيث تحول الإقليم إلى كيان شبه مستقل ضمن عراق اتحادي.

تمتع الإقليم بعد ذلك بحكم ديمقراطي برلماني، وانتخب مسعود بارزاني رئيسًا للإقليم في العام 2005 وأعيد انتخابه في العام 2009.

كانت هناك مناطق لم يُبت بتبعيتها للإقليم أو للدولة الاتحادية، وفي ظل سيطرة "داعش" على أجزاء من العراق، نجحت البيشمركة الكردية في استعادة هذه المناطق وأعلنت ضمها للإقليم من دون موافقة بغداد.

في ظل الظروف الجديدة لتوسع الإقليم، اعتقد مسعود بارزاني بأن هناك فرصة سانحة للسير قدمًا في انفصال الإقليم عن العراق، وإعلان دولة مستقلة، فقرر إجراء استفتاء على الانفصال في 25 أيلول من العام 2017. وعلى الرغم من كل النصائح الدولية والإقليمية فقد أصرّ بارزاني على السير قدمًا في عملية الانفصال.

بعد الاستفتاء نجحت القوات العراقية في استعادة السيطرة على المناطق المتنازع عليها كلّها، وبدأت أزمة ما بعد الاستفتاء بكل ارتداداتها وتداعياتها السياسية والاقتصادية على الإقليم.

سنركّز في هذا البحث على الظروف التي رافقت وتبعت عملية الاستفتاء، مع كل ما ترتب وسيترتب عليها من نتائج سلبية على "الحلم الكردي" بالاستقلال، وسنستعرض كل التداعيات السياسية والاقتصادية ونتائجها على مستقبل الإقليم، وعلى علاقاته مع الدولة العراقية، وكل من تركيا وإيران.

لا بدّ أيضًا من استطلاع مدى قدرة أو قابلية القيادات الكردية لمراجعة الأخطاء الكبيرة التي ارتكبوها من خلال إصرارهم على إجراء الاستفتاء في 25 أيلول 2017 على الرغم من كل الاعتراضات والنصائح التي أسديت إليهم من مختلف القوى الإقليمية والدولية. وسيكون أيضًا من الضروري والمفيد للبحث أن نحاول استشراف مستقبل الإقليم بعد هذه الانتكاسة المؤلمة.

 

1- الاستفتاء على الانفصال

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتفكك السلطنة العثمانية يبحث الكرد عن فرصة مؤاتية لإعلان دولتهم المستقلة، وقد بذلوا بالفعل جهوداً جبارة في هذا السبيل في الدول الأربع التي يوجدون فيها، بما في ذلك اللجوء إلى الثورة المسلحة، ولكن من دون جدوى. ويبدو أن الظروف الصعبة والمعقدة التي يواجهها العراق منذ الاحتلال الأميركي في العام 2003، خصوصاً في ظل التهديد المصيري الذي شكّلته "الدولة الإسلامية" بقيادة أبي بكر البغدادي بعد احتلال الموصل ومناطق عراقية واسعة، وبعد إعلان الخلافة الإسلامية في العام 2014، شجعت إقليم كردستان على إجراء استفتاء على الاستقلال.

يأتي هذا الاستفتاء في محاولة لاستغلال حالة الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية السائدة في العراق من أجل فرض أمر واقع حتى يجبر الحكومة العراقية على قبوله وذلك بسبب مشاغلها في الحرب على "الدولة الإسلامية"، وفي ظل الانقسامات الحادة التي ظهرت بين القوى السياسية الشيعية – الشيعية والشيعية – السنيّة[4].

ومن المتوقع أن تؤدي نتائج الاستفتاء، والمخاوف التي يمكن أن تترتّب عليه إلى تعميق هذه الانقسامات الداخلية، بالإضافة إلى إثارة المزيد من التوترات الإقليمية، وخصوصًا في كل من تركيا وإيران وسوريا.

لا يمكن أن تحقق نتائج الاستفتاء وحدها قيام الدولة الكردية المستقلة في الإقليم، فالاستفتاء لا يتعدّى كونه عملية استشارية نظمتها سلطات الإقليم من أجل تأكيد رغبة الأكثرية في الاستقلال.

كان من الطبيعي أن تشهد المناطق الكردية في اليوم التالي للاستفتاء مظاهرة شعبية عارمة، وأن تعمَّ الاحتفالات جميع المدن والبلدات الكردية، ولكن سرعان ما أدرك الجميع أنّه لا يمكن ترجمة نتائج الاستفتاء إلى إجراءات سياسية وإدارية واقتصادية من أجل تغيير بنية السلطات القائمة في الإقليم، وبالتالي الانتقال بوضعه السياسي والقانوني من جزء من الدولة العراقية إلى دولة مستقلة، ذات سيادة.

كما أنّ المؤسسات القائمة ستبقى سواءٌ في بغداد أو في الإقليم على حالها في المستقبل المنظور، وتمارس وظائفها كالمعتاد، وسيدرك الجميع أنّه لن يكون من السهل تفكيك الدولة الفيديرالية ومؤسساتها الرسمية من رئاسة الجمهورية إلى البرلمان إلى الحكومة بمجرد إعلان نتائج الاستفتاء. فالاستفتاء يشكل عملية سياسية كردية داخلية، وكان من المتوقع والطبيعي أن ترفض نتائجه السلطات المركزية في بغداد، وذلك انطلاقًا من اعتباره مخالفًا للدستور العراقي، والذي جرى إقراره بعد التصويت عليه من قبل جميع المكونات العراقية، بما فيها المكوّن الكردي.

وانطلاقًا من ذلك تواجه قيادات الإقليم بعد الاستفتاء مأزقًا كبيرًا ومعقّدًا، يمكن تحديد أطره من خلال طرح مجموعة من الأسئلة: ما هي الجهات الفاعلة التي أرادت الاستقلال من خلال طرح الاستفتاء؟ كيف تصوّرت تحقيق ذلك؟ وما هي الخريطة الجغرافية للدولة الجديدة؟ وهل تبقى هذه الدولة رهنًا لعائلات وقيادات تقليدية؟ هل يمكن الانتقال نحو دولة مدنية؟ هل يمكن تسويق نتائج الاستفتاء في بغداد وفي عواصم الجوار لمنع حدوث تداعيات سياسية وأمنية واقتصادية تهدّد الاستقرار الداخلي والإقليمي؟ هل يمكن تأمين الاعتراف الدولي وبالتالي تحقيق الشرعية الدولية للدولة الوليدة؟

في البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة الأساسية لإجراء عملية الانتقال إلى الدولة الموعودة، كان لا بدّ من استعادة التجارب القاسية التي مرّ بها الإقليم نتيجة الخلافات على السلطة بين عامي 1994 و1998 بين الحزب الديموقراطي الكردي بقيادة مسعود بارزاني وبين حزب الاتحاد الوطني الكردي بقيادة جلال طالباني والذي انتهى فعليًا بوساطة أميركية بدأت في العام 1998، والتي ترجمت في العام 2005 بتوافق الحزبين على تشكيل حكومة وحدة، نجحت في تحقيق الاستقرار في الإقليم، بعد أن سمحت للعائلتين باقتسام عائدات النفط بينهما.

في هذا السياق، كان لا بدّ من التساؤل عن قدرة مسعود بارزاني على الاستمرار في السلطة كرئيس للدولة، وذلك على غرار تمسكه بحكم الإقليم والاستمرار فيه على الرغم من انتهاء ولايته، وفشله في القيام بأي إصلاحات أو محاربة الفساد المستشري[5]. من هنا فإن تجربة الماضي القريب لا تبشّر بالخير (حتى ولو توافرت لها مستقبلًا الظروف المؤاتية دوليًا) ويميل عدد من الخبراء المتتبعين للتطورات السياسية في الإقليم، بأنّ الدعوة الجديدة للاستفتاء لم تتعدَّ كونها مناورة لتدعيم شعبية بارزاني المتهاوية بدل تحقيق الحلم الكردي. في المقابل استبقت بغداد ودول الجوار وخصوصًا تركيا وإيران، الاستفتاء بجملة من المواقف والتدابير التصعيدية والتي تؤشر إلى استعدادها لمواجهة مشروع الانفصال بكل الوسائل المتاحة. لقد اعتبر حيدر العبادي رئيس الوزراء أنّ المشروع يشكّل تهديدًا مباشرًا لوحدة العراق وأمنه وأنّه يُعتبر مخالفة واضحة للدستور، وأنّ الخطوة الأولى ستكون استعادة السلطة المركزية لسيادتها على المداخل الحدودية والمطارات، ودعوة جميع دول العالم إلى عدم شراء النفط من الإقليم. بينما اعتبرت تركيا بأنّ الاستفتاء يشكل تهديدًا للأمن القومي التركي. وذهب الرئيس أردوغان إلى اعتباره مغامرة، وأنّ تركيا تحتفظ بكل الخيارات لمواجهته. ويبدو أنّ الموقف الإيراني لا يقل قسوة وصلابة عن الموقف التركي، حيث أقفلت الأجواء مع الإقليم، مع إمكانية تصعيد لإقفال كامل الحدود البرية.

في قراءة موضوعية للحدث في شمالي العراق وسوريا، وعلى الرغم من كل المواقف الإقليمية والدولية الرافضة له ولنتائجه فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر المظلومية التاريخية التي لحقت بالأكراد منذ انعقاد مؤتمر لوزان في العام 1924، وحرمانهم معظم الحقوق، وفي طليعتها حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولة خاصة بهم. فالأكراد يطالبون بإقامة هــذه الدولة منذ تفكّك السلطنة العثمانية، وقد تمخّضت محادثات للدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في مؤتمر السلام في باريس في العام 1919 عن وعد بإعطائهم دولة لكن سرعان ما تغيّر الأمر بعد نتائج الحرب التي خاضها أتاتورك ومطالبته بتوسيع حدود الجمهورية التركية [6] .

جاء الاستفتاء واستثمار نتائجه من أجل الانفصال في سياق المكاسب التي حقّقها الأكراد نتيجة حرب الخليج في العام 1991، والغزو الأميركي للعراق في العام 2003، حيث نجحوا في إقامة كيان شبه مستقل، ضمن نظام فدرالي نص عليه دستور الجمهورية العراقية الجديدة الذي جرى إقراره عام 2005.

يبدو بوضوح أنّ قيام الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة من العراق وسوريا ودخول أكراد سوريا والعراق كطرفين أساسيين في الحرب على هذه الدولة قد قدّما فرصة تاريخية لهم، حيث اعتقدوا أنّهما قد فتحا أمامهم الباب على مصراعيه للتوسّع جغرافيًا إلى خارج مناطقهم ولتسريع كل الإجراءات من أجل تحقيق الانفصال عن الدولة الأم.

أشارت ردود الفعل العراقية والإقليمية والدولية كلّها إلى مدى صعوبة أو حتى استحالة نجاح المشروع الذي قاده مسعود بارزاني في شمالي العراق، وخصوصًا في ظل إصراره على ضم محافظة كركوك، ومناطق من نينوى وديالى وصلاح الدين إلى المحافظات الكردية الثلاث داهوك وأربيل والسليمانية. وأجمعت المواقف الدولية على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق، ورفض أيّ تغيير في حدوده القائمة منذ قرن كامل. ورأت بعض الأوساط في إصرار بارزاني على هذا الاستفتاء، ورفض كل دعوات تأجيله هروبًا إلى الأمام، أراده من أجل تسجيل موقف تاريخي، ومن أجل استعادة شعبيته والتغطية على بحر الفساد المحيط بحكمه[7].

كان من المتوقّع أن يدعو بارزاني الحكومة العراقية للحوار حول موضوع الانفصال، لكنه لم يجد آذانًا صاغية في بغداد، بالإضافة إلى مواجهة تدابير تصعيدية لحصار الإقليم، شارك فيها بقوة كل من أنقرة وطهران. وبالفعل فإنّ هذه التدابير للاقتصاص من الإقليم لم تقتصر على إقفال الأجواء والمعابر والعقوبات الاقتصادية بل تجاوزتها إلى ما هو سياسي وأمني وعسكري، خصوصًا بعد ضمّ المناطق المتنازع عليها، بما فيها كركوك والتي تشكل برميل بارود يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية، هذا بالإضافة إلى احتمال انفجار حرب أهلية عراقية بين الكرد والعرب بعد أن اعتبرت الحكومة العراقية أنّه لا يمكنها الوقوف مكتوفة الأيدي أمام قيام هذه "الدولة المصطنعة" المخالفة للدستور ولإرادة الشعب العراقي.

وكان من المتوقّع أن يعلن بارزاني، في المستقبل المنظور، الاستقلال لدولة فاشلة جديدة، وسيكون من الصعب الحفاظ على استمراريتها، مع ترجيح أن يكون مصيرها كمصير جمهورية "مها باد" التي أنشئت في العام 1946 في إيران والتي جرى إسقاطها في السنة نفسها[8] .

 

2- إصرار بارزاني ورفض عراقي ودولي

وقفت الحكومة العراقية ومعها دول العالم والمنطقة ضد قرار الاستفتاء الذي أصرّ مسعود بارزاني على تنفيذه على الرغم من وجود تيار داخلي معارض لتوقيت الاستفتاء.

فحشد العراق قواته العسكرية والأمنية واستنفر ميليشياته الطائفية، من أجل إسقاط الاستفتاء وإلغاء مفاعيله بالكامل. وتناسى العراقيون العرب خلافاتهم من أجل التحضير لمواجهة مع الأكراد تحفظ  وحدة العراق، وهو الأمر الذي لم يحصل منذ سقوط نظام صدام حسين. لقد أظهرت أزمة الاستفتاء بأنّ فكرة النظام العراقي الموحّد، والذي يضم كل الإثنيات لم تسقط، وما زالت حية في نفوس معظم السنّة والشيعة العرب، وهو مؤشر على أنّ العراق لن يتهاون في مواجهة العملية الانفصالية الكردية. وأثبتت سرعة الحشد وشموليته بأنّ عراق ما بعد صدام لم يتغيرّ في موقفه من استقلال الأكراد، وبأنّه لا يزال يرفض الاعتراف بحق الأكراد في الحصول على هوية وطنية خاصة بهم[9].

واستفاد حيدر العبادي من الانتصار الذي حقّقه على "داعش" في مواجهته للاستفتاء وحشد الطاقات السياسية والعسكرية كلّها لدحره. كما نجح في تأليب كل من إيران وتركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضدّ الاستفتاء. لكن نجاح العبادي في هذه المواجهة يطرح عدّة أسئلة: هل يوطد هذا النجاح المسيرة للتكامل الوطني في العراق؟ وهل يؤدي إلى إخراج السنّة من دائرة التهميش السياسي والاقتصادي إلى دائرة المشاركة الوطنية المتساوية مع الشيعة؟ وهل يؤسس لبناء "عقد اجتماعي جديد" يتساوى فيه السنّة والشيعة والأكراد؟

بعد الانتصار على أربيل، بات المطلوب من الحكومة المركزية أن تحل الأزمات الأساسية التي يواجهها العراق: أزمة الهوية، وأزمة تأسيس الدولة الجامعة، وأزمة الاقتصاد وإعادة بناء البنى الأساسية التي هدمتها الحروب. ولا يتطلب هذا الأمر التعامل مع آثار نشوء الدولة الإسلامية أو النفوذ الإيراني أو التواجد الأميركي وما سبّبه من علل سياسية منذ إسقاط نظام صدام حسين فقط، بل يفترض فيه أن يعالج جميع المشاكل والتعقيدات الداخلية والبنيوية السابقة للتدخّل الأميركي والإيراني.

وهناك أزمة راهنة عبّر عنها رئيس حكومة كردستان نيجرفان بارزاني بدعوته حيدر العبادي إلى عدم التعامل مع أزمة الإقليم بوصفه من "حزب الدعوة" بل عليه الترفّع والتصرّف على أنّه رئيس للحكومة الاتحادية، وبأنّه يقف على مسافة واحدة من المكونات العراقية كلّها. يشكل هذا الشعور تجاه رئيس الحكومة من قبل الأكراد وقسم من السنّة العرب عائقًا كبيرًا أمام عملية التأسيس لوطنية عراقية جامعة، يبدو أنّ العبادي من أكثر القيادات العراقية المؤهلة لقيادتها.

في المقابل، لا يمكن أن يفيد العناد الكردي في مواجهة الضغوط التي يمارسها العبادي على الإقليم أو مواجهة الضغوط التركية والإيرانية، أو التعبير عن الاستياء من الموقف الأميركي غير الداعم للاستفتاء، ولكنّه سيزيد من الأضرار التي تتهدّد الإقليم، ويعطّل مسارات التفاهمات السياسية الممكنة كلّها، ويشجّع على حصول مواجهة عسكرية بين القوات العراقية والبيشمركة، والتي ستجرّ حتمًا إلى مزيد من التدخل التركي والإيراني ضدّ الأكراد.

هذا وقد أدّت الأخطاء المتراكمة التي ارتكبتها قيادات الإقليم إلى الوضع الراهن الخطير، حيث وضع الأكراد أنفسهم في موقع صعب لا يمكن الخروج منه بسهولة، ومن دون تحمّل أثمان باهظة. فالتراجع عن الاستفتاء هو أشبه بالعملية الانتحارية، ولكن قدرة الأكراد على الرفض قد تراجعت بعد صدور حكم المحكمة الاتحادية ببطلانه. إنّه ثمن المجازفة التي اعتمدها مسعود بارزاني، على الرغم من كل النصائح له بضرورة تأجيل الاستفتاء. إنّ الاستمرار في العناد برفض إلغاء الاستفتاء سيؤدي إلى وضع كارثي، يتحوّل فيه الإقليم إلى فريسة تمزقها تركيا وإيران والحكومة المركزية. كما إنّ الحؤول دون حصول مثل هذه الكارثة على الإقليم سيتطلّب حتمًا تدخلًا أميركيًا لمنع الانزلاق المتسارع نحو مواجهة عسكرية يتشارك فيها الأطراف الثلاثة ضد الأكراد.   

يعتقد معظم القياديين الكرد أنّ أوساطًا أميركية عديدة قد شجّعت الأكراد على اتخاذ خطوات متقدمة على طريق الاستقلال، من خلال اعتبارها أنّ الدولة الكردية قد أصبحت واقعًا لا عودة عنه. وظهر ذلك جليًا من خلال مباركة هذه الأوساط للسيطرة الكردية على كركوك، وما تؤمنه من مصادر مالية من عائدات النفط، وأنّ هذا الأمر الواقع ستتقبّله بغداد مع الزمن. واعتبرت القيادات الكردية أنّ استثمارات الولايات المتحدة في تسليح البيشمركة، والشراكة بين الطرفين الأميركي والكردي في الحرب ضد "داعش"، يشكّل رصيدًا يمكن البناء عليه للسير قدمًا نحو الاستقلال[10].

لكنّ القيادات الكردية فوجئت بمواقف إدارة ترامب والتي جاءت صادمة بكل المقاييس، واعتقدت هذه القيادات أنّ التصريحات مخادعة وتستعمل للاستهلاك السياسي المحلي، وهذا ما دفع بارزاني للاستمرار في عناده.

في ظل انتكاسة الاستفتاء تبقى علاقات الأكراد مع الولايات المتحدة في غاية الأهمية، فهي وحدها تملك القدرة لدفع الطرفين الكردي والعراقي إلى طاولة المفاوضات لحل كامل المسائل العالقة بين بغداد وأربيل، ممّا يفضي لاحقًا لتأسيس فيدرالية حقيقية في العراق، تمنع تقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات. ويعوّل الأكراد على الولايات المتحدة أن يقتصر النفوذ الإيراني في داخل العراق وبالتالي منع تبني نظام شيعي مماثل للنظام الإيراني فيه.

يتطلّب احتواء النفوذ الإيراني في العراق من واشنطن بأن تبني استراتيجية شاملة ومتماسكة تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يشارك فيها عدد من الدول الإقليمية الحليفة، إلّا أنّ هذا الأمر ما زال بعيد المنال في ظل الاستراتيجية "المبعثرة" التي تعتمد على التصريحات السياسية الرنانة، بدل البرامج والمواقف التي تهدف إلى إضعاف إيران وحلفائها من الميليشيات المسلّحة، والتي تشكل أدوات إيران لإضعاف خصومها، ومد نفوذها. وما زالت الولايات المتحدة تعتمد سياسات متسامحة مع إيران في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وستؤدي هذه السياسات المبعثرة في نهاية المطاف إلى نجاح الاستراتيجية الإيرانية.

يرى الأكراد العراقيون أنّ عدم اهتمام واشنطن بقضاياهم سيعطي فرصة لروسيا أن تكون الشريك البديل. وهم يرون أنّ الإمكانية متوافرة لديهم لإثارة اهتمام روسيا لهم، ضمن عملية عود على بدء، حيث كانت روسيا تعتبر أن دورها أساسي في العراق في الفترة التي سبقت الغزو الأميركي في العام 2003. ويدرك الأكراد أنّ روسيا تميل إلى الحفاظ على وحدة العراق، ولكنّها ستكون قادرة على تفهم أوضاع الأكراد والتجاوب معها. وهناك حوار فعلي قائم يشمل بعض قضايا النفط والغاز.

على خط آخر تفاجأ الأكراد بصلابة الموقف التركي المعارض للاستفتاء، وذهابه إلى حد التهديد بتجويع الإقليم وبالمشاركة مع القوات العراقية في إقفال المعابر بين تركيا والإقليم، مع استعداده لإرسال قواته ضمن عملية "درع دجلة" على غرار "درع الفرات" في سوريا، وإرسالها إلى العراق، وإنشاء شريط عازل بين العراق وسوريا[11].

يعتقد كثيرون من الكرد أنّ إصرار بارزاني على إجراء الاستفتاء قد جاء على خلفية اعتقاده بأنّ واشنطن ستقف في نهاية المطاف إلى جانبه. ويبدو بوضوح أنّه كان مدفوعًا إلى إصدار أول وثيقة تاريخية تتحدّث عن استقلال الإقليم، هذا بالإضافة إلى رغبته في قطع الطريق على إيران التي تحاول فرض نفوذها على العراق.

في الواقع لم يكن بارزاني ليثق بالأميركيين، وذلك على ضوء قراءته الموضوعية للتاريخ ومراجعته لسياسات أميركا تجاه الأكراد منذ مباحثات السلام في باريس في العام 1919. يضاف إليها مواقف أميركا بعد الغزو تجاه سيطرة الأكراد على كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها.

أكّد رفض بارزاني للنصائح الأميركية بعدم تنفيذ الاستفتاء، أنّه لا يتقيد بالتوصيات الأميركية، وأنّ ما يهتم له هو ما يريده الشعب الكردي منه.

ويرى الأكراد في تقويمهم لكل ما جرى على الأرض أنّ العبادي لم ينتصر عليهم، ولكن ما حقّقه قد جاء نتيجة الضوء الأخضر الأميركي لدواعٍ تكتيكية واستراتيجية تتعلق بمستقبل التواجد الأميركي العسكري على الأراضي العراقية.

استغلّت أربيل هذا الأمر لتنفيذ انسحاباتها العسكرية من العديد من المناطق، بعيد سقوط جبهة كركوك بفعل "خيانة" بعض الأطراف الكردية وخضوعها للضغوط الإيرانية[12].

في النهاية يجب أن يمثل ما حدث في العراق خلال هذه الفترة التي سبقت وتلت الاستفتاء الكردي، أمثولة تكون عبرة للدول العربية الأخرى، والإعداد لمواجهة تفشي الدعوات الانفصالية، والوقوف في  وجه المخطط التقسيمي الذي يهدد بعض الدول العربية، وعلى رأسها سوريا وليبيا واليمن.

 

3- المناطق المتنازع عليها

تمتد هذه المناطق من خانقين وجولاء على الحدود الإيرانية حتى سنجار على الحدود السورية، مرورًا بكركوك. وكانت الدولة الإسلامية قد احتلتها بسهولة بعد سقوط الموصل. وتمكّنت قوات البيشمركة، بمساعدة  فعّالة من قوات التحالف الدولي، من تحريرها من "داعش"، حيث ألحقت بالمناطق الكردية التي كانت قد صنفت في السابق بأنّها أراضٍ متنازع عليها، سواءٌ في كركوك أو سنجار أو في سهل نينوى. وأعلن المسؤولون الكرد أنّ إلحاق هذه المناطق بالإقليم قد حلّ الإشكال المرتبط بتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي، ولم يعد هناك أي إشكال لتنفيذ أي استفتاء للسكان في هذه المناطق لتقرير مصيرها. وكان من المفترض أن يحسم أمرها وفق دستور العام 2005 في آخر يوم من العام 2007. بعد الانتهاء من احتلال البيشمركة لهذه المناطق صرح الرئيس مسعود بارزاني في حزيران 2014 "لقد حاولنا تطبيع الأوضاع في هذه المناطق عبر تنفيذ المادة 140 من الدستور. لكن محاولاتنا لم تثمر، والآن جرى تنفيذ أحكام هذه المادة، ولن نعود للحديث عنها".

منذ سقوط الموصل في العاشر من حزيران من العام 2014، دأب مسعود بارزاني في كل مقابلة صحافية على تأكيد حق الإقليم في الاستقلال. ودعا تكرارًا برلمان الإقليم إلى اتخاذ الإجراءات القانونية والعملية من أجل القيام باستفتاء حول الاستقلال، مرددًا أنّ الاستفتاء سيشكل خطوة أساسية نحو تنفيذ الاستقلال، وذلك على الرغم من أنّه سيشكّل "مغامرة"، لكن لا بدّ للكرد من اغتنام الفرصة المؤاتية لإجرائه[13].

لكن يبدو أنّ تهديد "داعش" لأربيل، بعد احتلالها للمناطق المتنازع عليها، قد دفع سلطات الإقليم لصرف النظر عن إجراء الاستفتاء في العام 2014. وكانت سلطات الإقليم متأكدة من تأييد الأكثرية الساحقة من الكرد للاستقلال، حيث سبق لها أن كلّفت شركة خاصة إجراء استفتاء غير رسمي في أثناء الانتخابات البرلمانية في العام 2005، وجاءت النتائج لتقول بأنّ نسبة 98.8 في المئة تؤيد الاستقلال، والذي شارك فيه ما يزيد عن مليوني ناخب. والفارق كبير بين ما جرى في العام 2005 وما جرى في العام 2017، حيث لم يقتصر الاستفتاء الأخير على استبيان رأي الشعب بل طلب إليه التعبير عن رغبته في الاستقلال عن العراق، ولكن من دون الوعد بالذهاب إلى الاستقلال فورًا بل يجب أن يشكّل مدخلًا لحوار مع بغداد لضمان تنفيذه. واعتمدت هذه المرونة في تحديد موعد إعلان الاستقلال إدراكًا من قبل بارزاني بمخاطر استثاره ردود فعل غاضبة من قبل الحكومة الاتحادية والقوى الإقليمية والدولية، والتي عبّرت عن تحفظها على توقيت الاستفتاء في هذه الظروف الصعبة التي يواجهها العراق والدول المجاورة، لا بل منطقة الشرق الأوسط برمتها. من هنا فإنّ مسعود بارزاني قد أصرّ على ركوب هذه المغامرة الكبيرة، ولم يكن أمامه بعد سقوطها بالكامل سوى تحمّل المسؤولية والانسحاب من العمل السياسي، وفق ما أعلنه شخصيًا.

لم تكن السلطات الاتحادية في بغداد خلال السنوات التي سبقت الاستفتاء راضية عن سيطرة قوات الإقليم على المناطق المتنازع عليها، وكان من الواضح وجود رغبة لديها لانتزاعها أو على الأقل إرسال قوات أمنية وعسكرية إليها. أعلنت وزارة الدفاع العراقية في أثناء حكومة نوري المالكي في 3 تمّوز من العام 2012، وقبل وقوع كامل المناطق المتنازع عليها تحت سيطرة البيشمركة في العام 2014 عن تشكيل "قيادة عمليات دجلة" للعمل في كركوك وديالى، وصلاح الدين. اعتبرت القيادة الكردية في حينه أنّ هذا القرار يشكل تهديدًا للإقليم. وردّ المالكي على ذلك بغضب حين أعلن بأن مغادرة رئيس الإقليم والمسؤولين إلى خارج البلاد يجب أن تخضع لموافقة الحكومة الاتحادية[14].

في الواقع، يبدو أنّ حكومة بغداد كانت تنتظر انتهاء الحرب مع "الدولة الإسلامية" للعمل على حسم الوضع في كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها، مع إدراكها الكامل بأنّ هذه الحرب ضد "داعش" ستوحّد السنّة والشيعة، وستردم الفجوة الكبيرة بينهما وتحقّق بالتالي وحدة وطنية، كان العراق بأمسّ الحاجة إليها لمواجهة الاندفاع الكردي لتوسيع حدود الإقليم، بالإضافة إلى العمل على خنق التيار الاستقلالي الكردي في سوريا بالضغط على "روجافا الفيدرالية" من الحدود العراقية. وتلاقت التطلّعات العراقية في هذا المجال مع المخاوف التركية والإيرانية من قيام إقليم كردي مستقل، وأظهرت كل من طهران وأنقرة رغبة في تنسيق مواقفها مع بغداد. وذهبت تركيا في نيسان 2017 إلى حد التهديد بشن عملية "درع دجلة" في العراق، على غرار عملية "درع الفرات" التي شنتها في شمالي حلب، وذلك من أجل احتلال المثلث التركي – العراقي – السوري تحت شعار مواجهة خطر حزب العمال الكردستاني.

وهكذا، فإنّ إجراء الاستفتاء في الإقليم قد فتح الباب لتنفيذ خطة "قيادة عمليات دجلة" العراقية بدعم تركي وإيراني. لو لم يجرِ الاستفتاء لما وجدت الحكومة المركزية في بغداد حرية العمل لتنفيذ هذه الخطة، لأنه كان من المتوقّع أن تواجه هذه الخطة تحفّظات شديدة من قبل الولايات المتحدة وتركيا وإيران. أمّا في مسألة كركوك، فإنّ الأميركيين قد عبّروا سابقًا عن تحفظهم لبقائها تحت سيطرة الأكراد. قد ظهر هـذا الموقف الأميركي بوضوح في مناسبتين: الأولى، بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، حيث سيطرت قوات من الاتحاد الوطني الكردستاني على المدينة، وأجبرتها القوات الأميركية لاحقًا على الانسحاب منها. والثانية، من خلال تقرير بايكر هاملتون، والذي رسم خطوط السياسة الأميركية في العراق في العام 2006، والتي رفضت بعد دراسات مستفيضة فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، خوفًا من أن يؤثر ذلك على استقرار دول الجوار. وأوصى هذا التقرير بضرورة إخضاع جميع الموارد النفطية العراقية لسلطة الدولة المركزية حصرًا، ومن دون أي مشاركة للأقاليم. ودعا التقرير بوضوح إلى التحذير من إخضاع كركوك لأي استفتاء، وعلى أساس أنّها أشبه ببرميل بارود قابل للانفجار، مقدّمًا فكرة إجراء تحكيم دولي حول كركوك إذا لزم الأمر. ويبدو بوضوح أنّ الجهات الكردية التي تعاونت مع السلطات العراقية (وأيضًا إيران بواسطة الجنرال قاسم سليماني) هي قريبة من القيادة العسكرية الأميركية في العراق، وعلى تواصل دائم مع ممثل التحالف الدولي السيد ماكفورك[15].

في هذا السياق يمكن تحميل مسعود بارزاني المسؤولية الكاملة عن الرفض القاطع للاستفتاء، وذلك بعد قراره بأن يشمل المناطق المتنازع عليها، أسوة بالمناطق الأخرى، من دون أن يدرك مدى حساسية المجتمع الدولي من هذا الموضوع. لكن يبدو أنّه انزلق إلى هذا الخطأ الكبير عن طريق الاستمرار في خطابه الاستقلالي التصعيدي، متجاوبًا مع حماس الشارع في أربيل، بالإضافة أيضًا إلى عناده الشخصي الذي تجاوز كل المعطيات السياسية الداخلية والخارجية.

تؤشر المعارضة الشاملة إقليميًا ودوليًا للاستفتاء، وسوء التحضيرات السياسية والعسكرية (في كركوك والمناطق الأخرى) إلى قصر نظر مسعود بارزاني وعدم إلمامه بنظرية الحرب، وديبلوماسية الحرب والسلام، حيث أنّه وعلى الرغم من خبرته وتمرسه بالسياسة لعقود، فقد نسي غدر السياسات الدولية للأكراد، وسمح لنفسه بالوقوع ضحية لإشارات ديبلوماسية خاطئة، أرادت توريطه والتحضير لإسقاطه سياسيًا، وهذا ما حدث بالفعل.  

 

4- البعد الدستوري وقرار المحكمة الاتحادية

شهد البرلمان العراقي نقاشات حادة ومستفيضة خلال الأيام التي سبقت الاستفتاء والأسابيع الذي تلت حصوله، وتركز البحث حول لا دستورية الاستفتاء ومخالفته لعدة مواد دستورية. في المقابل حاولت سلطات الإقليم استيعاب الصدمة بالدعوة إلى الحوار، الأمر الذي رفضته حكومة بغداد انطلاقاً من تمسكها بما ينص عليه الدستور وخصوصًا المادة 140 منه، وأصرّت على ضرورة إلغاء الاستفتاء كشرط أساسي مسبق للحوار.

وسرعان ما عاد نائب رئيس الجمهورية الدكتور إياد علاوي وأسامة النجيفي من السليمانية بعد إجراء محادثات مع مسؤولين أكراد في أثناء حضورهما مراسم دفن رئيس الجمهورية الأسبق جلال طالباني، بمبادرة من أجل إطلاق عملية الحوار بين أربيل وبغداد، ولكنّها لم تقبل من السلطات المركزية، والتي أصرت على التقيد بالمواد الدستورية وخصوصًا المادّة الأولى، والمتعلّقة بشأن قانونية الاستفتاء والتي لا تشير إلى أي إمكانية لانفصال أي مكون من العراق، بل تشدّد على اعتباره دولة اتحادية واحدة مستقلة وذات سيادة.

وأصدرت المحكمة الاتحادية قرارًا بتفسير المادة الدستورية التي تؤكد عدم شرعية الاستفتاء على الانفصال، ولقي قرار المحكمة ترحيبًا أميركيًا، فيما لوّحت كتل نيابية كردية بالانسحاب من العملية السياسية في حال استمرار بغداد برفض الحوار[16].

أعلنت حكومة كردستان بعد صدور قرار المحكمة قبولها بتفسير المادة الدستورية، ورأى البعض أنّ هذا القبول هو بمثابة موافقتها على إلغاء الاستفتاء، من أجل الدخول في حوار لحل الأزمة.

وجاء في بيان حكومة الإقليم أنّه في معرض التزامها البحث عن حل الخلافات بطرق دستورية وقانونية، ورغبتها في التجاوب مع كل المبادرات، وفي مقدّمها مبادرة المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد علي السيستاني بأنّها تحترم تفسير المحكمة الاتحادية العليا للمادة الأولى من الدستور، كما تؤكد إيمانها والتزامها البدء بحوار وطني شامل لحل الخلافات عن طريق تطبيق جميع المواد الدستورية، بما يضمن حماية الحقوق ودور السلطات الواردة في الدستور، باعتبارها السبيل الوحيد لضمان وحدة العراق المشار إليها في المادة المذكورة[17].

يؤكّد مسؤولون عراقيون أنّ الاتصالات لم تنقطع بين حكومتي أربيل وبغداد عبر قنوات متعددة من أجل حل الأزمة في شقّيها العسكري والسياسي. لكن يبدو أنّ رفض الأكراد تسليم المعابر الحدودية للقوات الاتحادية من دون مشاركتهم في إدارتها، الأمر الذي رفضته الحكومة المركزية، قد شكّل العقبة أمام انطلاق المفاوضات. كما ترفض الحكومة المركزية إجراء أي مفاوضات حول الموازنة والنفط قبل إعلان حكومة الإقليم صراحة إلغاء نتائج الاستفتاء.

كانت المحكمة الاتحادية قضت في وقت لاحق (20 تشرين الثاني 2017) ببطلان الاستفتاء وكل النتائج المترتبة عليه، ما يوفر مخرجًا قانونيًا لفتح باب المفاوضات بين بغداد وأربيل لبحث الملفات الخلافية كلّها. لكن حكومة الإقليم تحفّظت على قرار المحكمة، على اعتبار أنّه حكم غيابي، لم يتمثّل الإقليم في الجلسات، ولكن لا يمكن المراجعة بحكم المحكمة الاتحادية العليا وفق القانون، كما أنّه لا يمكن لأي طرف داخلي أو خارجي طلب تجميد تنفيذه.

ترى الحكومة المركزية أنّ الحكم يزيل العقبات كلّها من طريق المفاوضات، وأنّ على أربيل قبوله كوسيلة لإلغاء الاستفتاء. لكن الحكم صدر وفيه ما يخالف التوقعات كلّها حيث أنّه يفتح الباب لمقاضاة رئيس الإقليم السابق مسعود بارزاني، ومحافظ كركوك المقال نجم الدين كريم ومسؤولين آخرين بتهمة تقسيم البلاد[18].

وقرّرت المحكمة بكامل أعضائها، استنادًا إلى الفقرة (ثالثًا) من المادة 93 من الدستور، عدم دستورية الاستفتاء وإلغاء جميع الآثار المترتبة عليه. كما ذكرت أنّ قراراتها "ملزمة لجميع السلطات" وذلك استنادًا إلى المادة 94 من الدستور. في الوقت الذي يكثّف فيه رئيس حكومة الإقليم اتصالاته الديبلوماسية مع ممثلي الدول الكبرى لحث بغداد على بدء الحوار مع الإقليم، كشف رئيس الجمهورية فؤاد معصوم عشية زيارته للكويت عن تفاؤله برغبة أربيل وبغداد في إنهاء الأزمة عبر حوار مثمر وهادئ. لكن يبدو أنّ المفاوضات الحقيقية ما زالت متأخرة وهذا ما دفع القيادي في حزب الاتحاد الوطني ملا بختيار إلى التلويح باللجوء إلى "المقاومة الشعبية الشاملة"، إذا ثبت عدم جدوى الاتصالات مع بغداد. كما ذكّر بحالة اللامبالاة التي كانت تجري فيها المفاوضات مع حكومة نوري المالكي حول القضايا الرئيسة مثل كركوك والنفط وحصّة الإقليم من الموازنة العامة.

ويعمل عدد من نواب البرلمان على استثمار قرار المحكمة الاتحادية العليا لطلب محاكمة مسعود بارزاني ومحافظ كركوك السابق بتهمة الخيانة العظمى. ومن المؤكد أن هذا المسعى، مع ما يقوم به ممثلو العرب والتركمان لحل مجلس المحافظة لن يساعد على تسهيل انطلاق عملية الحوار بين بغداد وأربيل.

ويبدو أنّ بغداد غير مستعجلة على بدء أي حوار إلّا بعد إخضاع أربيل لجميع شروطها، والتي لا تخلو من لغة التهديد وفرض عقوبات إذا لم تنفذ من قبل السلطات الكردية، وهذا ما يؤكد أنّ بغداد باتت تتحدّث بمنطق المنتصر.

أذعن الأكراد للعديد من مطالب بغداد، لجهة إقفال المطارات ونشر القوات العراقية في المناطق المتنازع عليها، ولكنهم لم يسلموا بعد المعابر المطلوب تسليمها مع تركيا وسوريا. ولم تَكفِ سيطرة بغداد على كركوك وعلى المنشآت النفطية لتقنع العبادي بالتجاوب مع مطلب الحوار، ويبدو أنّه يحاول استغلال رفض الحوار لتحقيق مكاسب سياسية تخدم مخططاته للانتخابات المقبلة. واللافت أنّ الحكومة المركزية لم تتقيد بالاتفاقات الأساسية حول حصة الإقليم من الموازنة والمحددة بـ17 في المئة، حيث جرى تخفيضها في الموازنة المقبلة، كما أنّ هناك ممارسات تخرج عن نصوص الدستور وأهمّها إطلاق صيغة شمالي العراق على إقليم كردستان. وهناك مطالب بتسليم مواطنين أكراد على خلفية قيامهم بنشاطات سياسية، أو المشاركة في تظاهرات شعبية[19].

في الواقع هناك تساؤلات عن دور إيران في حضّ العبادي على الاستمرار في مواقفه المتصلبة، وطالما أنّ الاستفتاء قد أصبح من الماضي فلماذا يصعّد العبادي من مواقفه، ويزيد من مطالبه وشروطه المسبقة لبدء الحوار المطلوب؟ للخروج من هذا المأزق، لا بدّ من أن تتحرّك واشنطن لجمع الطرفين حول طاولة مفاوضات بدل ترك الأمور تتطوّر لصالح تركيا وإيران.

قطعت التشنجات بين بغداد وأربيل الحدود المتوقّعة كلها، وقد ذهب بعض المسؤولين في إقليم كردستان إلى اتهام بغداد بالعمل لانتزاع الكيان الدستوري والقانوني للإقليم والتعامل معه كواحدة من المحافظات الأخرى.

وقد طالبت حكومة الإقليم مجلس الوزراء العراقي بعدم التصويت على الموازنة للعام 2018 لأنّها تخالف المواد الدستورية 105 و106 و121، ومواد القانون 95 الصادر في العام 2014، الذي يضمن المشاركة العادلة للإقليم في المؤسسات الاتحادية. ولفتت إلى أنّ مسودة مشروع الموازنة تطلق على الإقليم تسمية محافظات الشمال. وهناك اتهامات متبادلة بين الطرفين حول مسؤولية تعطيل الحوار ووصلت هذه الاتهامات إلى حد اتهام بغداد بمحاولة إلغاء الكيان الخاص بالإقليم. وإنّ التعقيدات الراهنة تتطلّب تدخلًا أميركيًا مباشرًا وفاعلًا قبل فوات الأوان.

 

5- الخسائر التي نتجت عن الاستفتاء

توالت الخسائر الكردية، الواحدة تلو الأخرى، منذ اليوم الأول لإعلان نتائج الاستفتاء الذي جرى في 25 أيلول الماضي، وذلك بدءًا من انحسار سيطرة الإقليم على مساحات واسعة تصل إلى نسبة 50 في المائة، بما فيها المناطق المتنازع عليها. يضاف إلى المساحات الجغرافية، خسارة الإقليم للحقول النفطية، وأهمها حقول كركوك، والتي كانت تشكّل مصدرًا أساسيًا لرفد حكومة الإقليم بالأموال اللازمة للتعويض عن تلكّؤ الحكومة المركزية في صرف حصة الإقليم من الموازنة العامة. بدأت النكسة باستعادة النظام لكركوك في 15 و16 تشرين الأول الماضي، وتبع ذلك استعادة مناطق خانقين وجلولاء، وقضاء سنجار ومناطق أخرى في سهل نينوى من قبل الجيش العراقي والحشد الشعبي.

لقد سقطت المناطق المتنازع عليها بسهولة وسرعة فائقتين، ومن دون أي مقاومة. وعزا  مسعود البارزاني سقوطها من دون مقاومة إلى انسحاب قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني من دون قتال، وذلك تحت تأثير الضغوط التي مارستها إيران على قياداته[20]. لكن يمكن التشكيك بصحة هذه الاتهامات ضدّ قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني، من خلال مراجعة السرعة والسهولة التي انسحبت فيها قوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يرأسه مسعود بارزاني نفسه، وخصوصًا من المناطق في سهل نينوى، والتي فتح سقوطها الباب أمام دعوات بعض فصائل الحشد الشعبي للتقدم باتجاه العاصمة أربيل.

هذا وقد فقد الإقليم الكردي بخسارته لآبـار النفط في كركوك نصف وارداته، يضاف إليها  خسائر أخرى لا تقل أهمية عن موارد آبار النفط، جـــراء سيطرة الحكومة الاتحادية على المعابر الحدودية. وسيكون من نتائج هـذه الخسائر وضع الإقليم على طريق الإفلاس الاقتصادي، خصوصًا وأنّ هناك ديونًا مترتّبة على حكومة أربيل تقارب 20 بليون دولار[21]. ستضطر حكومة أربيل في ظل الضائقة المالية المتفاقمة إلى تقديم المزيد من التنازلات للحكومة الاتحادية من أجل تسريع عملية صرف حصّة الإقليم من الموازنة العامة.

أظهرت ردود الفعل الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى سرعة التدابير وفعاليتها التي اتخذتها حكومة حيدر العبادي بأنّ قرار بارزاني بإجراء الاستفتاء، والعناد الذي أظهره لتنفيذه في الموعد الذي حدّده، قد شكّل خطأً فادحًا، يؤشر إلى سوء إدراكه لنتائج هذه المغامرة التي قرر خوضها، والتي أدّت بالفعل إلى تبديد الحلم الكردي بالاستقلال، كما أضاع جميع المكاسب التي حقّقها الإقليم من الفيدرالية الواسعة التي بدأ تطبيقها في العام 2003، بعد سقوط نظام صدام حسين. ولا نغالي إذا قلنا بأنه لا يمكن في الوقت الراهن احتساب مجمل الخسائر المترتبة على هذا الخطأ الفادح، وذلك في ظل إصرار الحكومة الاتحادية وكل من تركيا وإيران على تلقين حكومة الإقليم وشعبه درسًا قاسيًا، وبالتالي الحؤول دون المطالبة بإجراء أي استفتاء جديد لعقود مقبلة[22].

ترتّبت على أخطاء بارزاني في مقاربته لتحقيق حلم الاستقلال أكلاف باهظة. ولا بدّ في هذا السياق من التساؤل عما كان يراهن عليه، بعد أن ظهرت ردود الفعل الدولية والإقليمية الرافضة للاستفتاء بوضوح ومن دون أي لبس. تفرض الواقعية السياسية في حالة الرفض هذه، أن يسارع بارزاني إلى تعديل مسار الاستفتاء من المطالبة بالاستقلال إلى عملية استبيان سياسي لرأي الأكثرية الكردية. لكن يبدو أنّ عناده وإصراره على التحوّل إلى شخصية تاريخية قد منعاه من إبداء المرونة اللازمة، وبالتالي التراجع عن مطلب الاستقلال الناجز.

كان اللافت في الأمر، أنّ مسعود بارزاني ومعه جميع القوى الداعمة للاستقلال لم يحتاطوا لردود الفعل السياسية والعسكرية، وبالتالي الاستعداد لمواجهة هذه الضغوط ميدانيًا، والتي نجحت في استعادة السيادة الاتحادية على جميع المناطق المتنازع عليها بأقل الأثمان الممكنة.

في الاستنتاج العام لتقدير نتائج هذه المغامرة، في المدى البعيد، ليس أقلّها النتائج المترتبة على خسارة سيادة الإقليم على مناطق حيوية واسعة، فإنّ الاستفتاء قد تسبب بانقسامات عامودية جديدة داخل المجتمع الكردي. كما جدّد تبعية بعض الأحزاب والقوى السياسية الكردية لدول الجوار. هذا بالإضافة إلى خسارة بارزاني وحزبه لدعم حليفه التركي.

 

6- التداعيات الاقتصادية والمصالح النفطية

يعتبر المسؤولون في إقليم كردستان بأنّ ما يعرقل انطلاق المفاوضات مع الحكومة الاتحادية أنّ "السلطات في بغداد متعدّدة وليست موحدة الآراء". ويؤشر ذلك إلى وجود أطراف متشددة، تتمتع بنفوذ قوي، يمكّنها من الضغط على رئيس الحكومة حيدر العبادي. ويرى هؤلاء المسؤولون أنّ الأمر يدعو إلى مطالبة واشنطن بالتدخّل مع بغداد، لتشجيعها على الدخول في مفاوضات مع سلطات الإقليم.

لكن يبدو أنّ مثل هذا الأمر لن يحدث قبل تخلي سلطات الإقليم للسلطة المركزية عن المنافذ الحدودية للإقليم، وإصدار قرار واضح، لا عودة عنه، بإلغاء الاستفتاء على الانفصال.

يؤكد المسؤولون في الإقليم التزامهم بالدستور العراقي، وقبولهم بحكم المحكمة الاتحادية العليا، وبأنّهم على استعداد لبدء الحوار ضمن هذا الإطار القانوني. رأى في هذا السياق مسرور بارزاني، المسؤول الأمني الكبير في الإقليم بعد اجتماعه مع مبعوث الرئيس الأميركي في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" بريت مكغورك، أنّه "لا يمكن تطبيق،  الدستور العراقي باستخدام وسائل غير دستورية". ويشير بذلك إلى الضغوط السياسية والعسكرية التي تمارس ضد الإقليم، بعد حدوث عملية انتشار القوات الاتحادية في كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها، مع الإصرار الكامل على إدارة المنافذ الحدودية للإقليم، مع كل من تركيا وسوريا وإيران.

يعتقد المسؤولون الأكراد أنّ أزمة إدارة المنافذ الحدودية باتت تقف حائلًا أمام الشروع في المفاوضات، وذلك انطلاقًا من شكوكهم حول وجود نوايا لدى بعض القيادات في بغداد بفرض حصار اقتصادي على الإقليم، وسيؤدي مثل هذا الحصار في حال حدوثه إلى كارثة اقتصادية واجتماعية، حيث أنّه سيؤدي إلى عزل الإقليم جوًا وبرًا بالكامل[23].

هذا ويناور الطرفان في بغداد وأربيل لكسب الوقت، حيث ترى بغداد أنّ الوضع الناتج عن الاستفتاء، وبعد استعادة كركوك والمناطق المتنازع عليها يمثل فرصة سانحة لإخضاع سلطات الإقليم لمشيئتها، بعد أن عانت من تمرّدهم وعنادهم لسنوات طويلة منذ العام 2003. وتراهن أربيل على كسب الوقت لأطول فترة ممكنة، وذلك على أمل أن تتدخّل واشنطن للضغط على الطرفين لبدء الحوار، من دون التخلّي عن المنافذ الحدودية لبغداد. وكانت السلطات في بغداد قد تلقّت قبول الإقليم حكم المحكمة الاتحادية العليا بفتور، وذلك ضمن رؤيتهم بضرورة التراجع كليًا عن نتائج الاستفتاء، في المقابل يرى المسؤولون في الإقليم أنّ بغداد تسعى من وراء ذلك إلى التنصّل من تطبيق المادة 140 من الدستور. يضاف إلى ذلك عدد من التعقيدات الأخرى، حيث يطالب التركمان بالحصول على منصب محافظ كركوك، وهـــو الأمر المرفوض وغير المقبول من قبل الأكراد. إذ إنّ هناك قناعة لدى القيادات في أربيل بأنّ الحصة المخصّصة للإقليم في الموازنة الجديدة، هي غير كافية، وبأنّها تُظهر بما لا يقبل الشك وجود نوايا واضحة لممارسة ضغوط مالية واقتصادية على الإقليم. دفعت المعضلة المتمثلة بتخفيض حصّة الإقليم من الموازنة العامة نواب الإقليم المقاطعين منذ ما يقارب الشهرين للمشاركة في جلسات البرلمان لمناقشة تقليص حصة الإقليم.

تسود مخاوف في الإقليم مصدرها الهيكلية البنيوية للحكم حيث تسيطر عائلتان متناحرتان على الحكم، طالباني وبارزاني، وتؤشر الحالة القائمة بعد استعادة كركوك والمناطق المتنازع عليها، وما تبعها من اتهامات بالخيانة إلى إمكانية الاتجاه إلى حرب أهلية على غرار تلك التي شهدها الإقليم بين عامي 1994 و1998، وتثير هذه الحالة مخاوف الشركات النفطية من حالة عدم الاستقرار التي تواجه الإقليم، وما يشكّل خطرًا على استثماراتها في مختلف المناطق[24].

يضاف إلى ذلك تخوّف الشركات الغربية من توسيع روسيا لاستثماراتها في حقول الإقليم النفطية، وبالتالي قلب الموازين لصالحها، وتشديد المنافسة على الشركات الغربية.

وقّعت روسيا، بواسطة شركتها "روسفنت" في شباط وحزيران 2017 اتفاقية لتقاسم إنتاج خمس مناطق نفطية في الإقليم، حيث بلغت هذه الاستثمارات 400 مليون دولار. كما أعلنت بدء المفاوضات مع حكومة الإقليم لتمويل بناء خط أنابيب غاز، ومن المرجّح أن يسلك الأراضي السورية بدل تركيا. دفعت هذه التطوّرات شركة أكسون - موبيل للانسحاب من ثلاث مناطق استكشافية (بيتواته، وعربت، وقره هنجير) في الإقليم في نهاية كانون الأول من العام 2016، بسبب انخفاض الإنتاج، الأمر الذي رأت فيه حكومة الإقليم على أنّه عدم التزام الشركة بالعقد[25]. ويرجح أن تحصل "روسنفت" على عقد الاستثمار في هذه المناطق.

تعتبر بغداد أنّ استثمار جميع آبار النفط في الإقليم هو من حق الحكومة الاتحادية وصلاحيتها، وخصوصًا حقول كركوك، والتي جرى احتلالها من قبل قوات البيشمركة بعد انسحاب الجيش العراقي منها في العام 2014. وتمثّل استعادة الحكومة الاتحادية لحقول الشمال أولوية بالنسبة لرئيس الوزراء حيدر العبادي، وأنّ التقصير في تحقيق ذلك سيؤثر سلبًا على وحدة العراق، ويدفع بالتالي مناطق أخرى كالبصرة والأنبار لطلب استغلال ثرواتها النفطية على غرار الإقليم. كما يشدّد البرلمان العراقي على أنّ على الحكومة استعادة السيطرة واحتلال جميع المناطق النفطية. وبالفعل فقد أمرت شركة النفط العراقية بإعادة تأهيل حقل نفط نينوى بعد الأضرار التي حلّت به، نتيجة النار التي أضرمتها "داعش" به.

هذا ودعمت تركيا خلال السنوات الماضية إقليم كردستان ماليًا، لاستثمار الثروات النفطية، كما سمحت بنقل النفط عبر خط أربيل – جيهان. لكن بعد إصرار بارزاني على الاستفتاء فقد تغيّر موقف تركيا، وعادت لتقول بضرورة الحفاظ على وحدة العراق، كما هدّدت بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على الإقليم.

وكان التطوّر المفاجئ من قبل روسنفت الروسية، التي بدأت بعد الاستفتاء مفاوضات مع الإقليم لمزيد من الاستثمار، بما يشمل حقول كركوك، وخط كركوك – جيهان، بالإضافة إلى استثمارات في مجال الغاز لنقله عبر تركيا إلى أوروبا. وحصلت روسنفت على حق استثمار خمس رقع، على أمل إنتاج 300 ألف برميل يوميًا وتصديرها، وتتضمّن هذه الرقع بعض المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة بغداد في السابق. وتجري أيضًا دراسة إمكانية أن تضخ الشركة الروسية ثلاثة مليارات دولار من أجل إعادة هيكلة ديون الإقليم المعقودة مقابل تصدير النفط[26].

كانت التواقعات قبل الاستفتاء في أن تبلغ عائدات قطاع النفط في الإقليم ما يقارب 8 مليارات دولار سنويًا. وأن تتسبّب الاستثمارات الروسية في الإقليم بمزيد من التعقيدات لأي مفاوضات مستقبلية بين الإقليم وبين الحكومة الاتحادية، بالإضافة إلى تعقيدات أخرى مع المستثمرين الآخرين. يمكن لروسيا، في حال أرادت الدفاع عن مصالحها النفطية أن تلجأ إلى دعم موقف حكومة الإقليم إذا ما طالبت بغداد أو أي طرف آخر مجلس الأمن بفرض عقوبات على الإقليم، وسينتج عن ذلك تداعيات وتعقيدات اقتصادية وجيو-سياسية، من الصعب حلها لعقود مقبلة.

أضف إلى أنّ العراق والإقليم يقفان على أبواب أزمة طويلة عانت مثلها دول أخرى مثل جنوبي السودان. وكان العراق قد رفض منذ بداية إعادة بناء الدولة مبدأ المشاركة مع الإقليم في تقاسم الحقول أو العائدات النفطية.

لكن في نهاية المطاف، لا بدّ من البحث عن مخرج مقبول من الطرفين. كما يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد ديبلوماسية فاعلة لحل كل هذه المشكلات بما في ذلك ما يعود لحقول كركوك.

 

7- نقد بعد الهزيمة أم بكاء على الأطلال

الحديث عن قدرة الأكراد على إجراء نقد للأخطاء المرتكبة في إجراء الاستفتاء والنتائج الدراماتيكية التي ترتّبت عليه، يدفعنا إلى التساؤل عن مدى قدرة الأكراد ونضوجهم فكريًا وسياسيًا ومجتمعيًا على إجراء نقد ذاتي للهزيمة التي يواجهونها بعد الاستفتاء. هل بلغت طبقة الساسة والنخب الفكرية مستوى النضوج اللازم للانخراط في هذه العملية؟ أم هم مثل باقي شعوب المنطقة المحيطة بهم، إذا اعترفوا بالهزيمة، فإنّهم يجدون دائمًا الأعذار لها من خلال توصيفها بعبارات درامية، والعمل على إيجاد الأعذار لتحويلها إلى انتصارات وهمية؟

هناك أمثلة عديدة في التاريخ الحديث، حوّلت فيها قيادات عربية هزائمها إلى انتصارات، وجرت التغطية عليها بعبارات درامية مثل "النكبة في فلسطين"، و"نكسة حزيران" بعد هزيمة العرب في حرب 1967. وهناك بعض القادة العرب الذين تحدّثوا عن انتصارات في الوقت الذي يمكن اعتبارها من خلال نتائجها بأنّها هزائم كبرى. هذا وقد أطلق صدام حسين ثلاثين صاروخًا على اسرائيل، ولكن حرب العام 1991 تدمر العراق وجيشه. ونذهب بعد ذلك إلى التغنّي بالانتصارات التي حققناها ضد الأعداء. مع العلم بأن الخسائر في الجانب العربي هي أضعاف ما أصاب هؤلاء الأعداء.

والسؤال المطروح بإلحاح: هل يملك الأكراد العقلانية، والمقاربة "الاقتصادية" والعلمية لإجراء نقد ذاتي لكل ما جرى، واستخلاص الدروس والعبر اللازمة؟ وإذا لم يفعلوا، فإنّهم سيقومون بما سبقهم إليه العرب، بالتمهيد داخل مجتمعهم لقبول الهزيمة، والعمل على امتصاص نتائجها، من خلال الدعوة للتأمّل بأسباب خسارة معركة تحضيرًا لاستكمال المسيرة لكسب الحرب[27].

من خلال متابعة التطوّرات والمواقف لمدّة شهرين بعد الاستفتاء يمكن القول بأنّ الكرد يعبرون الآن مرحلة امتصاص الصدمة، أو في مرحلة رصّ الصفوف لمواجهة نتائج الهزيمة، من دون الاهتمام بتوجيه مزيد من التّهم لقيادة مسعود بارزاني عن كل ما جرى من أحداث[28]. لكن من المؤكد بأنّ الكرد يشعرون بمرارة بتقبّل الخطاب العدائي الصادر عن شريحة واسعة من العراقيين أو من إيران وتركيا، والذي يهدف إلى إذلالهم من خلال تضخيم هذا الانتصار الذي حقّقوه ضد أربيل وضدّ توق الشعب الكردي للحصول على هوية وطنية.  لكن يمكن الاستنتاج بأنّ الكرد لا يختلفون عن العرب في سلوكيتهم في مرحلة امتصاص الصدمة، فهم يصفون مصطفى البارزاني بالقائد الشجاع الذي ضحّى بموقع الرئاسة من أجل تحقيق حلم الشعب الكردي بالاستقلال. ويقولون أيضًا بأنّ الفشل لم يكن ليحدث لولا امتلاك الخصوم قوّة تفوق قواهم، ولولا حصول خيانة بعض العملاء في صفوفهم، ولولا تقصير المستشارين الجهلة حول الرئيس، ولولا تآمر الدول الإقليمية والكبرى ضدهم. ويؤدي عذر "لولا" إلى تبرئة القائد من مسؤولية ما حدث، كما تغطّي على فساد النظام الذي بناه. ويدفع مثل هذا العذر القائد بارزاني للمكابرة في خطاب خروجه من السلطة من خلال إعلانه بأنّه غير نادم على كل ما فعله. وهذا يؤشر إلى مدى هوسه بكتابة صفحة مجيدة له في التاريخ الكردي. لذلك يمكن القول بأنّ المشهد عند انتهاء الاستفتاء وبدء الهزائم يشبه إلى حد كبير المشهد الذي واجهه العرب بعد هزيمة 1967 واستقالة جمال عبد الناصر.

ويتكرّر المشهد مرة تلو الأخرى، حيث لم تخرج أي تظاهرة تدعو إلى محاسبة المسؤولين عن النتائج الكارثية لقرار الاستفتاء. لم تحصل أي ردات فعل احتجاجية لا في أربيل ولا في السليمانية، حتى أنّ الحركات المعارضة لحكم بارزاني لم تطالب بتحميله المسؤولية، وأن التظاهرة الوحيدة التي نظمتها المعارضة كانت للمطالبة بدفع رواتب المعلمين. لم تقتصر الخسائر المترتبة على هذه الهزيمة المدوية على تبدّد حلم الكرد بالاستقلال بل هي أتت على كل ما حقّقوه من مكاسب منذ ما يقارب ثلاثة عقود من الحكم الذاتي. هذه الخسائر بشموليتها من المفترض أن تشكّل حافزًا للمثقفين والسياسيين الكرد للشروع في القيام بعملية نقد ذاتي في العمق لكل ما فعلوه خلال هذه العقود. ويجب أن لا يقتصر النقد الذاتي على نتائج الاستفتاء بل أن يشمل كل النواحي السياسية والاقتصادية، بما فيها قضايا الفساد، والمنطلقة من الاقتصاد الريعي القائم على عائدات النفط وإهمال قطاعات الإنتاج التقليدية بما فيها الزراعة، والتي كانت مزدهرة جدًا في زمن سيطرة نظام بغداد على الإقليم.

في ظلّ الاقتصاد الريعي القائم على عائدات النفط، سيشعر الكرد تدريجيًا بفداحة خسارتهم لكركوك وثرواتها النفطية، والتي كانت تغطي ما تحتاجه من أموال وبديل لعدم صرف حصتها من الموازنة العامة، والتي كانت بغداد تتلكأ في صرفها. لقد خسر الكرد في هذه المعركة النفط وعائداته، كما خسروا إمكانية تحويل المدينة إلى مدينة كردية، تكون لهم بمثابة ما هي عليه مرتبة القدس بالنسبة للفلسطينيين والعرب[29].

حصلت هذه الهزيمة في إقليم كردستان، وهي تمثّل صورة مصغرة عن بقية الهزائم التي تشهدها دول ومجتمعات عربية عديدة تمتد من ليبيا إلى اليمن وسوريا. في المقابل اجتمعت القوى الإقليمية والدولية للتعبير عن إدانتها ورفضها للاستفتاء الكردي في شمالي العراق. والمشهد نفسه تكرّر وفي التوقيت نفسه في إقليم كاتالونيا في إسبانيا، وذلك على الرغم من البعد في المسافة والزمن والتاريخ بين المنطقتين. ويؤشر كل ذلك إلى عدم اهتمام القوى الكبرى والمؤسسات الدولية بمصائر الشعوب الصغيرة والمغلوبة على أمرها. إنّه زمن القوة و"البلطجة" الدولية، زمن تتستّر فيه الدول القوية بأولوية الحفاظ على الستاتيكو السياسي، وقوّة الدولة من أجل مواجهة مخاطر الإرهاب، والفوضى.

وقد اعتقد مسعود بارزاني وحكومته بأنّ أمامهم فرصة تاريخية لتحقيق الحلم الكردي بالاستقلال، وذلك انطلاقًا من اعتقادهم بقبول أميركا وأوروبا لهم وحاجتها لقوتهم من أجل محاربة الجماعات الإرهابية كالدولة الإسلامية، والقاعدة وغيرها. واعتقد الكرد بأنّ الغرب ينظر إليهم بأنّهم أقوياء وأكثر تطورًا من كل الشعوب التي تحيط بهم، ولكنّهم تناسوا أنّ إثنيتهم الواحدة غير كافية لتأهيلهم كي يصبحوا شعبًا موحدًا بالمنطق السياسي. فهناك كيانات عديدة لا بدّ من تفكيكها سياسيًا، وتغيير حدودها، وتغيير الموازين الجيوستراتيجية في المنطقة كلها في حال السير قدماً للاعتراف للأكراد بقيام دولتهم المستقلّة.

اعتقد الكرد بأنّهم أفضل من العرب، وقدّموا أنفسهم للغرب بهذه الصورة، متجاهلين إدراك هذا الغرب مدى الانقسام الحاصل بين مختلف القوى السياسية في إقليم كردستان نفسه، وأنّه لا يمكن وقف عملية الحشد الشعبي لدعم الزعامات المحلية القائمة والتي تستغل بؤس شعبها، على غرار ما يجري في المجتمعات العربية، والإيرانية والتركية.

في عملية النقد الذاتي التي يفترض أن تجريها النخب الكردية، من الضروري أن تدرك أنّها أخطأت في عدم دعمها لثورات الشعوب العربية ضد أنظمتها "القاتلة" وذلك لأنّه من الطبيعي أن يتعاطف الشعب الكردي الذي يطالب بالحرية والاستقلال مع مطالب الشعوب المجاورة وآلامها، والتي عاش معها منذ قرون عديدة. هذا الأمر لا ينطبق فقط على أكراد العراق بل وأيضًا على أكراد سوريا، حيث اتّهم هؤلاء (الحزب الديمقراطي الكردستاني) بالوقوف إلى جانب النظام السوري، بينما كان من المفترض أن يكون موقفهم داعمًا للثورة.

في المحصّلة، يتساوى الفشل الكردي في مقاربة موضوع الاستقلال مع الفشل العربي في تحقيق دولة المواطنة المستقلة والديمقراطية، وأنّ محاولات الكرد لإقناع الغرب بأنّهم متميّزون عن جيرانهم، قد باءت بالفشل. وهذا يعني أنّ مصيرهم سيبقى معلّقًا لعقود مقبلة، ومتشابكًا مع مصائر شعوب المنطقة الراضخة لعبودية يفرضها عليها زعماء وقادة مستبدّون، يحكمونها بالحديد والنار. أمّا لجهة تحقيق المصير، والذي يمثل حقًا مبدئيًا معترفًا به دوليًا، فإنّ حظهم للفوز بهذا الحق لا يختلف عن حظ الشعب الفلسطيني، والذي يستمر في النضال للاستقلال وإنشاء دولته منذ عقود طويلة، ولكن من دون جدوى[30].

لم تنفع النسبة العالية التي حصل عليها الاستفتاء (أكثر من 92 في المئة)، ومظاهرات التأييد التي عمّت الإقليم بارزاني لاحتواء ردود الفعل والنتائج السلبية التي أثارها الاستفتاء للحفاظ على موقعه كرئيس للإقليم. لقد أدرك بسرعة أن عليه أن يدفع ثمن فشله في تقدير ردود فعل بغداد وإيران وتركيا، بالإضافة إلى المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الرافضة لمشروعه الانفصالي.

وفات بارزاني أيضًا تقدير هشاشة الوضع السياسي الداخلي، والانقسام التاريخي المستمر، والذي يصل إلى حد العداء مع الإتحاد الوطني الكردستاني والجماعات الإسلامية. يضاف إلى كل ذلك سوء تقديره لقوة الجيش العراقي، المدعوم من الحشد الشعبي وما يؤمنه ذلك لحكومة بغداد من حرية للقيام بعمل عسكري حاسم.

إنّ أفضل الدروس التي يجب أن يستوعبها الكرد بعد هذه التجربة يتركّز على إدراكهم، في الوقت الذي يسعون فيه إلى فتح حوار مع الحكومة المركزية في بغداد، بأنّ حيدر العبادي لا يختلف في موقفه منهم عن موقف بشار الأسد تجاه معارضيه، فهو غير مستعد للتنازل لهم عن أي من حقوقهم المشروعة، مع استعداده غير المشروط لقبول المزيد من النفوذ الأميركي والإيراني في العراق، والذي يعطيه القوة والعمق الاستراتيجي لممارسة المزيد من الضغوط عليهم، لدفعهم إلى الخضوع والاستسلام الكاملين.

في النهاية كان قرار بارزاني المستند إلى طموحاته السياسية "غير الموفقة وغير المشروعة" قرارًا خاطئًا، بكل المقاييس، وسيتحمّل الجميع نتائجه الكارثية[31].     

 

8- مستقبل سيادة الإقليم

لا بدّ من التساؤل عما يخبئه المستقبل لإقليم كردستان بعد نجاح حكومة بغداد في استعادة كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها، والتي تشكّل استعادتها تطوّرًا بارزًا في الصراع بين بغداد وأربيل منذ الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. وكان أوّل الغيث استقالة مسعود بارزاني وتنحيه عن دوره في حكم الإقليم، وعودته إلى صفوف البيشمركة، وفق ما وعد به في آخر خطاب له.

يشعر الكرد بحراجة الموقف، ويدفعهم الوضع الجديد الناتج عن خسارة المناطق المتنازع عليها، والتصلب الذي تظهره حكومة العبادي سواء لجهة السيطرة على جميع المعابر والمطارات أو لجهة رفض كل دعوات حكومة الإقليم للحوار إلى التعبير عن هواجسهم تجاه نوايا الحكومة الاتحادية لإلغاء الإقليم بعد فرض السيطرة الكاملة على جميع البنى التحتية الأساسية واحتلال المنشآت والقواعد العسكرية. ويبدو أنّ أوّل الغيث قد بدأ من خلال إطلاق بغداد على الأراضي المستعادة توصيف "المحافظات الشمالية".

ويبدو في نظر بعض المراقبين أنّ ثمة تداعيات كارثية إضافية هي مرشحة للظهور في المدى المتوسط بعد الفشل الذريع في تمرير نتائج الاستفتاء، حيث من المتوقع أن تخسر سلطات الإقليم العديد من صلاحياتها والمكاسب الأخرى التي حقّقتها منذ العام 2003، وقد تتوسع هذه الخسائر لتشمل مكاسب جرى تحقيقها بعد حرب الخليج في العام 1991 [32].

وينظر الإقليم إلى إصرار بغداد للسيطرة على معبري "خابور" و"فيشخابور" عند الحدود التركية، والحدود السورية، بالإضافة إلى سيطرة بغداد على خطوط التّماس مع الإقليم ومن دون أي مشاركة فعلية من قبل قوات البيشمركة.

تأتي كل هذه الاستحقاقات بعد تنحي مسعود بارزاني، والذي زاد من تعقيدات المشهد السياسي الكردي، حيث عادت جميع التناقضات التاريخية والجديدة لتطفو من جديد بين مختلف الأحزاب والفئات السياسية الكردية. من المؤكد أنّ هشاشة صلاحيات السلطة التنفيذية وضياعها وفعاليتها بعد توزيع صلاحيات رئاسة الإقليم من قبل البرلمان بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، سيخلق في ظل اشتداد الخلافات وتصاعد الاحتقان السياسي، وكما ظهر بعد الهجوم على البرلمان من قبل أنصار بارزاني، وحرق مقار لأحزاب أخرى، حالة من الفلتان والفوضى، والتي قد تتحوّل إلى مواجهات دموية، بخطورة المواجهات التي حدثت في العام 1994 بين الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال طالباني وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود بارزاني.

دفعت خطورة المشهد الجديد بعض مسؤولي الاتحاد الوطني إلى تحذير بارزاني من دفع الأوضاع نحو اندلاع حرب داخلية، كوسيلة للتغطية على هزيمته. ويلاحظ أنّ العديد من الأحزاب الكردية قد شهد خلافات وانقسامات قبل إجراء الاستفتاء، حيث جرى الانقسام حول تأييد أو رفض الاستفتاء، وحول المكاسب والمخاطر التي يمكن أن تترتب على الإصرار على تنفيذه على الرغم من المعارضات القوية لإجرائه من قبل بغداد، ومن قبل القوى الإقليمية والدولية.

تستند الهواجس التي تبديها قيادات كردية حول نوايا بغداد تجاه الإقليم على قرار صدر عن البرلمان العراقي في 31 تشرين الأوّل الماضي يقضي بمنع وجود أي قوات خارجة على سلطة الحكومة الاتحادية في محافظة كركوك. يضاف إلى ذلك محاولات تبذلها الجماعات التركمانية للاستفادة من ضعف الموقف الكردي، من خلال المطالبة بجعل منطقتي تلعفر وطوزخورماتو محافظتين تتمتّعان بالحكم الذاتي.

وهناك مخاوف "مشروعة" من أن تؤدي الأزمة الحالية التي يواجهها الإقليم إلى إضعاف بنية السلطة في جميع فروعها المدنية والعسكرية والأمنية، جراء تخفيض حصة الإقليم من الموازنة العامة من 17 في المئة إلى 12.67 في المئة. ومن المتوقّع أن تزداد الضغوط المالية على الإقليم، من خلال وقف الحكومة الاتحادية صادرات نفط الإقليم إلى تركيا، في وقت تصرّ فيه تركيا على استعادة قرض بقيمة 4 بلايين دولار قدمته لسلطات الإقليم لتمكينها من دفع رواتب الموظفين وقوات البيشمركة[33].

وهناك اقتراحات جديدة تتحدّث عنها بعض المراجع السياسية في بغداد تتعلق بتوزيع الموازنة المخصصة للإقليم على مختلف محافظاته، وفق النظام المعمول به مع المحافظات الأخرى، ويجري تقسيمها وفق عدد السكان في المحافظات الكردية وليس وفق ما تريده سلطات الإقليم.

وتبدي حكومة العبادي إصرارها على فرض سيطرتها على آبار النفط داخل الإقليم، مقابل دفعها حصة الإقليم من الموازنة العامة. وسيؤدي هذا الأمر إلى فشل جميع المحاولات التي بذلها الإقليم لفرض سيطرته على جميع الثروات النفطية والغازية الموجودة فيه، وعلى أساس أنّها تخضع لمبدأ السيادة الذي تتمتع به السلطات المحلية، على حساب السلطات الاتحادية. كما أنّ سلطات الإقليم قد مارست حقّها السيادي بتوسيع اتفاقيات مع تركيا لنقل النفط، ومع شركات عالمية للتنقيب والاستثمار.

ومن هنا يبدو أنّ بغداد سائرة قدمًا في تغيير كل قواعد التعامل مع الإقليم، وخصوصًا في المجالات المالية واستغلال الثروات، بما في ذلك التعامل مع محافظات الإقليم على غرار تعاملها مع المحافظات الأخرى، والذهاب أيضًا نحو وضع أسس للإنفاق المالي عبر هيئة رقابة مالية اتحادية.

ومع استمرار بغداد في تنفيذ هذه الإجراءات، فإنّ ذلك سيقود حتمًا ليس فقط إلى إضعاف سلطات الإقليم، ولكن إلحاق الوهن بها والذي سيؤسّس عمليًا إلى إلغاء الكيان شبه المستقل للأكراد.

 

9- الاستنتاجات

من المتوقّع أن تستمر الأزمة القائمة بين بغداد. فقرار أربيل بتجميد نتائج الاستفتاء أو إعلانها بقبول قرار المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية الاستفتاء لم يخفّفا من ردود فعل حكومة بغداد "الغاضبة"، وهي تتجه لاتخاذ المزيد من التدابير "الزاجرة" لإجبار سلطات الإقليم على إلغاء الاستفتاء وكل النتائج المترتّبة عليه في المستقبل. وبلغت التدابير التي اتخذتها بغداد حدًا من التصعيد، لم يتوقعه المراقبون للأزمة، وهو يتمثّل بإصدار أوامر بتوقيف نائب رئيس الإقليم كوسرات رسول على خلفية تصريحاته ضد الجيش العراقي. وتؤشر مذكرة التوقيف ضد زعيم كردي بحجم رسول إلى وجود إرادة وتصميم لدى الحكومة المركزية للتدخل في كل مفاصل السياسة الكردية للإقليم.

ولم تعد السيطرة على كركوك وآبار النفط حولها هي العقدة الوحيدة في العلاقات بين بغداد وأربيل، فالأمور قد تعدّت كل المناطق المتنازع عليها (والتي استعادتها السلطة)، كما تعدّت قرار السلطات الاتحادية بالسيطرة على كل الثروات النفطية في الشمال الكردي. ولقد ظهرت أبعاد الأزمة القائمة من خلال تصريح رئيس الوزراء حيدر العبادي وأعضاء في حكومته عن العلاقات مع محافظات شمالي العراق، وبما يؤشر إلى وجود نوايا لعدم الاعتراف بالكيان الخاص لإقليم كردستان، والمعترف به رسميًا بموجب دستور العام 2005. وكان اللافت في هذا السياق عزل محافظ كركوك الكردي الهوية وتعيين محافظ بديل من أصل عربي. وتمثّل هذه الخطوات فعليًا تراجعًا من قبل السلطات المركزية عن مضمون المادة 140 من الدستور، والعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل غزو 2003. وكان لتهجير ما يقارب مئة ألف كردي عن كركوك وقعه السيئ لدى سلطات الإقليم، والتي اعتبرت الأمر بأنّه أشبه بعملية تنظيف عرقي.

ما زالت الأزمة الناتجة عن الاستفتاء في بداياتها، وهناك أسئلة عديدة ومعقدة تطرح حول مستقبل الإقليم، وسيكون من الصعب إيجاد إجابات عنها.

لعلّ من أكثر الأمور تعقيدًا استقراء سلوكيات القيادات الجديدة للإقليم في التعامل مع بغداد وتركيا وإيران مثل نيجرفان ومسرور بارزاني وقوباد طالباني بعد تنحّي مسعود بارزاني ووفاة جلال طالباني. ولا تقتصر المعضلة التي سيواجهها هؤلاء القادة الشباب على التعامل مع مطالب بغداد التصعيدية بل تتعداها إلى ملء الفراغ السياسي الحاصل، من دون التنكّر إلى المحطات التاريخية التي اختطها الآباء والمقاتلون الأكراد منذ العام 1991.

في رأينا سيفتح الوضع الجديد الناتج عن الاستفتاء الباب أمام مزيد من التدخلات الإيرانية والتركية في شؤون الإقليم الداخلية، مع توقّع أن تحقّق إيران أكبر قدر من النفوذ.

وعليه، لن يكون العراق بعد الاستفتاء، كما كان قبله، حيث يقف أمام وقائع جيوسياسية جديدة، بعد تفكيك "دولة الخلافة" وبعد استعادة المبادرة بإسقاط المشروع الانفصالي. ولا بدّ من استثمار هذه الوقائع من قبل رئيس الحكومة العبادي من أجل العمل على العودة إلى السلطة بعد الانتخابات المقبلة في نيسان 2018 مع أكثرية نيابية جامعة للسنة والشيعة والأكراد من أجل تشكيل حكومة قادرة على تحقيق العدالة والاستقرار العام لعراق موحد وقوي، يسهم في إعادة تصحيح موازين القوى الإقليمية المختلّة بفعل التدخّلات العسكرية الإيرانية والإسرائيلية والروسية والأميركية في أزمات عدد من الدول العربية.

قائمة المراجع

 

1- Ahmad Mahmoud, "Iraqi Kurds and Nation- Building". Palgrave Macmillan, U.S. 2007.

2- Ofra Bengio. " The Kurds of Iraq: Building a state".Lynn Rienner Pulication. 2012.

3- Gerard Chalian. "A people without a country: The Kurds and Kurdistan". Interlink Publishing Group 1993.

4- Quil Laurance. "Invisible Nation: How The Kurds Quest for Statehood Is Shaping Iraq and The Middle East". Walker and Company. 2008.

5- Doctor Saadi Al Malih. " Heritage of Iraqi Minorities". Dar Ashtar- pdf copy.

6- Joost Hiltermann. " The Kurds: A Divided Future". May 19, 2016.

(see The New York Times book Review)  www.nybooks.com/daily/2016/05/19/kurds-syria-iraq-divided.

7- Wadie Jwaideh. "The Kurdish Nationalist Movement: opportunities. Mobilization and dentity". Syracuse university press. 2006.

8- Masoud Barzani. "Mustafa Barzani and The Kurds Liberation Movement 1931-1961". Palgrave Macmillan, 2003.

9- Susan Meiselas. "Kurdistan in the Shadow of History". University of Chicago Press, 2008.

10- Keriun Yildiz. "The Kurds in Iraq: The Past, Present and Future". Pluto Press, 2007.

 

11- العميد نزار عبد القادر، "هلال الأزمات والحروب"، شمص، 2015. أنظر الفصل السابع عشر، "الأكراد بين خياري الانفصال والوحدة".

12- العميد نزار عبد القادر، "الربيع العربي والبركان السوري- نحو سايكس- بيكو جديد"، شمص، 2كانون الأول 2012.

13- زياد فرحان، "الكرد الأزيديون في إقليم كردستان"، نسخة pdf صادر عن دار عشتار.

14- "Books and Documents- Heritage of Iraqi Minorities"  

صادر عن مجلس مطارنة روما و تاندو باريتي فوندايشن" في روما - زيارات ميدانية ومصادر أصلية يعتبر المؤلف أنّ الاقليات في خطر، وأنّ على الحكومة العراقية حمايتهم واذا لم تحم الحكومة العراقية الأقليات، فإنّ العراق سيكون من دون أقلياته بعد عقدين أو ثلاثة.  (المسيحيون- المندانية- الأيزيدية- الكاكائية- البهائية).

15- جغرافيا إقليم كردستان العراق- موسوعة ويكيبديا

16- إقليم كردستان في سطور

www.cabinet.gov.krd/p/p.aspxx?=14fs=020000

17- "تعرّف على المناطق المتنازع عليها في العراق"

www.aljazeera.net/encyclopedia.../2017

 

[1]- نزار عبد القادر، "قوس الأزمات والحروب"، شمص، 16 كانون الأول 2015، الفصل السابع عشر.    

[2]- .History of the Kurdish people-wikipedia the free encyclopedia                         

[3]- Jacques Neriah, “Kurdistan: the next flashpoint between Turkey-Iraq and the.Syrian revolt, August 5, 2012

[4]- .kirk Sowell, "The Aggresive rhetoric Kurdistan symbolic referendum risks" September 21, 2017 www.carnegieendoroment.org/sada/73187?.   

[5]- هوشنك أوسي، "خيارات مسعود بارزاني الصعبة"، الحياة 19 تشرين  الأول 2017. 

[6]- Margret Macmillan, “The peace Makers, The Paris peace conference 1919” John. Murray, London, 2011, pp. 400-420       

[7]- Iraqi and foreign reactions to Kurdistan referendum plan, September 6, 2017 .www.rudaw.net/english/middleeast/turkey/09062017    

[8]- The Mahabad republic: 1946, https://link.springer.low/chapter/10.1057/9780230377424_3

[9]- “Iraq on edge as Kurdish, Iraqi forces face-off in kirkuk”, VOA news   https://voanews.com/a/iraq-edge-kurdish-iraqi-forces-face-off.../4069088.html

[10]- يصرّ الأميركيون أنّهم أنذروا الكرد من مغبة السير قدمًا في الاستفتاء. Independence referendum” – financial times “US warns Kurdistan over https://ft.com/content/69B5B776-ge58-11e7/BF945

[11]- “Turkey Russia Tempers Erdogan's threat against Iraqi Kurdistan”   https://www.al-monitor.com/.../turkey-russia-how-moscow-sees-ankara-response- refer....

[12]- الحياة، "المنتصرون على أربيل"، عدد الثلاثاء 21 تشرين الثاني 2017.  الحياة، "التوافق الأميركي – الايراني حول الاستفتاءلا يصدم أربيل"، الجمعة 29 أيلول 2017.

[13]- "Disputed territories pose major challenge to Kurdish referendum" https://www.al-monitor.com/pulse/ru/.../kurdish-referendum-disputed-areas-iraq.html   

[14]- .Ibid   

[15]- بدرخان علي، "كردستان العراق: تداعيات الاستفتاء وعجز بارزاني عن المبادرة قبل النكسة"، الحياة، الأحد 12 تشرين الثاني، 2017.

[16]- Hawze Hasan Hama, "Kurdish referendum a reaction to Iraqi Government's failure to Implement constitution". University of Sulaymaniah, September, 20, 2017 www.mei.edu/content/article/kurdish-referendum-reaction-iraqi...

[17]- باسم فرنسيس، "الأكراد يقبلون قرار المحكمة الاتحادية بطلان استفتائهم عن الانفصال"، الحياة، 15 تشرين الثاني 2017

[18]- باسم فرنسيس، "المحكمة الاتحادية تقضي بلا دستورية استفتاء الأكراد"، الحياة، في 21 تشرين الثاني، 2017.

[19]- "الأكراد يتهمون بغداد بمحاولة إلغاء إقليمهم"، الحياة، 6 تشرين الثاني 2017.

[20]- تحدّث إياد علاوي عبر فضائية العربية عن أنّه تلقّى اتصالًا من قوباد جلال طالباني من السليمانية يخبره فيه بأنّه يتعرّض لضغوط كبيرة بشأن كركوك، ويؤشر ذلك إلى ضغوط إيران، والتي أدّت إلى انسحاب البيشمركة من المنطقة. نشرة الأخبار المسائية بتاريخ 18 تشرين الأول 2017.

[21]- يقول شورش حاجي القيادي في حركة التغيير "السياسة الفاشلة لقطاع النفط في الإقليم رتبت ديونًا بمبلغ 14مليار دولار كقروض تركية ولشركات نفطية مثل فيتول وروزنفت وجنرال أنرجي".

[22]- Kurdistan's Referendum Gamble – International policy Digest www.intpolicydigest.org/2017/09/kurdistan-s-referendum-gamble

[23]- بدرخان علي، "كردستان العراق: تداعيات الاستفتاء وعجز بارزاني عن المبادرة قبل النكسة"، الحياة، 12 تشرين الثاني 2017.

[24]- Future for Advanced Studis.. -   Shadi Abdelwhab, "Barzani's Gamble" www.futurenae.com/m/mainpage/items/3268/barzani-gamble

[25]- الحياة، النسخة الورقية، "إقليم كردستان والمصالح النفطية"، 20 تشرين الثاني 2017 See also Reuters same date

[26]- .Ibid

[27]-        الحياة، النسخة الورقية "النقد الذاتي بعد الهزيمة" 16 تشرين الثاني 2017.

[28]-    "Kurdistan referendum: Kurdish leader Masoud Barzani resigns as iraqi Protesters swarm parliament. www.independent.co.uk/news/world/middle-east/kurdistan....

[29]- 26,2017 Alore Dziandosz,"The Economic Case Against an Independent Kurdistan", September. 2017/09/www.theatlantic.com/international/archive

[30]-    راجع الحياة، "الفشل الكردي والحرية العربية"، الخميس 2 تشرين الثاني 2017. وأيضًا الحياة، "النقد الذاتي بعد الهزيمة الكردية"، الخميس 16 تشرين الثاني 2017.

[31]-    amal Chomani in an interview, published by "Diwan" sponsored by Carnegie Middle     East (Michchail young’s regular survey of experts) October 26, 2017. 

[32]- "Kurdistan: after vote for independence, what's next?", September 27, 2017. what-s-next www.theconversation.com/kurdistan-aftervote-for-independence-

[33]- Angelina Rascouet and Khalid Al Ansary, "How Iraq's Kurdish Independence Referendum    Could Impact Oil Markets".www.bloomberg.com      

The future of Kurdistan and the fall of the “Kurdish Dream”

The invasion of Iraq in 2003 and the subsequent political changes led to enacting a new Iraqi constitution that the Kurds have contributed in legislating and endorsing in 2005 in a way that turned the Kurdish region into a semi-independent entity and part of a federal Iraq. In light of the new situation that witnessed the expansion of the Kurdish territory, Massoud Barzani thought that the situation is appropriate to go forward with the plan of separating the Kurdish territory from Iraq and declaring an independent State. Thus, he decided to organize a referendum over the separation on 25 September 2017. Barzani insisted on going forward with the separation process despite all the international and regional advices he received. It is important in this regard to explore the aptitude of Kurdish leaderships toward reexamining the mistakes that they have committed through their insistence on organizing the referendum on 25 September in spite of all the objections and advices given by international and regional powers.

It was natural that the Kurdish territories witness a crowded popular manifestation on the next day following the referendum with festivities throughout the Kurdish towns and cities. However, soon enough everyone realized that the results of the referendum cannot be translated into political, administrative and economic measures with the aim of transforming the structure of the current authority in the Kurdish territory and thus changing the current political and legal situation as part of the Iraqi State and into being an independent and sovereign State.

The referendum and the investment of its results came in the context of the profits gained by the Kurds as a result of the Gulf war in 1991 and the American invasion in 2003 where they managed to establish a semi-independent entity within a Federal regime as it is stipulated in the new Iraqi constitution endorsed in 2005.

The Kurdish region has lost half of its returns due to the loss of oil wells in the region of Kirkuk. The loss of returns generated by oil wells are to be added to equally important losses resulting from the federal government’s control over border crossing points.

The mistakes made by Barzani in approaching the dream of independence were enormous and this incites us to wonder about what he was betting on following International and regional reactions that rejected the referendum altogether without any confusion. Political realism necessitates from Barzani in this case altering the course of the referendum from demanding independence to a process where he highlights polling the opinion of the majority of Kurds.

Through the follow up with the latest developments and stances during 2 months following the referendum, we can surely say that the Kurds are currently transiting the stage of absorbing the shock or closing the ranks to confront the results of the defeat.

In summary, the Kurdish failure in approaching the issue of independence is equal to the Arabic failure in establishing independent and democratic citizenship-driven States. Moreover, the attempts made by the Kurds to convince the west that they are distinguished from their neighbors have failed and this means that their destiny will remain hanging for decades to come, in addition to being entangled with the destinies of the peoples of the region who are submissive to a slavery imposed by autocratic leaders.

As for the issue of self-determination that is considered an internationally recognized right, the chances of acquiring this right does not differ from the chances of the Palestinian people that continues its fight for independence and for the creation of its state since decades in vain.

Le futur du Kurdistan et l’échec du «rêve kurde»

L’invasion de l’Iraq en 2003 et les changements politiques ultérieurs ont mené à l’élaboration d’une nouvelle constitution pour l’Iraq, à laquelle ont participé les kurdes et l’ont ratifiée en 2005. C’est ainsi que la province est devenue une entité presque indépendante dans le cadre d’un Iraq fédéral.

À l’ombre des nouvelles circonstances de l’expansion de la province, Massoud Barzani a cru qu’il existe une chance pour adopter la séparation de la province de l’Iraq et la déclarer comme étant un état indépendant. C’est ainsi qu’il a décidé d’organiser un référendum pour la séparationle 25 septembre 2017, malgré tous les conseils et les objections provenant des parties internationales et régionales.

Il est impératif de savoir la capacité ou l’aptitude des parties kurdes à effectuer une révision quant aux fautes majeures commises en insistant à organiser le référendum le 25 septembre 2017, malgré toutes les objections et les conseils adressés par les différentes parties régionales et internationales.

Au lendemain du référendum, il était normal que les régions kurdes témoignent une grande manifestation populaire, et les cérémonies envahissent toutes les villes et tous les villages kurdes. Or, tout le monde a vite réalisé qu’il est impossible de traduire les résultats du référendum en des mesures politiques, administratives et économiques pour changer la structure des autorités existantes dans la province, pour la transformer en un état indépendant et souverain.

Le référendum et ses résultats s’inscrivent dans le cadre des acquis réalisés par les kurdes suite à la guerre du Golfe en 1991 et l’invasion américaine de l’Iraq en 2003, où ils ont réussi à établir une entité presque indépendante dans le cadre d’un système fédéral selon la constitution de la nouvelle République Irakienne qui a été ratifiée en 2005.

En perdant les puits de pétrole à Kirkuk, la province kurde a perdu la moitié de ses revenus, sans oublier d’autres pertes après que le gouvernement fédéral ait contrôlé les passages frontaliers.

Le coût des fautes commises par Barzani quant au rêve de l’indépendance, fut très cher. Dans ce contexte, il est indispensable de se demander sur quoi il misait surtout que les réactions internationales et régionales furent claires à rejeter le référendum. Dans le cas de ce rejet, le réalisme politique doit inciter Barazani à rajuster le trajet du référendum et passer de la réclamation de l’indépendance à une opération de consultation politique de l’avis de la majorité kurde.

En détectant les développements et les positions lors des deux mois suivants le référendum, on peut dire que les Kurdes passent aujourd’huipar la phase d’assimilation du choc.

À la fin, l’échec kurde quant au sujet de l’indépendance est équivalent à l’échec arabe quant à la réalisation de l’état de citoyenneté indépendant et démocrate. Les tentatives des Kurdes de convaincre l’Occident qu’ils se distinguent de leurs voisins, ont échoué. Tout cela veut dire que leur destin sera suspendu pour des décennies à venir, et sera dépendant du destin des peuples de la région. Quant au droit de décider de leur destin, et qui est un droit internationalement reconnu, leur chance de le réaliser ne diffère pas de celui du peuple palestinien qui continue à lutter, en vain, pour obtenir son indépendance et établir son état depuis de longues décennies.