قضايا إقليمية

مظاهر العنصــرية الصهـيـــونية في "الجدار الفاصل"
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

الجدار في مغزاه الميداني يعني الإستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية وتثبيت حقائق جغرافية وديموغرافية بالغة الخطورة على الأرض

 

تعود فكرة إقامة "الجدار الفاصل" الذي يتم بناؤه حالياً في أماكن مختلفة من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، الى ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني، حيث وردت على لسان المنظّر الصهيوني المتطرف جابوتنسكي، الذي كان يحلم "بـجدار حديدي" يفصل اليهود عن العرب انطلاقاً من خلفيات ذات طابع ديني وأيديولوجي وأمني. وقد أعيد طرح هذه الفكرة مرة أخرى في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991، وتزايد الجدل حولها بعد عمليات حركة حماس المكثّفة عام 1993 وما تلاه من سنوات تحت ولاية رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين. وتحدث عن الفكرة أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو في كتابه مكان "تحت الشمس"، حيث اعتبر أن هذا الجدار يتشكل من جبال الضفة الغربية الشاهقة والوعرة، وأيضاً من سلسلة من التحصينات الصلبة التي يمكن أن تتضمن وسائل دفاع أو هجوم غير تقليدية.

والحقـيقة أن هناك أفكاراً أخرى ذات أبعاد إجتماعية تدعم فكرة إقامة الجدار الفاصـل، منها مقولة نحن هنا وأنتم هناك، ومقولة الجدران العالية تصنع جـيراناً طيبين، وهي مقـولات تـتردد على لسان العـديد من رجال الفكر والسياسة الإسرائيليين. إلا أن الإنطلاقة التنفيذية لكل هذه الأفكار والنظريات والهواجس لم تبدأ إلا في أعقاب إندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 وعلى الأخص عام 2002 في أعقاب ما سمي عملـية "السـور الـواقي"، بعـد أن عجز الجيـش الإسرائيلي وقوات الأمن الأخرى الداعمة له عن حسم المعركة الطاحـنة التي وعد رئـيس الوزراء آريـيل شـارون بأن يحسـمها خلال مئة يوم فقط.

والجدير بالملاحظة أنه على الرغم من المنطق التبريري التسويغي الذي تستخدمه حكومة شارون لإقامة هذا الجدار تحت عنوان الأمن الجاري، فإن الخلفية العقائدية الحقيقية لإقامته إنما تعود الى الروحية القتالية الشمولية التي يجسدها حزبا حيروت والليكود في السياق التاريخي للصراع الصهيوني ­ الفلسطيني، والتي تسعى الى بناء أول معزل عنصري (بانتوستان) حقيقي في الشرق الأوسط، على غرار نظام الأبارتهايد أو الفصل العنصري الذي كان سائداً في جنوب إفريقيا والذي تم القضاء عليه بصورة مخزية تحت قيادة المناضل المعروف نلسون مانديلا، علماً بأن المحورية العملية لخـطة الفصل الإسرائيلية تقوم على أساس اتني ديني يهودي تنصهر فيه الهويتان الدينية والقومية، في حين كان الأساس الأتني لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عرقياً فقط.

فالديـن والقومية يشغـلان في خطة الفصـل الإسرائيلـية، ما كان يشـغله العرق في الفصـل العنـصري في جنـوب أفريـقيا، وهو ما يحـتمله أحد معاني الكلـمة العـبرية "هفراداه" التي تعني في ما تعنـيه "الفصـل" و"العزل" بكل الدلالات والإيحـاءات التوراتـية والتلمودية.

لقد شكلت فكرة إقامة جدار الفصل منذ ما قبل ثلاث سنوات على ولاية شارون، أي منذ عهد حكومة إيهود باراك محور استقطاب شديد في الساحة الحزبية الإسرائلية ، وذلك بسبب الفروقات الأيديولوجية التي تميز هذه الأحزاب، وخاصة بالنسبة لكل ما يتعلق بنظرتها الى مستقبل التسوية مع الشعب الفلسطيني. والملاحظ الآن إن هذا الإستقطاب قد تقلص الى حد كبير، وظهر ما يشبه الإجماع حول هذه الفكرة من حيث المبدأ، على الرغم من استمرار وجود فوارق ملحوظة في وجهات النظر لجهة الوظيفة التي يجب أن تكون لهذا الجدار لدى الأحزاب المختلفة. وكان الدافع الأساسي الذي جعل في النهاية حزب العمل يتبنى فكرة إقامة الجدار الفاصل، ما حصل في قمة كامب ديفيد الثانية، حيث أدرك باراك استحالة التوصل الى حل سياسي بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية، على الطريقة التي بذلت إسرائيل كل جهدها، بتأييد كامل ومطلق من الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس كلينتون، لكي تفرضها على الرئيس الفلسـطيني ياسر عرفات. ومع ذلك فإن قـادة حزب العـمل يشـددون على عدم اعتبار الجدار الجارية إقامته على أنه يشكل الحدود السياسية النهائية بين الدولة العبرية والدولة الفلسطينية المنوي إقامتها في المناطق المحتلة حسب رؤية بوش الإبن واللجنة الرباعية الدولية.

الجدير بالذكر أن شارون ووزراءه الأساسيين كانوا يعارضون في البداية فكرة الجدار الفاصل، على اعتبار أن من شأنها أن ترسم حدوداً سياسية غير موافق عليها، لأن الليكود واليمين الصهيوني المتحالف معه يعتبران الضفة الغربية جزءاً لا يتجزأ مما يسمى أرض إسرائيل الكاملة. إلا أن تنامي عمليات المقاومة الفلسطينية بصورة دراماتيكية غير متوقعة، قد أرغم شارون على تغيير وجهة نظره خاصة في أعقاب فوزه الكاسح في الإنتخابات الأخيرة، وذلك على الرغم من المعارضة الشديدة من قبل عتاة المستوطنين الذين يرفضون التخلي عن أي شبـر من أراضـي الضـفة الغربيـة المحتلة. وقـد استـطاع هؤلاء المستـوطنون إقناع شارون بأن يضم الجدار في داخله عدداً ملحوظاً من أهم المستوطنات الكبيرة في الضفة، خاصة تلك القريبة من مدينة القدس مثل مستوطنة معاليه أدوميم التي يترأس مجلسها المحلي أشخاص ينتمون الى حزب ليكود الحاكم.

بغض النظر عن كل هذه المواقف والتبريرات المنسوبة لهذا الطرف أو ذاك من الطيف الحزبي الإسرائيلي، فإن الإقامة العملية للجدار إنما تساهم حتماً، والى أجل بعيد، في القضاء على فرص إقامة دولة فلسطينية حقيقية قابلة للوجود والإستمرار.

فالجدار في مغزاه الميداني يعني الإستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية وتثبيت حقائق جغرافية وديموغرافية بالغة الخطورة على الأرض، من شأنها القضاء على أية فرص سياسية لأي شكل من أشكال الحدود الدنيا لأية تسوية يمكن أن يقبل بها الفلسطينيون. فالجدار يساهم عملياً في مصادرة الأراضي وضم المستوطنات الى الدولة العبرية وأيضاً في تهويد القدس. وهذا يعني أن شارون وحكومته اليمينية المتطرفة يسعـيان لحسم القضايا الجوهرية المتروكة للحل النهائي على طريقتهما الخاصة، حتى قبل البدء بمفاوضات بشأنها، وذلك من دون اعتراض جدي من قبل الأطراف الدولية الراعية لعملية التسوية، علماً أن من هذه القضايا الحساسة قضايا اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والأحوال المعيشية والأمنـية والمـياه وسواها. وبالتالي لا عجب أن يـتم توصيف هذا الجدار بأنه كالأفـعى السامة التي تتلوى داخل الأراضي الفلسطينية فتلحق الأذى والضرر حيثما مرت أو استقرت.

 

قادة حزب العمل يشددون على عدم اعتبار الجدار الجارية إقامته على أنه يشكل الحدود السياسية النهائية بين الدولة العبرية والدولة الفلسطينية المنوي إقامته في المناطق المحتلة

 

إن الـخلفية العقائدية الحقيقية لإقامة الجدار الفاصل تعود الى الروحية القتالية الشمولية التي يجسدها حزبا حيروت والليكود في السياق التاريخي للصراع