سياحة في الوطن

معاد
إعداد: باسكال معوض

بلدة الموعد واللقاء وأرض التاريخ الجميلة والهادئة

كانت مع بجه <<ثلثين>> البلاد

 

يقول المثل الشعبي: “بجّه ومعاد ثلثين البلاد...”. ومعاد أرض موعد ولقاء؛ فمنذ الماضي البعيد, عرفت الحضارات المتعاقبة, وشكّلت ملتقى حضارياً وثقافياً لشعوب اختارتها مركزاً لعبادة آلهتها...


معاد في التاريخ والجغرافيا

تقع بلدة معاد على جبل يعلو عن سطح البحر نحو 450 متراً, وهو جبل يتجه من الشمال الى الجنوب خلافاً للمنحدرات اللبنانية, وبطول حوالى 3 كيلومترات. ويعتبر موقع معاد مميزاً, فهو يشرف على البحر من ساحل طرابلس حتى العاصمة بيروت, وعلى منحدرات سلسلة جبال لبنان الغربية, ومن تلال سوق الغرب الى جبال تربل في الشمال, بما فيها قمة القرنة السوداء المطلة على غابة الأرز.
ويقول الدكتور أنيس فريحة أن معاد بالسريانية تعني العادي والمألوف, وقد تكون من جذر “وعد” وهو سامي مشترك بمعنى الوقت ومنها الموعد والميعاد. وليس بمستبعد أن يكون الإسم فينيقياً محرّفاً بمعنى مكان الإجتماع.
ورد على لسان “استرابون” أن بين جبيل والبترون مدينة تدعى “بارؤما” تأويلها في الفينيقية “مدينة القطيع”, ودعيت بعدئذ معاد, وكان بناؤها بألف وخمسمائة سنة قبل المسيح. ولما جاء الكلدانيون وسبوا اليهود, بنوا بها قلعة وأبراجاً وهيكلاً عظيماً على اسم الإله باعال, والأبراج كانت في المحلة التي تدعى “المرزة” أي حقل الأسرار. وقد جدد اليونانيون البناء على اسم الإله زوس, وكان ذلك قبل ملك أغسطس قيصر بعشرين سنة كما هو مؤرخ على قاعدتين حجريتين تؤلفان المذبح القديم في كنيسة مار شربل الرهاوي. وزاد الهيكل كبراً على أيام القيصر في السنة الأولى للميلاد كما يتضح من التاريخ الموجود على حجر قاعدة بالحرف اليوناني في دهليز الكنيسة. ثم أتى أحد أغنياء بلاد الرها السرياني فسعى لتكريس الهيكل على إسم مار شربل الرهاوي سنة 300 ب. م.
سنة 800 هدمت الكنيسة وظلت مهدمة الى سنة 124 حيث حضر الى معاد أجانب عاشوا فيها نحو أربعين سنة, وكان معهم أمير من بلاد جرمانيا يدعى كاباس جعل له في معاد محلاً عظيماً مرتفعاً بطبقات عالية. وقد أصلح هذا الأمير الكنيسة وبناها وزيّنها وجعلها هيكلاً عظيماً, وكانت له ابنة وحيدة فريدة بالجمال تدعى آن قضت بمرض الحمّى, فحزن والدها وجعل لها مدفناً عظيماً في دهليز الكنيسة وأرّخه على بلاط من الرخام بالحرف اللاتيني.
وفي الماضي القريب كانت البلدة قصبة بلاد جبيل والبترون والجبة. وما يؤيد هذا الرأي هو الإجتماع الكبير الذي تمّ في معاد, لمقدمي الجبل الماروني سنة 1302 بعد انتصارهم على المماليك في معركتي الفيدار والمدفون, وذلك لاقتسام المغانم.

 

رينان في معاد

ورد ذكر زيارة أرنست رينان الى معاد في المخطوطة المحفوظة لدى المكتبة الشرقية تحت رقم 57, والتي يرجّح أن كاتبها هو كاهن بلدة معاد آنذاك, حيث نقرأ: “وفي سنة الثمانماية وواحد وستون حضر الى معاد الفيلسوف رانان المذكور وبصحبته المصوّر دالاكروا الفرنساوي, لعندي. وبعد, حضرنا الى الكنيسة...”.
كان رينان مكلفاً بالأبحاث الأثرية ونقل كل ما يمكن نقله بناء لأوامر أصدرها الأمبراطور نابليون الثالث. وقد ورد في الوثيقة نفسها نص عن حجر نقل من معاد الى اللوفر: “... وطلبه مني الخواجه رانان الفرنسي حتى ينقله الى مدينة باريس في فرنسا, فأرسلت له إياها... وكان ذلك في سنة 1861”.
والنصب أو الحجر هو عبارة عن عمود أسطواني الشكل من الحجر الكلسي, علوّه 77 سم, وقطره 55 سم ويحمل كتابة باليونانية من ثمانية أسطر. وهو اليوم محفوظ في متحف اللوفر تحت رقم "A04893". وقد فكّ رينان رموز هذه الكتابة التي استعصـت على الكثيرين من العلماء بسبب أخطاء جوهريـة في الكتابـة وبحسب رينان, فإن الحفّار المحلي كان يجهل اللغة اليونانية. وتفسير الكتابة أنها تقدمة الى الإله ستراب من رجل يدعى “تاموس إبن أبدوسيبوس” في السنة 23 لانتصار الأمبراطور اغسطس قيصر في معركة أكسيوم, الموافق للسنة الثامنة قبل المسيح.

 

الكنيسة والهيكل القديم

تقع كنيسة مار شربل الرهاوي على إحدى التلال الشمالية لجبل معاد, وهي أقدم موقع للعبادة بين المواقع الأخرى. وبناؤها الحالي هو على أنقاض هيكل قديم, قال عنه رينان أنه مركز للإله الأعلى لدى الوثنيين.

لم تتوافر دراسة وافية حول
تاريخ هذا الهيكل خصوصاً في ما يتعلق بهندسته, لكن ثمة ما يمكن ملاحظته بوضوح, مثلاً:
1­ - إختلاف قطر الأعمدة المستديرة المثبتة داخل الكنيسة, بهندستها الحالية, بين قاعدة وأخرى. وقد نجد بعض قطع الأعمدة الرفيعة موضوعة خلافاً للمألوف في أسفل العمود, وتعلوها قطع ذات قطر أوسع. وهذه إشارة واضحة الى أنها أنقاض هيكل أو أكثر أو حجارة لأبنية أخرى جمعت لبناء الكنيسة.
2­ - إن القواعد والتيجان المثبتة في العواميد, وكذلك ما هو محفوظ في المكان لقطع أثرية, تعود للطراز الأيوني والدوري, وهو واقع غير مألوف أن يجتمع طرازان في بناء واحد. ويلاحظ على أعمدة عدة أن حجر القاعدة حل مكان حجر التاج. كما يقول الخبراء أن نوعية الحجر تختلف أحياناً بين قطعة وأخرى وهو واقع غير مألوف أيضاً. إذ أن المعابد المتقنة وبهذا الحجم, كانت تبنى بنوع واحد من الحجر.
3­ - إن مدخل الهيكل كان من الجهة الشرقية, ويقع اليوم خلف الحنية الرئيسية للكنيسة القديمة, أي أن مدخل الهيكل أصبح مذبح الكنيسة, وهذه قاعدة عامة معروفة.

 

الأثر المصري

الى جانب الأثر اليوناني الواضح في الهيكل, نلاحظ وجوداً للأثر المصري: فمن قراءة الكتابة المحفوظة في متحف اللوفر على ضوء الدراسة الوافية التي قام بها العالم الأثري “غانو”, يتبين أن اسم صاحب التقدمة عبدوسيبوس وهو اسم مركب يتضمن اسم الإله المصري “سب” (Seb) الذي عبده الفينيقيون, كا أن الكتابة مؤرخة بالتقويم المصري القديم (السنة 23 لموقعة أكسيوم), علماً أن هذا التقويم كان منتشراً خارج البلاد المصرية بشكل واسع.
وفي أثناء أعمال التنقيب التي أجرتها مديرية الآثار اللبنانية عام 1944 في الكنيسة ومحيطها, تم العثور على تمثال لفرعون مصري عند المدخل الشرقي للهيكل القديم, وبجانب أساس الحنية الرئيسية للكنيسة.

 

الكتابات الأربع

عثر في كنيسة معاد على أربع كتابات: الأولى هي التي نقلت الى متحف اللوفر, أما الثانية فلا تزال محفوظة في متحف الكنيسة وهي بعلو 84 سم وعرض 48 سم, ويتراوح عرض الكتابة فيها بين 3 و4 سم. ويقول العالم غانو أن قراءة هذه الكتابة لا يمكن أن تتم إلا على ضوء الكتابة الأولى لأنهما متكاملتان.
وقد تعذر على السيد رينان نقل هذا الحجر الى فرنسا لأنه كان, في ذلك الوقت, مثبتاً بقاعدة المذبح.
وثمة كتابة ثالثة ثبتتها مديرية الآثار بشكل أفقي على عمود في الحجرة الغربية.
والكتابة الرابعة قديمة جداً إنما عثر عليها حديثاً, وهي محفورة على عتبة النافذة الشمالية من الحجرة الشرقية ويبدو أن فك رموزها هو أمر صعب نوعاً ما.
خلال القرن المنصرم شهد الموقع أعمال ترميم وتنقيب عدة. فقبل الحرب العالمية الأولى جرت أعمال هدفها الحفاظ على الجداريات الموجودة في الهيكل. وفي العام 1944 قامت مديرية الآثار بأعمال تنقيب داخل الكنيسة, كشفت خلالها عن مدخل الهيكل من الجهة الشرقية, كما رممت الكثير من الرسوم داخل الحجرات الجنوبية.

وفي العام 1972 كشفت المديرية العامة للآثار عن بئر قديم للمياه, وعن طبقة من الموزاييك جرى نقلها وتثبيتها في أرض الحجرات الغربية. وفي العام 1996 عثر على حجر مميز نادر حفظ في المتحف المحلي, تبين للخبراء أنه حجر المذبح الوثني. أما في العام 1998 فقد تم بناء قبة جديدة للكنيسة من الحجر المنحوت.

 

طبقات أثرية وحقبات تاريخية

تحوي الكنيسة طبقات أثرية عدة يعود أقدمها الى ما قبل الحقبة الرومانية. وهذه الطبقات تندمج وتختلط لدرجة أن بعض عناصر العمادة قد استخدمت مراراً عدة, فقد شيدت كنيسة بيزنطية على أنقاض المعبد الروماني الذي ربما قام بدوره على بقايا المعبد الفينيقي.
أما الكنيسة بمظهرها الحالي فتعود للفترة الصليبية (القرن الثاني عشر والثالث عشر), علماً أن البناء تعرّض للعديد من التغييرات والترميمات لا سيما في القرنين الأخيرين.
والكنيسة مكرّسة لمار شربل القديم الذي عاش في القرن الثاني والذي اعتنق المسيحية بعد أن كان وثنياً فأصبح كاهناً ومات شهيداً مع اخته اثر حكم ترايان.

تصميم الكنيسة بازيليكي, حيث يتخلل الفضاء الداخلي صفّان من الأعمدة التي تحمل أقواساً. وتعود الأعمدة الكلسية مع تيجانها وجزء من البلاط الى الحقبة الرومانية والبيزنطية. أما السقف فهو مخفض ومليء بأقبية تعود رسومها الزخرفية الى القرن التاسع عشر.
وينتهي الرواق الوسطي للمعبد بحنية تحتوي على جداريات تتميز بأسلوبها المحلي وتمثل سبعة قديسين.
يتقدم الكنيسة عند مدخلها الغربي, بناء أشبه بالرواق, أرضه تعلو مستوى أرض الكنيسة بأكثر من متر, وقد تحوّل مؤخراً الى متحف الكنيسة حيث تحفظ جميع اللقى التي عثر عليها أثناء الحفريات التي أجريت عام 1947 وفي أوائل السبعينات من القرن المنصرم. ويقود بابان ضيقان مفتوحان في الناحية الشرقية من الرواقين الى غرف فرعية حيث نستطيع مشاهدة جزء من حائط المعبد الوثني, وعتبة بابه. أما الصالة الجنوبية فتحوي جداريات تندرج على طبقات عدة. وتشكل هذه الرسوم برنامجاً أيقونوغرافياً واضحاً, يشير الى أن هذه القاعة ذات طابع جنائزي. ويثبت الأسلوب الفني للرسوم أنها تعود الى أواسط القرن الثالث عشر أو الى نصفه الثاني.

 

معاد في الحاضر

معاد بلدة وشعباً, كانت محور حديث أجريناه مع الأستاذة في التعليم الثانوي والحائزة على كفاءة في التاريخ مارغريت سرور, والتي بدأت كلامها بالحديث عما يميّز بلدتها من مستوى ثقافي عال جداً وروابط الإلفة والمحبة التي تجمع بين أهاليها.
قالت سرور: إن “روح الضيعة” لا تزال سائدة بين الأهالي الذين حسّنوا أوضاع بلدتهم بما استطاعوا من إمكانات مادية وبشرية.
ففي فترة الثمانينات قام شبيبة معاد بهمّة وعونة لتوسيع طرقات الضيعة, ما اضطرهم أحياناً لضم بعض الأمتار من الأملاك الخاصة والتي قدمها أصحابها بكل محبة في سبيل تجميل البلدة وتحقيق المصلحة العامة.
تقع معاد في منطقة متوسطة جغرافياً وهي منبسطة وفسيحة, جميلة ومعتدلة المناخ.
عرفت معاد بزراعتها للتبغ الذي كان بشهادة أهلها, أحسن أنواع التبغ في جبل لبنان, الا أنه لم يعد منتشراً كما كان سابقاً لحاجته لليد العاملة التي تفتقد إليها الكثير من قرانا اليوم.
وتنتشر في معاد اليوم زراعة الخضار في البيوت البلاستيكية والورود على مختلف أنواعها, أما أشجار الزيتون فتؤمن “مونة” أهالي البلدة, كذلك فإن الأشجار المثمرة على أنواعها تملأ حقول معاد. وفي الآونة الأخيرة اجتاحت البلدة موجة زراعة الصنوبر الذي ينقي الهواء, إضافة الى كونه يؤمن مردوداً مادياً جيداً.

اجتماعياً, في البلدة مؤسسات عدة, منها ناد ثقافي إجتماعي رياضي, وآخر ثقافي للنشاطات وفرق رياضية. ويقوم الشباب في البلدة بنشاطات صيفية كثيرة منها دورات رياضية ومخيمات صيفية للأولاد. وفي العام 1986 تم بناء مدرسة في البلدة بالتعاون بين شبيبة معاد وراهبات مار يوسف الظهور على أرض النادي.
الى ذلك تضم البلدة مؤسسات إجتماعية من بينها “بيت النور”.
أخيراً, معاد البلدة الساكنة الهادئة, تضم الى ما ذكرناه العديد من المعالم الأثرية والتاريخية, وهي تستحق أن تعرف ليس فقط ببلدة التاريخ, وأرض الموعد واللقاء, إنما أيضاً بلدة عرف أهلها كيف يصونون طبيعتها ويحافظون على ما فيها من معالم مميزة.

 

سكان معاد

يبلغ عدد سكان بلدة معاد نحو 400 نسمة, وهم من العائلات التالية: سرور, عيسى, الحاج, ضومط, حبيب, حنا, ضاهر, نصّار, رزق, روفايل, شديد, شاهين, صقر, نعمه, حداد, أبي لطف الله, نادر.

 

تصوير : المجند حسن عسيلي

مرجع : معاد من شدرفا الى المسيح - بطرس قيصر عيسى