قضايا إقليمية

مشاعر قلق وخيبة أمل بسبب عدم جهوزية جيش العدو للحرب
إعداد: د. إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

بعد دراسة وتمحيص، تبيّن للمختصين على أعلى المستويات في جيش العدو أنّ اهتزاز توازن الردع في المواجهات الإقليمية المتتالية، على أهميته، ليس وحده مصدر القلق الذي يجتاح العسكريتاريا الإسرائيلية في هذه الأيام. فثمة مصدر داخلي آخر يعصف بالإسرائيليين أيضًا ويأتي على خلفية ناقوس الخطر الذي دقّه مفوض شكاوى الجنود في جيش الاحتلال الإسرائيلي، اللواء احتياط إسحاق بريك، الذي أصدر مؤخرًا تقريرًا رسميًا بقيت تفاصيله سرية، حذّر فيه، بحسب ما تسرّب منه، من عدم جهوزية الجيش الإسرائيلي ولا سيما ذراع البر للحرب.
يقتبس بريك في تقريره أقوال ضباط ميدانيين حذّروا من أنّ «قيادة الجيش تسوّق مظهرًا كاذبًا لجهوزيةٍ أعلى مما هي عليه في الواقع». وقد وصف العسكريون الإسرائيليون جيشهم، بحسب بريك، بأنّه «تنظيم متوسط المستوى ويعاني التآكل إثر أعباء ثقيلة أكثر مما ينبغي، تفرضها عليه مهمات كثيرة، ناهيك عن عدم التفات القيادة العليا للمشاكل، ووجود أزمة معنوية ونفسية شديدة بين الضباط الشبان، الذين لم يعودوا معنيين بالتزام التوقيع على فترة جديدة للخدمة الدائمة بسبب الوضع السائد في الوحدات العسكرية القتالية»، مما يثير تخوّفًا من انهيار المناعة القومية الإسرائيلية.

 

ونقل بريك عن ضابط كبير برتبة قائد لواء قوله: «نشأ وضع في الجيش الإسرائيلي لم يعد يجرؤ فيه أحد على توجيه انتقاد في المؤتمرات، هم لا يتحدثون عن المشاكل. الضباط برتبة لواء يستعرضون أمامنا أنّ الوضع ممتاز، لكنّهم منشغلون بالمظهر وليس بالجوهر. ونحن، الضباط الميدانيين، تحوّلنا إلى مجموعة جبناء. وأنا أخجل لأنّي لم أعد أتحدث عن المشاكل في المؤتمرات، ذلك أنّ الأقوال تنزل على آذان صمّاء». وأضاف أنّ «المفهوم في الجيش اليوم هو تلافي طرح المشاكل، والرسالة هــي: تدبّــروا أمركــم بمــا هــو متوافــر».

 

الوضع آخذ في التدهور
يريد الضباط الكبار الحفاظ على أجواء جيدة، ولذلك لا أحد يقدّهم تفسيرات للانتقادات وعدم تنفيذ الأوامر، إذ ثمة انعدام طاعة في الجيش الإسرائيلي، ومن يطرح المشاكل يُعتبر بكّاءً. الضباط الأقل رتبة لا يحتجّون، خشية عدم الاستجابة لهم، والقيادة العليا تفسر الانتقادات على أنّها تحريض. ويشعر الضباط الميدانيون بأنّ الأفضلية هي لسلاح الجو والاستخبارات والسايبر، وأنّ الذراع البرية باتت موجودة في طرف سلسلة الغذاء. والمثال الأبرز على ذلك هو أنّ جميع الضباط برتبة لواء لم يوافقوا على تولّي منصب قائد الذراع البرية، لأنّهم يشعرون بأنّه لا يملك صلاحيات كافية في هيئة الأركان العامة. ووفق بريك، فإنّ قادة ألوية وكتائب نظامية يعترفون بأنّهم يواجهون صعوبة حقيقية في تجنيد قادة سرايا بنوعيةٍ جيدة لخدمةٍ دائمة وطويلة. وهو يضيف أنّ ضباطًا يعتبرون أنّ «الوضع آخذ بالتدهور». وينقل عن قائد لواء في الجبهة الشمالية قوله: «إنّ الجيش الإسرائيلي فشل في إبقاء الضباط المميزين في صفوفه. فالجهاز لا يرى الأفراد وإنّما اعتبارات المال والتوفير، وهذا يقود إلى انعدام الثقة». ويقول قائد لواء آخر: «نعيّن اليوم ضباطًا ما كنا لنُقدِم على تعيينهم في الماضي إذ لا خيارات أمامنا... ثمة ضحالة في تنفيذ المهمات». إلى ذلك، يلفت نائب قائد كتيبة إلى أنّ «قادة الكتائب منشغلون طوال اليوم في مداولات ودورات استكمال وأيام دراسية. وقائد الكتيبة لا يتوافر في منطقته إلا بنسبة 40% من الوقت الواجب قضاؤه فيها، ولذلك، ليس له تأثير على ما يحدث. والجيش منشغل بالمظهر الخارجي أكثر من الجوهر الداخلي، إنّ جيشنا هو جيش بمستوى متوسط ويواصل التدهور».
 
سجال واسع
أثار التقرير سجالًا واسعًا كونه يمسّ «البقرة المقدسة» والعصب الأكثر حساسية في المؤسسة الرسمية والمجتمع الإسرائيليَين، وبالتالي فإنّه هزّ ثقة الإسرائيليين بقدرتهم، ليس فقط على تحقيق الانتصار والحسم في المعارك المقبلة، بل حتى على توفير الحماية والأمن للجبهة الداخلية المدنية والعسكرية وجبهة مؤسسات الدولة على حد سواء.
اكتسب تقرير بريك الآنف الذكر، أهمية مضاعفة لاعتباراتٍ تتعلق بهوية معدّه، وتوقيت إصداره ومضمونه، وما يترتّب على ذلك من مفاعيل سلبية جدًا من وجهة النظر الإسرائيلية. فمُعِدّ التقرير يتمتع بهالةٍ في الأوساط الإسرائيلية المختلفة، وهو من الشخصيات العسكرية القليلة التي بقيت خارج الانتقاد والتشكيك، على خلفية تاريخه العسكري الناصع كأحد أهم خرّيجي حرب يوم الغفران 1973. كما أنّه يحمل وسام الجرأة بسبب مشاركته في تلك الحرب التي أصيب فيها، وما زالت جراحها تكوي وعيه وتدفعه إلى رفع الصوت عاليًا خشية تكرار أخطائها.
في المضمون، حذّر بريك من عيوب أبرزها: غياب الشفافية في مراقبة الجيش الإسرائيلي، النقص في مخازن الطوارئ الخاصة بالحرب، عدم تمرّس القوات البرية بما يكفي للقتال، تراجع الحافزية للانخراط في الوحدات القتالية، وهروب الأدمغة من الجيش، مما يؤثّر تأثيرًا بالغًا في جهوزيته للحرب.
في المقابل، ادّعى التقرير السنوي الذي رفعه رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت إلى المجلس الوزاري المصغر، أنّ الجيش الإسرائيلي جاهز لتنفيذ أي مهمة يُكلّف بها. والتناقض بين تقرير بريك «المهني»، وبين إعلان آيزنكوت «الوظيفي» هو الذي أشعل السجال ورفع منسوب القلق في الداخل الإسرائيلي.
 
ماذا يعني كل ذلك؟
على الصعيد العملي، ماذا يعني تقرير بريك في كل ما له علاقة باحتمالات مبادرة إسرائيل إلى حرب أو عملية عدوانية واسعة ضد المقاومة في لبنان، أو قطاع غزة؟ جواب هذا السؤال يمكن استخلاصه من قول آيزنكوت: «في نهاية المطاف، لن يتحقق النصر في الحرب إلا من خلال مناورة للقوات البرية تحتل فيها الأرض وتهزم العدو» (القناة العاشرة –26/09/2018). والمناورة البرية التي تحدّث عنها آيزنكوت لتحقيق النصر، إنّما تتطلب في حدها الأدنى جهوزية ذراع البر التي يسود اتفاق واسع في إسرائيل على أنّها غير متحقّقة، وهذا ما يؤكده تقرير بريك وغيره. وفي غياب القدرة على خوض مناورة برية مضمونة النتائج، ترتفع أسهم العمليات العدوانية الانتقائية القائمة على القدرة التدميرية من خلال استخدام النيران الصاروخية البرية والجوية والبحرية. غير أنّ هذا الخيار دونه عقبتان رئيستان: الأولى، أنّ عمليات التدمير لا تجلب نصرًا، ولا تحسم حربًا ولا تدفع تهديدًا، والثانية هي فقدان إسرائيل لاحتكار حصرية القدرة التدميرية، مما يُفقدها التحكّم بتوازن الردع، ويُذيقها مرارة الخيار التدميري الذي ستكون مضطرة لتجرّعه بعد أن بقيت في منأى عنه لعقودٍ خلت.
باختصارٍ، إنّ عدم القدرة على الحسم وفقدان حصرية القوة التدميرية، يفسران المراوحة الإسرائيلية في مربع التهديدات اللفظية واللجوء فقط إلى الطرق الخلفية من اغتيالات وقصف مواقع محددة وإثارة فتن في صفوف الأعداء، وهذه المراوحة والمشاغلة قد يطول أمدها ما دامت موازين القوى باقية على حالها.