مصالح الدول الكبرى في منطقة البلقان

مصالح الدول الكبرى في منطقة البلقان
إعداد: د. لطفي المعوش
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية - مختص بالشؤون البلقانية والدولة العثمانية

إن اهتمام الدول الكبرى بمنطقة البلقان، يعود إلى زمن وقف الزحف العثماني إلى الغرب. فبعد هزيمـة الجيوش العثمانية بزعامة الصدر الأعظم قره مصطفى باشا، على أبواب فيينا سنـة 1638، وبمواجهة مشتركة من قبل النمسا وبولونيا، قامت النمسا بخوض معارك حاسمة مع العثمانيين حتى بلغت الأراضي الواقعة غربي بلغاريا([1]).

وبموجب معاهدة كارلوفتز (Carlovitz) سنة 1699، أصبحت النمسا قوة بلقانية معتبرة. وبالرغم من أنها لم تحقق نجاحات كبيرة ضدّ الأمبراطورية العثمانية في ما بعد، فإن تأثيرها في الجزء الجنوبي الشرقي من أوروبا، صار من العوامل السياسية الدائمة.

وفي الوقت نفسه، ازدادت النشاطات السياسيـة لروسيا، التي كانت تفتش عن مخرج لها على البحرين الأسود والمتوسط. ولم تحمل لها الصدمات الأولى مع الإنكشارية سنة 1677 انتصارات مهمة. ولكن بعد أن احتلّت جيوش القيصر بطرس الأول قلعة آزوف الواقعة على البحر الأسود، بدأت فترة من الحروب المضنية بين الدولتيـن تجاوزت القرن. ففي النصف الأول من القرن الثامن عشر، بدأ التفوّق الحربي الروسي يظهر في معاهدة السلام في 9 كانون الثاني سنة 1792 في مدينة ياسي (ياش-Jasi)، حيث اعترفت تركيا بخسارتها لعدد من الأراضي في بلاد القرم وجزء من بلاد القوبان وبسارابيا والأقاليم الواقعة بين نهري بوج ودينيستر بحيث يكون الأخير فاصلاً بين المملكتين. وهكذا بدأت حالة "الرجل المريض" تزداد سوءاً في أوروبا.

وقد بدأت روسيا باكتساب شعبية كبيرة في الأوساط البلقانية، بسبب ديانة أكثرية شعوب هذه المنطقة بالأرثوذكسية (بلغار، صرب، يونان ورومان) الذين كانوا ينتظرون منها المساعدة للتخلّص من السيطرة العثمانية. وهنا بدأت الحكومة الروسية بإعداد المخططات (حتى منذ أيام إيفان الرابع وبطرس الأكبر وكاترينا) "لتوحيد المسيحيين" الخاضعين للسيطرة العثمانية. وخلال سنة 1795، بدأت الأمبراطورة الروسية مع الزعيم النمساوي فرانس جوزيف الأول، وبحجّة اقتسام بولندا، بتحديد دوائر النفوذ للبلدين في الجزء الجنوبي الشرقي من أوروبا وذلك باتخاذ خط فاصل بينهما، هو خط الطول الذي يمرّ بـ "سكوبيا"([2]).

في هذه الفترة، لم تكن إنكلترا وفرنسا قد انخرطتا بنشاط في الحرب المستمرة من أجل اقتسام التركة العثمانية في البلقان.

لكن الدبلوماسيتين الإنكليزية والفرنسية كانتا تتابعان باهتمام التحركات الروسية في البلقان والقوقاز منذ العشرينات والثلاثينات من القرن الثامن عشر. وهما عمدتا إلى تزويد كل من السلطان العثماني والشاه الإيراني بالمال والسلاح في معاركهما ضد "الاعتداءات" الروسية.

لكن الصورة تغيّرت خلال القرن التاسع عشر، عندما عانت تركيا من أزمة قوية، وعاش المسيحيّون من سكانها حياةً بائسةً، مما لفت اهتمام الرأي العام الأوروبي. ترافق هذا مع قيـام ما سمّي بالتحالف المقدّس (بين روسيا والنمسا وبروسيا بعد الانتصار على نابوليون بونابرت)، إذ كانت روسيا تطمع بإدارة المسائل الأوروبيـة والدولية. وقد أعلن التحالف المقدس في اجتماعه المنعقد في فيرونا سنة 1822، قيام الانتفاضة الوطنيـة في اليونان ضدّ السيادة التركية، كثورة "ضدّ الحاكم الشرعي". وبعدها مباشرة، بدأت روسيا والنمسا وفرنسا وإنكلترا الأعمال العسكرية ضدّ تركيا. لكن الحرب الحقيقية بدأتها روسيا براً وبحراً. فحصلت بموجب صلح أدرنة سنة 1829، على مصب نهر الدانوب وبعض الأراضي. وهكذا فإن تحرير اليونان ودعم الحكم الذاتي للإمارات الدانوبية وصربيا، عزّزا الوجود الروسي في البلقان وأشعلا المنافسة بين النمسا وإنكلترا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى. ومنذ تلك اللحظة، بدأت أوروبا الغربية تعمل بصورة عدائيّة ضدّ الضغط الروسي على السلطنة العثمانية.

وعندما استطاعت روسيا فرض مشروعها على الحكومـة العثمانية، في مسألة تنظيم المضائق على البحر الأسود سنة 1833، شعرت إنكلترا وفرنسا بأنهما الخاسرتـان، فاحتجَّتا لدى روسيا التي اضطُرَّت للتراجع. وكان القيصر نيقولا الأول قد جدَّد مطامحه، ولكن، هذه المرة، كراع (حام للأماكن المسيحية المقدَّسة في فلسطين ولجميع المسيحيين من رعايا السلطنـة). وهكذا لم تتوقف سياسة بطرسبرغ في أي وقت في منطقة البلقان، خاصةً في الدفاع عن السكان المسيحيين فيها. وبفضل جهود الدبلوماسي الروسي الكونت ايفنايتوف، قام السلطان العثماني بإصدار فرمان بإنشاء الإكساركية البلغارية سنة 1870 (الكنيسة البلغارية المستقلة)، التي ساهمت في ما بعد بدعم النفوذ الروسي في بلغاريا.

وجاءت انتفاضات البوسنة - الهرسك، والحرب التركية - الصربية، وانتفاضة نيسان البلغارية (1875 - 1876)، لتجذب اهتمام أوروبا نحو "المشكلة الشرقية". فقد توافقت وجهات النظر الأوروبية بأنه على السلطات التركية أن تقوم ببعض الإصلاحات الديمقراطية، ما عدا روسيا التي كانت على استعداد لتحمل مخاطر قيام حرب مع العثمانيين. فقد نجحت الدبلوماسية الروسية في تأمين حياد الدول الأوروبية التي كانت تعتمد عليها في "التقاط حبات الكستناء من النار" توصلاً لاقتسام التركة العثمانية. لكن إنكلترا والنمسا - المجر كانتا تحرصان على عدم زوال الدولة العثمانية، فعملتا على تهديد روسيا بشن الحرب. فتدخلت الدول الأوروبية الأخرى خلال سنة 1878، وتداعت إلى عقد اجتماع في برلين([3]).

وسعى القادة الإنكليز والنمساويون، تؤازرهم سراً فرنسا وألمانيا، لإجبار روسيا على التخلي عن مشاريعها لإقامة دولة سلافية قوية وكبيرة - بلغاريا - لأن الغرب ينظر إليها كموقع روسي متقدم في منطقة البلقان . وفي مقابل هذه المساندة التي حصلت عليها تركيا، حصلت إنكلترا على جزيرة قبرص والنمسا على البوسنة والهرسك وفرنسا على تونس. وخلال عام 1882، تشكل الاتحاد الثلاثي من ألمانيا، النمسا-المجر وإيطاليا، فتمكن لدرجة كبيرة من الحلول مكان روسيا في البلقان. ولمَّا كانت روسيا آنذاك في وضع لا يسمح لها بفرض نفوذها، اتَّسمت سياستها بالفشل مما دفع الأوساط المثقفة من الرأي العام في الدول البلقانية، بالرغم من قوة الاتجاه المؤيد للروس لدى العامة، إلى التطلع إلى الغرب. فقوي النفوذ النمساوي في أوساط الرعايا من التشيك : من مثقفيها ورجال الأعمال، الذين سرعان ما وجدوا طريقاً سالكاً لدى الشعوب السلافية الأخرى التي استفادت من التطور الاقتصادي والثقافي. وقامت ألمانيا، التي كانت تعمل في هذا الوقت للسيطرة على المجال البلقاني المؤدي إلى الشرق الأوسط، (خاصة خط حديد بغداد) بتقديم عروض مشَجعة أكثر من النمسا. ومع اعتزال بسمارك الذي حظي باحترام روسيا لأنه كان يتفادى أي خلاف مكشوف في النزاعات البلقانية، راحت السياسة الألمانية تتوجه مباشرة إلى تركيا، فأصبح الجيش التركي يعتمد على السلاح الألماني في عتاده وتجهيزه، وبدأ الخبراء العسكريون الألمان يساهمون في إعداد الجيش  التركي وتدريبـه. وتشكلت عقدة جديدة من التناقضات بين ألمانيا وإنكلترا على الساحتين البلقانية والشرق أوسطية.

وعلى ضوء العلاقات الجديدة بين القوى في منطقة البلقان، حصلت تأثيرات قوية وتغييرات مهمة على المسرح الأوروبي تمثّلت بقيام معسكرين قويين عكسا الخلافات الجغراسية بين القوى - البحرية الاستعمارية : إنكلترا وفرنسا، والنواة الأوروبية الوسطى : ألمانيـا والنمسا - المجر التي كانت تهدف إلى السيطرة على ما وراء البحار والمنافذ إليها. وخفت المنافسة التقليدية الإنكليزية الروسية نتيجة التخوف المشترك من ألمانيا التي كانت هي الأخرى تفتش عن مكان لها تحت الشمس. لهذا السبب، فإن إنكلترا بدأت بمراجعة سياستها الودية من تركيا في بداية القرن العشرين، وانتقلت إلى الدفاع عن مصالح الشعوب البلقانية الخاضعة لها / البلغار في مقدونيا /. وعلى ضوء هذا، أصبحت منطقـة البلقان حقل رماية في معركة التفوق العسكرية عشيـة الحرب العالمية الأولى. فقد هدفت كل من ألمانيا والنمسا - المجر للسيطرة على الأراضي والأسواق والمواصلات الستراتيجيـة في منطقتي البلقان وشرقي أوروبا، فيمـا أعادت فرنسا وإنكلترا وروسيا النظر في المنطقة من وجهة عالمية شاملة. وبينما كانت ألمانيا تشارك بنشاط في اقتسام الأراضي في أوكرانيا، شمالي دوبرودجا ومقدونيا، كانت دول الاتفاق الودي تناضل من أجل التواجد الستراتيجي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا ومنطقة البلقان، وذلك عن طريق حزام من الدول الصديقة الحليفة. وهكذا كانت معاهدة فرساي سنة 1919 التي أكّدت قيام يوغوسلافيا (دولة سلافية كبيرة على حساب العديد من الأراضي الهنغارية، البلغارية، الأوكرانية وغيرها)، ورومانيا.

 

وهكذا ثبَّتت المعاهدة الدور المسيطر لإنكلترا وفرنسا في البلقان والعزلة المؤقتة لألمانيا وروسيا... وتدخّلت الولايات المتحدة الأميركية بصورة نشيطة في المسائل الأوروبية، بسبب قوتها الاقتصادية ودبلوماسيتها الخارجية النشيطة. فقد قرّرت واشنطن القيام بمحاولات للتمركز في البحر الأدرياتيكي، في منطقة المضائق والبحر الأسود. واعتبر الرئيس الأميركي ويلسون أن بإمكان الولايات المتحدة عزل منافسيها الأوروبيين في هذه المنطقة من العالم، عبر "الفدرالية البلقانية"، تحت مظلة الولايات المتحدة الأميركية([4]). وفي مؤتمر باريس، انتهجت الولايات المتحدة سياسة مختلفة عن الدول الأوروبيـة المنتصرة إذ أنها أصرّت على انتدابها على "دولة اسطنبول"([5]). وخلال الثلاثينات، عادت ألمانيا مجدداً إلى البلقان، ففرضت الدولة النازية نفسها على الأنظمة البلقانية وقدّمت لها عروضاً تجارية مغرية Clearing agreement في الظروف الصعبة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد ازدادت أطماع ألمانيا وإيطاليا لإعادة النظر بمعاهدة فرساي، وطالبتا علناً بإيجاد حدود جديدة. وبعد الانتصارات العسكرية والسياسية (1938 - 1940) (اتفاقات ميونيخ، هزيمة بولونيا، المعاهدة الروسية الألمانية للصداقة وعدم الاعتداء، ومجموعة من قرارات تحكيم الأراضي في أوروبا الشرقية)، خفَّ نفوذ جميع القوى الأخرى في منطقة البلقان بصورة مفاجئة.

وازدادت هوة الاختلاف في وجهات النظر بين الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا حول المسائل البلقانية أثناء احتدام المعارك. وخلال عام 1943، حوَّلت الولايات المتحدة مشروع تشرشل غزو منطقة البلقان لمصلحة إنزال النورماندي. وهي بذلك أرادت أن يكون واضحاً أن البلقان منطقة مهمة لمخططاتها التي تعقب الحرب وأن لندن لا يمكنها أن تعتمد على المساعدة في مواقفها "الأمبراطورية" في هذه المنطقة من العالم. ومنذ بدايـة العام 1944، تشكّلت لجان لمنطقة البلقان - الدانوب أعدَّت الوثائق المفصّلـة الخاصة المتعلّقة بالحدود البلغارية اليونانية والمشكلة المقدونية، وجرى العمل بشكل جدّي للحلول الممكنة لمشكلة مقدونيا المعقَّدة لأنها تتعلّق بالعديد من الدول في هذه المنطقة([6]). وظهر دور تركيا المفيد والمهم في المؤتمرات التي عقبت الحرب من أجل المسائل البلقانية([7]). وكانت آخر محاولة نشيطة قامت بها إنكلترا للمحافظة على نفوذ لها في المنطقة، هو الاتفاق المعروف بـ "تشرشل - ستالين" سنة 1944 لتقسيم دوائر النفوذ في شرقي أوروبا. لكنَّ هذا الاتفاق لم يحمل إلى لندن سوى نجاح معنوي، لأن المجالات الدبلوماسية والعسكرية بين المتحالفين كانت محدودة سلفاً منذ اجتماع طهران، بينما لم يُعط سير العمليات العسكريـة والصلات الجغراسية الحقيقية لهذه القوى إمكانات إضافية لإنكلترا([8]).

وأسفرت الحرب العالمية الثانية، عن إعادة توزيع النفوذ في البلقان. فقد جاء إلى الحكم في رومانيا، بلغاريا، يوغسلافيا وألبانيا أنظمة مؤيدة للاتحاد السوفياتي. وفي اليونان، انفجرت حرب أهليـة عنيفة بين القوى المحلية التي تميل لمناهضة ألمانيا وبين الحكومة اليمينيّة العائدة من لندن. وأعلنت هذه الأخيرة أنها لا تتحمّل أية مسؤولية عسكرية أو مالية في هذا الجزء من العالم، كما طالب الاتحاد السوفياتي بإعادة النظر في نظام المضائق وتصحيح الحدود الشمالية الشرقية مع تركيا لصالح الجمهوريات القوقازية الشمالية([9]). وخلال سنة 1947، أعلنت الولايات المتحدة عن المعارضة المباشرة للنفوذ الروسي المتصاعد في البلقان وفي منطقة البحر المتوسط، وذلك بإصدارها "مبدأ ترومان"، والذي بموجبه يصار إلى تقديم مساعدات عسكرية ومالية مهمة لليونان وتركيا وربطهما باتفاقات محدودة.

وطغت "الحرب الباردة" على الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لأن شبه الجزيرة لعبت دوراً ستراتيجياً في مخططات حلف الناتو (الأطلسي) سنة 1949 وحلف وارسو (1955). فقد أدخل الاتحاد السوفياتي منطقة البلقان في المنطقة الجنوبية الشرقية لعملياته العسكرية التي كانت ضمن عمليات عسكرية محتملة عبر مضائق : جبال الألب، شمالي الأطلسي، الأدرياتيكي، بحر الأيوني والبحر الأسود([10]). وكانت الولايات المتحدة قد عملت على تجهيز البنى التحتيـة العسكرية لخاصرة الناتو الجنوبية من أجل حماية إيطاليا، تركيا واليونان وضمانة طرق المواصلات في البحر المتوسط والمياه الإقليمية لتركيا في البحر الأسود. وتشكّلت فرق قوية تزيد عن المليون شخص، هدفها القيام بمهمات عسكرية دفاعية وهجومية، بما فيها استخدام الأسلحة النووية التي نُشرت في تركيا واليونان.

وخلال الخمسينات والستينات، تبدّلت الصورة السياسية للبلقان، وبدأ الانشقاق يأخذ طريقه إلى "المعسكر الاشتراكي"، مما شجّع الغرب ليركّز اهتمامه على هذه الدول، مثل يوغسلافيا، رومانيا وإلى حدّ ما ألبانيا. وبفضل الدبلوماسيتين الأميركية والإنكليزية، انعقد ما يُسمَّى بالتحالف البلقاني (1953 - 1954) بين يوغسلافيا، تركيا واليونان، بهدف توسيع قاعدة حلف الناتو ونشاطه في المنطقة. ولكن بسبب التحسن الذي طرأ على العلاقات السوفياتية - اليوغسلافية والنزاع الإيطالي اليوغسلافي حول تريست، وفي ظل أجواء التوتُّر في العلاقات التركية - اليونانية والخلافات الموجودة حول قبرص، فقد هذا التحالف مبرِّر وجوده. وكانت سياسة فرنسا أيام ديغول وبعده، تسعى لإقامة العلاقات مع رومانيا التي كانت تعتبر أن هناك علاقة عرقية ثقافية تربطها بها على أساس رابطـة الجذر اللاتيني اللغوي. وبين 1965 - 1970، فتحت ألمانيا أبوابها لملايين اللاجئين اليوغسلافيين واليونانيين والأتراك، حتى أنها عرضت على بلغاريا المعروفة بتبعيتها للسوفيات قرضاً من 600 مليون دولار. وتحت تأثير النزاع القبرصي، ازدادت الهوَّة في العلاقات التركية اليونانية، وتميّزت مواقفهما في العديد من الأمور عن السياسة الأميركية وسياسة الحلف الأطلسي، خاصةً في قضايا الشرق الأوسط والحرب في فييتنام.

 

وخلال السبعينات والثمانينات، ازداد التزاحم والتسابق بين القوى العظمى وأصبح التكافؤ في السلاح النووي هو المرحلة الحاسمة. وبلغ هذا ذروته مع إدارة رونالد ريغان وعلى جميع جبهات الحرب الباردة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والنفسية.  ولمَّا صارت إمكانات ازدياد النمو الاقتصادي لدول البلقان الاشتراكيـة محدودة في بدايـة الثمانينات، فقد ظهرت موجة من التململ الاجتماعي الذي فجَّر التناقضات الإتنيَّة والدينيـة. وحملت التغييرات التاريخية التي حصلت بعد عام 1989 وضعاً جديداً نوعياً في منطقة البلقان : انهار حلف وارسو، وتفككت يوغسلافيا، وسقطت الأحزاب الشيوعية من السلطة في رومانيا وبلغاريا، والأهم من هذا تزعزع الاتحاد السوفياتي، العدو الستراتيجي الوحيد لكل المعسكر الغربي في هذه المنطقة. وهكذا لم تعد مصالح الدول الغربية خاضعة لمؤشّر الصراع بين المعسكرين بل للعديد من العوامل الجديدة.

ومع انهيار الأنظمة التوتاليتارية في العديد من الدول البلقانية، أُفسح في المجال لمرحلـة انتقالية للاقتصاد القائم على العرض والطلب ونظام التعددية الديمقراطية. وهذا فتح مجالات جديدة أمام الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين للعمل بحرية في المنطقة. فمن ناحية، نشأت ظروف مناسبة لتوحيد السوق الأوروبية، ومن ناحية أخرى لتكامل جميع الدول البلقانية مع الأنظمة الأوروبية الأطلسية، مما وضع الدول الغربية الأوروبية، لأول مرة، على مفترق الطرق البلقانية لاختيار الجهة التي تريدها بحرية، بعد أن كانت تشكل برميل البارود لكل أوروبا.

أضف إلى ذلك أن المشاكل اللاتينية، القومية والدينية...عادت إلى الظهور على المسرح السياسي، وأن انعدام ممارسة التقاليد الديموقراطية والفراغ على صعيد المؤسسات، شكَّلا تربة خصبة لقيام الموجة القومية الجديدة التي عمّت الأقطار البلقانية.

وفي السنوات الأخيرة، ظهر، من جديد، العديد من النزاعات والصراعات القديمة حول الأقليات والأراضي مثل : ترانسلفانيا -  Transylvanie - (بين رومانيا والمجر) وبيسارابيا - Bessarbie - (بين رومانيا، روسيا وأوكرانيا) وكوسوفو (بين ألبانيا وصربيا) ومسألة مقدونيا (بين إحدى جمهوريات يوغسلافيا السابقة : مقدونيا - Macédoine -، بلغاريا، اليونان وألبانيا)، والمشاكل ذات الطابع اللاتيني التركي في اليونان وبلغاريا؛ والنزاع التركي اليوناني حول قبرص والمياه الإقليميـة في بحر إيجه. وقد أدَّى سقوط الاتحاد السوفياتي، إلى بروز قوى لم يكن منتظراً ظهورها، ولكنها تشكل ضغطاً قوياً في مختلف الاتجاهات. صحيح أنه ليس لديها قوة الدولة السوفياتية ولكن توجهاتها الدولية آخذة بالتبلور. لهذا فإن أثرها على مجموعة من المواقف البلقانية يمكن أن يستدعي سلسلة من ردود الفعل المعقّدة، وأن يضع أوروبا أمام قرارات مصيرية لا بد منها، وإن كانت تحاول تفاديها بأي ثمن. إن القضية الوطنية التي حملتها روسيا على مدار مئات السنين، ودفعت ثمنها غالياً مثقلاً بالتضحيات الجسام، قد تلاشت اليوم في ظل تراجع تأثير البلاد الاقتصادي، علماً أن روسيا حتى سنة 1989، كانت القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، وتراجعت في عام 1995 حتى المركز السابع إذ بلغت قيمة المنتوجات الخام الداخلية 800 - 900 مليار دولار، أي أقل من الناتج الفرنسي([11])، رغم محاولاتها لاستعادة المكانة التي كانت تتميز بها كدولة عظمة. حتى الطبيعة جارت على هذه البلاد، إذ ثمة فتحة واسعة في طبقة الأوزون تتيح للأشعة البنفسجية القاتلة الانتشار فوق سهوب الدون الواسعة وحقول القمح في كوبان([12]).

أما العامل الإسلامي الذي يزداد قوة في منطقتي الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، في محاولة أصولية يائسة للدفاع عن القيم الدينية ولمواجهة ثقافة العصر وتكنولوجيته، فقد تأثر به العديد من مسلمي البلقان، خصوصاَ تركيا، التي تُشجع، بصورة علنية، الجماعات التركية المسلمة في شبه جزيرة البلقان، وتحاول تحريك مجموعات مسلمة ليس لها أي رابط قومي تركي ولا علاقة بالثقافة واللغة التركية. وهذا يمهّد الأرض من أجل قيام دولة إسلامية بلقانية تضمّ كوسوفو السنجق والبوسنة. وهي فكرة بدأت منذ حوالى سنة 1931 في المؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس([13])، مما سيُشكل مصدراً جديداً للتوتر في منطقة جنوبي شرقي أوروبا غير المستقرّة.

وكانت عقدة الصراعات الجغراسية الجديدة حول البلقان قد حملت الحرب إلى يوغسلافيا. وهذه الحرب لم تندلع فيها فجأة، إذ نشر العديد من الصحافيين الأوروبيين والأميركيين تقريراً للمخابرات الأميركية مفاده : "إن يوغسلافيا يمكنها أن تصمد، ولكن ليس أكثر من ثمانية عشر شهراً" ([14]). فالأزمة كانت ثمرة لتفكك دولة أوروبية مهمة ذات تاريخ معقّد، سيطرت عليها الهموم نتيجة تراكم الأخطاء وردّات الفعل التي ارتكبتها القوميات الموجودة فيها([15]).

 

هذه الحرب أبرزت تناقض مصالح الدول الكبرى الأوروبية. فالمؤسسات الدولية تمكّنت فعلاً من حصر ميدانَي الصراع ضمن حدود ما سمي بـ "يوغسلافيا". ولكن الفترة الممتدة من اندلاع الأحداث حتى الوصول إلى اتفاق "دايتون" حول البوسنـة مليء باليوميات الدامية والأحداث المأساوية التي تدلّ على فشل الوساطات الدولية. وهنا يمكننا عرض الشريط التالي الذي يعكس الحقائق التالية :

-حتى قبل اندلاع الحرب، حاولت المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، بوتائر دبلوماسية عالية، تهدئة النزاعات والحفاظ على وحدة البلاد. وقد ساد الاعتقاد أولاً بأن تطور الأحداث في يوغسلافيا سيكون على طراز دول أوروبا الشرقية، وأن هذه الدول ستتحوّل إلى دول تسيطر فيها القوى الديمقراطية.

-مع الحرب في سلوفانيا سنة 1991، وبفشل مؤتمر ليشبونة خلال آذار سنة 1992 بشأن البوسنة والهرسك، ومنذ بداية الصدامات، أعلنت ألمانيا اعترافها باستقلال سلوفانيا وكرواتيا، ولعبت المجموعة الأوروبية دور الوساطة. ومن وقت لآخر، كثّفت الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة نشاطها وتمكَّنت من وقف النار في كرواتيا.

-رفض الصرب مشروع "فانس اوين"، وقام الرئيس الفرنسي بزيارة مفاجئـة لمطار ساراييغو في تشرين الأول سنة 1992. وقد طُرحت جميع المبادرات السلمية في هذه الفترة، ضمن إطار الأمم المتحدة ومؤتمر جنيف.

-بعد فشل المحاولات الأميركية، حاولت، المجموعة الأوروبية بذل جهودٍ جديدة لوقف الحرب في البوسنة والهرسك على أساس المشروع الفرنسي - الألماني (جوبيه - كينكل) و "مشروع لوكسمبورغ". وقد انهارت جميع الآمال في كانون الأول 1993، عندما أعلن مسلمو البوسنة رفضهم لمشروع "اوين - ستولنبورغ".

-في شباط سنة 1994، ومع بدء التدخّل العسكري لحلف الناتو، والمبادرة السياسية الروسية في الأزمة الجنوبية، توحّدت جهود الولايات المتحدة الأميركية، روسيا ودول الاتحاد الأوروبي (إنكلترا، ألمانيا وفرنسا) في ما سُمِّي "مجموعة الاتصال" التي تعهدت رعاية النشاطات الجارية على أراضي "يوغسلافيا" السابقة. وقد اعتمدت المجموعة خطة لضبط الأزمة، استبعدها مسلمو البوسنة ولم يوافق عليها برلمان صرب البوسنة. وكانت النتيجة الوحيدة التي تم التوصّل إليها هذه السنة، وقف العمليات العسكرية بين الكروات والمسلمين في البوسنة، والتفاهم لإقامة فدرالية مدعومة من قبل الولايات المتحدة.

-في ربيع سنـة 1995، عرض وزير الخارجية الفرنسية جوبيه على لقاء ثلاثي بين يوغسلافيا، البوسنة وكرواتيا، الاعتراف بالجمهوريات اليوغسلافية السابقة والخطة Z-4 لسلوفانيا. وبدأ كل شيء من جديد، فالجيش البوسني المسلم بدأ يتلقى السلاح من بعض الجهات الإسلامية وتحول إلى الهجوم، والجيش الكرواتي دخل كراينيا الصربية وسيطر على مواقع ستراتيجية. بعدها ردّ الصرب بهجوم مضاد، فقام الحلف الأطلسي بالانتقام. مما أدى إلى إلقاء القبض على حوالى 400 عنصر من  القبعات الزرق.

وبعد توجيه إنذار لفكّ الحصار عن ساراييغو، بدأ حلف الناتو عملية عسكرية ضدّ صرب البوسنة، لضرب قواعدهم العسكرية ومراكزهم الإدارية. وقد قام المسلمون والكروات من جديد، بالهجوم، مستفيدين من هذه الهجمات العسكرية، وسيطروا على أراضٍ جديدة مهمة كانت تحت السيطرة الصربية. وفي نهاية أيلول، تمّ التوصّل إلى اتفاق لوقف العمليات العسكرية. وهو من حيث المبدأ مشروع أميركي يتوافق إلى حدّ كبير مع الخطة التي طرحتها مجموعة الاتصال.

وأدى عدم النجاح في  تدويل الأزمة إلى توتير الأوضاع أكثر فأكثر. وبالرغم من أن الوسطاء حاولوا وقف الحرب، أو تخفيف المعارك الدموية، إلا أن الأسباب الحقيقية للأزمة لم تؤخذ بعين الاعتبار. إلى جانب أن جميع الدول الأجنبية التي تدخّلت في حلّ الأزمـة، كانت تحاول تحقيق مكاسب خاصة وتهدف إلى زيادة نفوذها في المنطقة على حساب القوى الأخرى. ولكن تبيّن أن الخسارة كانت حليف الجميع، لأن تصعيد الأزمة وضع على المحك المصداقيات الأوروبية والدولية.

إن حوالى ثلاثة قرون من التعاون والمنافسة في منطقة البلقان، جعلت الدول الكبرى في وضع نفسي انعكس على سياستها الحاليـة. وهكذا فإن ألمانيا ما زالت تصف البلقان بأنه أقصر الطرق إلى الشرق الأوسط، مصدر المواد الأولية والسوق المهم لتصريف بضائعها.

أما روسيا، فإنها تعتبر منطقة البلقان مفتاح أمنها، وهي بالتالي تضمن لها مخرجاً يوصلها إلى المياه الدافئة، ومجالاً حيوياً لضواحيها الجنوبية في حال قيام أي اعتداء خارجي.

وإنكلترا وفرنسا، تعتبران البلقان، منذ القدم، منطقة لوقف الهجوم الروسي والألماني من الجنوب والشرق، حيث كانت مستعمراتهما ودوائر نفوذهما.

أما الولايات المتحدة الأميركية، فهي تنطلق من رؤيا شاملة وستراتيجية واسعة وقوية قوامها أن البلقان حجر الزاوية لوقف روسيا وعودتها المحتملة إلى المنطقة.

من كل ما تقدم، يمكن القول إنه إذا كانت منطقة البلقان تُعتبر منطقة على درجة كبيرة من الأهمية، فإن منطقة أوروبا الشرقية بالنسبة لألمانيا هي منطقة ذات أهمية حيويّة، أما بالنسبة لفرنسا وبريطانيا، فهي ذات بعد ستراتيجي، وإن الولايات المتحدة تنظر إلى المنطقة، وقبل كل شيء، ضمن إطار سياستها العامة الشاملة. لكن الجميع يخشى أن تكون الخلافات الداخلية في منطقة البلقان، بداية لاندلاع حرب عالمية، لأن المفهوم الحديث للـ "بلقنـة" لا يحظى برضى الدول الأوروبية، فيما يقود الدول البلقانية إلى مزيد من الخلافات والصراعات مما ينعكس سلباً على التفاهم الأوروبي.

صحيح أن الدول الكبرى حاولت، ولا تزال، الاستفادة من هذه الصراعات على أساس مبدأ "فرِّق تسد"، لزيادة نفوذها في المنطقة، لكن أهمية شبه جزيرة البلقان تزداد عندما تقف أوروبا في وجه قوّة منافسة في الجنوب الشرقي أو في الشمال الشرقي، وعندما تتصادم المصالح في هذه المنطقة الحامية الواقعة على الخريطة السياسية. أضف إلى ذلك أن الدول الأوروبيـة كانت تعتبر منطقة البلقان أرض مشاع لها ويمكنها أن تفصِّل فيها رغباتها ومصالحها وتنظّم دوائر نفوذها تبعاً للسلام الأوروبي وكما تراه الدول الأوروبية الكبرى.

إن انهيار نظام ثنائية القطب، أدّى إلى قيام تغييرات جذرية في البنوراما السياسية في جنوبي شرقي أوروبـا، وميزان القوى الذي كان معروفاً زمن الحرب الباردة، اختلّ أيضاً، واختلّ معه الاستقرار النسبي في أكبر جزءٍ من المنطقة. لقد عادت الأحداث تجذب الانتباه من جديد، نحو أهميـة شبه جزيرة البلقان من الناحية الجغراسية والتاريخية، كمفتاح لفهم أي مشكلة وحلّها.


[1] المحامي محمد فريد بك، "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، بيروت، دار النفائس، 1981 ص 301.

[2] ف. ألكساندروف، "الأمن الأوروبي والدول الدانوبية"، المجلة العسكرية البلغارية، سنة 1993 ص 8

[3] معوش لطفي، "المسائل البلقانية في العلاقات الروسية التركية، من نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين". مجلة تاريخ العرب والعالم، العدد 140، سنة 1992، ص 56-65

[4] بووف إ.، "البلقان في سياسة الولايات المتحدة الشاملة"، صوفيا سنة 1975، ص 7

[5] بانتيف أ.، بتكوف ت.، "الولايات المتحدة وبلغاريا في الحرب العالمية الأولى"، صوفيا سنة 1983، ص 105

[6] HULL Cordell, "Memoirs". Vol. III, New York 1948. P. 1376

[7]CHURCHILL Winston, "The second world war triumph and tragedy", 1945     P. 988

فقد أعلنت بريطانيا رسمياً عن وقف اهتماماتها البلقانية، خاصةً في اليونان بعد الإعلان عن مبدأ ترومان سنة 1947

[8] EREN Nuri, "Turkey today and tomorrow,  An experiment in westernization". Praeger 1963 - P. 233

[9] SHOUP P. and HOFFMAN G., "Problems of Balkan security", Washigton D.C. the Wilsen center press 1990, P. 210.

[10] The Universal Almanac 1993. P. 423

[11] مجلة العلاقات الدولية البلغارية، عدد 2/3/1993، ص 5

[12] VELISLAVOV K., "Geopolitical aspects of the Yugoslav crisis and the situation in the Balkans",  Bulgarian military review. No 3-4 1993, P. 65.

  GHEBALI V., SAUERVEIN B., "European security in the 1990", Geneva 1995. P. 135;

[13] KARAOSMANN Oglu Ali, "Chaos in the Balkan", Research papers no. 22 New York 1993. 

[14] منذ كانون الأول سنة 1989 وكانون الثاني سنة 1990، نشر العديد من وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية، تقريراً للمخابرات الأميركية، ذكر فيه أن يوغسلافيا ستصمد ولكن ليس أكثر من 18 شهرا،ً وكان أشهر التعليقات ما كتبه مارت لاين في صحيفة الواشنطن بوست

[15]  المعوش لطفي، "القضية القومية في يوغسلافيا". مجلة تاريخ العرب والعالم، العدد 139، سنة 1992،   ص 79-87؛ "الجذور التاريخية للتفكك اليوغسلافي"، مجلة أوراق جامعية، عدد 3-4، 1993، ص 95-110