مشروع الشرق الاوسط الكبير أو المبادرة المستحيلة

مشروع الشرق الاوسط الكبير أو المبادرة المستحيلة
إعداد: د. نسيم الخوري
استاذ جامعي، المدير السابق لكلية الاعلام والتوثيق، الجامعة اللبنانية

في التسمية

لا يحمل مصطلح "الشرق الأوسط" المعنى نفسه بالنسبة إلى الباحثين والسياسيين، وهو يبدو وكأنه مصطلح متحرك غير مستقر بعد، وربما ما عرف الإستقرار، بالمعنى التاريخي وغيره من المعاني، لا في اللسان الغربي ولا في الترجمات العربية المرادفة له، ولا حتى في أبعاده الجغرافية ومفاعيله وتداعياته فوق رقعة الجغرافيا الآسيو-أفريقية.

فمن "الشرق الأوسط" ويقابلها في الانكليزية "الميدل إيست" إلى "الشرق الأوسط الكبير" أو "الأكبر" و"الواسع" و"الأوسع" كما نقرأ في التسميات الأميركية المستجدة، مروراً «بالشرق الأدنى Moyen orient" أو «المتوسطية الأوروبية» وفقاً للتسميات الفرنسية  والألمانية([1])، تتغير الصياغات السياسية والجغرافية وتلتقي أو تتباين الأفكار والرؤى الاقتصادية والثقافية لمنطقة الشرق الأوسط، وتبدو الجغرافيا الخاصة بتلك المنطقة مفتوحة لتلقف الخرائط والمشاريع والمبادرات، فتتسع لتضم الدول العربية وتركيا وإيران، و«إسرائيل» ودولاً متعددة من آسيا الوسطى ليست محددة بعد، أي مجمل الدول العربية والإسلامية، أو تضيق لتقتصر على عدد محدود من هذه الدول.

وليس أبلغ من قول الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى من أن "السماء تمطر مبادرات" تعبيراً عن واقع الشرق الأوسط بعد غزو العراق، خصوصاً كما قال ان "امر المباردة عاجل يفترض اتخاذ قرار أو موقف([2])" ويعني به المبادرة الأميركية لمشروع الشرق الأوسط الكبير([3]).

يستوقفنا في هذا القول إشارتان:

1-الإشارة الأولى في استعماله لكلمة «السماء» الواقعة في صلب الحدث، مع انه لم يقصدها، فهي تشير ببلاغة كاملة إلى العصر الأميركي أو إلى دول العولمة ونعني بها الولايات المتحدة الأميركية التي اعلنت عصر الفضاء في حروبها ومحاولة سيطرتها "رقميا"» على العالم. تجتاز هذه الدولة الفضاء في خطى مسرعة وتعلن عصر النار بعدما اجتازت في خطاها، ومعها شعوب أخرى كثيرة، حضارتي الأرض والماء أي اليابسة والمحيطات (وهنا تذكير بعناصر الخلق الأربع).

2- ليس أمر المبادرة التي اطلقها بوش للشرق الأوسط عاجلاً، بل أنها تكاد تكون مستحيلة ويصعب ضبطها في زمن محدد أو في اجيال محددة، ولذا وقعت صفة العجالة في غير موقعها... لكنها بطيئة بالطبع.

 

تساؤلات منهجية

وإذا كانت هذه المبادرة - المشروع قد ظهرت مباشرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وخصوصاً في سياق نقل السلطة إلى العراقيين، فإن مجموعة كبرى من التساؤلات تفرض نفسها هنا:

- لماذا مبادرة مشروع "الشرق الأوسط الكبير"؟

- ماذا نعني بالشرق الأوسط الكبير وهل هي تسمية جديدة فعلاً؟ ما هي الابعاد التجارية والاقتصادية والنفطية تحديداً التي تجعل من هذه المنطقة مسرحاً لأطماع الدول الكبرى؟

- ما فلسفة التكتلات في عصر العولمة؟ ما ضروراتها؟

- ما هو المقصود بـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير"؟ ما هي الخلفيات والأحداث التي تقف خلفه؟ وما هو الإطار العام لهذه المبادرة، وعناصرها وآلياتها، وأولوياتها؟ كيف يمكن لمشروع واسع أحادي الجانب من هذا النوع أن يتحقق؟ ولماذا تتلاحق تصورات فرنسا والمانيا حول الشرق الأوسط الكبير مع انهما لم تشاركا في غزو العراق؟

- ما المقصود بتداعيات المبادرة وانهياراتها أمام ردود فعل الدول العربية والإسلامية؟ كيف نحول دون توليد صراع دولي جديد بين  الشرق والغرب من قلب المبادرة؟

- ما هي الآفاق الفعلية للمبادرة وهل يستقيم إصلاح وتطوير نظم ومجتمعات باعتماد افكار مستوردة مفروضة من الخارج؟

- لماذا تبدو المبادرة مستحيلة؟ ألأنها تحاول نسج إسرائيل في الثوب الأوسطي فقط، أم لأنها تحمل مجموعات من الافكار والرؤى النخبوية العربية الأميركية وتحتاج إلى قرون لترجمتها، أم لأنها تبقى مسائل ومشكلات غربية يتم اسقاطها على المجتمعات العربية والإسلامية؟

تعتبر هذه الاسئلة المطروحة على سبيل المثال لا الحصر، نماذج لسلسلة من المشكلات والمسائل الطارئة والغامضة والتي يصعب تحديدها ولو مرحلياً، خصوصاً وأنها تقع في منطقة بالغة التحرك والتغيير، الأمر الذي يفرض تغيراً مستمراً في الأفكار والطروحات، وتعديلات لا تعرف الثبات في النصوص.

وعلى الرغم من هذه الصفة "الرملية الرخوة" الصحراوية في المبادرات والخرائط الكثيرة، نسوق مجموعة من العناوين الكبرى التي تشكل هيكلية البحث في المبادرة الأميركية:

أولا: العرب بين الأمة والشرق الأوسط.

ثانياً: خلفيات مشروع الشرق الأوسط الكبير وأبعاده.

ثالثاً: قراءة هادئة مختصرة لمشروع الشرق الأوسط.

رابعاً: تداعيات الورقة المستحيلة

بالإضافة إلى خاتمة حول تحولات أرض العرب في صراعات الوثائق.

 

أولاً: العرب بين الأمة والشرق الأوسط

لن نناقش في هذا المجال مفاهيم الأمة في تكوينها التاريخي([4]) ومدى ارتباطها بالقومية والوطنية والدولة والدين واللغة والجغرافيا والعلاقة في ما بينها كلها، لكننا سنركز مسار الخط البياني في استخدام الأمة العربية وتراجعه أمام تقدم ما يعرف بالشرق الأوسط الذي يعني في أبعاده السياسية مرادفاً نقيضاً هو "إسرائيل". ويلحظ بسهولة أن عدداً كبيراً من المعطيات يعمل على خرط "إسرائيل" ودمجها فعلياً في المنطقة مقابل سلخ الصفات القومية والعروبية عن العرب. ويقتضي تناول العرب وفهم معاني توسطهم بين الأمة والشرق الأوسط الكبير أن نقدّم ملاحظات أربع بالغة الأهمية:

 

1- تقدم «إسرائيل» في نصوص العرب

كان مصطلح "إسرائيل" محرماً في نصوص العرب وخطب زعمائهم ووسائل إعلامهم المكتوبة. ويكفي استرجاع هذه النصوص لتلمس إصرار العرب على المصطلح الطبيعي المعروف بـ «الأراضي المحتلة أو فلسطين المحتلة أو فلسطين» منذ العام 1948 حتى الثمانينات، حيث حلت مرحلة ثانية راح العرب يكتبون فيها مصطلح «العدو أو المغتصب الإسرائيلي» بين قوسين سقطا في مرحلة ثالثة ومعهما سقطت مجموعة من الصفات التي كانت تنعت بها «إسرائيل» وراح العرب في مرحلة رابعة يكتبونها في نصوصهم واحياناً يسبقون المصطلح بتعبير دولة فتصبح دولة «إسرائيل» يضعونها بين مزدوجين إشارة إلى عدم الاعتراف بها([5]).

في المرحلة الخامسة نزعت الكتابة العربية القوسين من حول كلمة «إسرائيل» وصارت حاضرة في نصوصنا دولة مثل باقي الدول الاخرى في العالم، تمهيداً للمرحلة السادسة التي ترسخت مع اتفاقية كامب ديفيد وما اعقبها من تداعيات ومتغيرات على المستويين العربي والعالمي.

بدت إسرائيل منذ توقيع هذه الاتفاقية([6]) واقعاً مادياً قريباً محققاً مع اكبر عاصمة عربية بعدما تحقق لغوياً وإعلامياً. وعلى الرغم من ردود الفعل التي كانت عسكرية من قبل  العرب تجاه "إسرائيل" وتحولت في ربع قرن لتقتصر عل الممانعة والمراهنة على الفروقات الديموغرافية في النمو السكاني بين العرب و"إسرائيل" كحّل في الصراع، واهن بالطبع، فإن احتلال العدو الإسرائيلي واجتياجه لجزء من لبنان، وخصوصاً العاصمة بيروت، أظهر بعض العرب متأهبين للواقع الجديد. وهنا «انفتح الكلام العربي مجدداً على ظهور حيز كبير من التواطؤ والانهيارات بين العرب والعاملين في الخفاء والريبة والمنخرطين في النضال»([7]).

هكذا نرى إلى الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء مجموعة من التحولات اللغوية والتداعيات العربية في فترة ربع قرن. فمن فلسطين إلى غزة وأريحا نشهد طرائق انزلاق الكيان الإسرائيلي «خلسة»، حرباً وسلماً في الاذهان والنصوص وعبر مجمل الوسائل المتاحة والممكنة، وخصوصاً غير المباشرة، ووفق ميادين وخطط الإعلام الكثيرة الخفية التي يتقنها العدو ويبرع فيها([8]).

وبدأ أطراف الصراع يغرقون تدريجياً في خرائط جديدة وتسميات متعددة، وبدا العرب منقادين في مجملهم إلى مفاوضات السلام وفق منطق الاستفراد أو الاستقواء الإسرائيلي الذي يؤدي إلى الاستفراد طوعا، تصاحبه ضغوط أميركية اقتصادية وسياسية. وبدت ملامح السلام نافرة وفق المقاييس «الإسرائيلية» أمام تراجع العرب وتفرقهم وصراعاتهم.

المفارقة الخطيرة في «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، موضوع «بحثنا»، ليس تقدم إسرائيل في نصوص العرب، بل تمهيده لظهورها في نصوص المبادرة جزءاً أساسياً من دول الشرق الأوسط، وخارج أطر الصراع المستمر بينها وبين الفلسطينيين والعرب، فإسرائيل جزء أساس في المبادرة.

 

2- تراجع القومية العربية

يقابل التقدم«الإسرائيلي» للإنخراط في منطقة الشرق الأوسط تراجع فعلي في الحضور العربي، بل غياب خطير لاستخدام المصطلحات القومية

الوحدوية مثل «الأمة العربية» أو «الوطن العربي» أو «القومية العربية» والتي

تبدو مادة تراشق بين النخب العربية من على شاشات الفضائيات العربية. الأخطر من ذلك كله ان هذا التراجع يأتي مصحوباً بتعزيز الخطاب العربي المستغرب لمصطلح الشرق الأوسط الجديد، حتى ان بعضاً من منظري البنك الدولي من أصول عربية حّرضوا على انشاء قسم يعرف بالـ Menarégion أي الاختصار لمنطقة الشرق الأوسط([9]) وهو ما بدأ يظهر بشكل أكثر وضوحاً، أيضاً، في الجامعات والخرائط والشاشات العالمية الأميركية والعربية.

يرشح هذا التوجه الجديد من الضرورات التي اقتضتها العولمة حيث انحسرت الدول في حدودها التقليدية وروابطها القومية وانكسار مصطلح العالم الثالث وذوبانه في تجمع عالمي كبير يقابله العالم الأول أو دولة العولمة أي الولايات المتحدة الأميركية.

 

3- الشرق الأوسط مسرح صراعات القرن الـ 21

منذ أن آلت الحرب الباردة إلى الإنتهاء، تحولت منطقة الشرق الأوسط، بدلاً من أوروبا، مسرحاً زاخراً بالعلاقات الدولية المتأزمة. كانت كل مخططات الصراع الدولي حافلة بتوقعات الاجتياح السوفياتي لأوروبا الغربية، الأمر الذي كان يستوجب دفاعاً اميركياً عنها، لكن بعد سقوط جدار برلين وأطروحة "صدام الحضارات" وزوال الاتحاد السوفياتي، برز كلام جديد عن «مواجهة بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وبأن الشرق الأوسط خط التماس بين الحضارتين... وبالرغم من أن كثيرين لم يوافقوا على أطروحة هاننغتون في «صدام الحضارات» وعلى رأسهم الرئيس الأميركي بيل كلينتون آنذاك، فإن هذا الفكر كان يعكس تطلعات بعض النخب الأميركية حول هذه المنطقة التي اعتبروها مصدر تهديد لهم ومصدراً للموارد الأولية"([10]).

تخطت المسائل، إذاً، البعد اللغوي، على الرغم من أن اللغة والتعابير ترشحان من الفكر والمضامين، وتتم صياغتهما عن طريق الفكر، فبانت عملية انتاج المصطلحات وتوليدها نوعاً من تجسيد مشاريع وأفكار مطروحة لتعميمها على بلاد العرب والمسلمين من قبيل الترويج لإعادة تشكيل الأفكار والقناعات والأوطان وبشكل فعال قادر على صوغ مستقبل البلدان العربية والإسلامية بأقل قدر ممكن من الخسائر والممانعة.

وباختصار يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية جهدت في تاريخها المعاصر للتخلص من الخطر الأحمر الشيوعي، متكئة في ذلك على منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً المسلمين فيها، لتطويق البلدان الإلحادية ونسفها من الداخل، مع الاحتفاظ بكل الوسائل التي تؤمن لها تفجير المسلمين الدائم من الداخل، وذلك عبر تعزيز الأنظمة الجاهزة (préfabriquées). وعمدت أميركا في الوقت نفسه إلى  مهادنة الخطر الأصفر الصيني من دون أن يكون الصراع واقعاً، بل مؤجلاً بينها كدولة قائمة عالمياً وبين الصين كدولة قادمة عالمياً ولو من الباب الاقتصادي المضبوط إلى حد كبير.

ماذا تفعل الولايات المتحدة اليوم؟ تهاجم «الخطر” الأخضر الإسلامي من وجهة نظرها، إذ توصمه بالارهاب. تريد النجاح حيث اخفق الاتحاد السوفياتي  من قبل، لكن المغامرة الأميركية في أفغانستان صعبة، أو يصعب الوصول بها إلى نهايات محسومة، خصوصاً وأن وعورتها قد شكلت شوكة قاسية في خاصرتي بريطانيا والاتحاد السوفياتي. وقد وقفت دول بالصف تفتح ذراعيها، في الشرق الأوسط، للتحالف الصغير في شمالي أفغانستان كما للتحالف العالمي الكبير.

هكذا أقفلت أميركا القرن العشرين على حرب  كان العرب والمسلمون ضحاياها، وافتتحت القرن الحادي والعشرين على حرب لا هوية لها متنقلة غير محددة يبدو العرب والمسلمون ضحاياها وليس لهم فيها سوى الامتثال للأوامر الأميركية والطاعة العمياء لما ترسمه لهم.

ولهذا بتنا نتحسس شروخاً فعلية في بعض مناطق الشرق الأوسط، تشتد وتقوى بين الحكومات الإسلامية والعربية وشعوبها. تنصاع الأنظمة لأميركا، أما الشعوب فترفض الاثنين، وتبدو مجمل الدول أحجاراً تتحرك فوق رقعة شطرنج شاءت أميركا تسميتها "بالشرق الأوسط الكبير".

قد يعكس التردد في الصياغة والتغيير في الطروحات بين المسلمين والغرب الأميركي نوعاً من عدم الوضوح في إيصال معاني التغيير والافكار الغربية المتنوعة. وتبرز المفارقات في نشر خط التغيير الديمقراطي الأميركي صارخة، بين أن تأتي نابعة من حاجات الشعوب، أو مستوردة من أميركا كالمقتنيات، بين أن تأتي نابعة قسرياً أو اختيارياً، في زمن قياسي أو في بطء وتطور طبيعيين. لهذه الأسباب يتبيّن بأن التغيير الأميركي المفروض يترادف مع مجموعة من الصفات السلبية التي تعني التفتيت أو التفكيك والانفصال وانهيار الأنظمة العامة وانتشار الفوضى والتخلي عن الهوية ونسف الثقافات والأديان وغيرها من النوايا التي تستبطنها مشاريع من هذا اللون.

و تترافق هذه المتغيرات في الأسماء والأشكال مع استذكار لخطط التطبيع الخفيّة التي لطالما برزت فيها بصمات العدو الإسرائيلي طيلة خمسين عاماً، وبرز حاداً في ما نفذته وتنفذه الإدارة الأميركية في العراق وقبلها أفغانستان وفلسطين، وما رافقها من تنكيل وخرق لأبسط القواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان.

في ضوء هذا كله، جاء الرد الطبيعي الأولي على مبادرة الولايات المتحدة الكبيرة لشرق أوسط كبير رفضاً قوياً عارماً سرعان ما تمّ ربطه بـ "مشروع شيمون بيريز" عن"الشرق الأوسط الجديد". وبرزت إلى العلن مشاعر القلق والتوجس (مصر، سوريا، السعودية)، أو مواقف الحذر والتروي الهائل الى المطالبة بالحوار مع الأميركيين قبل اتخاذ أي موقف (بعض دول الخليج)، أو الانقلاب الجذري والاذعان (ليبيا) أو المواقف الصامتة من قبل عدد كبير من الدول العربية التي غالباً ما تشعر بأنها محشورة بين المطرقة والسندان أمام أي موقف متعلق بالولايات المتحدة الأميركية أو العدو الصهيوني.

وبشكل عام وبصرف النظر عن الاعتراضات العميقة التي تثيرها أغلبية العرب تجاه السياسات العدوانية الأميركية في بغداد وفلسطين، فإن جزءاً كبيراً من الرأي العام العربي والمثقفين بات يقرّ من على الشاشات وفي وسائل الإعلام أن دخول الولايات المتحدة الى المنطقة سيشكل حتماً عامل تغيير يزيد في كشف الأنظمة وعورات النخب وضيق المعارضين وتبرّمهم من الأوضاع العامة.

لكن النقطة السوداء في كل ذلك المشروع والتي تجعله غير قابل للقراءة الواضحة هي الدور «الإسرائيلي” في ما يحصل في رسم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. هذا ما انعش فكرة المؤامرة مجدداً، باعتبار الولايات المتحدة، بكل قوتها وجبروتها وفلسفاتها في العولمة الإقتصادية الفكرية والثقافية، تهيئ نسيجاً طيّعاً للمخططات الصهيونية، تؤثر بها وتحولها وتسخّرها بطرائق غير مباشرة في سبيل تنفيذ مشاريعها الجهنمية، فبات المشروع مبادرة «شيطانية» غير مقبولة.

فما هو المقصود بالشرق الأوسط؟

ما هي حدوده وشعوبه؟

وما هي المرتكزات الاستراتيجية التي يتفّرد بها والتي تكسبه هذا الغنى التاريخي أو تلك الشهرة؟

 

4- مساحة مثقلة بالتاريخ

يغطي الشرق الأوسط، في مفهومه الواسع تاريخياً، مساحة شاسعة تصل الى ثمانية ملايين كلم2، تمتد من مصر حتى أفغانستان شرقاً، وفوقها يتوزع ستة عشر بلداً عربياً واسلامياً تتفاوت في أعداد سكانها([11]). فبينما نجد بضع مئات من ألوف السكان يؤلفون دولاً مثل قطر والبحرين، يرتفع عدد السكان في بعضها الآخر الى ما يلامس المئة مليون، مثل مصر وإيران واستراليا.

تعتبر هذه المساحة موئلاً «لموزاييك» شديد التنوع من الأمم والأتنيات والمذاهب، ومحط أطماع قوى ودول غربية كبرى، الأمر الذي راكم فوقها تواريخ موصولة بالرفض والاحتجاج والثورات لشعوب طالما عانت مشاريع التقسيمات والتجزئة. وقد لا يغالي الباحث بالنظر إلى هذه الرقعة الجغرافية الواسعة بوصفها رقعة «puzzele» بازل أو دمية سهلة التفكيك وإعادة التركيب بين أيادي الدول العظمى، لكنها رقعة تفور بالتاريخ والأحداث.

يمكننا أن نميّز فوق خارطة  هذه الرقعة جزءاً تركياً - ايرانياً (ايران، تركيا، افغانستان) وهلالاً خصيباً يجمع العراق والأردن وسوريا ولبنان، وقد زرعت فيه الدول العظمى "إسرائيل" مكان فلسطين وأورثت العالم تاريخاً من الحروب والاشتباكات الانسانية والقانونية، وقد ألهم هذا التشكل المستدير من الدول أفكاراً في القومية والوحدة والعلمانية (انطون سعادة مثلاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي).

ونميز في الرقعة نفسها باقة من دول شبه الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية، البحرين، الامارات العربية المتحدة، الكويت، عمان، قطر واليمن) كما نميز مصر في شرقي افريقيا، وكلها دول وشعوب تتفاعل حضارياً منذ القدم.

 

أ - ثقاقات النيل والفرات

هذه البقع الاربع على تنوعّها جعلت من الشرق الأوسط منطقة مثقلة بأحداث التاريخ منذ القرن السابع قبل الميلاد. وقبل ان تتقدم مهداً للديانات التوحيدية الثلاث، قامت في ارجائها الامبراطوريات الأولى لحضارات ما بين النهرين بين القرنين الرابع والثاني ق.م حيث صيغت تلك الحضارات بتلاقي مجموعة كبرى من ثقافات السومريين والساميين والحثيين والحوريين، نضيف اليها ثقافة النيل وخصوصاً بعد توحد مصر الفرعونية منذ الألف الثالث ق.م، الى الامبراطورية الأشورية التي أرست معالمها الحضارية خلال الألف الأول قبل المسيح([12]).

وترسخ النيل والفرات كرمزين تنبع منهما الثقافات والحضارات يتكاملان، ومنهما تنهل شعوب وحضارات موزعة فوق الكرة مالا يستنفذ من المعارف والأسرار والثقافات.

وقد توّجت مياه النهرين تلك الحضارة العربية - الإسلامية التي أرست ملامحها أيضاً عن طريق الانتشار الديني ومنبعه الوحي، مستندة الى لغة العرب وخصائصهم في التاريخ (660 - 1258 م).

وكان يجب انتظار القرن السادس عشر الذي بسطت منذ بدايته الامبراطورية العثمانية سلطاتها على مجمل هذه الرقعة باستثناء بلاد الفرس وأفغانستان والقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية.

لم تعرف تلك المنطقة هندسة سياسية معاصرة الا مع انهيار الامبراطورية التركية العثمانية ونشوب الحربين العالميتين، حيث راحت الدول تأخذ طرقها تباعاً نحو التحرر ومن ربقات المستعمرين. فقامت دول وأمم قديمة حديثة مثل مصر وايران، الى دول حديثة جاءت حدودها ثمرة توافق مصالح بين الدول الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا.

وباختصار، بقيت الحدود مثاراً كبيراً لنزاعات داخلية بعد سايكس - بيكو حيث تجزأت المنطقة، وكان خلق «إسرائيل» نوعاً من اضافة موقد إضافي دائم الاشتعال لنزاعات أخرى مستمرة([13])..

 

ب- بقعة التشابك بين الشرق والغرب

بالاضافة الى الشعوب والثقافات التي شكّلت غنى الشرق الأوسط، فإنه منطقة واقعة على جغرافيا التماس بين أقصى الغرب والشرق على السواء، وقد سمح هذا الموقع الجغرافي المميز لشعوب تلك المنطقة القدرة على التواجد الطبيعي على الطرق التجارية التي توصل اقتصاد الغرب بأسواق الشرق ومنتوجاته، وهذا ما منح تلك البقعة قدرات تفاعلية خلاّقة مع الشعوب الأخرى والأقليات الإثنية والأمم المتنوعة، حيث كان من الطبيعي أن يصبح الشرق الأوسط، ليس ممراً وطريقاً، بقدر ما هو المنبع للتنوع اللغوي والثقافي والحضاري والعادات والتقاليد، والمصهر لمجموعات من الشعوب والأديان.

هذا الغنى الطبيعي السماوي يرفله غنى من نوع آخر، وهو أرضي كبير جاء بتفجّر البترول([14])، وهما اللذان منحا تلك البقعة الفريدة من الكرة هذا القدر من الاهتمام. وتحفل المكتبات بالتفاصيل والقصص والدراسات المرتبطة بالشرق الأوسط البترولي الذي يشكل بهذا المعنى محط أنظار العالم. نكتفي بالاشارة في هذا المجال الى أن دولاً معاصرة ثلاث تلعب في ميدان سلامة وتصدير النفط أدواراً كبيرة، هي المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، مصر للمراقبة عند السويس وحماية ناقلات النفط، وتركيا محطة الترانزيت للنفط العراقي، بينما تلعب السعودية الدور الأكبر بالطبع لتأمين ضخ بترولها مع الاشراف على مبيعات دول مجلس التعاون الخليجي من النفط.

 

ج- المعطيات الجيوسياسية الجديدة

فجّرت الحرب العراقية الايرانية (1980 - 1988) ذاك الاحتقان الذي كان سائداً على ضفاف الخليج بين شعبين تأسسا على الصراع عبر التاريخ، وخصوصاً في أعقاب توطيد الثورة الإسلامية في طهران وطرد الشاه (1979). ولطالما شكّل شط العرب وكازاخستان حافزي الصراعات بين البلدين منذ القرن الثامن عشر، وكان الفرات (204 كلم) النهر الطبيعي الذي يرسم الملامح الحدودية بينهما على امتداد 105 كلم. يمكن القول انه نهر قديم تاريخي، سياسي وثقافي كان يفصل بين الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية أو بين عالمين عربي وآري كما بين طائفتين اسلاميتين سنية وشيعية، ولقد حوّله البترول الى مجرى مائي تعقد فوق مياهه التبادلات الدولية في ميادين الطاقة: عبادان على ضفته اليسرى حيث تقوم أضخم مصافي بترولية في العالم، والبصرة والفاو على ضفته اليمنى تشكلان رئتي الاقتصاد العراقي ([15]).

وقد لعب رسم الحدود فوق صفحة النهر شاغلاً أدى الى مجموعة تسويات واتفاقيات (ومنذ التواجد التركي في منتصف القرن السابع) بين الفرس والامبراطورية العثمانية ومن ثم بين العراق وايران، كان آخرها اتفاق الجزائر (1975).

وخرجت الدولتان الايرانية والعراقية منهكتين في العام 1988 من الحرب وبرعاية الأمم المتحدة، لكن العراق المديون، المدجج بأسلحة روسية وغربية ومساعدات عسكرية متنوعة وكبيرة أظهرته قوة أساسية لا يستهان بها في الخليج، تكاد تهدد «إسرائيل»، وتستعيد مجد إيران الشاه في المنطقة، وكان صدام حسين يتطلع الى وضع تلك الحركة النفطية في الرقعة المتوسطية تحت لحظه ومضاعفة مخزونه، مما دفعه الى غزو الكويت (2 آب 1990). ولأن المصالح الغربية باتت في الميزان الدقيق، كان التحالف الكبير الذي ضم 29 بلداً أرغم وبواسطته، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، العراق على الانسحاب من الكويت ووقف اطلاق النار (في 26 شباط 1991)، وهذا ما عرف بحرب الخليج الأولى او "عاصفة الصحراء".

مع «عاصفة الصحراء» تحولت رقعة الشطرنج الشرق أوسطية سياسياً واستراتيجياً، واهتزت من دون متغيرات كبرى في الترسيمات الحدودية، وتحركت أحلام الشيعة في جنوب العراق، والأكراد في شماله، بعد الهزيمة العراقية وانكفاء صدام الى داخل أراضي العراق، من دون ان تفضي الأحداث الى أي اعادة نظر جغرافية.

هناك معطيات أساسية برزت على مسرح الشرق الأوسط وباتت في دائرة الضوء الساطع بعد هذه الحرب العاصفة:

1- ظهور التفوق الأميركي المطلق في المنطقة تأسيساً لمستقبل رقمي سياسي واقتصادي واجتماعي وحتى ثقافي ولغوي.

2-انقسام الدول العربية بين من هو في ركب التحالف ومن هو خارجه، الأمر الذي ساهم في تزكية التجاذبات والاتهامات بين الاطراف الاقليمية.

3- اما ايران التي غلبت الحيادية على موقفها من «عاصفة الصحراء» فهي لم تنس امنية اعادة لعب دور شرطي الخليج التي دفعتها استحالة تحقيقه الى قيادة سياسية فاعلة في آسيا الوسطى وفي بلاد القوقاز.

4- جهدت المملكة العربية السعودية لإظهار دورها في مراقبة سوق النفط في المنطقة، لكن أوضاعها الديمغرافية والعسكرية جعلتها تظهر وكأنها مرتبطة أمنياً وأكثر من أي وقت مضى بالحماية الأميركية.

5- بدت سوريا البلد الاكثر فطنة وحذراً في إيجاد العبر المفيدة من الصراع، وعلى الرغم من مشاركتها في التحالف، فإن نجمها راح يسطع وحيداً تقريباً على مسرح الشرق الأوسط، وتمكنت من تقديم نفسها قوة اقليمية كبرى وازنة وموزونة ويحسب لها ألف حساب، وبلغت وتيرة التنسيق فيها مع لبنان أرفع مستوياتها واكثرها جدوى وقوة.

6- لقد أسقطت «عاصفة الصحراء» أسطورة قائمة منذ 1967 إسمها العراق. ولم تعد الأراضي الفلسطينية على الاقل بالنسبة «لإسرائيل» تشكل "العمق الاستراتيجي" القديم المشهور في وجهها، وجاء اعلان المبادئ الذي وقّع في واشنطن (في 13 ايلول 1993) القائل بالإدارة الفلسطينية الذاتية لقطاعي غزة والضفة الغربية محفوفاً بصعوبات تطبيقه بل باستحالته، وذلك منذ عودة ياسر عرفات الى غزة في تموز .1994 والسبب ان الانتفاضة الفلسطينية التي ابتدأت بالمقلاع تسارعت نحو خطر اقتلاع الفلسطينيين من فلسطين أمام وحشية السياسة الإسرائيلية ولاسيما تلك التي يمارسها شارون حتى اليوم. وبقيت مسألة انشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية ملفاً مفتوحاً على الدم، وعلى الرغم من أن الأردن قد وقع معاهدة سلمية مع إسرائيل (في 26 تشرين الاول 1994) فإن مسارات مدريد([16]) بانت معطلة، ومقولة الأرض مقابل السلام بقيت شعاراً لا ينطبق أبداً مع واقع الممارسات الإسرائيلية التي اسقطت قداسة حدود 1967 بالنسبة للعرب وللعالم، وعزّزت الاستيطان وزجّت بآلاف المعتقلين في السجون وبات سقوط الضحايا والشهداء قوت الأراضي المحتلة اليومي، والدوائر الكبرى تهمس "بالترانسفير" على صعوبته.

7- وفي التقدير إن توقيع أوسلو (19 ايلول 1993) كتتويج لمفاوضات منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل هو المحصلة لكل هذه الممارسات، أو إنه جاء «محصّلة لتراكم الهزائم والاخطار والانتكاسات العربية والفلسطينية في ظل انفراد الولايات المتحدة الأميركية في السيطرة على العالم» ([17]).

وفي الخلاصة لم يكن هذا التأرجح العربي بين الامة وانفلاتها في مساحات واسعة كالشرق الأوسط أمراً سلساً للقيادة العربية المتشظية في أكثر من اتجاه، بل كان نتيجة طبيعية لتراكم الهزائم وتضافر المخططات وتسارع الأحداث الكبرى التي عجّلت في صوغ مشاريع جديدة للشرق الأوسط او سحب مشاريع قديمة من دون تعديلات كبرى عليها.

فما هي الاحداث الجديدة التي أظهرت لنا مشروع الشرق الأوسط الموسّع؟

 

ثانياً: خلفيات المشروع وأبعاده

تذكرنا المبادرة الأميركية التي تطلق مشروع الشرق الأوسط الكبير ببدايات القرن الماضي، عندما راحت الدول الكبرى تنظر الى الامبراطورية العثمانية بوصفها "الرجل المريض" الذي نضج زمان اقتسام أراضيه وخيراته، بما فيها البلاد العربية التي شكلت اجزاء من تركته آنذاك.

وهكذا حملت تلك المرحلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية متغيرات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، اذاً، واقتسمها الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) بعدما أبرموا عدداً من الاتفاقات، خصوصاً سايكس - بيكو (1916) ثم مؤتمر سان ريمو الذي رتّب الأوضاع القانونية في اقتسام لبنان وسوريا وفلسطين وأجزاء من العراق. واذا كانت اوروبا ممثلة بسايكس وبيكو قد وضعت حجر الأساس للبناء السياسي لمنطقة الشرق الأوسط مجزءاً في اعقاب الحرب الكونية الاولى، فإن أميركا ممثلة بجورج مارشال ([18]) جاءت تضع البنيان الاقتصادي للعالم بدءاً من اوروبا وفي أعقاب الحرب الكونية الثانية.

وها هي تخرج من الشراكة فتبدو "مارشالاً" جديداً تضع يدها على المنطقة، وتقدم مشروع الشرق الأوسط الكبير فتعتبره في الفقرة الاولى منه انه «ضرورة للعالم لأنه منطقة تشكيل فرصة فريدة للمجتمع الدولي".

إننا أمام دولة عالمية تعيد صياغة المنطقة وتحديدها وفقاً لعلاقات جديدة لا تحترم خصوصيات الأوضاع السياسية لبلدان الشرق ولا تبالي بالأبعاد الخطيرة للصراع العربي - الإسرائيلي المزمن.

قد يكون مفيداً القفز فوق المكّونات التاريخية القديمة المتراكمة التي أوصلت الى هذا المشروع، والاستغراق في ربطه أكثر بمجموعة من المكّونات الأقرب في أحداثها الى زمن المبادرة التي سرعان ما وضعت مشروعاً خاضعاً لنقاشات وتجاذبات طويلة في المستقبل.

فما هي هذه المقومات والاحداث الجديدة؟

 

1- "مصيبة" 11 ايلول 2001

يشابه هذا الحدث «المصيبة» التي لحقت بالقرن الواحد والعشرين، لأنه يشابه التاريخ الميلادي الثاني بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، يمكننا ان نؤرخ لما قبله وما بعده. فقد سقطت معه مثلاً رمّة واحدة تلك الفترة الانتقالية التي كانت قائمة بين انهيار معالم الحرب الباردة وتكوّن ملامح النظام العالمي الجديد.

فمع انهيار البرجين في أميركا الى مبنى في البنتاغون، وانهيار برج بابل في بلاد ما بين النهرين حيث تبلبلت الألسن واللغات في ما بين شعوب الأرض، تشابه كبير. لم يصل أهل بابل (العراق القديم) إلى السماء لكن أميركا هبطت بعد تلك المصيبة من عصرها الفضائي، وكأننا كنا نعاني وقع سقوط العولمة الذي التي لم تنضج بعد، ولم يهضمها الكثير من شعوب الشرق الأوسط، او انهم لم يستوعبوا مراميها وأفكارها الكثيرة، وبهذا التبست مجمل الأفكار والنظريات التي كانت تفخر أميركا بتقديمها الى الشعوب وكأنها تشابه المطر ولا يمكن التحكّم به.

قد لا نعرف حجم الأفكار والتحليلات والاسقاطات والأضاليل الكثيرة والأسرار المتخفية تحت ركام البرجين من دون اشهار نقطة دم واحدة في وجه العالم. كان يمكن التصور بأن وراء نضوب الدم الأميركي أنهار من الدماء العربية والإسلامية تنتظر في آفاق الشرق الأوسط بالاضافة الى رفع مقولة القرن أن لا فعالية سياسية في عالم اليوم خارج الفعالية العسكرية «الرقمية».

وقد صاحب هذه المقولة توجس دولي ينذر بهويات جديدة وتحولات كبرى قد تطول أو تقصر طبقاً للحروب المفتوحة. فقد أحدث الهجوم على أميركا انقلاباً جذرياً شاملاً في سياستها العالمية وخصوصاً الشرق الأوسطية منها، وأظهر الأميركيون مواقف مفرطة الحساسية تجاه مشاكل الأمن القومي والعالمي، وقد استقر في يقينهم أن الشرق الأوسط هو أحد أهم مصادر التهديد الرئيسية، ان لم يكن المصدر الأول لتصدير «الارهاب» وتهديد الأوضاع الأمنية في العالم.

إنها «مصيبة» لكنها المصيبة الأكبر في العالم كما أبرزتها أميركا، فالحادث يحتل القرن الراهن على المستويات العسكرية والسياسية والمالية والأمنية والثقافية.

أليست الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأكبر في العالم؟

يكفي مراقبة اسمها الطويل وأبراجها الشاهقة الأكبر في العالم، وسياراتها وبرّداتها (ثلاجاتها) وجاداتها وقوة الـ bits في حواسيبها، لتكون مصيبة 11 ايلول أيضاً «المصيبة» الدولية الأكبر، أيضاً، في العالم. والملاحظة الطريفة التي تؤكد بأن الدول مثل الافراد يسقطون أحجامهم في تطلعاتهم وافكارهم ورؤاهم، تجعلنا ندرك سلفاً أن المشروع المسمى بـ «مشروع الشرق الأوسط الكبير» هو كبير الى درجة لا يمكن تصّورها، وتكفي مقاربة تفاصيله لندرك مدى كبر «المصيبة» الأميركية التي تشكل حافزاً واضحاً لتغيير معالم الشرق الأوسط بل العالم كله، وكأن الفكر العالمي اليوم، بهذا المعنى، أمام أميركا دولة العولمة من ناحية، والعالم كله من ناحية ثانية. وبهذا تسقط تسميات مثل العالم الثاني أو الثالث في توصيف الدول اذ تبدو أميركا وحيدة والعالم كله ثالثاً ([19]).

ليس هناك من شكوك في ان الإدارة الأميركية التي تتقن الحفاظ على مصالحها الحيوية الواسعة الأطراف، لم تتردد يوماً في التذكير بها في الشرق الأوسط، وهي تشعر منذ الحادي عشر من أيلول على الاقل بأن النظم العربية المشرقية والإسلامية خصوصاً، والتي رعت انشاءها وساهمت كثيراً في تعزيز سيطرتها وبقائها، قد أصابها الوهن ولم تعد تقوى على حمل المسؤوليات التي كانت الأسباب الأساسية في تقديم الدعم الشامل لها.

ويأتي في رأس هذه المسؤوليات تحقيق الاستقرار والسلام الاقليمي والعالمي، والرد الجزئي على حاجات مجتمعاتها المحلية حتى يمكن ضمان الأمن والاستقرار فيها. فقد خسرت هذه النظم معركة الاستقرار والسلام الاقليميين ولم تنجح في ضبط القوى والمنظمات الأهلية المقاتلة ضد إسرائيل، ولم تقبل بتسوية عربية إسرائيلية تضع حداً لمناخ المواجهة والعنف في المنطقة، وتفتح الطريق أمام ما يبدو حملة اخضاع وتهدئة شاملة لمجتمعات المنطقة وشعوبها. والمفارقة في المنظار الأميركي دوماً أن عدداً من هذه الانظمة المتضامنة في اطار الجامعة العربية لا تتورع هي نفسها عن دعم بعض منظمات المقاومة «الارهابية»، وتشجع بالتالي على العنف وزعزعة الاستقرار الاقليمي والعالمي.

والواقع ان الشعور العميق بولادة نمط تهديدات جديدة وخطيرة على الأمن الأميركي والعالمي، لم ينشأ بسبب من هذا الهجوم النوعي من الناحية الاستراتيجية، ولكن أكثر من ذلك بسبب ارتباطه بمنظمات اسلامية كانت تعتبر حتى ذلك الوقت احدى أدوات الصراع السياسي الرئيسة التي تستخدمها الولايات المتحدة نفسها، سواء اكان في ضغوطها السياسية على الأنظمة العربية، أم في مناوراتها الاستراتيجية الكبرى، كما في أفغانستان، وقبلها في «تحويق» الاتحاد السوفياتي والمنظمة الاشتراكية، تسهيلاً لبذر الديمقراطية في أرجائها ومحاولة إلحاقها بركابها.

وفقاً لهذا التحليل الذي يصب بالتالي في فهم احد أهم مقومات المشروع الأميركي، موضوع البحث، لم يحمل هجوم 11 ايلول هزيمة عسكرية خطيرة جداً للولايات المتحدة (مع ان هزائمها جاءت من التحليلات والمعلومات الخطيرة التي لوّثت سمعة العديد من رجال الإدارة الأميركية المتواطئين في ما حصل)، ولكنه أفقدها حليفاً تاريخياً وعالمياً استثنائياً. وبقدر ما أظهر هذا الهجوم في مستوييه أخطاء الحسابات الاستراتيجية الأميركية السابقة، فقد خلق لديها، بالفعل، تحديات جديدة كبرى لم تكن منتظرة ولا مناص من مواجهتها.

أهم ما في 11 ايلول تلك الضربة النفسية القوية التي أورثتها للولايات المتحدة الأميركية التي كانت تتباهى في الشرق الأوسط واوروبا والعالم بوصفها القوة الوحيدة من دون حلفاء في عالم تسيطر عليه عقيدة القوة والنزوع الى السيطرة.

كان الشرق الأوسط (الإسلامي) البقعة التي منها انطلقت الضربة العسكرية القوية التي ألّمت بالولايات المتحدة وأظهرت هشاشة أنظمتها الدفاعية الرقمية، ولذا كان من المتوقع أن تختاره الإدارة الأميركية كموقع أول تصفّي حساباتها معه. وهو الموقع الذي يتجاوز أي منطقة أخرى من العالم تشعر فيه الولايات المتحدة بأن اصدقاءها وحلفائها قد انقلبوا عليها فيه، وانها لن تتمكن من استعادة هيبتها وصدقيتها وكرامتها من دون ان تعيد هؤلاء الذين خدعوها أو خانوها الى «الطريق القويم».

ومما عزز هذا المكَّون تقارير الأمم المتحدة التي أظهرت بالفعل الحجم الهائل لهدر الموارد والطاقة والفرص في منطقة الشرق الأوسط، مما وضع بين أيدي الإدارة الأميركية مادة دسمة تبرر بها غضبها على هذه الأنظمة او حملاتها عليها.

بهذا المعنى، راحت الإدارة الأميركية تصوغ للنظم العربية والنخب الحاكمة صورة سلبية من ناحية يقترن فيها الاستبداد بالخديعة والنفاق وما يمثله من انعدام الصدقية والاخفاق الخطير في نمط الإدارة والمسؤولية، ومن ناحية أخرى التحضّر لصياغة مشاريع تعيد النظر في كل شيء لإعادة بناء الشرق الأوسط من الصفر.

 

2- غزو العراق

جاء غزو العراق بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، كذريعة لم تستقم، المكّون الثاني البارز في اعادة رسم الشرق الأوسط. وما احتلال العراق وتدمير دولته ومؤسساته وبناه التحتية الاقتصادية والثقافية سوى التعبير الواضح عن ارادة الانتقام التي تحكّمت بالقيادة الأميركية في منتصف العام 2003، وتصفية الحسابات مع العرب المسؤولين في نظر الإدارة الأميركية عن انتاج منظمة القاعدة، وغيرها من المنظمات الارهابية. وعلى هذا المستوى الانتقامي كان لا يمكن البحث إلاّ عن ردود فعل تقود الى تعاظم تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. لكن الإدارة الأميركية كانت تدرك ان وراء أساليب الانتقام تلك مشكلة حقيقية شرق أوسطية، وأن ضمان مصالحها لا يتحقق الا بتغييرات أساسية على مستوى أنماط الإدارة والحكم، ومستوى اخراج المنطقة من عزلتها الدولية وركودها الاقتصادي والاجتماعي.

هكذا وجدت الولايات المتحدة أمامها أزمة سياسية عميقة راحت تقوى بفعل ازدياد مخاطر الأصوليين على السلطة في اكثر من بلد عربي.

وازداد ادراك الإدارة الأميركية للمخاطر مع تنامي اخبار تعميم الفساد الذي كانت تلح عليه المؤسسات الدولية، كاشفة أعطال النظم العربية. وقد نتج عن ذلك بالطبع، توليد سحر جماهيري انصرف نحو المعارضات الإسلامية والحركات الباحثة عن الأصول والقيم الدينية وأساليب المقاومة التي تذكّيها وسائل الاعلام الغربية، وكان يساعد في ذلك بالطبع الانحلال الفاضح والمتفاقم لمؤسسات الأنظمة القائمة.

وشعرت الدول بأنها تدفع ثمن انهيار حدودها في عصر العولمة الأميركية بعدما سبق لها ان دفعت أثمان بناء ورفع الحدود في ما بينها كلها، بهذا المعنى انصرفت الإدارة الأميركية الى بلورة استراتيجية جديدة ذات أطر ثلاثة:

أ- شن الحرب على ما أسمته الارهاب، وهي تقصد به الحركات الإسلامية التي تشكل في رأيها الخطر الرئيسي على الاستقرار في المنطقة والعالم.

ب- العودة الى صياغة مشاريع تهدف الى اصلاح النظم القائمة في الشرق الأوسط.

ت- اعادة ايقاظ طريق التسوية السلمية للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي بعدما جرى هجره لفترة ليست قليلة.

وكانت الإدارة الأميركية تأمل من هذه الاستراتيجية المثلثة الأبعاد، وما زالت، وضع حد للتدهور القائم في الشرق الأوسط، ثم ربطه بالاقتصاد الأميركي، بحيث يمكن التغلب على مخاطر القطيعة المحتملة معه في المستقبل اذا ما تركت الامور على غواربها.

وبان، من هذه الزوايا الاستراتيجية، ان مصلحة تكاد تتحكم بالولايات المتحدة مختصرها إحداث تغيير ملموس في المنطقة حتى تقطع الطريق على أي بديل آخر يهدد مصالحها، سواء أكان ديمقراطياً أم اسلامياً.

لكن السؤال الذي يطرح هنا هو مثابة مجموعة أسئلة:

هل تستطيع الولايات المتحدة إحداث هذا التغيير؟ وما هي مصلحتها فيه؟ وهل لديها الوسائل الفعلية المقنعة لإحداث هذا التغيير؟ وكيف لها ان تجمع بين قدرتها على التغيير وعدم الرغبة في المنطقة على المضي في هذا التغيير، خصوصاً بعد تلمس تداعيات فلسطين والعراق ونتائجهما؟

نجد الاجابة في ما قاله الرئيس السابق لوكالة المخابرات الأميركية جيمس ولسي من أن «الولايات المتحدة ستعمل على تغيير أنظمة الحكم في جميع الدول العربية وعلى رأسها السعودية ومصر، بعد الانتهاء من العراق... فالدول العربية تنقسم الى قسمين: إما ديكتاتوريات مطلقة أو أنظمة لأسرة محددة تتولى الحكم بأسلوب بيروقراطي متخلف لا يترك أي مجال للمشاركة السياسية». وقال «إن الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على المنطقة بدءاً من العراق، لا ترتبط بالضرورة بأسلحة الدمار الشامل، بل هي اساس لنشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي» ([20]).

ولو دفعنا الاجابة عمقاً لأمكننا القول ان منطق الجغرافيا السياسية يقود الى احتواء التهديد الذي يخيم على النظام الأميركي، مما يستدعي عدم ترك مركز العالم الحقيقي الذي هو الشرق الأوسط، يفلت من يدها.

وهذا ما جعلها تمسك بخناق العراق باعتباره الحلقة الأضعف بعد أفغانستان ومدخلاً لتغيير خريطة الشرق الأوسط وقيام امبراطورية جديدة تمنع التقاء اوروبا والصين عبر أوراسيا، كما ان غزو العراق واحتلاله يأتي تطبيقاً للهدف الاستراتيجي الاساسي والقديم للولايات المتحدة القائم على ضرورة التحكم السياسي بالموارد العالمية منذ صار التزود بالسلع المختلفة والرساميل أولوية مطلقة.

 

3- الشرق الأوسط بين أميركا "وإسرائيل"

يأتي هذان الحدثان الكبيران في سقوط البرجين وبغداد في أعقاب سلسلة من الاحداث التي كانت تظهر مدى التغلغل الصهيوني في المشاريع الخاصة بالولايات المتحدة وتحيزها الدائم «لإسرائيل». فمنذ العدوان الثلاثي على مصر (1952) واجتياح مصر وسوريا عام 1967 بدعم أميركي كبير، ثم ضرب «إسرائيل» المفاعل النووي العراقي في اوائل الثمانينيات، ثم اجتياح إسرائيل لبيروت، إلى التهديدات المستمرة لسوريا، ثم الانفراد بالحل في فلسطين، من تغيير في الجغرافيا ومحاولات التغيير في التاريخ وتشجيع إسرائيل على الظهور بمظهر الدولة الاقليمية العظمى وصولاً الى خطة الفصل وقبلها خريطة الطريق، تبدو مسألة التمييز بين مصلحتي الأمن والأميركي والإسرائيلي عسيرة، كما ان استراتيجية الاستمرار والازدهار تقضي فرض الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. وهنا نطرح أسئلة:

هل يتراجع الزخم الإسرائيلي في الاستراتيجيات الأميركية للشرق الأوسط منذ «عاصفة الصحراء» وصولاً الى سقوط بغداد؟ ما هو مستقبل العلاقات الأميركية - الإسرائيلية في ضوء تهافت دول المنطقة بمجملها على التسابق نحو اقامة علاقات مباشرة مع أميركا؟ هذه الاسئلة التي لا تفترض اجابات نهائية، تطرح مؤشرين اثنين خاصين بالشرق الأوسط:

أ-الرؤية الأميركية لحلول جذرية في الشرق الأوسط (وردت في خطاب الرئيس الأميركي بوش في 24 حزيران 2004) الذي يجب ان يتغير كليا، من اجل مستقبل الانسانية، ولأنه يستحيل ان يعيش الإسرائيليون في الرعب، والفلسطينيون في الاحتلال والفساد السياسي.

تؤكد هذه الرؤية على «دولتين تعيشان في سلام وأمن جنباً الى جنب، ولا سبيل فعلياً الى تحقيق ذلك السلام الا بمكافحة كل الاطراف «الارهاب». ولن تقوم الدولة الفلسطينية في خطابه أبداً بالارهاب» لكنها سوف تبنى من طريق الاصلاح الذي هو أكثر من تغيير شكلي او محاولة للحفاظ على الاوضاع الراهنة. «وسوف يتطلب الاصلاح، وفقاً لهذا الخطاب المحطة، الحق بانشاء مؤسسات سياسية واقتصادية جديدة تماماً تعتمد على الديمقراطية واقتصاد السوق والتحرك الدائم لمكافحة الارهاب.

وقد بدا واضحاً في هذا الاعلان أن الولايات المتحدة تسعى الى تحقيق هذا الاصلاح بالتعاون مع غيرها من الدول الاقليمية الرئيسة. لذا فقد طالب وزير خارجيتها كولن باول بتكثيف العمل مع زعماء شرق أوسطين ودوليين لتحقيق رؤية لدولة فلسطينية في الـ 2005 مستقرة مسالمة ودعا «إسرائيل» علناً الى اتخاذ خطوات ملموسة لتأييدها كدولة لها مقومات البقاء وذات صدقية.

ب-     الاصدار الرسمي لوزارة الخارجية الأميركية للنص الرسمي «لخريطة الطريق»([21]) بهدف السلام في الشرق الأوسط، بعدما تم تسليم نسختين منها الى المسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وقد تزامن اعلان النص مع بيان بوش الذي دعا فيه الى وقف أعمال العنف والعودة الى المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وصولا الى تنفيذ رؤيته القائمة على اساس دولتي «إسرائيل» وفلسطين.

وقد رحب بهذين الأمرين الاتحاد الاوروبي وروسيا والأمم المتحدة، في بيانين وزاريين للمجموعة الرباعية في 16 تموز و17 ايلول من العام .2002

وتأتي أهمية هذا الاصدار الرسمي كونه يدعو الى حل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني على قاعدة انهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967 بناء على الأسس المرجعية لمؤتمر قمة سلام مدريد ومبدأ الارض مقابل السلام وقرارات الأمم المتحدة 1397 ,338 ,242 والاتفاقات التي تمّ التوصل إليها سابقاً بين الطرفين، ومبادرة الامير عبد الله ولي العهد السعودي التي تبنتها الدول العربية في قمة بيروت([22]) والداعية الى قبول «إسرائيل» كجار يعيش بسلام وأمن ضمن تسوية شاملة بما في ذلك المساران السوري - «الإسرائيلي» واللبناني – "الإسرائيلي".

 

-4مبادرة باول ([23])

عقد كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية اجتماعاً مغلقاً (6/11/2002) مع خمسين سيدة عربية في اطار برنامج الاصلاح العربي الذي اعدته وزارته وأشرفت على تنفيذه اليزابيت تشيني ابنة نائب الرئيس الأميركي ديك، وهو برنامج جاء في اطار المناخ العام الأميركي في تعزيز الديمقراطية ونشرها في منطقة الشرق الأوسط ومساعدة الدول المعنية في دفع خططها التنموية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية، وهو البرنامج الذي وضعته الإدارة الأميركية عقب 11 ايلول، ورصدت لتنفيذه مبلغ 29 مليون دولار.

وقد لعب هذا الوفد النسائي دوراً في تأجيل مبادرة باول الاصلاحية التي شكلت نواة مشروع الشرق الأوسط الكبير، الى 12/12/2002، لأن أعضاء الوفد (من الجزائر، مصر، الأردن، لبنان، المغرب، سوريا، الضفة الغربية، غزة، اليمن، تونس، الخليج) أثرن مسائل هامة مثل دعم واشنطن لإسرائيل، والمعايير المزدوجة في السياسة الأميركية، ورفض الحرب على العراق والمنطقة، والخطط المبيتة لتقسيم المنطقة الى دويلات طائفية. وقد جاءت اثارتهن لهذه الملاحظات نابعة من اطلاعهن على مبادرة باول حول الديمقراطية في الوطن العربي.

وكان اللافت هزء أعضاء الوفد النسائي من المبلغ الزهيد المخصص لإحداث التأثير المطلوب لتصدير الديمقراطية، أي 29 مليون دولار، مقابل تخصيص أميركا مبلغ 92 مليون دولار للمعارضة العراقية، وفي الوقت نفسه، لتقويض العراق وإثارة الحرب الأهلية فيه.

الواقع إن التأجيل لم يكن فقط لما تقدم، بل الارجح أنه كان انتظاراً لقبول أوسع «لخريطة الطريق» المقترحة لحل الصراع في فلسطين، وكأن في الامر مراوغة متجددة لمصلحة إسرائيل ليبدو الشعار الأميركي السائد في تلك المرحلة: تبريد في فلسطين وتسخين في العراق، او على العكس، وهكذا دواليك.

جاءت مبادرة باول تحمل في صفحات ثلاث إصلاحاً نظرياً واسعاً للبنى السياسية والاقتصادية العربية، انطلاقاً من مصلحة أميركية تقضي بتغيير الشرق الأوسط، وقد كان باول حازماً في أمر أساسي وهو ان تأجيل الاصلاحات حتى حلّ أزمات المنطقة مسألة باتت مرفوضة بالكامل من الإدارة الأميركية.

وتبدو نصوص مشروع الشرق الأوسط الكبير نسخة طبق الأصل تقريباً عن مبادرة كولن باول مع أن ما بينهما عامان تقريباً (الأولى 13/2/2004 والثانية 17/12/2002)، بل يمكن القول إن المشروع المذكور هو المبادرة الأساسية لباول التي جاءت كما قال، نتيجة مناقشات مع قادة بعض دول العالمين الغربي والإسلامي وعدد كبير من مثقفيهم، بمن فيهم الخمسين سيدة عربية اللواتي ذكرهن في سياق مبادرته، معتبراً ان هذه المبادرة هي اصلاحية وشاملة، وهي فعلاً كذلك، وأنها تضع الولايات المتحدة بشكل قوي الى جانب قوى التغيير والاصلاح وبناء للمستقبل الحديث في منطقة الشرق الأوسط.

وقد تركزت مبادرته على أعمدة ثلاث:

1-العمود الأول هو للتعاون مع القطاعين العام والخاص لردم الهوة في مجال البطالة من خلال الاصلاح الاقتصادي والاستثمار في مجال الأعمال وتزكية القطاع الخاص، وتعزيز الحريات والمجتمع المدني والمشاركة السياسية ورفع صوت النساء.

2-العمود الثاني يربط بين الاقتصاديات المفتوحة وضرورة إيجاد الأنظمة المفتوحة على بعضها وعلى العالم.

3-العمود الأخير وهو الاصلاح التعليمي حيث سيتم التركيز على تعليم البنات وتوفير المنح المدرسية للجميع.

وقد شددت المبادرة على أن أميركا لا تفرض «النموذج الجيفرسوني» نسبة الى الرئيس الأميركي توماس جيفرسون أحد مؤسسي الجمهورية الأميركية المعروف بكتاباته الفكرية والفلسفية حول الحرية والديمقراطية.

 

ثالثاً: قراءة هادئة مختصرة لمشروع الشرق الأوسط الكبير

1- الأطر الاستراتيجية للمشروع

لم يسبق لورقة سياسية ان حظيت بهذا الحجم من الاهتمام والنقاش الذي يتمحور حول مشروع الشرق الأوسط الكبير. فمنذ ان أطلق الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أمام صندوق «الوقف القومي للديمقراطية» في الولايات المتحدة الأميركية في السادس من شباط 2004 مبادرته([24]) تلك، والعرب والعالم مشغولان بها. فقد بدت محط الجدل السياسي المعاصر ومثيرة للنقاش في داخل دول العالم العربي واجتماعات وزراء خارجيته، كما في القمة العربية الاخيرة في تونس وصولاً الى قمة الدول الصناعية في جورجيا، في الولايات المتحدة بدعوة من الرئيس بوش، وبحضور دول عربية، وهي ورقة لازمة يومية لوسائل الاعلام.

وحيال الأرشيف الضخم الذي أورثه هذا المشروع الحافل بالمواقف وردود الفعل المتباينة، فإن النتيجة البسيطة التي يمكن ذكرها هو نجاح هذه الورقة - المشروع المتحرك في تحريك مجمل الملفات الاخرى في العالم سواء أكان من الناحية الاستراتيجية الدولية وإعادة رسم الخرائط للأوطان والشعوب، أم من ناحية الالحاح لإعادة النظر في مجمل النواحي الاخرى من اقتصادية واجتماعية وثقافية وتنموية.

واذا كان العنوان العريض لهذه المبادرة هو حضّ الدول المعنية والإلحاح عليها لإشاعة الديمقراطية، فإن وقعها جاء متبايناً مشوباً بالمخاوف والحذر، لأن واشنطن المتسلقة بسرعة رهيبة الى تحقيق الامبراطورية القوية، تقدم مشروعها على قواعد الشراكة مع دول أخرى أوروبية([25])، يفترض ان تأتي الشراكة معها على أساس تشبّعها بالمبادرة وتفاصيلها وجدواها على المستوى العالمي.

يبدو الهّم الأميركي تحصين المباردة بمشروعية أوروبية صعبة المنال واسلامية معتدلة (تركيا) صعبة القبول، فتبقى تلك المبادرة فقيرة في زخمها ويتيمة في إمكانيات تبنيها ومحصورة في أربع صفحات «فولسكاب» يحتاج تحقيق مضامينها الى عشرات بل مئات السنين.

وتبدو أميركا وكأنها تكرر تجربتها الهائلة في أوروبا الشرقية، عازمة على تعميمها في منطقة الشرق الأوسط.

هكذا يظهر، ايضاً، ان هذه التجربة مشوبة بالتعثّر والغموض. فبينما يجاهر الرئيس الأميركي بوش بأن الحرية هي مستقبل الشرق الأوسط لأنها مستقبل البشرية جمعاء، وما على دول الشرق الأوسط إلا تطبيق الديمقراطية بطرائقها الخاصة وعلى نسق تركيا والعراق، نرى ان قمة الاطلسي الأخيرة لم تنجح([26]) في إخفاء كل الانقسامات الأورو - أميركية بشأن العراق والشرق الأوسط، ذلك على الرغم من ان قادة الـ 26 دولة في حلف شمالي الاطلسي قد أعطوا الضوء الأخضر لدور جديد للحلف متوسع نحو الشرق الأوسط وبدءاً من العراق، في مهمات تدريبية محددة.

وقد جاء في إعلان مشترك ان هؤلاء القادة قرروا تعميق الحوار المتوسطي مع سبع دول في حوض المتوسط([27])، كما أطلق مبادرة عنوانها «مبادرة تعاون اسطنبول» تجاه دول الشرق الأوسط الموسع، لا سيما دول الخليج العربي تضمنت عروضاً للتعاون في مجالات الأمن والدفاع.

وعلى الرغم من الإلحاح في تكرار معزوفة الحرية والديمقراطية اللتين اطلقتهما المبادرة الأميركية كبابين استراتيجيين لتحولات في المنطقة العربية، فإن غالبية العرب والمسلمين ينظرون الى المبادرة وكأنها ذريعة أميركية تؤسس لتغيير أنظمة الحكم، وترتفع الاصوات رافضة عدداً كبيراً من الانظمة العربية كما ترفض أميركا صاحبة المشروع.

 

2- التعريف الجديد للمنطقة

وتبرز قناعة متنامية تقوى يوماً بعد يوم مفادها أن هذه الديمقراطية المستوردة المشابهة للعديد من الانظمة العربية، ما هي سوى الوحدة الخفية التي تهيء لقبول العرب «بإسرائيل»، خصوصاً وأن الخطة في مسعاها لاعادة قولبة المنطقة تطرح تعريفاً جديداً لمصطلح الشرق الأوسط الموسع كما جاء في التسمية الاخيرة، يضم الى جانب الدول العربية كلها، ايران وتركيا وباكستان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى ودول القرن الأفريقي، وهو أمر لم يشهده تاريخ الشرق الأوسط منذ الأساس. ولا يخفى ان استراتيجية توسيع التعريف الجيوسياسي يرمي الى جعل المنطقة خاضعة لخارطة الحروب المحمولة والمتنقلة أميركياً في المستقبل الطويل، على قاعدة دعوى مكافحة الارهاب والأصوليات.

أليست تلك البقعة الموسعة كما تطرحها أميركا أقرب الى مناطق العمليات العسكرية الطويلة للجيوش الرقمية الأميركية؟

تتخذ هذه الورقة المشروع-أهميتها لأنها تأتي، كما يلحظ، مشروع أخذ ورد وحوار ومتوازية مع مشاريع من القوة والتدمير فائقة القساوة، وفي أعقاب دفع مزدوج للقوات العسكرية الأميركية الى الخليج في فترة قياسية هي أربع سنوات. فالمبادرة إذن، تقدم ملامح زعامة جديدة للعالم بعدما كادت هذه الزعامة أن تغرق بالغطرسة والأساليب الدموية. والواضح أن الولايات المتحدة حريصة على منع نشوء أي نظام إقليمي لا يكون مرتكزاً أساساً عليها، لذا كان هّمها اخضاع جميع الهيئات ذات الصفة التعددية مثل الأمم المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة والجامعة العربية، وتحويلها إلى غطاء للسيطرة العسكرية الأميركية. والمعروف أن هذا النظام العالمي الجديد كان مسكوناً بهاجس استئثارها بسياسة النفط، وهو هدف تحقق عبر حرب الخليج، لكن حل الصراع عسكرياً وبالمبادرات يحمل نوعاً من تثبيت هذه المكاسب، حتى ولو تعرضت الدول الحليفة لها في المنطقة لاهتزازات عنيفة، لا تؤثر كثيراً في النظام الدولي المرسوم الجديد.

وإذا كان الاطار العام للمبادرة عسكرياً - سياسياً - نفطيً، وتحكمها استراتيجية واحدة، نتساءل:

ما هي الحظوظ لمبادرة الشرق الأوسط الكبير وما هي مكّوناتها وعناصرها وتفصيلاتها؟

 

3-المبادرة وعناصرها الأساسية والتعديلات

استندت المبادرة الأميركية الى عدد من التوصيات التي تضمنها تقريران حول التنمية الانسانية العربية عامي 2002 و2003 أعدّتهما مجموعة من الباحثين والمفكرين وأساتذة الجامعات العرب. وقد طرحتها أميركا على الدول الصناعية الثماني لبلورة مواقفها الموحدة.

يمكن اختصار التقريرين في ثلاثة عناوين كبرى واسعة مفادها ان المنطقة العربية تشكو من نواقص ثلاث فاضحة:

أ - النقص في المعرفة

ب- النقص في الحرية

ث- والنقص في مشاركة المرأة في الحياة العامة

والواقع ان المبادرة جاءت متلازمة مع الكثير من الأبحاث والدراسات والطاولات المستديرة والمناقشات الكثيرة التي أغرت مجموعات كبرى من المثقفين العرب، وكانت تمتد في أرجاء العالم العربي وما زالت على قدم وساق. وقد لا يتصّور المتابع لما يدور وينشر ويؤسس من جمعيات وأنشطة، والميزانيات والتكاليف الباهظة، والأرباح التي تصبّ كلها في خانة إرضاء الأميركي وفقاً للمبادرة وعناصرها الكثيرة والانقياد السهل له.

لم تكن النخبة العربية في قسم كبير منها صاحبة ردود فعل على المبادرة، بل اسّست لها وواكبتها وجاءت بعدها لتدعمها وتعممها وتنشر حولها، وتلك ميزة جديدة من ميزات الفكر العربي قد يقع توضيحها او تبريرها في خانة الاشارة الى الادوار الهائلة التي تلعبها وسائل الاتصال والاعلام في إعادة واضحة لخلط الشعوب وتفاعلها على مستوى الافكار والآراء والتصورات.

لقد شغل موضوع النقائص الثلاث المذكورة، مثلاً، وخصوصاً ما يتعلق منه بتهميش المرأة العربية، مجموعة مفكرين وكتاب عرب من دول ومشارب مختلفة، اجتمعوا في بيروت بدعوة من برنامج الأمم المتحدة للانماء، للنظر استشارياً في مسودة تقرير 2004 بعدما كان للتقريرين السابقين من الضجة والاتهامات بحجة ان تشخيصهما للحالة الانمائية التعيسة في العالم العربي جاء تبريراً لما يهيئه الاستعمار الغربي.

وما يفاجئ أن ما جاء في مبادرة بوش ابتسار للتقرير بل قنص لبعض ما فيه مما لم يكن قد أقر عربياً بعد، فجاء تسريب ما للائحة طويلة من المقترحات وللأفكار التي كانت ستتقدم بها المجموعة لأميركا، لو لم يسبق اليها في توليفة أميركية عنوانها كما جاء كيفية اقامة الديمقراطية في الشرق الأوسط المكبّر([28]). واللافت ان مبادرة بوش هذه سبقها اعلان ادارته انها تقترح على الكونغرس الأميركي قطع المساعدة الأميركية لبرنامج الأمم المتحدة للشرق العربي (وتراوح بين الـ 10 والـ 14 مليون دولار) بحجة ان التقرير يتضمن موقفاً سلبياً من حرب أميركا على العراق.

لقد استهلت المباردة في نصها (الذي نشرته جريدة الحياة 13/2/2004 بتسريب خاص) باستعراض عدد من الاحصائيات والارقام والنسب توطئة لمتنها، وفيها توصيف للتخلف الشديد الذي تغرق فيه دول المنطقة. وقد اثبتت مقولة افتراضية أساسية في التوطئة تقول: طالما يتزايد عدد الافراد المحرومين من حقوقهم السياسة والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والارهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. ولا تكمن الاشكالية هنا في صوابية هذا الاستهلال أو عدمه، بل في تجاهل أسبابه ومسبباته، ولعل في جلائها جواب على السؤال الذي ما نفك الاعلام الأميركي يطرحه ويردده: لما يكرهوننا؟

نجد في الوثيقة ان 40% من العرب البالغين أميّون، وتشكل النساء ثلثي هذا العدد، وتتوقع الوثيقة 25 مليون عربي عاطل عن العمل في الـ 2010، حيث يعيش ثلث العرب على مدخول دون الدولارين في اليوم، ويلحظ ان مجموع اجمالي الداخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ 22 لا يوازي نظيره في اسبانيا وحدها.

ونجد في الوثيقة ان 1.6% من العرب يبحرون في الانترنت، وهي نسبة دون ما هي عليه في أي منطقة اخرى من بقاع العالم الفقيرة، بما فيها بلدان افريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كما لا تشغل المرأة سوى 2.5% من المقاعد البرلمانية في بلدان العرب. وتعكس هذه الارقام والاحصائيات وقوف المنطقة عند مفترق طرق «يشكل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة وللمصالح المشتركة الخاصة بالدول الصناعية الكبرى».

والعلاج الناجع لهذا الواقع المرير هو الاصلاح كما جاء في المبادرة.

4- أولويات الاصلاح

أ- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح:

ترى الوثيقة ان الحرية والديمقراطية ضروريتان لقيام المبادرة الفردية في ارجاء الشرق الأوسط الكبير، باستثناء «إسرائيل» البلد «الحر» الوحيد، الى اربعة دول اخرى تتمتع بالحرية الجزئية ولم تتم تسميتها. وتصنف البلدان العربية في أدنى درجة من حيث الحرية وابداء الرأي والمساءلة، وهو ما يتناقض كلياً مع رغبات وتطلعات سكان هذه البلدان، ولهذا اقترحت المبادرة تعزيز الانتخابات الحرة عن طريق تقديم مساعدات تقنية من بلدان الشراكة الثماني عبر تبادل الزيارات او الندوات وانشاء وتعزيز لجان انتخابية مستقلة لمراقبة الانتخابات والنظر في الشكاوى وتسلم التقارير الطاعنة بمبدأي الحرية والديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط. ويصار على ضوئها العمل على صوغ التشريعات الجدية في تمثيل الناخبين الأوسطيين كما الى رعاية معاهد تدريب خاصة بالفساد مثلاً تجمع بين قيادات من بلدان مجموعة الثماني والمنطقة.

ويمكن في هذا المجال تحت عنوان المساعدة القانونية للناس العاديين انشاء مراكز وتمويلها بشكل يسمح للأفراد الحصول بواسطتها على مشورات قانونية والاتصال بمحامي الدفاع وكليات الحقوق في المنطقة.

وفي اليقين ان ما وزع مجاناً من كتيبات في لبنان مثلاً حول «تأسيس وإصدار وسائل الاعلام المطبوع» او «إنشاء وإدارة الجمعيات الخاضعة لقانون 1909» في شهر حزيران 2004 ما هو سوى باكورة قد تصب في هذا الاطار التثقيفي تحت اسم سلسلة دليل حقوق المواطن A.D.D.L. الممّول ربما من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية عبر برنامج الشفافية والمساءلة الذي تديره AMIDEAST لبنان ([29]).

ويتضح من المبادرة ان إلحاحاً ينصب واضحاً عن استقلالية وسائل الاعلام وتخليصها من سطوة الانظمة والدول في المنطقة، وذلك عن طريق تدريب الصحافيين على تغطية الانتخابات ومواطن الحرية ونشر مبادئ الشفافية ومكافحة الفساد، الخاصة بمجموعة الثماني، خصوصاً وأن البنك الدولي قد حدد الفساد بكونه «العقبة الأكبر في وجه التنمية وقد اصبح متأصلاً في بلدان الشرق الأوسط الكبير».

وإذ تشير المبادرة الى أن الاصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير يجب ان يأتي من الداخل عبر رعاية واسعة لمنظمات التغيير التمثيلية، فإن هذا الامر يعني إحياء وتعزيز ما يعرف بالمجتمع المدني.

بين الداخل والخارج يقع المفصل الاساسي الذي جعل المبادرة شديدة الالتباس بين الولايات المتحدة والمجموعة الاوروبية وفي طليعتها فرنسا، وقد استغرق هذا اللبس شهوراً أربعة من النقاشات (13/2/2004 تاريخ اطلاق المبادرة اميركياً و7/6/2004 تاريخ اعلان قصر الاليزيه ان الشرق الأوسط الاكبر بات مقبولاً). والقبول جاء نتيجة لأمرين:

- التوازن او ترسيخ مبادئ التحرك بالتشاور بين الدول المعنية بالمبادرة

- الاقرار الأميركي بعدم امكانية او جدوى فرض الاصلاحات من الخارج، وتخلي الولايات المتحدة عن بنود كانت تدعو لا بل تفرض تحويل المؤسسات الخاصة بالاصلاحات في هذه المنطقة من العالم.

ويضاف اليهما أمر اساسي هو منح الأولوية لمعالجة النزاع الفلسطيني «الإسرائيلي»، وهذا يعني ان أميركا قد تخلت عن اعتبار مشروعها في الشرق الأوسط الكبير ركناً اساسياً في حربها على «الارهاب»، خصوصاً وأن بوش كان أطلقه مشروعاً يمثل بعد الحرب في افغانستان والعراق، المسار السلمي للتحرك ضد التطرف.

 

ب- البناء المعرفي: ألف معلمة في الـ 2010

يقوم هذا البناء على مبادرات ثلاث تتناول التعليم الاساسي والتعليم بواسطة الانترنت وتدريس ادارة الاعمال على اعتبار ان فجوة معرفية ضخمة تقوم بين العالم وبلدان الشرق الأوسط والتي كانت مهداً للعلم والمعرفة في التاريخ الغابر. وليس سوى المعرفة طريقاً الى الحرية والتنمية والانعتاق.

تتناول المبادرة الاولى معضلة محو الامية حيث يفترض التركيز على انتاج اجيال متحررة من الأمية في الشرق الأوسط، تخفض نسبتها الى النصف بحلول 2010، والتركيز في هذا الميدان على الاناث، واستخدام كل الوسائل لذلك واهمها فرق محو الأمية التي يصل تعدادها، وفقاً للمشروع، الى ألف معلمة بحلول .2008 كما الاهتمام بالمكتبات وترجمة المؤلفات الأساسية في الفلسفة وعلم الاجتماع والأدب وعلوم الطبيعة الى العربية والتبرع بها الى المدارس والجامعات والمكتبات العامة المحلية التي يفترض ان تعم بلدان العالم العربي.

وتدعو الورقة- المشروع الى التمثل بالأردن في مبادرته إنشاء «مدارس الاكتشاف»، حيث تستخدم التكنولوجيا المتقدمة ووسائل التعليم ومناهجها الحديثة، ووضع الأسس التعليمية لهذا الشق من المشروع في قمة الشرق الأوسط لاصلاح التعليم.

وللإنترنت الدور الفاصل في برامج من هذا النوع تقتضي تعميم أجهزة الكومبيوتر في شتى الميادين، وحيث يمكن توزيعها، لتطول مكاتب البريد في قرى بلدان الشرق الأوسط، تماماً كما سبق وحصل في روسيا.

ويشكل معهد البحرين للمصارف والمال وهو على علاقة شراكة مع عدد كبير من الجامعات الأميركية، ويديره اميركي، النموذج الذي قدمته المبادرة في ميادين تدريس إدارة الأعمال.

ج- توسيع الفرص الاقتصادية

يتطلب ردم الهوة الاقتصادية في الشرق الأوسط تحولات اقتصادية سبق وأن حققت نجاحات في أوروبا الشرقية، وتقضي بإطلاق قدرات القطاع الخاص، خصوصاً مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة في المنطقة والتي قد تمثل المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل.

ويقتضي هذا الأمر مبادرات في تحويل النمو عن طريق المشاريع الصغيرة بقروض تؤمنها مؤسسات الإقراض الصغيرة القادرة على الربح والاستمرارية، وتعزز قروضها تلك للمشاريع التي تقوم بها النساء في العالم العربي.

وباستطاعة مجموعة الثماني المشاركة في تمويل «مؤسسة على طراز مؤسسة المال الدولية» تساهم في تنمية مشاريع الأعمال على المستويين المتوسط والكبير، وبهدف التوصل الى تكامل اقتصادي لمجال الأعمال في المنطقة.

وتقترح المبادرة إنشاء  مؤسسة إقليمية تسمى «بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير» مثلاً، وتدخل مجموعة الثماني في إصلاح النظم المالية في البلدان المتقدمة في المنطقة.

ولا يتم توسيع الفرص الاقتصادية إلا بالمبادرة التجارية التي يقترحها المشروع، لا سيما وان حجم التبادل التجاري في مناطق الشرق الأوسط متدنٍ جداً ولا يشكل سوى ستة في المئة من كل التجارة العالمية. وفقاً لهذا ينصرف المشروع الى الدعوة لانضمام البلدان في المنطقة الى منظمة التجارة العالمية، ومن ثم تنشئ مجموعة على الثماني مناطق في الشرق الأوسط الكبير للتركيز على تحسين التبادل التجاري والممارسات المتعلقة بالرسوم الجمركية فيها.

ويمكن لمجموعة الثماني هذه ان تساعد على إقامة مناطق محددة في الشرق الأوسط تشجع تصميم المنتجات وتصنيفها وتوزيعها.

وبالاستناد المرن على نموذج رابطة آسيا- المحيط الهادي للتعاون الاقتصادي، يمكن لمجموعة الثماني ان تنشئ «منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط» يجمع مسؤولين كباراً منها ومن دول الشرق الأوسط الكبير لمناقشة القضايا الكبرى المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي.

يتضح من القراءة العامة لهذه المبادرة إنها مفتوحة في الزمان والمكان، أي أن احداً لا يمكنه تصورها وحصرها بشكل دقيق في مددٍ زمنية معينة أو فئات مستهدفة معينة أو بلدان محددة.

وعلى ضوء هذا كله بدت  المبادرة منبعاً لتداعيات عالمية بين دول العالم، كما على المستويين الإقليمي والعربي، وما زالت منذ الإعلان عنها تمثل أحد أهم الأوراق الجدلية في الشرق الأوسط.

رابعاً: تداعيات الورقة المستحيلة

1- العرب والتغيير والغير

ينبغي الإقرار الموضوعي بأن عمليات الإصلاح الشامل في الشرق الأوسط، وخصوصاً في البلدان العربية، بات من الأمور الملّحة، لا سيما في الميادين السياسية والاقتصادية. فالتغير والإصلاح شرطان للتنمية بما يفرضانه من متغيرات بنيوية جذرية وأساسهما إشاعة الديمقراطية وترسيخها بشكل يضمن أوسع مشاركة سياسية في الحكم وداخل المؤسسات.

لا يخرج العرب أنظمة وشعوباً عن هذا الاطار العام الذي تكاد تلتصق به المبادرة الأميركية، وتعمل على إشاعته شتى الوسائل والطرائق من دون أي اعتبار لخصائص الشعوب وثقافاتهم أو للمصالح العربية العليا المهملة بشكل فاضح في المبادرة. وتندرج شعوب هذه المساحة الشاسعة للشرق الأوسط الموسّع في سلة واحدة، وفي شروط تعميمية لا فارق فيها بين بلد مسلم وآخر مثله او عربي او آسيوي، حتى ليمكننا القول ان ما يفرّق هذه الشعوب ويبرز من تنافرها يتراجع بشكل كبير لمصلحة جامع مشترك كبير هو رفض المنطق الأميركي الذي تأتي به الورقة الأميركية وتحاول فرضه.

أما ردود الفعل العامة على المشروع الأميركي الشرق الأوسطي الموسع فيندرج في خانة ردود الفعل المماثلة التي طالما شهدها المجتمع العربي حيال كل جديد، وهو يطرح مقولة قديمة حديثة عنوانها: العرب والتغيير والغير.

 

2- بين الجدَّة والمعاصرة والحداثة:

يفرض التغيير تحولاً او انتقالاً من حالة الى أخرى ليست أفضل بالضرورة دائماً. والتغيير هو الوجه الآخر، اذن، للجديد والمعاصر والحديث مع ما بين هذه المصطلحات من فروقات.

فالجديد يعني مثلاً اضافة شيء الى القديم، والجدَّة غير المعاصرة المرتبطة بالزمان والموضة بشكل أوثق، وليس كل معاصر حديث وكل حديث هو معاصر ليس بمعناه الزمني بل بمعاني القيم والافكار التي يحملها هذا الحديث في المستقبل بعدما يستقر ويترسخ ويغير في الحاضر أي في الماضي الممتد زمنياً نحو الحاضر. ورب قديم معاصر هو اكثر حداثة من معاصر حديث، أي انه يتجاوز الارتباط بشكل المحدث Modernisme الى المضمون المتحرك المرتبط بالحداثة أي La Modernité.

ولو شئنا اختصار المنطق الجدلي لهذه المقولات لقلنا بأن التغيير مسألة مقبولة من الغير وتفترضه، لكنها تشكل ضده فترفضه ان حمل التغيير قهراً او قسراً لأن مسار تطور الشعوب يفترض الاقناع السري او الخفي كي يؤتي ثماره.

في ضوء هذا كله نفهم تلك المرتبة التي بلغتها مبادرة الشرق الأوسط الكبير من الاهتمام، فهي حديث يومي لمثقفي العرب في المؤسسات الجامعية والندوات وحلقات الحوار والمقاهي وبرامج «التوك شو» من على الفضائيات، وهي تقضّ مضاجع المسؤولين السياسيين وتقلق معاقل الفكر الديني، وتغري مؤسسات المجتمع العربي المدني.

ولقد شغلت الورقة اعضاء مجلس الجامعة العربية ووزراء الخارجية، وجرت مناقشتها وشكّلت النقطة الرئيسية على جدول أعمال مؤتمر القمة العربية (20/4/2004) في تونس بعدما ألمح عمرو موسى إلى اعتبارها مبادرة يفترض أن تأخذ مكانها الأول والبارز في أعمال العرب.

يمكن اختصار المواقف العربية الرسمية والشعبية من المبادرة الى فئات متعددة تتأرجح بين الرفض المطلق أو القبول المطلق أو التوفيق او المطالبة بالعديد من التعديلات والايضاحات. ونحن نميل إلى القول إنها مبادرة واسعة المضامين، تفتقر الى آليات التطبيق وميزانياتها التي تعجز عنها حتى دولة العولمة، ولا تتضح فيها الأوليات، وبهذا المعنى تبدو عسيرة التطبيق، خيالية كبيرة وهي بحجم أحلام أميركا وتطلعاتها.

 

3- دول الرفض:

كثيرة هي الدول الرافضة للمبادرة، وقد يكون أبرزها سوريا ولبنان ومصر والسعودية من حيث الاشارة الى بنودها السلبية ونقائصها وهي تمضي في خطوات التطوير والاصلاح:

أ-خلل الوثيقة كامن في تغليبها المصلحة او النموذج الأميركي، فهي تعيد رسم المنطقة العربية بدماء العرب، وكأنها وصاية دولية متجددة او استعمار جديد مقنع يقسم العالم الى محوري خير وشر، ويرفع الشعار القائل: من هو معنا ومن هو ضدنا؟

ب-خلل الوثيقة استعلائيتها، وهي لم تتجاوز حدود المسودة التي دارت فوق أرضيتها الحوارات والمناقشات مع الحكومات العربية وبعض منظماتها ذات الشأن، وقد يكون طرحها على قمة الدول الصناعية الثماني فقط أمراً خلق حولها الريبة والشكوك من هذا التفرد الأميركي والتسرع.

ج-لا يمكن للدول الرافضة التغاضي عما يحصل في المنطقة العربية بين كامب ديفيد وغزو العراق. لقد دُمغت المنطقة تلك بعلامتين ليس أخطر منهما في الذهن الشعبي العربي، ونعني بهما النيل والفرات. لقد تم رسم وإبراز مجموعات من الافكار والأوراق التي تفصل بين أعرق نهرين في تاريخ الحضارات، على ضفافهما وما بينهما عبرت حضارات وثقافات واندثرت وما زالت ماثلة في الذهن العربي والإسلامي. وما الانتقائية الغامضة لهاتين النقطتين في الشرق الأوسط العربي، الاولى بوساطة المبادرة السلمية لأنور السادات، والثانية عبر الدخول العسكري الأميركي المباشر، سوى ايقاظ تلك الرهبة حيال ما انفك «الإسرائيليون» يجهدون بشأنه: «حدودك يا إسرائيل من النيل الى الفرات» وتلك لازمة تفتح الحروب الى ما لا نهاية.

يستحيل إخراج العرب من هويتهم العربية أو قوميتهم كما يستحيل اخراج المسلمين والعرب من اسلامهم بالمعنى الديني والحضاري، وبالأحرى يستحيل دمج إسرائيل في المنطقة العربية والمحيط الإسلامي بشكل كامل.

وتبدو المبادرة الأميركية، كما غيرها من المبادرات، محكومة بالفشل إن اشاحت الرؤى الاستراتيجية عما حصل في العراق وما يحصل في فلسطين، وهما في اساس القراءة العملية للسلام العادل والشامل. فالشرق الأوسط أكبر من هوية عربية او حضارة إسلامية. وهنا وجه الخطورة.

والمفارقة الغريبة ان المبادرة الأميركية، بالرغم من ارتكازها على تقارير التنمية، فإنها خالفت توصياتها الختامية التي حذرت فيها من التدخل الخارجي، ودعت بإلحاح الى قرن التغيير بالداخل.

د-يتجاوز المشروع اطار الجامعة العربية، وهو مدخل، ربما، لاسقاط النظام العربي في تنوّعه وتذويبه ضمن نظام اشد اتساعاً يكون بديلاً عن منظمات الوحدة العربية. فالأخطر من ذلك كله انه مشروع يساهم بشكل سريع في نمو الأصوليات وسيطرة القوى المتطرفة على مسارات الاصلاح، وكأن خططاً مشبوهة في الامر.

هـ- وقد ترسخ الرفض العربي بعدما لوحظ التفرد في السياسة الأميركية، فأدين ليس من قبل المعارضة العربية وحسب، بل من قبل الدول الاوروبية التي تجلّت اعتراضاتها في اطلاق المبادرات الاعتراضية والتكميلية مثل: المقترحات الفرنسية - الألمانية المسماة «شراكة استراتيجية لمستقبل مشترك» مع الشرق الأوسط، والمبادرة النروجية - الكندية، ومبادرة وزير الخارجية الالمانية يوشكافيشر([30]).

وما التجاذب الفرنسي - الأميركي الحاد في قمة اسطمبول سوى مؤشر جذّر تخوف العرب من ان يتحول حلف شمالي الاطلسي طرفاً في حماية امن الشرق الأوسط الكبير ومحاربة ما يعرف بالارهاب، وهو ما يجعل العلم العربي رهينة للأمن المستورد المستعار([31]).

على الرغم من ان واشنطن قد بدت في اسطمبول وكانها اكتشفت بشكل مفاجئ ضرورة الديبلوماسية وأهميتها في التعامل مع الدول الأخرى والشعوب، فإن الرفضين الفرنسي والتركي كانا فاقعين في وجه منح اي دور لحلف شمالي الاطلسي في العراق او غيره من دول الشرق الأوسط.

 

4-الشرق الأوسط بين القابلين والقائلين بمبادرة مضادة:

لم يكتمل العرض الأميركي بتعاون حلف شمالي الاطلسي مع دول الشرق الأوسط الموسع لفرض زيادة الأمن والاستقرار، اذ لم يتمكن مؤتمر اسطمبول من تسمية سوى مجموعة بسيطة من دول المنطقة، حصرها في الأردن، موريتانيا، الجزائر، المغرب، تونس، مصر، «وإسرائيل»، كما اطلق فكرة بعنوان «مبادرة تعاون اسطمبول» تجاه دول الخليج العربي وفيها أيضاً عرض للتعاون في مجالات الأمن والدفاع([32]).

واذا كانت الامارات العربية المتحدة وقطر والبحرين في طليعة الدول التي دعت الى التمعّن بالمبادرة الأميركية وقراءتها بعمق وتروّ وكشف أوجه الاستفادة منها قبل الحكم عليها برفضها، فإن تخوفاً فاح في الجو الديبلوماسي العربي من ان تكون دعوة الدول الصناعية لستّ دول عربية فقط، لحضور مؤتمر سي ايلاند في جورجيا في التاسع من حزيران نفسه، (وهي البحرين، الأردن، تونس، اليمن، الجزائر ومصر التي لم تحضر) سبباً لمزيد من شقّ العرب وتأليبهم على بعضهم في مبادرة "الشرق الأوسط الكبير".

هكذا ظهر الصراع في ايار الماضي 2004 بين ما اعتبر مقبولاً من العرب تحت عنوان «وثيقة التطوير والتحديث والاصلاح» مقابل مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهي وثيقة تشكل بديلاً عن المبادرة التي تم دفعها دولياً في الدورة الثلاثين لقمة الثماني المذكورة في جورجيا.

 

خاتمة

تحوّلات أرض العرب في صراع الوثائق

لقد ظهرت حدّة الصراعات بين الأطراف في المسودة التي وضعتها الولايات المتحدة للمشروع الإصلاحي، وفيها ردود على الدول العربية المتحفظة والرافضة لمشروع "الشرق الأوسط الموسع".

وتفضي القراءة السريعة للمسودة وللوثيقة التي اعتمدها الزعماء العرب في تونس إلى الوقوع على مبادئ المسودة نفسها المستقاة من المشروع الكبير، ولكن بعناوين عمومية غير محدّدة. فبدا الإصلاح مثلاً عربي الهوية والمواصفات ومتفقاً مع الرواية الأميركية في المسودة لا في المشروع، أو غير متناقض معها على الأقل.

فالبند الثاني من الوثيقة العربية التي تردّ علنياً على المشروع والمسودة، مثلاً، ينص على «تعميق الديموقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام وفي صنع القرار في إطار سيادة القانون وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، وفقاً لما جاء في مختلف العهود والمواثيق الدولية والميثاق العربي لحقوق الإنسان وضمان استقلال القضاء بما يدعم دور مكونات المجتمع كافة بما فيها المنظمات غير الحكومية، ويعزّز مشاركة فئات الشعوب كافة، رجالاً ونساءً في الحياة العامة»، وهو مضمون مماثل في عباراته وعناوينه لما ورد في المسودة الأميركية حول نشر الديموقراطية في المنطقة.

إنه كلام محكوم بالعام والشامل والمستحيل من الفكر والأقرب إلى النظري.

أين سيقع الشرق الأوسط الكبير من هذا كلّه، بل أين يقع العرب؟

إننا أمام صراع نصوص وحبرٍ دقيق مدروس فعلاً، لكن الأرض العربية تشهد تحولات عسكرية وسياسية واستراتيجية تحت مظلة من صراع الوثائق والنصوص. وبين المسودة والوثيقة والمشروع، تبدو المنطقة ككل أمام تداعيات لا آفاق واضحة لها ، ولن تفلح العناوين وتغييرات النصوص أو تبديلها في إيقاف ما يحصل على الأرض. فالمشروع الأميركي مسودة غير محدودة بزمان أو مكان محدد كما أشرنا، ومضمونها مطاط إلى درجة يتصور بعض العرب، إذ يغيرون فيها، أنهم حقّقوا إنجازات وانتصارات، لكنها تبقى غير مترجمة عملياً.

إننا أمام مشروع واسع مستحيل، أما الممكن فيه فلا علاقة مباشرة له بالنص، وهو يتم شيئاً فشيئاً بدءاً من فلسطين والعراق.

وقد يكون الأجدى إلحاح العرب على سلوك «خريطة الطريق» بمعزل عن تعميم الديموقراطية في الشرق الأوسط الموسع، أو إلحاح من أجل مؤتمر سلام دولي محصّن بقرار دولي أي بقوة ملزمة وبعدم تحفظ أميركي، وهنا ما زلنا في دائرة الإستحالة، أو على الأقل، تغيير وجهة برنامج الأمم المتحدة للإنماء في تقريره الثالث المنتظر، أو الإلحاح العربي عليهم بتخليص هذا التقرير من النصوص المستحيلة، فتقلع أميركا، ومعها دول أخرى، عن مطالبة الحكومات بالإصلاح والتنمية كفروض، وهذا أمر يبقينا في دوائر المستحيل، ويبقى العرب في دائرة التكتيك لا الإستراتيجيا.

 

[1]  هنا إشارة إلى نص المشروع الفرنسي - الألماني من أجل مستقبل مشترك مع الشرق الأوسط، مجلة شؤون الأوسط، عدد 114، بيروت، ربيع 2004، ص 217

[2]  www.Aljazeera.net.21/2/2004

[3] جريدة الحياة، نص مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي قدمته واشنطن في قمة الدول الثماني، 13/2/2004

[4]  راجع: القومية العربية والإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1981، ص 17.

[5]  تأتي «إسرائيل» بين قوسين أينما وردت في هذه الدراسة وفي دراساتنا الأخرى كلها.

[6]  اجتمع الرئيس محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية، ومناحيم بيغن رئيس وزراء «اسرائيل» في كامب ديفيد من 5 إلى 17 أيلول 1978 واتفقوا على إطار للسلام داعين أطرافاً أخرى في النزاع العربي الإسرائيلي للإنضمام إليه. جريدة الأخبار، القاهرة، 19/9/1978.

[7]  د.نسيم الخوري، الإعلام الصهيوني، دار اللواء، 1999، بيروت، ص 22-23.

[8]  د.نسيم الخوري، المقاومة تشرق من الجنوب، دار أعلامك، 1994، بيروت، ص 13-14.

[9]  د.بثينة شعبان، المنطقة بعد الحرب على العراق، الأونيسكو، محاضرة في حزيران 2003.

[10]   الشرق الأوسط الكبير، ندوة، شؤون الأوسط، عدد 114، بيروت، 2004، ص 13.

[11]  WWW.Encarta 2004, Moyen orient.

[12]  Gustave le Bon Les civilisations des arabes, le sycomore, Paris, 1980, p.8 n.93-194

[13]  وفقاً لقرار مجلس الأمن 29 تشرين الثاني 1947.

[14]  إن اكتشاف منابع النفط يعود إلى 1908 في إيران ثم 1927 في العراق و 1932 في البحرين. Encarta 2004

[15]  لمزيد من التفاصيل راجع:

            DHORME eduard: Les religions de Babylone et d'Assyrie, Paris, puf.1949. p.12

            BRIERE, Claire: Iran, la revolution au nom de Dieu, Paris, le seuil, 1979, p.35-90

[16]  جان جورج دانيال، مؤتمر مدريد: سيناريو متكامل من أجل السلام في الشرق الأوسط،   3 أجزاء، نوبليس، 1999.

            والواقع أنه بعد مرور 14 عاماً على توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وأربع سنوات على سقوط جدار برلين، وعامين على انهيار الإتحاد السوفياتي، أي في 13 أيلول 1992، كان البيت الأبيض مسرحاً لحدث مهم في القرن العشرين هو لقاء ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين ووزير خارجيته شيمون بيريز، تم على إثره توقيع «إعلان مبادئ الحكم الذاتي للأراضي المحتلة» وهي تأتي ثمرة محادثات عامين سبقا مؤتمر مدريد. ويعلن هذا اللقاء، بإشراف الرئيس بيل كلينتون، الإعتراف المتبادل بين الدولة اليهودية ومنظمة التحرير الفلسطينية والتخلي عن أعمال العنف، الأمر الذي رفضه اليمين الإسرائيلي المتطرف كما المتطرفون الفلسطينيون وخصوصاً حماس.

[17]  النهار، أربعون عاماً على إنطلاقة منظمة التحرير الفلسطينية، 7 تموز 2004، ص 13، تحقيق عباس صباغ.

[18]  جورج مارشال (1880-1959) رئيس أركان الحربية الأميركية في الحرب العالمية الثانية. ناظر الخارجية 1974، وصاحب المشروع الشهير المعروف بإسمه لمساعدة أوروبا بعد الحرب. وقد نال جائزة نوبل عام 1953. راجع .Encarta 2004

[19]  للمزيد من التفاصيل راجع: نسيم الخوري، حي على الفلاح في حلبات الصراع وقاعات المدارس، النهار، الإثنين 19 نيسان 2004.

[20]  الولايات المتحدة تعمل على تغيير أنظمة الحكم في الدول العربية، الكفاح العربي، 20/12/2002.

[21]  راجع نصّ «خريطة الطريق» في 25/6/2002. www.yafanews.com

[22]  27 و 28/3/2002 راجع نص مبادرة السلام العربية في الصحف اللبنانية 29/3/2002.

[23]  لأجل المزيد من التفاصيل حول المبادرة يراجع: هشام ملحم، السفير، 13 كانون الأول .2002

[24]  راجع النهار، الثلاثاء 25 حزيران 2002، العدد 21300، السنة 96، نص الخطاب الحرفي.

[25]  هي ألمانيا وفرنسا وإنكلترا واليابان وإسبانيا وإيطاليا وكندا.

[26]  عقدت في 28/6/2004.

[27]  هي الأردن وموريتانيا والجزائر والمغرب وتونس ومصر و«إسرائيل».

[28]  غسان تويني، من أين «خريطة الطريق» إلى الديموقراطية؟ النهار، الاثنين 23 شباط 2004

[29]  للنائب غسان مخيبر، وزّعا في كراسين صغيرين مطبوعين بشكل أنيق مجاناً على القراء في لبنان.

[30]  نص المشروع الفرنسي الألماني، شؤون الأوسط، عدد 114، بيروت 2004،ص 217.

[31]  رويترز 28 حزيران 2004، رفض فرنسي قاطع إرسال قوات حلف شمالي الأطلسي إلى العراق.

[32]  الصحف والوكالات العالمية 28 حزيران 2004

The Project of the Great Middle East Or The Impossible Initiative

The researcher points out to the difference of the meaning concerning the term of the Middle East concerning the political researchers, then raises many questions concerning the initiative of “the great middle east” which he considers impossible maybe because it tries to weave Israel in the Mediterranean dress. The researcher speaks about the term of “Israel” in the Arab’s texts until it became a major part of the middle east’s countries in the project of “the great middle east” and noticed the simultaneity of this Israeli “progress” with the “decline” of the Arabic presence in the middle east which became since the end of the Cold War the playground of the twenty first century’s struggles. The United States is fighting the Islamic Green “danger” and considers it terrorism while the Arabs refuse its project and related it to the project of Shimon Perez.
The researcher puts forward the region of the Middle East as an area overburdened with history and a spot of intricacy between the east and the west. He focuses on the backgrounds of the Middle East project and its insights remembering what he calls “The tragedy of September 11-2001 and how America used it to attack Afghanistan then Iraq under the pretense of fighting terrorism.
The researcher demonstrates the extent of the Zionist infiltration in the projects of the United States and the constant bias of Washington with Israel and exposes the American vision for some radical solutions in the Middle East which – according to the American president Bush – should be completely transformed because it is impossible for the Israelis to live in horror and for the Palestinians to live under occupation and political corruption.
In this context, the initiative of the American secretary of foreign affairs Collin Powell was the basis of the “great middle east project”.
In a deliberate reading of this project the researcher realizes that it constitutes an experience full with mystery and is threatened to fail especially because of the European opposition and its failures to acquire an Islamic legitimacy.
The democracy which the project professes prepares the Arabs to accept the presence of Israel. The initiative of the great Middle East started with 3 main titles to the effect that the Arabic region complains from three flagrant deficiencies in knowledge, freedom and the participation of women in the social life.
The solutions therefore reside in achieving many purposes including: Encouraging democracy and the application of wise government policies and building a proper educational system based on 3 initiatives dealing with the basic education via the Internet and teaching business management and expanding the economic opportunities and making room for women to participate efficiently in the social life.
The researcher considers it necessary to make reforms in the Middle East in all the domains but he realizes that the American initiative is doomed to failure because it contradicted its closing recommendation in spite of being based on the reports of development.
The project of the great Middle East surpasses the framework of the League of Arab States and is perhaps an introduction to eliminate the Arab system and melt it in a wider system. And what is the most dangerous is that the American project contributes in the development of radical and extremist groups. Therefore, it is more efficient, regarding the researcher, that the Arabs accept the “Road Map” away from the generalization of democracy and that America quits claiming the governments to make reforms and developing their countries as dictations.

Le projet du Grand Moyen-Orient ou l’initiative impossible
Le chercheur souligne la différence terminologique du concept « Moyen Orient » pour les chercheurs politiques puis se pose différentes questions concernant le sens original de l’expression et par la suite le concept de l’initiative du « Grand Moyen Orient » qui s’avère être impossible, selon lui, peut être car elle essaie de faire intégrer Israël dans le monde méditerranéen. Le chercheur évoque le terme d’ « Israël » traité dans les textes des arabes au point que cette dernière est devenue dans le projet du Grand Moyen Orient une part principale des états du Moyen Orient. Il signale que ce « progrès »Israélien concorde avec un « recul » au niveau de la présence arabe.
Le Moyen Orient, dès la fin de la guerre froide, est devenu la scène  des conflits du 21e siècle. Les Etats Unis attaquent le « danger » vert islamique et le considère un terrorisme, alors que les arabes refusent leur projet et considèrent ce dernier lié au projet de Shimon Perez.
Alors que le chercheur considère le Moyen Orient comme étant une région historique, le point de rencontre entre l’Est et l’Ouest, il expose les dimensions du projet du Moyen Orient, en évoquant ce qu’il considère le « désastre du 11 septembre 2001 », et comment les Etats Unis ont bénéficié de cet événement pour attaquer Afghanistan puis l’Iraq sous prétexte de lutter contre le terrorisme.
Le chercheur démontre l’implication sioniste dans les projets des Etats Unis qui prennent toujours le parti d’Israël ; puis il expose la vision américaine pour des solutions radicales au Moyen Orient qui, selon le président américain Georges Bush devra se métamorphoser complètement car il est impossible que les israéliens connaissent la terreur, et les palestiniens l’occupation et la corruption politique.
C’est dans ce cadre que s’annonce l’initiative du ministre américain des affaires étrangères Collin Powel et qui fut la base du projet du Grand Moyen Orient.
Lors d’une lecture profonde de ce projet le chercheur découvre que ce dernier représente une expérience ambiguë qui risque l’échec, surtout face à l’opposition européenne à ce projet qui n’a pas de même réussi à obtenir une légitimité islamique.
Quant à la démocratie évoquée dans ce projet, elle introduit à ce que les arabes admettent l’existence d’Israël. L’initiative du projet du Grand Moyen-Orient s’est basée sur 3 grands titres: la région arabe souffre d’un manque flagrant au niveau de la connaissance, de la liberté et de la participation de la femme dans la vie publique.
Par la suite, les solutions résident dans l’application de plusieurs principes : encourager la démocratie, exercer un gouvernement sage, créer un système de connaissance se basant sur 3 principes portant sur : l’éducation principale, l’enseignement via Internet, l’enseignement de la gestion puis créer les opportunités économiques et céder la place à la femme pour qu’elle puisse participer à la vie publique avec efficacité.
Alors que le chercheur croit en la nécessité d’appliquer des réformes au Moyen-Orient et au niveau de tous les domaines, il prévoit que l’initiative américaine est condamnée à l’échec.
Malgré que cette initiative s’est basée sur les rapports de développement, elle a dérogé à ses recommandations finales. Le projet du Grand Moyen-Orient dépasse le cadre de la ligue arabe et pourrait être le début de l’échec du régime arabe et puis le faire intégrer dans un autre régime plus vaste. Le fait le plus dangereux c’est que le projet américain contribue fortement au développement des intégristes et de l’extrémisme. C’est pour cela, il est plus préférable, selon le chercheur, que les arabes adoptent la « feuille de route » en dépit de la généralisation de la démocratie et l’Amérique arrête d’imposer aux gouvernements les réformes et le développement comme étant des devoirs.