العوافي يا وطن

مشهد من مأذونية عسكري
إعداد: الهام نصر تابت

النقرة الخفيفة على باب المنزل كانت كافية لإيقاظ رشا الصغيرة التي نادت أمها بلهجة واثقة:
- ماما افتحي الباب وصل بابا.
- كيف سيصل بابا في هذا الطقس، وفي هذه الساعة؟ نامي يا حبيبتي قالت منى وهي تربت على كتف ابنتها.
- دق الباب، قالت الصغيرة.
- إنّه صوت المطر، نامي يا ابنتي.
كانت النقرة الثانية أقوى من الأولى ما جعل الأم تتساءل: هل يعقل أن يستطيع الوصول؟ نهضت مسرعة إلى الباب لتفتح القفل الداخلي الذي تحرص على الاحتماء به طالما زوجها في الخدمة. فتحت الباب فإذا به أمامها، وإذ بالصغيرة تقفز فرحًا وتعانق والدها وهي تصيح لتوقظ أخوَيها: «سامر، رنا، إجا بابا»...
ليست المرّة الأولى التي يفاجئ بها سليمان عائلته فيأتي في مأذونية من دون أن يتوقّعوا ذلك. منذ انتقلت قطعته إلى الجرود، بات يتحفّظ في إطلاق الوعود. كان يخشى أن لا تسمح ظروف الخدمة أو حالة الطقس بالوصول إلى بلدته النائية في قضاء صور. وكلما سألوه متى تأتي يجيب: «التيسير على الله». ليست المأذونيات أمرًا مؤكدًا دائمًا. في أحيان كثيرة تكون «مع وقف التنفيذ».
أشعلت منى النار في «وجاق» المازوت، وعقدت العائلة جلسة استثنائية في منتصف الليل احتفاءً بالمناسبة السعيدة. انهالت الأسئلة على سليمان: كيف تتدبّرون أموركم في الثلج، سألت منى، كيف استطعت النزول من جرود رأس بعلبك؟ في أي ساعة تركت المركز؟ سؤال الأولاد كان واحدًا: كم يومًا ستبقى في البيت يا بابا؟ أضافت رشا إلى السؤال عتابًا: أنت لم تأتِ في العيد...
أما هو فكان يبتسم، يوزع قبلاته على الصغار، يشكر الله على وجوده بقربهم، ويؤكد للجميع أنّ كل شيء على ما يرام، ويسأل عن أحوالهم.
هذه المرّة كما في المرات السابقة، لم يخبرهم أنّ المازوت الذي يحترق في «الوجاق» لتدفئتهم يصبح جليدًا في مركز خدمته. أخبرهم عن النعمة البيضاء التي تمنح الطبيعة رداءً لايضاهي جماله جمال. أخبرهم عن الشمس حين تنعكس أشعتها على بياض الجبال فتمحو وحشة صخورها. أخبرهم عن عصافير وطيور وحيوانات برية لا يراها أهل المدن وسكان الساحل. وأخبرهم عن رفاق يتقاسم وإياهم الخبز والفرح والصقيع والتعب والمسؤوليات.
في قرارة نفسها، كانت منى تعلم أنّه يريد من خلال أحاديثه أن يغرس في نفوس صغاره بذور الرضـا والقناعـة والتفاني، وأن يدربهم على تحمّـل المشقّـات ومواجهة الصعوبات والإصرار على التقدم مهما كانت الحياة قاسية.
كانت تعلم وتحاول أن تحذو حذوه في تعاملها مع أولادهما رغم إحساسها العميق بالمرارة في أحيان كثيرة. هي لا تنسى أبدًا أنّها حين أنجبت سامر، ابنهما البكر، كان زوجها في نهر البارد. مرّ شهر قبل أن يرى طفله. وحين أنجبـت رنا كان في جـرود عرسـال. رشـا الوحيدة التي رآها يوم وُلـدت. لكن قبـل أن تكمـل الشهـر الثالث، كان مركز خدمتـه قد أصبـح في جرود رأس بعلبك.
تشعر أحيانًا أنّ الحياة تقسو عليها. لماذا يجب أن تكون الأم والأب معًا؟ لكنّها كلما عاد إليها سالمًا تشكر الرب ألف مرّة. وكلما واجه قلقها عليه بابتسامته الواثقة تذكّرت أنّها تزوجت عسكريًا. كثيرًا ما تُردّد مع الأغنية: «العسكري ما بيسأل. بيتو البارودي بيحملا وبيرحل»...
مضت ساعة على وصوله. سألته ألا تريد أن ترتاح؟ وأشارت إلى الأولاد بوجوب العودة إلى النوم. لم يعودوا إلى الفراش إلا بعد أن نالوا وعدًا من والدهم بأنّه سيكون في المنزل حين يعودون من المدرسة، وسيرافقهم في مشوار.
طبع قبلة على جبين كل منهم. خلع «الرينجر» ووضع رجليه في مياه دافئة: يا له من ترف لقدمين شقّقهما الصقيع. يا لها من سعادة: مأذونية ثلاثة أيام بعد أربعة أسابيع من الخدمة في الجرود.
إنّه مشهد من مأذونية عسكري.
إنّه مشهد يتكرر في بيوت آلاف العسكريين.
العوافي يا جيشنا المنتشر من «مرمى التلج لفقش الموج».
العوافي يا وطن.