رأي

مصمِّمُ أزياءِ النّصوص
إعداد: روني ألفا

في الكِتابَةِ شيءٌ مِن الأُمومَة. شيءٌ مِن الخُصوبَة. كلّ خصائِصِ الحَمل متوافِرَة في هذه الهامَةِ الوَرقيَّة حينَ ينتَفِخُ بَطنُها بِجَنين الكلِمَة. حتّى ولَو كنتَ تكتُب لِتَعيش لا يمكِنُكَ أن تَكونَ مرتَزَقا. المرتَزَق في الكِتابَة مثل التاجِر الذي يبيعُ المَمنوعات. إقرأ جيّدًا المرتَزَق. لا بدَّ وأن تَجِدَ بينَ طيّاتِ سطورِه شيئًا مِن الثّورَة. الثورَة عَلى ما كتَبَه هوَ نفسه قبلَ سطرٍ أو مقطَع أو قبلَ مقالَةٍ سابِقَة. عَدَمُ الرّضَى سِمَةٌ مِن سِماتِ الكتابَة. هذه العادَة القاتِلَةُ التي تَدعوكَ إلى مُراجَعَةِ نصِّكَ قبلَ إرسالِه إلى العَلَن. كَمٌّ مِن الخَوفِ والتوجّس يتملّكانكَ حينَما تقرّر الانسلاخ عَما كَتَبتَه. حينَ تُقَرِّرُ أنّه آنَ أوانُ ارتِحالِهِ عَن الخاصّ والتِحاقِه بالعام. تَمامًا كَما تَعتَني بالمَظهَر قبل أن تخرُجَ إلى النّاس. قبلَ أن تُجيبَ ردًّا عَلى سؤال. نصُّكَ هو مرآةُ الذّات وقَد خَرَجَت مِن تَلافيفِ الروح إلى عالَم الأشياءِ المَنظورَة.
هذه مشقّةُ الكِتابَة. أن تواكِب. أن تَكونَ شَريكًا في الحَياة اليوميَة. أنتَ تقرّرَ كيفَ سيبدأُ النّهار وكَيفَ سَيَنتَهي. مَنسوبُ التّفاؤلِ أو التّشاؤُمِ مَنوطٌ بِك. نصُّكَ هوَ الزِّئبَق الذي يُشيرُ إلى حَرارَةِ اليأسِ أو التّفاؤل. سَنةٌ مرَّت عَلى نصوصٍ كَتبناها نراجِعُها اليوم قَبل أن تُلقِي هذه السّنَة بِنفسِها في بحيرَةِ الصّيرورَة. نراجِعُها بشيءٍ مِن الخَوف. يَعتَرينا شعورٌ بِأنّنا ننبشُ قَبرًا أو نتأمّلُ في جثمان. تَعتَريكَ الدّهشَةُ كَم أنَّ النّصوصَ المَكتوبَة تَبقَى عَلى قيدِ الحَياة. تذهَبُ إليها حامِلاً إكليلاً. تَعودُ مِنها حامِلاً قبلَة. مئَةُ مَقالَةٍ في السياسَةِ والأدَبِ والاجتِماع كتبتُها هذه السّنَة أشبَهُ بصَبايا خرَجنَ مِن رَحِمِ القَلق والأرَق إلى بيتِ القِراءَةِ الزّوجي.
هيَ صِناعَةُ الرّأي العام. قَد لا يعتَرِفَ البَعضُ بقدرَةِ الكِتابَةِ عَلى صِناعَة الرأي. هذه الحِرفَة صَعبَة. أدواتُها بِحاجَةٍ إلى التّلميعِ المستمِرّ والصيانَة الدوريَّة. يجِبُ حِمايَة مَصنَع الكِتابَة مِن الصّدأ. الصّدأُ يتآكَلُ القَلَم حينَ يَعتَريهِ التّكرارُ المَمجوج وتَوبيخُ الضّمير. في كلِّ نصٍّ يَجِبُ أن تَبني. كلُّ حَرفٍ لَبِنَة. كلُّ كلمَة نافِذَة وكلُّ جملَةٍ شرفَة. أنْ تُفَكِّرَ كيفَ تُجهِّزُ لِنزلائِكَ من القرّاءِ مَكانًا للإقامَة لا مَكانًا للانتِحار. أن تحثَّهُم عَلى الحِفاظ عَلى أناقَةِ الوَطن. عَلى أساسِه وأثاثِه. أن يُسهِموا في تنظيفِه وتَلميعِه وإبقائِه وَطَنًا بِنوافِذ لَمّاعَة لا بِجدرانٍ سَميكَة. وطَنٌ تدخلُ إليهِ شَمسُ الحريَّة وتخرُجُ من نَوافِذِهِ فخّاراتٌ تتدلَّى مِنها زهورٌ بألوانٍ لا تُحصَى.
أسهَلُ حشرَجَات الولادَة عندَما يولَدُ نصٌّ تسمّيه «الجيش». تكتُبُ عَن الجيشِ بِيُسرٍ لأنّك غيرُ مقيَّد بِضوابِط سياسيَّة. فجأةً يتحوّلُ نصُّكَ إلى نسخةٍ طَبق الأصل عَن البَزّة العسكريَّة. نصٌّ مرقّطٌ هو ما تَحصُل عليه حين تقرّر أنّ حَملَكَ حَميدٌ وأنَّ جنينَ الجيشِ في أحشائِكَ يتغذّى مِن تلافيفِ أحشائِك. يشرَبُ مِن دموعِكَ ويتغذّى مِن دورَتِكَ الدمويَّة. فَقَط عِندَما تكتبُ عَنِ الجيش تخرُجُ من السياسَة وتدخلُ إلى الوَطن. كلُّ نصّ كتبتُهُ أو مقالَة دبّجتُها في الجيش خِلال مسيرَتي بِمثابَة نَجلي أو كَريمَتي. أزورُ نصوصي وَيزوروني بإستِمرار. الكتابات الأخرَى تتحوّل إلى إصدِقاء وَمَعارِف. الأولاد زينَة النصّوص. الأصِدقاء زينَة الأوقات. مع هذ الثلَّة من الأوفياء يغتَبِطُ الكاتِبُ وتتعاظَمُ عائلَتُه وتَقوى شَكيمَتُه. مَعها يَمشي مَلكًا.
سَنةٌ تَغورُ في الذكرَيات. أُخرَى أسحَبُ رأسَها بيَدي مِن رَحِم الدّهشَة. الزّمنُ يستَولِدُ ذاتَهُ ويبرُمُ فينا ومَعَنا. نحمِلُ نصوصَنا على رؤؤسِ الأنامِل ونتابِعُ الاعتِناء ببيتِنا الوَطَني. أيامٌ مشمِسَة نكتُبُ عَنها عَلَّها تأتي. أيّامٌ فيها مِن صَقيعِ الألسكا نعالِجُها بحَرارَةِ الإيمان.. والحِبر. أنا مصمِّمُ أزياء النّصوص. مصفِّفُ ضفائِرِها. كنّاسُ أدرانِها وكلِّ الغبارِ المكدَّسِ عَلى جسدِها. الكلِمَة هيَ المَعبَد وكلّنا مِن أتباعِها!