بالأبيض والأسود

مسيرة نضال توج بالإستقلال


 بين مؤتمر الصلح الذي عقد في فرنسا (1918) بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ومعركة الاستقلال في تشرين الثاني 1943، مسيرة ناضل خلالها اللبنانيون من أجل استقلالهم. في ما يلي أبرز المحطات في ذلك النضال.
 

وفود إلى مؤتمر الصلح
• تشرين الأول 1918، وفد لبناني برئاسة داوود عمون يسافر إلى فرنسا حيث انعقد مؤتمر الصلح، ويحمل مطالب اللبنانيين وأمانيهم: استعادة لبنان لحدوده التاريخية والجغرافية التي قلّصها نظام البروتوكول، وتحقيق استقلاله.
• أيار 1919، وفد ثانٍ إلى مؤتمر الصلح برئاسة البطريرك الماروني الياس الحويك، يحمل المطالب نفسها ويعود بوعود من كليمنصو رئيس وزراء فرنسا بالمساعدة على تحقيق هذه المطالب.
• تشرين الثاني 1919، وفد ثالث يحمل أيضًا المطالب نفسها إلى مؤتمر الصلح.
• 26 نيسان 1920، المجلس الأعلى لعصبة الأمم ينعقد في سان ريمو ويقرر وضع لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي.
• 1 آب 1920، الجنرال غورو يصدر قرارًا بإعادة توسيع حدود لبنان.
• 1 أيلول 1920، غورو يعلن ولادة لبنان الكبير في احتفال رسمي وشعبي في قصر الصنوبر في بيروت.
 

المطالبة بالاستقلال في ظل الانتداب
 • 1920-1925، لبنان في ظل الحكم العسكري الفرنسي المباشر بواسطة المفوضين العسكريين، وفي ظل هذا الواقع أدرك اللبنانيون أن الانتداب لا يسعى إلّا إلى تكريس مصالحه في المنطقة. وبسرعة تنمو حركات الاحتجاج في لبنان وسوريا، وينقلب عدد كبير من الفاعليات المعروفة بصداقتها لفرنسا إلى موقع النضال في سبيل الاستقلال عنها.
• 1924، نشوب الثورة في جبل الدروز وامتدادها بسرعة إلى دمشق ومن ثمّ إلى حاصبيا وراشيا والشوف ومناطق أخرى، وتصاعد المطالبة بوضع دستور وطني للبلاد تنفيذًا لما نصّ عليه صكّ الانتداب.
• 1926، لجنة نيابية لبنانية تستعين بمسودة دستور فرنسية وبآراء كبار رجال الدين والسياسة والقانون في لبنان، وتضع أول دستور للبنان. غير أن الدستور أبقى للمفوض السامي صلاحيات واسعة، أبرزها حقه في تعليق الدستور وحلّ مجلس النواب وعزل رئيس الجمهورية والحكومة.
• بعد إقرار الدستور في 26 ايار 1926، انتخب شارل دباس رئيسًا للجمهورية. وبعد عام عدّل الدستور، ووضع النشيد الوطني اللبناني.
• 1929، أعيد انتخاب الرئيس دباس لولاية ثانية مدتها ثلاث سنوات.
• 1931-1934، لبنان يعيش في ظل أوضاع اقتصادية خانقة سببها تشريع أبواب البلاد على مصراعيها أمام الاحتكارات الفرنسية وسياسة المفوض السامي. في المقابل تشتعل البلاد بالتظاهرات والاضرابات احتجاجًا على الاحتكار، ويقف البطريرك عريضة على رأس المعترضين على السياسة الفرنسية في لبنان مصعّدًا مطالبته بالاستقلال، ويلتقي مع السوريين المطالبين بالاستقلال عن فرنسا داعمًا تحركاتهم. وفي دمشق تنطلق هتافات: «عريضة حبيب الله». على أرض الواقع تترسخ القوى المعارضة للانتداب والمطالبة بالاستقلال، وينقلب معظم أصدقاء فرنسا الذين رحّبوا بدخولها لبنان، ضدها. كما ينسق اللبنانيون والسوريون مطالبتهم بالاستقلال.
• 1934-1936، لبنان في ظل تنظيم مؤقت لإدارة الدولة وضعه المفوض السامي دو مارتيل بعد أن كان بونسو قد علّق الدستور وحلّ مجلس النواب ومدّد ولاية شارل دباس. وبموجب التنظيم المؤقت عين المفوض السامي حبيب باشا السعد رئيسًا للجمهورية.
• 1936، انتخاب إميل اده رئيسًا للجمهورية، وتوقيع المعاهدة اللبنانية – الفرنسية بعد مفاوضات بين الوفد اللبناني برئاسة إميل اده والوفد الفرنسي برئاسة دومارتيل.
• 1937، عودة الحياة الدستورية إلى لبنان.
 

الحرب العالمية الثانية: مرحلة الوعود
• أيلول 1939، نشوب الحرب العالمية الثانية وإصدار المفوض السامي غبـريال بيو لقرار يقضي بتعليق الدستور وحلّ مجلس النواب وإقالة الحكومة. وإعلان الأحكام العرفية.
• حزيران 1940، سقوط فرنسا بيد الألمان.
• 1941، قوات هتلر تصل إلى ليبيا واليونان، والطائرات الألمانية تهبط في مطارات لبنان لمساندة ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق والموجهة ضد الإنكليز، والألمان يعدون لبنان وسوريا بالاستقلال بعد انتصارهم في الحرب. خلال فترة قصيرة يردّ الحلفاء محاربين الألمان بسلاحهم، فتلقي الطائرات الفرنسية الحرة والطائرات البريطانية فوق لبنان وسوريا مناشير تحمل إعلانًا من الجنرال كاترو المفوض السامي لحكومة فرنسا الحرّة في لبنان وسوريا يعد فيه ويبشر باستقلال البلدين (8 حزيران 1941).
• 26 تموز 1941، الجنرال ديغول يزور لبنان ويلقي خطابًا في بيروت يعد فيه بالاستقلال والسيادة.
• 26 تشرين الثاني 1941، الجنرال كاترو الذي تسلّم سلطات المفوض السامي، يعلن في احتفال أقيم في السراي الصغير في ساحة البرج، استقلال لبنان وتنظيم العلاقة بينه وبين فرنسا على أساس معاهدة 1936، ورئيس الجمهورية ألفرد نقاش يردّ على كاترو بكلمة يوضح فيها أن لبنان لن يعقد أي معاهدة قبل حصوله على الاستقلال التام.
• كانون الأول 1941، اللبنانيون مستمرون في تصعيد مطالبهم باستقلال فعلي كامل وبعودة الحياة الدستورية. ويعقدون (25 كانون الأول) مؤتمرًا وطنيًا في بكركي مقر البطريركية المارونية ضمّ شخصيات تمّثل مختلف الطوائف. صدر عن المجتمعين عدة مقررات أبرزها تحقيق الاستقلال الكامل وعودة الدستور وإجراء الانتخابات.
 

 1943: الاستقلال
• آذار 1943، كاترو يقيل رئيس الجمهورية ألفرد نقاش ويعين أيوب تابت رئيسًا مؤقتًا، ومن ثم يقيله ويعيّن بترو طراد، للاشراف على الانتخابات (تموز من العــام نفســه).
• 29 آب و5 أيلول 1943، انتخابات نيابية على دورتين، وانتخاب الشيخ بشارة الخوري رئيسًا للجمهورية (في 21 ايلول)، الذي كلّف رياض الصلح بتشكيل الوزارة.
• 7 تشرين الأول 1943، رياض الصلح يعلن بيانه الوزاري الذي تضمن سياسة الحكومة الاستقلالية. وأبرز ما ورد فيه: التأكيد على استقلال لبنان التام، رفض أي حماية أجنبية وتعديل الدستور ليتلاءم مع الاستقلال.
• 8 تشرين الثاني 1943، مجلس النواب يجتمع بمن حضر - بعد أن عرقل الفرنسيون وصول النواب لمنعهم من تعديل الدستور - ويعدّل كل المواد التي لها علاقة بالانتداب، وبموجب التعديل أصبحت اللغة العربية اللغة الرسمية في البلاد.
• 9 تشرين الثاني 1943، رئيس الجمهورية يوقّع على التعديل.
• ليل 10-11 تشرين الثاني 1943، السلطات الفرنسية تعتقل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء عادل عسيران وكميل شمعون وسليم تقلا والنائب عبد الحميد كرامي، وتنقلهم إلى قلعة رشيا، والمندوب السامي جان هللو يصدر قرارات بتعليق الدستور والغاء تعديلاته وحلّ مجلس النواب. على الأثر توجه الوزيران حبيب أبو شهلا ومجيد إرسلان برفقة رئيس مجلس النواب صبري حمادة إلى منزل رئيس الجمهورية وانضم إليهم عدد من النواب. وتقرر أن يؤلف أبو شهلا وإرسلان حكومة مؤقتة. وجّهت الحكومة مذكرات احتجاج إلى ممثلي الأمم المتحدة والدول الكبرى وسفير فرنسا. وخوفًا من الاعتقال، انتقل عضوا الحكومة ومعهما رئيس المجلس إلى بشامون (12 تشرين الثاني) حيث انضم إليهم عدد كبير من الشباب وشكّلوا ما يشبه الحرس الوطني.
دعي مجلس النواب إلى الانعقاد، وبسبب الظروف الاستثنائية لم يصل إلى البرلمان إلّا سبعة نواب، فاعتبر النصاب قانونيًا وعدّلت المادة الخامسة من الدستور بحيث أصبح العلم اللبناني علمنا الحالي.
شعبيًا تحرّك الناس في مختلف المناطق خصوصًا في بيروت، فعمّت التظاهرات وأقفلت الطرقات وتوقف معظم الصحف عن الصدور، وصدرت نشرات سريّة أشهرها «علامة استفهام».
• 22 تشرين الثاني 1943، الجنرال كاترو يلغي التدابير التي اتخذها جان هللو ويفرج عن المعتقلين.

 

وقائع الاعتقال وما أعقبه  كما رواها الرئيس بشارة الخوري في مذكراته
في كتابه «حقائق لبنانية» يروي الرئيس بشارة الخوري وقائع معركة الاستقلال، ويؤرخ أبرز المحطات في تاريخ لبنان الحديث. في ما يلي سرده لوقائع الاعتقال في قلعة راشيا، وصولاً إلى الافراج عن المعتقلين وما رافقه من احتفالات.

 

ليل 11/10 تشرين الثاني: الاعتقال
حوالى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل استيقظت وقرينتي في آن واحد على ضجة قوية في الدار الداخلية أمام غرفة المنامة. واعتقدنا أن الخدم تأخروا في السهر أو أنهم استيقظوا باكرًا لتنظيف البيت. قمت وفتحت الباب لأرى ماذا يجري، فوقعت عيناي على جنود بحريين فرنسيين مسلحين بالبنادق وبرؤوسها الحراب، وبعض جنود سود مسلحين على الشكل عينه، وصاحوا بي قائلين: أخرج عاجلاً! فأقفلت الباب بالمفتاح ظنًا مني للوهلة الأولى أن هؤلاء الجنود قد سكروا ليلة عيد الهدنة وعلموا بالخلاف القائم بيني وبين المندوب الفرنسي فأرادوا اغتيالي. وفتحت النافذة أنادي على الجيران لينبّهوا البوليس منعًا للاغتيال فلم أسمع جوابًا وبدا لي الجو كأن الموت قد خيّم على جوانب البيت.
ودامت تلك الحالة دقيقتين أو ثلاثًا، وإذا الباب الجنبي من الغرف يفتح علينا ويدخل ولدي ميشال ومعه ضابط برتبة كابتان لا أعرفه، يحمل مسدسًا ورشاشًا صغيرًا، قال: لا نقصد بكم شرًا غير أنني أحمل أمرًا من المندوب السامي بتوقيفك. فقلت: إني رئيس جمهورية مستقلة ولا صفة للمندوب السامي أن يخاطبني.
قال: سأتلو عليك الأمر.
وتلا عبارات مطبوعة على الآلة الكاتبة يفهم منها الأمر بتوقيفي بسبب مؤامرة على الإنتداب القائم!. طلبت أن يسلمني الأمر فرفض، وقال: أمامك عشر دقائق حتى ترتدي ثيابك. فقلت: لا حاجة لارتداء الثياب في مثل هذه الحالة، خذني كما أنا. قال: كل مقاومة عبث.... وارتديت فوق ثيابي أول معطف وقع تحت يدي... ووصلت إلى طريق القنطاري الخالية الخاوية، وخلفي الضابط الذي بلّغني أمر التوقيف ومعه مأموران من الأمن العام مسلحان... وبصفرة خفيفة تقدّمت منا سيارة كانت واقفة مطفّأة الأنوار في الطريق الواقع شرقي بيتنا، أمام المدخل الخاص، فدعاني الضابط إليها وجلس عن شمالي، وجلس قرب السائق مأمور من الأمن العام وجميعهم شاهرو السلاح... صعدت بنا السيارة إلى عاليه وبحمدون، والطريق خالية، والبرد قارس، وقبل محطة بحمدون رأيت سيارة أمامنا فسبقناها، ثم خفّفنا السير فسبقتنا، بينما أنوار السيارتين تضاء تارة وتطفأ أخرى، كأنها علامات رمزية بين السائقين. وابتدأ الصبح ينبلج بين شتورا ومفرق راشيا فتبينت في المقعد الخلفي من السيارة السائرة أمامنا طربوشًا عرفت به طربوش رياض الصلح، وكان رياض محاطًا برجلين.
ووقفت السيارة الأولى في السهل قبل راشيا، ووقفنا وراءها على بعد مئتي متر تقريبًا، ورأيت رياض يترجّل وقد لحق به الرجلان، وبعد هنيهة مشينا وإذا وراءنا سيارتان لم أعرف من فيهما. في الساعة السادسة صباحًا وقف الرتل أمام قلعة راشيا ودخلت ورياضًا، والتفتّ إلى ورائي فشاهدت سليم تقلا وكميل شمعون يتبعاننا. وفي الباحة الداخلية وزعنا على الغرف المحيطة بالدار. أدخلوني غرفة عارية من كل رياش، إلا من كرسي خشبي فجلست عليه والباب مفتوح على الدار يحرسه واحد من رجال الأمن العام. أشعلت سيكارة واحضرت لي «طاسة تنك» فيها شاي. تطلعت نحو الدار ورأيت رياضًا وسليمًا وكميلاً يتمشون فيها فخرجت إليهم، وما أن تبادلنا التحية حتى برز ضابط فرنسي وانتهر الحراس، وأمرهم أن يفرّقونا وأن يدخل كل منا إلى غرفته، ففعلنا. لم تنقض دقائق حتى دخل ضابط القلعة إلى غرفتي وقال بكل تهذيب: إذا شاء سيدي فليتفضل إلى غرفة معاوني لأنها تريحه أكثر من هذه الغرفة. شكرته ودخلت الغرفة الشرقية القبلية ولقيت أرضها مغطاة ببساط، وفي أحد جوانبها سرير يقابله مقعد وكرسي كبير، وعلى الحائط بعض الصور الزيتية، ثم أقفل علي الباب وكانت الساعة الثامنة تقريبًا.
أخرجت من جيبي كتاب «الاقتداء بالمسيح» وبدأت أصلي صلاة الصبح وما أن تلوت بعض الفقرات حتى أخذ يدخل عليّ بعض جنود القلعة من اللبنانيين فيقبلون يدي، أو كتفي، ويظهرون أسفهم، معلنين استعدادهم لخدمتي. ورآهم رئيس الحرس الفرنسي من ثقب الباب يفعلون ذلك في تكريم رئيس بلادهم فنقلهم جميعًا إلى الخارج، وأقام على بابي حارسًا سنغاليًا ببندقيته وحربته.
في المساء خرجت إلى الحمام، في جوار غرفتي والتقيت رياض الصلح فقال لي: «لا تتأثر، كنت دائمًا رئيسًا في لبنان أما اليوم فأصبحت زعيمًا له». وأجبته: «إنني غير متأثر، وكلّه للخير إن شاء الله». وسمعنا الحراس نتبادل هاتين الجملتين فلم أعد ارى رياضًا في الدار الداخلية، وعرفت بعدها أنه أكره على استعمال الحمام الخارجي منعًا له من محادثتي.

 

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
لم تحن الساعة الثامنة مساءً حتى غلب عليّ النعاس، واستلقيت على السرير ولم يكن معي «بيجاما»، فالذين اعتقلوني لم يتركوا لي الوقت لأجلب ثيابًا، وبعد مدة استيقظت وأنا أظن أننا بلغنا الفجر فإذا الساعة العاشرة فقط. وقضيت الليل بين نوم ويقظة، والسكون مخيم على القلعة لا يسمع فيها إلا وطء أقدام الحراس وقد أحاطوا بنا من كل جانب حتى على السطح.... طلبت بعض الكتب فحملها إليّ الليوتنان لابلو ضابط القلعة، واستأذنني بالجلوس وقال إنه خجول جدًا مما جرى، وأضاف أنه مستعد ليقوم بواجب الحراسة بكل احترام حتى تنقشع الغيمة. فشكرته وصافحني، وقبل أن يخرج مسح دمعتين ترقرقتا من عينيه، وانتظر قليلاً كي لا يراه الحراس على تلك الحالة، فتأثرت وأخذت (يا لسخرية القدر) اطيّب خاطره! وقبل أن يترك غرفتي قال إن أكل القلعة رديء جدًا، وأنه سمح لإمرأة من راشيا بأن تأتينا بالطعام الذي نرغب فيه، على أن نؤدي النفقات.
بعد ظهر الخميس 11 تشرين الثاني وصل إلى القلعة عبد الحميد كرامي وعادل عسيران وأدخلا الغرفة التي وضع فيها سليم تقلا وكميل شمعون، وصار عددنا ستة.
في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم الجمعة كنت أتمشى في غرفتي، وسمعت صوت سيارة تصعد نحو القلعة، عرفت أنها السيارة التي تأتي بمؤنة الطعام للضابط والحراس. وبعد قليل سمعت همسًا في الدار وسمعت أحدهم يقول: «عبثًا حاولنا الابتياع من المدينة فبيروت مقفلة. لقد أحرق الأهلون عربات للجيش في ساحة الشهداء، والحالة متأزمة جدًا، وهي تتفاقم ساعة بعد ساعة». ثم عرفت أنه ما أن انتشر خبر الاعتقال في بيروت وأنحاء لبنان حتى خفّت الأهالي إلى ساحات المدينة العمومية وشوارعها الرئيسية وقلبت السيارات العسكرية ظهرًا على عقب وأضرمت فيها النار، وقصدت قصر الرئاسة ألوف وهي تتظاهر احتجاجًا على اعتقالنا، فأخذ السنغاليون يطلقون النار إرهابًا. وأصابت بعض الطلقات جدرانه، ولكن قرينتي لم تغادره وأصرّت على البقاء فيه تستقبل الجماهير الغفيرة ووفود النقابات. وأقفلت متاجر المدينة احتجاجًا، وأقسم التجار إيمانًا مغلظة أنهم لا يموّنون الجيش الفرنسي، لا بكثير ولا بقليل، حتى يعود المعتقلون إلى مناصبهم. وازدحمت الدار بوفود الهيئات النسائية الراقية...
في اليوم الثالث احتشدت جمهرة من الأهلين على سلم القصر فأطلقت عليها النار سرية من الدراجات الفرنسية وسقط بعض الجرحى، فأسعفوا داخل الدار. وبقيت آثار دمائهم على بساط المدخل حتى شاهدناها عندما رجعنا من الاعتقال.

 

رياض ينشىء مكتب استخبارات
انقضت الأيام التالية وأنا منقطع عن كل خبر، مستسلم لكل تقدير وتكهن، ولم أكن لأدري أن رياض الصلح أسس منذ اليوم الأول «مكتب استخبارات في غرفته. وقد استطاع أن يرسل إليّ وريقة تحمل بعض الأخبار: «تولى إميل إدة الحكم. جاء إلى السرايا محروسًا بحراب السنغاليين. الثورة مشتعلة في بيروت. موقف الجنرال سبيرس وسجن رئيس الكتائب وحماسة المطران مبارك للقضية. ثورة المؤتمر الوطني والهيئات الشعبية. تأليف حكومة في بشامون من حبيب أبو شهلا وصبري حمادة ومجيد إرسلان. اجتماع المجلس النيابي خارج الندوة».
ثم صار رئيس الحراس يحمل إليّ الطعام بنفسه ويطلعني على بعض الأخبار من «قلم الاستخبارات».

 

الأربعاء 17: رسول من كاترو
وقفت إلى نافذتي حوالى الساعة الرابعة بعد الظهر أشرف على راشيا وجوارها، وإذ بسيارة سوداء تبدو من الوادي وتصعد نحو البلدة ومنها إلى القلعة.... وبعد نصف ساعة دق بابي ودخل عليّ الزعيم سليمان نوفل وأدّى التحــيـــة العسكرية وانحنى بكل احترام على يدي، وقال: «يا فخامة الرئيس إني آتٍ بمهمة فهل تسمح بتأديتها ؟ وقبل ذلك أريد أن أقول لفخامتك أنني قبلت المحافظة على الأمن من ساحة الشهداء إلى مقرّكم في بيروت، ويشهد الله أنني وجنودي لم نمسّ أحدًا بسوء، ولم تهرق نقطة دم بسببنا».
فجلست وأجلسته، وقلت: سنرى ذلك كله في حينه فيما إذا يسّر الله لنا العودة. فأجاب: إن عودة فخامتكم مضمونة بحمد الله وإليكم مهمتي: «استقبلت الجنرال كاترو في المطار أمس ودعاني لمقره، وقد رفض النزول ضيفًا على هللو، فمكثت لديه أكثر من ساعة شرحت له الحالة كما أراها وتراها البلاد. وقد كلفني بشرف المثول بين يديكم لأعود وأخبره في ما إذا كان عندكم مانع من الاجتماع به غدًا الخميس... فكتبت على ورقة صغيرة ما يلي: «وفقًا للرغبة التي أبداها الجنرال كاترو لا مانع عندي من مواجهته في المحل الذي يعينه يوم الخميس في 18 من تشرين الثاني 1943».

 

الخميس 18: تحت الحفظ إلى بيروت
انقضى نهار الخميس ولم تجر المقابلة المنتظرة. وسجى الليل وخيّم على القلعة سكون رهيب. لم يعد يسمع في الظلام سوى وقع قدمي الجندي الأسود المسلح الذي اقاموه حارسًا في باب سجينهم، يقبض على مفتاحه فأضطر كلما دعتني الحاجة أن أستأذنه، وذلك بقرع الباب من الداخل قرعًا خفيفًا خشية تخديش أذنيه، لئلا ينتفض انتفاضة قد تكون فتاكة. وخلوت إلى نفسي وإلى ربي وتناولت كتابًا وما أن بدأت بالقراءة على ضوء ضئيل، حتى فتح بابي ودخل ثلاثة ضباط... حيوني التحية العسكرية وتقدم مني القومندان جولان قائلاً: «نحمل إليكم سلام الجنرال كاترو، وهو يعتذر عن اضطراره لدعوتكم إلى بيروت». قلت: لا بأس.
وكان في جنب كل منهم مسدس من عيار ثقيل، وأحدهم يحمل إلى جنب المسدس بندقية رشاشة من العيار الكبير! وخرجنا إلى الباحة المظلمة ومنها إلى الساحة الخارجية حيث كانت تنتظرنا سيارة عادية... وقبل أن أركب فيها طُلٍب إليّ أن أجلس في المقعد الأمامي قرب السائق، بحجة أنه مريح، ففعلت. وجلس الضباط الثلاثة في المقعد الخلفي. وما أن تحركت السيارة حتى رأيت مرافقيّ يحملون مسدساتهم في أيديهم! أخذت السيارة تنهب الأرض نهبًا حتى وصلت بنا إلى ساحة الشهداء قرب الساعة السابعة والنصف، فوجدناها خالية خاوية والأنوار فيها ضئيلة وعلى جانبي الساحة والطرقات جنود فرنسيون بسلاحهم الكامل، قبيل الساحة ملنا إلى شارع سوريا، غربي مدرسة اللعازاريين، واجتزناه كله وانحرفنا إلى اليسار، ووقفت بنا السيارة أمام بيت معروف باسم «بيت الدنا» سكنه في ما مضى المسيو لالوه المستشار الاستئنافي في القضاء اللبناني...
وما أن وطئت قدماي العتبة الخارجية حتى أنيرت مصابيح كهربائية قوية في الحديقة، على طول الممر المؤدي من الطريق إلى البيت... وبعد لحظات دخل الجنرال كاترو وحيّاني بكل لياقة واحترام...

 

التفاوض مع كاترو
يتابع الرئيس بشارة الخوري رواية الوقائع فيعرض بالتفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين الجنرال كاترو الذي يعرب عن أسفه لما حصل معلنًا إقالة جان هللو من منصبه، قبل أن يسأل الرئيس الخوري عن سبب الاستعجال في تعديل الدستور، فيجيبه بما مفاده أن هللو أصدر كتابًا ينكر فيه على اللبنانيين حقهم بتعديل الدستور بمعزل عن فرنسا. كذلك كان للجنة التحرر الفرنسية في الجزائر موقف مماثل أعلنته في بيان من دون إبلاغ الحكومة اللبنانية، ما جعلها تشكّ بحسن النوايا الفرنسية، وبأن ثمة محاولات للتنصل من التعهدات التي قطعت من جانب الحلفاء.
ويسأل الجنرال كاترو عن دور بريطانيا في ما جرى، فيؤكد الرئيس بشارة الخوري أنها لم تتدخل في طلب تعديل الدستور، وأن العمل الذي قامت به الحكومة هو ضمن صلاحياتها الدستورية، وهي لا تهدف إلى إقصاء فرنسا واستبدال انتدابها بآخر انكليزي. وقال: نحن طلاب استقلال كامل...
استمر اللقاء بين الرجلين أكثر من ساعتين ونصف، وطلب خلاله كاترو أمرين: إقالة الحكومة لردّ الاعتبار إلى فرنسا، وحلّ المجلس النيابي. لكن بشارة الخوري رفض المطلبين، فعاد كاترو وطلب أن يوجه إليه رئيس الحكومة رياض الصلح كتابًا يبين فيه أن ما قام به لا يستهدف الإساءة إلى فرنسا... وهذا ما لم يحصل أيضًا.
كان كاترو قد أخبر بشارة الخوري أن المهمة التي أوكلها إليه الجنرال دي غول ولجنة التحرر الفرنسية تخوله حلّ المسألة حلاً حاسمًا. كما أخبره أن الإفراج عن المعتقلين سيكون في 21 تشرين الثاني ما لم يقع أمر ليس بالحسبان، غير أن ذلك حصل في اليوم التالي (22 تشرين الثاني).

 

انتهاء الأزمة
نعود إلى ما كتبه الرئيس بشارة الخوري، وكيفية وصفه للإفراج عنه وعن رفاقه المعتقلين ولرحلة العودة من راشيا إلى بيروت، يقول:
استيقظت باكرًا وخرجت إلى الدار. شاهدت معاون الضابط الذي جيء به خصيصًا للمحافظة علينا في اليومين الأخيرين، فوقف وقفة عسكرية. حيّاني لأول مرة برفع يده إلى قبعته فشعرت أني لم أعد معتقلًا...
ارتدى كل منا ثيابه وعقدنا اجتماعًا طويلاً. أخبرني رياض أن الكولونيل بواسو واعوانه وصلوا في الليل لنقلنا من القلعة عنوة وللفتك بنا فيما إذا أخلي سبيلنا. وقد أجبر ذلك الكولونيل الحرس على إعداد المنامة له. وصدرت إليه أوامر عسكرية بإخلاء القلعة فأبى. ثم أذعن مرغمًا بعد مخابرة هاتفية طويلة. وقيل إن الذي حدّثه بالتلفون في تلك الساعة هو أحد القادة التابعين مباشرة للجنرال دي غول، وقد أقنعه بأن لا يسيء إلينا فامتثل. عرفنا أيضًا أن مؤامرة عسكرية دبّرت في الوقت عينه لخطف الجنرال كاترو من بيته في الحي الشرقي لبيروت والفتك به لئلا يفرج عن المعتقلين.

 

الرجوع
انقضى قسم من الصباح ونحن بانتظار السيارات التي ستقلّنا إلى بيروت. خرجنا من غرفنا نتمشى في الدار الخارجية على أحر من جمر. تبادلنا الأحاديث عن كل ما جرى. عاهد بعضنا بعضًا على السير الحثيث متضامنين إلى الهدف الاستقلالي...
قارب الوقت الظهر. هوذا غبار سيارات ثلاث يتصاعد من بعيد. دوّى صفير الحراس وطلبوا إلينا أن نعود إلى غرفنا. لم يطل الوقت ودخل غرفتي المسيو دافيد المندوب الفرنسي لدى الحكومة اللبنانية، يرافقه الزعيم نوفل وأبلغاني أمر الإفراج. أبلغته بدوري إلى الرفقاء المنتظرين. دعوت بعض الحرس لإعداد الحقائب.

 

يستقبلنا الوفاء
خرجنا من الدار الداخلية وشاهدنا السيارات الرسمية يقودها أفراد من الدرك اللبناني. العلم يرفرف على سيارتي. ما أن تحركت السيارات حتى ارتفعت أصوات المعتقلين في الطابق العلوي من القلعة بالنشيد الوطني اللبناني. إننا نسمع التحيات والتمنيات والفرقعة على الأبواب وعلى حديد النوافذ. كادت أساسات القلعة ترتج. دقيقة مؤثرة جدًا. اغرورقت أعين الجميع بالدموع.
ما أن أطلت سياراتنا على ساحة راشيا حتى قرعت الأجراس وعلا الهتاف ولعلع صوت «المعدل» في الجو وهجم الأهالي دروزًا ومسيحيين بكوفياتهم البيض يسدون علينا الطريق للتحية. بلغت الحماسة مبلغها والتأثر أوجه، وراح المستقبلون يوجهون إليّ وإلى رفقائي التحيّات الطيبة فشكرناهم وطلبنا منهم بكل لطف أن لا يؤخروا سيرنا.
انسلّت السيارات تنهب الأرض بسرعة فائقة كأن محركًا آخر يزيدها قوة واندفاعًا، وفي الطريق اخذت السيارات الذاهبة نحو دمشق تقف عند مرور الموكب وركابها يصفقون تصفيقًا حماسيًا وهتافاتهم تخرج من أعماق الفؤاد.
استوقفنا جمهور كبير في شتورا مطلقًا العيارات النارية، وقطعنا المريجات ومخفر ضهر البيدر ووقفنا دقيقة في المديرج.
لما أطل الموكب على وادي حمانا أوقفت السيارة... ودعوت رياض الصلح أن يرافقني وأنزلت العلم القديم وكشفنا السيارة وسرنا بدون علم يتبعنا رفقاؤنا بالاعتقال، واندفعنا بسرعة البرق الخاطف في طريق بيروت، فما مررنا ببلدة إلا لقينا أبناءها حشدًا متماسكًا على طرقاتها يتزاحمون لتحية الموكب، وكنّا نلتقي بسيارات المستقبلين صاعدة لملاقاتنا فيحيينا ركابها وينضمون إلينا. ووصلنا إلى بيروت ومعنا رتل كبير من المرافقين فمررنا بساحة الشهداء من أمام السرايا، واتجهنا نحو البيت وهناك استقبلنا هتاف الجماهير وتصفيقهم وحداؤهم، ولم نتمكن من صعود السلم والدخول إلا بشق النفس فقد تلاصقت المناكب كالبناء المرصوص، ووقف بعضهم على الكراسي والمقاعد، وعلى البيانو أيضًا، وكانت زوجتي وأولادي وأخوتي ينتظروننا في غرفتنا محاطين بأصدقاء كثيرين، فتعانقنا واحدًا واحدًا والدموع تنهال من أعين الجميع، وبلغ التأثر بزوجتي أن كاد يغمى عليها، فخف الأصدقاء إلى إسعافها بالمنعشات.وكنت أنا أملك نفسي من تلك الانفعالات الشديدة لأتمكن من مجابهة الأحداث، فالعمل لم ينته.
أوصلني رياض إلى البيت وألقى التحية على الجميع ومضى إلى داره ليشاهد عائلته.

 

لبنان بين 11 و22 تشرين الثاني 1943: وقائع أيام مباركة من تاريخنا
بين 11 و22 تشرين الثاني من العام 1943، شهدت شوارع بيروت وصيدا والنبطية وطرابلس وسواها، تظاهرات حاشدة احتجاجًا على اعتقال السلطات الفرنسية لرئيس الجمهورية والحكومة وعدد من الشخصيات. الكبار والصغار كانوا في الشوارع يهتفون: «بدنا بشارة، بدنا رياض، بدنا الاستقلال»... نعم الصغار أيضًا، وقد سقط بعضهم شهداء. هؤلاء الذين لا نجد لشهادتهم أسماء في كتب التاريخ، كانوا في التظاهرات عنوانًا لطهارة النضال وقدسيته. هؤلاء لم يدخلوا تاريخ الكتب، لكنهم دخلوا تلك الحكاية المقدسة. حكاية استقلال ناضل من أجله اجدادنا وآباؤنا... في ما يلي توثيق لوقائع من تلك الأيام.

 

الدبابة تدهس الصغار
من الذين رووا وقائع تلك الأيام، رئيس أساقفة جبل لبنان للروم الارثوذوكس المطران جورج خضر، حيث كان شاهد عيان على ما حصل في طرابلس، وقد روى مشاهداته في عدة أحاديث، أحدها كان لمجلة «الجيش». ومما قاله: بحكم عيد الهدنة الذي كانت تقيمه الدولة اللبنانية، تركت بيروت وأنا طالب في الجامعة اليسوعية- كلية الحقوق- تركتها إلى مدينة طرابلس للراحة. وكنت جالسًا في أحد المقاهي حين مرت تظاهرة آتية من المدينة القديمة ومتجهة صوب الميناء. طبعًا، كل شيء كان يدل على أنها تظاهرة سلمية ولم يكن أحد مسلحًا آنذاك، وكان الفرنسيون يجولون في الشوارع بآلياتهم.
كانت التظاهرة مرتبة حسب الأعمار والصفوف، الصغار أولًا يليهم الكبار، وقد انضممت إليها وسرت إلى جانب طلاب جامعيين عادوا من بيروت إلى طرابلس خلال العطلة. لم نمش طويلًا حتى وجدنا أمامنا دبابة فرنسية يقودها جندي سنغالي يأمره ضابط فرنسي. كان الجندي السنغالي يحاول أن يحيد عن التظاهرة، لكن الضابط أمره بالتقدم وإطلاق النار. بدأت الدبابة تطلق الرصاص على التظاهرة، اختبأنا خلف البيوت المتراصة هناك. لكن الدبابة لم تكتف بإطلاق الرصاص بل دهست المتظاهرين. وكان الأطفال أول ضحاياها لأنهم كانوا في المقدمة. سقط منهم 11 تلميذًا تناثرت أشلاؤهم على الطريق. ثم أتت سيارة من الجيش البريطاني، رمينا فيها الجثث بسرعة من دون أن نستطيع التعرف على أصحابها.
تلك الأحداث جعلت جيلنا يشعر بأهمية أن يكون الواحد منا لبنانيًا، كما قال بشارة الخوري ورياض الصلح وصحبهما، غير مرتهن لدولة أجنبية، وغير قابل لحضور دولة أجنبية. شعرنا أننا نحن اللبنانيين أمة واحدة، وكان لأحداث الاستقلال تأثيرها المباشر على نمو الوعي الوطني عندي، وعلى استمرار رفضي الوجود الأجنبي...

 

تحت جنح الظلام  وفي وضح النهار
نقيب الصحافة الأسبق الراحل زهير عسيران كان من الذين شاركوا في معركة الاستقلال بين 11 و22 تشرين الثاني 1943، ومما رواه: بعد أن تألفت الحكومة المؤقتة في بشامون ونشأ حولها الحرس الوطني بقيادة نعيم مغبغب، أصدرت سلطات الانتداب أمرًا إلى المقدم جميل لحود يقضي بمهاجمة «حكومة الثورة» واحتلال بشامون. لكن المقدم لحود لم ينفّذ الأمر بل أعلن تأييده للثورة ورفع العلم اللبناني الجديد على مقر فوجه الذي كان معسكرًا في عين الصحة في فالوغا. هذا الموقف كاد يكلّفه حياته، فالسلطات الفرنسية هي التي كانت تمسك بالوحدات العسكرية اللبنانية.
ويضيف: كانت بيروت مضربة تعمها التظاهرات وعلى رأسها سامي الصلح على صهوة حصانه، وقد منعت السلطات الفرنسية الصحف من الصدور كما منعت توزيع المنشورات. خفنا أن تضمحل الثورة وكنا بحاجة إلى مطبوعة تغطي أخبارها، أصدرنا أنا ونعيم مغبغب وبعض الأصدقاء جريدة «علامة الاستفهام». بدأت السلطة الفرنسية تلاحق المطابع وأعلنت أنها ستعدم أي صاحب مطبعة يطبع «علامة الاستفهام» فصرنا نطبعها في مطبعة «العرفان» في صيدا بعيدًا من رقابة الفرنسيين...
جريدة «البشير» التابعة لليسوعية وبالتالي للجيش الفرنسي، وحدها كان مسموحًا لها أن تصدر، فقررنا إسكاتها بقذف قنبلة عليها، وهذا ما حصل...
في جنح الظلام كنا نوزع المنشورات ونرمي القنابل. كنت أنقل السلاح من بشامون إلى بيروت. في أحد الأيام وبينما كنت عائدًا من بشامون إلى بيروت، أوقفني حاجز في منطقة فرن الشباك. سيارتي كانت مليئة بالأسلحة: ديناميت وبارود ومفرقعات. قلت للعسكري: معي سلاح أحمله للدفاع عن شرفك وشرفي عن وطنك ووطني... أقفل الباب وقال: «الله معك».

 

سرقة الختم
كانت حكومة بشامون تريد أن تبعث برسائل للسفارات ولا بد من وجود ختم. قلت لهم أنا أجلب الختم. ذهبت باكرًا إلى السراي في بيروت قبل أن يصل إليها أحد. لبست ثيابًا توحي بأنني عامل تنظيفات. دخلت إلى مكتب الرئيس إميل إده، أخذت ختم رئيس الجمهورية وعدت إلى بشامون. في ما بعد اكتشفوا سرقة الختم وقالو إن شخصًا يضع نظارات أخذه. اعتقلوا كل الذين يضعون نظارات... أنا كنت وقتها قد وصلت إلى بشامون.

 

قتلى وجرحى في صيدا
في صيدا أيضًا سارت التظاهرات وسقط قتلى وجرحى، ومما رواه الوزير والنائب السابق الدكتور نزيه البزري: قمنا بتظاهرات صاخبة في صيدا لمدة ثلاثة أيام وتواجهنا خلالها مع سلطات الانتداب، فسقط قتلى وجرحى. من الجرحى من لا يزال الآن حيًا، من بينهم الأستاذة يمنى العيد(حكمت صباغ) وهي أستاذة في الجامعة اللبنانية. أصيبت في رجلها أدخلوها إلى المستشفى وكان الطبيب الإنكليزي يريد أن يبتر رجلها المصابة. رفضت ذلك وتمت معالجتها... عندما أطلقوا النار على التظاهرة تفرّقنا. كانت عيادتي قريبة من المكان، لممنا بعضًا من الجرحى وأرسلناهم إلى مستشفى الخليل حيث تلقوا المعالجة.
من بين الشهداء الذين سقطوا في صيدا شخص من عائلتنا. الفرنسيون حاولوا منعنا من إقامة مأتم كبير للشهداء. لكننا أقمنا مأتمًا كبيرًا كان خاليًا من الخطب. بعد ذلك اشتدت الوطأة على المقاومة لقمعها، لكننا استمرينا في تظاهرات متفرقة في المدينة القديمة طوال أربعة أيام. في اليوم الخامس كان لي حظ الاتصال بحكومة بشامون، ووصلتنا الأخبار السارة. توجهنا من صيدا إلى بيروت وشاركنا في الاحتفال.

 

الحرس الوطني ورفع العلم اللبناني فوق مبنى البرلمان
في بشامون حيث أقامت الحكومة المؤقتة في بيت آل الحلبي، تطوع عشرات الشبان لحماية الحكومة والبلدة. هؤلاء شكلوا ما سمي بالحرس الوطني الذي قاده المرحوم نعيم مغبغب.
وإلى تولّيه قيادة الحرس الوطني شارك مغبغب في موقعة الاستقلال بعدة نشاطات، حيث كان يتنقل بين بشامون وبيروت. فقد شارك مع زهير عسيران في تحرير جريدة «علامة الاستفهام» التي تولت نشر أخبار الثورة وما رافقها من نشاطات إضافة إلى اجراءات السلطات المنتدبة.
كذلك قام نعيم مغبغب بإنزال العلم الفرنسي عن مبنى البرلمان ووضع مكانه العلم اللبناني، وقد أصيب حينها بثلاث رصاصات.
يذكر أن احتضان الحكومة المؤقتة لم يقتصر فقط على تطوع الحرس الوطني لحمايتها، فالأهالي تطوعوا أيضًا لتأمين جميع مستلزمات إقامتها من مؤن وغيرها.

 

1945 أول عرض عسكري للجيش اللبناني: المواطنون صفقوا بالأكفّ والعيون والآليات سارت حاملة أسماء جبال لبنان وأنهاره
في 22 تشرين الثاني 1943 نال لبنان استقلاله، لكنّ وحدات الجيش اللبناني ظلّت في عهدة سلطات الانتداب، إلى أن تسلّمتها الدولة اللبنانية في الأول من آب 1945.
في ذلك العام، احتفل اللبنانيون بذكرى الاستقلال مع جيشهم، واحتشدوا لمشاهدة أول عرض عسكري يقدّمه، وصفّقوا له بالأكف وبالعيون الدامعة فرحًا.
إحياءً لذكرى الاستقلال بات العرض العسكري منذ ذلك اليوم، تقليدًا سنويًا لم يغب إلًّا في ظروف استثنائية.
من أرشيف جريدة «النهار» ننقل إليكم النص الذي وصف الاحتفال بعيد الاستقلال في العام 1945، ووقائع أول عرض قدمه الجيش يومها إحياءً للمناسبة...

 
 

ليلة العيد: مشاعل ومصابيح
عشية العيد «ازدانت واجهات السراي ودوائر الشرطة والقصر البلدي بالأعلام اللبنانية وبالأنوار البيضاء والحمراء.. ولبست البنايات المحيطة بساحة الشهداء حلّة قشيبة من الأعلام وسعف النخيل، كما ازدانت الشوارع الرئيسية في المدينة بالأعلام اللبنانية، ولم يرَ بينها أي علم أجنبي. ومنذ الساعة السادسة بدأت الجماهير تحتشد على الأرصفة وفي الشرفات والنوافذ، لمشاهدة طواف الجيش بالمشاعل.
وعند الساعة السابعة والنصف خرجت بعض قطعات الجيش من الثكنات، تتقدمها الدراجات البخارية، فحملة المشاعل، فموسيقى الدرك، تتوسطها أرزة صناعية تألقت الأنوار على أغصانها يحيط بها قسم من حملة المشاعل، فموسيقى الجيش، فحملة المصابيح، وسارت إلى قصر الرئاسة، وكان الأهلون يستقبلون هذا المنظر بالابتهاج والتصفيق.
وأمام القصر أطلّ فخامة الرئيس فاستقبلته الموسيقى بالنشيد الوطني، وطلب فخامته قائد المفرزة إلى القصر وصافحه.
وتابع الموكب سيره إلى ساحة الشهداء ووقف أمام السراي فاستقبله الأهلون بحماسة نادرة، وراحت موسيقى الجيش وموسيقى الدرك تتناوبان عزف الاناشيد. وحوالى الساعة الثامنة والنصف غادر الموكب الساحة عائدًا إلى ثكناته».
 
 

صباح العيد
«كان يوم الخميس (صباح العيد)، يومًا مشهودًا في تاريخ البلاد الحديث، يومًا مشرقًا رائعًا جلا بنوره ظلمة أجيال طغت على البلاد، فقلب باليد الواحدة صفحة من تاريخ مظلم واليد الثانية صفحة لامعة من تاريخ جديد يسجل نهضة شعب أبي. فقد بدأ الأهلون منذ الباكر يزحفون إلى ساحة الشهداء، يحتلّون الشرفات ونوافذ البنايات المحيطة بها والطرقات المؤدية إليها...
وأفاقت بيروت تلبية لنداء جمعية التجار وأسواقها مقفلة اقفالًا تامًا. وقد غصّت الأرصفة بتلامذة المدارس الرسمية والأهلية.
ومنذ الساعة الثامنة بدأ المدعوون يفدون إلى السرادق يعتلون المنصة التي أعدت خصيصًا لهذه الغاية...».
 
 

وصول الرئيس وميدالية الجهاد الوطني
«كانت أنظار عشرات الألوف من الأهلين بعضها يرقب الطرقات وبعضها عالق بالسرادق انتظارًا لوصول فخامة الرئيس المحبوب».
وبعد أن تصف الصحيفة وصول الرئيس، تنتقل إلى مرسوم تلاه وزير المالية إميل لحود ويُمنح بمقتضاه المجاهدون في سبيل الاستقلال، ميدالية الجهاد الوطني، وذلك وفق قرار صادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 21 تشرين الثاني 1945.
 
 

العرض العسكري
«... ثم بدأ الاستعراض، وأول من أطل من الجنود مفرزة تحمل علم الجيش المقصّب تتقدمها الموسيقى، فوقف الناس احترامًا للعلم المفدّى وتعالت الهتافات ودوى التصفيق يشق عنان السماء.
وتبعته قطعات الجيش وفق البرنامج الذي وضعته القيادة العليا، فامتلأت القلوب سرورًا والنفوس افتخارًا بهذا الشباب الوثّاب المنظّم.
هذه قطعة القناصّة اللبنانية تسير أمامها عنزتها المحبوبة، والفرق الخاصّة، والحرس الوطني يحملون الألوية على الرماح، ووحدة الرشاشات، فوحدة الفرسان وقد صفّت خيولها صفوفًا بيضاء وحمراء تمثل العلم اللبناني، فرجال الدرك، فالشرطة».
 
 

الآليات تحمل أسماء جبال لبنان وأنهاره
«مرت الوحدات الآلية تتقدمها سيارات اللاسلكي، فسيارات الدفاع ضد الطيران، فالدراجات البخارية، فالدبابات فالسيارات المصفحة، وقد كتب على كل منها اسم جبل من جبال البلاد: هذا جبل صنين يمرّ ويلحق به جبل الشيخ، فجبل عامل، فجبل الارز، فنهر الباروك، فنهر الصفا، فنهر إبراهيم، وغيرها من جبال البلاد وأنهارها وأماكنها التاريخية.
وسارت وراءها سيارات الإطفائية بنظامها البديع رغم قدم معداتها التي تتطلب التجديد.
ويعجز القلم عن وصف شعور الناس في أثناء الاستعراض. فقد كانت عيونهم تدمع سرورًا وقلوبهم تنبض استبشارًا بهذا الجيش البديع التنظيم... ومرّ الحرس الجمهوري في النهاية، فأحاط بسيارة الرئيس ومشى إلى دار الحكومة، حيث بدأت حفلة الاستقلال الرسمية...».