ثقافة وفنون

معرض استعادي لأعمال عقدت صلحًا بين الواقع والتجريد
إعداد: جان دارك أبي ياغي

عشرون عامًا على غياب بول غيراغوسيان


لمناسبة الذكرى العشرين لرحيل الفنان بول غيراغوسيان (1925- 1993)، استضاف مركز بيروت للمعارض (البيال) معرضًا استعاديًا له تحت عنوان «الحالة الإنسانية»، وهو من تنظيم الفنانة مانويلا الإبنة الصغرى للفنان، بالتعاون مع سام بردويل وتيل فيلراث، المديرين المتخصصين في تنظيم المعارض، اللذين اعتمدا رؤية غير كرونولوجية - تسلسلية زمنية في سياق عرض اللوحات. فقد اعتمدا توزيعًا مبنيًا على الموضوعات الأسـاسية التي تحمل أسئلة بول حول الذات والعائلة والنساء والأمومة والعمّال وحياة الشارع والإيمان واليأس والمنفى والإنتماء والألم والروحانيات، وهي تيمات تكررت في عناوينه وقادت الإنفعالات في بحث الفنان عن التعقيدات غير المتناهية للحالة الإنسانية.
أكثر من مئة لوحة زيتية وأعمال ورقية لم تعرض من قبل، جلّها من نوع البورتريه بالأقلام الفحمية التي تعود إلى مراحل تمتد من أواخر الأربعينيات إلى الثمانينيات من القرن العشرين، من بينها صور ذاتية للفنان من مراحل الفتوة والشباب إلى الكهولة فضلًا عن صور عائلته وأصدقائه وأقربائه، التي تدل على مقدرة عالية في التقاط الملامح والخصائص الإنسانية بعفوية مدهشة، وهي سمة من السمات التي تميز بها غيراغوسيان كرسام بورتريه غير تقليدي. فسرعته وبداهته في استنباط الأعماق العاطفية، باللمحة الخاطفة والتدفق الشعوري تتمظهر في لوحاته بوضوح وجلاء.
المقارنة بين أول لوحة زيتية رسمها لوجهه العام 1948، بالقميص الأبيض مقبلًا على الحياة بصدرٍ مفتوح، وبرعونة المتمرد، مع تأنٍ وحذر في وضع اللمسات اللونية الصغيرة المتعاقبة بزهو على خلفية قاتمة، وبين القوة في التلطيخ الحرّ بالألوان السميكة الناتئة بحرارتها التي أهالها على وجهه في آخر لوحة له (ظلت غير ناجزة)، هذه المقارنة تكشف تطوّر تقنياته وتمايز أسلوبه. وبين البداية والنهاية تتجلى «أنا» الفنان بقوة على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن، تبوّأ خلالها مركز الصدارة بين فناني الحداثة التشكيلية في بيروت، فكان محورًا لها وركيزة من ركائزها.
ثمة رسوم ولوحات كثيرة لجولييت زوجة الفنان وأولاده وعائلته لا سيما أمه «راحيل» التي صوّر عبور الزمن على وجهها المجبول بالحزن وعينيها الضارعتين. كانت لوحات بول تنمو مع نمو أفراد عائلته وتكبر معهم وترافقهم، في تناسل وتوالد يجعل التجارب تجر بعضها بعضًا، لكأن هذا المجتمع الصغير هو نموذج لما يحيط به في مجتمعه الكبير. هكذا رسم العروس جالسة على كرسي وفي يدها باقة أزهار، كما رسم موكب العرس والحفلات التي يقوم بإحيائها العازفون، لم يكن بول إلا واحدًا من هذا الجمع الغفير من الناس الذين توحدهم الأفراح والمآسي، التي لا يغيب عنها شبح والده الأعمى العازف على الكمان الذي قضى من دون أن ينتبه إليه أحد. إنها حياة كاملة عاشها بول بجوارحه، حتى أضحت مخزونًا نابضًا بالصور التي أخذت تتدفق من مقلتيه. يقول: «حين كنت طفلًا كان الناس من حولي يتكلمون عدة لغات. كنت أتساءل من أنا؟ وبأي لغة ينبغي أن أعبّر عن نفسي، بالأرمنية أم بالعربية أم بالفرنسية؟ أخيرًا أدركت أن لغتي الأم هي الفن، وأنه عليّ أن أتكلم بها وليس بسواها».
الأبواب الخاصة بكل صالة من صالات المعرض، تؤدي إلى صالة أساسية، مستديرة في وسطه تضم رسومات أبدعها بول غيراغوسيان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومنها مثلا التصاميم الفنية التي خص بها عروضات مسرحية حملت تواقيع بعض معاصريه من شخصيات مسرحية لامعة أمثال: جلال الخوري، أسامة العارف ونضال الأشقر. وعلّقت على الجدران التي تواجه الخلفيات العملاقة، لوحات من نوع البورتريه، وهي تمثّل نخبة الكتّاب والفنانين والمفكرين من أصدقائه.
بول غيراغوسيان اللبناني المنشأ والهوى، هو أرمني مقدسي، عاش طفولته وحداثته بين شوارع القدس وأديرتها وأحيائها، حيث تختلط أصوات الآذان مع الأجراس والتراتيل. لذا احتلت الأيقونة المسيحية المقدسية مكانة مركزية في نتاجه. يقول عن حياته الفنية في القدس وبيروت معًا: «وعرفت أن العالم يعيش أيضًا في دير كبير، والإنسان في أي مكان، داخل الدير أو خارجه، يفتش دائمًا عن طريق».
استطاع بول غيراغوسيان في ملاحمه الإنـسانية أن يـصـالح بيـن الواقـع والتـجريد، بين التراث والحداثة، وكذلك بين الماضي والحاضر، تاركًا شهوده واقـفيـن بصـمـت على عتبات فـواجـع الأزمـنة الراهنة.