تاريخ عسكري

معركة أبو قير
إعداد: علي المعلم
عميد ركن بحري

الفرنسيون أضاعوا الوقت فضاعت فرصة النصر

 

نتائجها اعتُبرت ثورة في التكتيك البحري

فور عودة الجنرال الشاب نابليون بونابرت من إيطاليا في الأسابيع الأولى من العام 1798 بعد إحرازه انتصارات عسكرية باهرة، باشر بدرس أوضاع القوى العسكرية الفرنسية المكلفة غزو الجزر البريطانية وتحضيرها لهذه الحملة. ولكن سرعان ما أدرك صعوبة بل استحالة تنفيذ المهمة لأسباب عديدة أهمها، ضعف القوات البحرية الفرنسية مقارنة مع البحرية الإنكليزية التي باتت تؤمن السيطرة البحرية (SEA CONTROL) وتشكل سداً منيعاً أمام أي قوة تحاول غزو بريطانيا. أضف الى ذلك الضعف الحاصل في التجهيزات اللازمة للقوة الفرنسية لتنفيذ الغزو، وعدم توافر الأموال الكافية، والبرد القارس والأمراض المتفشية بين العناصر والتي تشكل عقبة كبيرة في تحقيق الهدف المنشود.
بناء عليه، تقدم الجنرال بونابرت في 28 شباط من العام نفسه من مجلس قيادة الثورة الفرنسية المعروف في حينه باسم "DIRECTOIRE" لعرض هذا الوضع والصعوبات التي تعترضه وتحول دون تمكينه من تنفيذ المهمة الموكلة إليه بغزو الجزر البريطانية، وقرر طرح خطة عمل بديلة لاحتلال مصر. وهكذا تحوّل هدف غزو الجزر البريطانية الى تحضير لغزو مصر.


مصر في السياسة الفرنسية منذ القرن السادس عشر ولغاية حملة بونابرت

منذ أوائل القرن السادس عشر  وبالتحديد منذ العام 1536 أو خلال عهد السلطان العثماني سليمان المعظم، كان التاج الفرنسي يتطلّع نحو منطقة الشرق الأوسط باعتبارها منطقة حيوية للمصالح الإقتصادية الفرنسية. وقد عملت فرنسا منذ ذلك التاريخ بفضل علاقات الصداقة والتحالف التي تربطها بالسلطنة العثمانية على تشجيع الاستثمارات الإقتصادية في هذه المنطقة، لا سيما في مصر التي احتلها العثمانيون في العام 1517، وكذلك منطقة البحر الأحمر وسوريا وفلسطين. كما عملت على افتتاح قنصليات وإيفاد بعثات ديبلوماسية إليها وافتتاح خطوط ملاحة بحرية لتنشيط حركة التجارة البحرية معها.
الى ذلك، عرضت فرنسا تمويل مشروع شق قناة السويس المقترح من قبل أحد المهندسين الأتراك في العام 1586الذي أعيد طرحه في عهد لويس الرابع عشر، نظراً لأهميته، ولكونه يساعد في فتح أسواق جديدة فرنسية وينشط التجارة مع الشرق الأقصى.
إلا أن انشغال السلطنة العثمانية خلال هذه الفترة بالصراع العسكري الدائر في الأطراف الشمالية والشمالية الغربية ضد كل من روسيا والنمسا، وعدم تحقيقها انتصارات حاسمة في المعارك في منطقة البلقان وبحر أزوف والبحر الأسود، حال دون إطلاق مشاريع التنمية الفرنسية المقترحة في مصر وسوريا خلال هذه الفترة، وبدأت السلطنة تتجه للعب دور «الرجل المريض»، الأمر الذي شجع الدول الأوروبية للالتفاف حوله لتقاسم إرثه كما حصل في العام 1914. مع ذلك تابعت فرنسا تحركها لتنفيذ مشاريعها وتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط في منتصف القرن الثامن عشر لسببين رئيسيين:
الأول: توسيع بريطانيا لخطوطها البحرية في البحر المتوسط بعد انحسار النشاط البحري للبندقية التي كانت تسيطر على هذه الخطوط بافتتاح قنصلية ناشطة وفاعلة جداً لها في القاهرة لتفعيل وتنسيق الأعمال التجارية التابعة لها مع الهند.
الثاني: خسارة فرنسا لقسم كبير من مستعمراتها في العالم الجديد في أميركا والهند، واضطرارها لتوقيع «معاهدة باريس» مع بريطانيا في العام 1763، وهذا ما دفع وزير خارجيتها في حينه الى السعي لوضع اليد على مصر بصورة مباشرة للتعويض عن خسارة المستعمرات المشار إليها أعلاه، مع القبول بما ينجم عن هذا الطموح من تعريض لعلاقة الصداقة الفرنسية - التركية للتوتر.
بغية وضغ هذا الهدف موضع التنفيذ كلّف البارون دي توت (DETOTT) في العام 1777 السفر بمهمة سرية لاستطلاع السواحل والمرافئ وسبر أعماقها، إضافة الى نسج علاقات مع الحكّام المحليين المعارضين للسلطنة ولتوسيع النفوذ الفرنسي، وقام البارون بنهاية رحلته بتنظيم تقرير مفصّل عن المهمة تم نشرها تحت اسم: "LES MEMOIRES SUR LES TURCS ET LES TARTARES س.
كما كلّفت البعثات الديبلوماسية والتجارية الفرنسية تنظيم تقارير مفصّلة عن أوضاع المنطقة المذكورة من كافة النواحي السياسية والعسكرية والإقتصادية والإجتماعية، وتم ضم كافة هذه التقارير الى تقرير البارون دي توت وشكّلت جميعها الملف الأساسي لحملة غزو مصر وتقرر متابعة الوضع عن كثب.
بعد مرور عشرين سنة على رحلة البارون، ركّزت التقارير الديبلوماسية على تنامي الخلاف ما بين الحكام المحليين في مصر والسلطنة، مما دفع وزير الخارجية الفرنسية في عهد الثورة الفرنسية تاليران الى السعي مع مجلس قيادة الثورة الفرنسية الى تسويق فكرة إرسال حملة عسكرية الى المنطقة واحتلال مصر، مع التركيز على الهدف الرئيسي لهذه الحملة، وهو ضرب المصالح البريطانية الاقتصادية وقطع خطوط مواصلاتها التجارية مع الهند، وذلك كهدف بديل لاجتياح الجزر البريطانية.
بعد مناقشات عديدة مع مجلس قيادة الثورة الفرنسية شارك فيها كل من الوزير الفرنسي تاليران والجنرال بونابرت، اتخذ مجلس قيادة الثورة الفرنسية في 21 آذار 1789 قراراً بإطلاق حملة الغزو على مصر بقيادة بونابرت، وكلّف هذا الأخير بتنفيذ ما يلي:
- احتلال جزيرة مالطا لتأمين قاعدة خلفية لإمداد الحملة العسكرية.
- احتلال مصر وطرد الإنكليز منها، وضرب كافة المصالح الإقتصادية التابعة لهم فيها وفي الدول المجاورة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
- شق قناة السويس لربط الملاحة ما بين البحر المتوسط والبحر الأحمر ودرس تحقيق أهداف بعيدة لاحقاً.
- تحسين الأوضاع الإقتصادية والمعيشية لسكان مصر والدول المجاورة لدفعهم لتعميق تحالفهم مع فرنسا.
حددت الخطة المدة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف بستة أشهر، وقرر مجلس قيادة الثورة الفرنسية المباشرة فوراً بتوثيق الصلات الديبلوماسية الفرنسية مع الحاكم المصري المحلي، إضافة الى تكليف وزير الخارجية الفرنسي تاليران بالقيام بزيارة الى اسطنبول لشرح أهداف الحملة العسكرية الفرنسية الى مصر، والتأكيد أنها غير موجهة ضد مصالح السلطنة العثمانية، وبالتالي تأكيد التزام فرنسا بالتحالف الستراتيجي القائم منذ فترة طويلة مع السلطنة العثمانية.

 

التحضير لانطلاق الحملة العسكرية الفرنسية

اتسمت الأسابيع التي سبقت انطلاق الحملة العسكرية الفرنسية على مصر بحركة متواصلة ومنقطعة النظير للقائمين على قيادتها، وفي مقدمهم بونابرت الذي كان يعمل في باريس على تنسيق كافة الأعمال المتعلقة بالحملة وتجهيزها للإنطلاق من مختلف المرافئ، مع اعتبار مرفأ طولون الفرنسي قاعدة انطلاق رئيسية إضافة الى باقي المرافئ مثل مرسيليا وأجاكسيو (في جزيرة كورسيكا) وجنوى وشيفيتافيكا في إيطاليا.
كما تولى تنسيق الأعمال الإدارية واللوجستية ببراعة كبيرة الضابط القيّم ناجاك، أما تحضير الأسطول المكلّف نقل القوى العسكرية الفرنسية والسهر على جهوزية المراكب وطواقمها وأسلحتها وتدريبها، فقد أوكل الى الأميرال برويس الذي سجلت له أعمال بحرية باهرة خلال قيادته البارجة «دي غراس» في العامين 1782و1782، كذلك في البحر الأدرياتيكي في العام 1797. وقد عمل الأميرال المذكور على تجميع أكبر عدد ممكن من المراكب العسكرية التي تم إنقاذها بعد تحرير مرفأ طولون من الإحتلال الإنكليزي في العام 1793 على يد نابليون، وكذلك المراكب العسكرية والمدنية التي تم الإستيلاء عليها خلال الحملات العسكرية على إيطاليا والتي كانت عائدة لإمارات جنوى وبيزا ونابولي والدولة البابوية. وفي النهاية تم تجميع 13مركباً حربياً كبيراً (بما فيها المركب الذي يعتبر زهرة المراكب الحربية الفرنسية "LصORIENTس والمسلّح بـ120 مدفعاً)، إضافة الى ستة مراكب حربية متوسطة الحجم للحراسة والمواكبة، و400 مركب شحن تجاري لنقل القوى العسكرية والمعدات المؤلفة من 38 ألف عنصر و 1200حصان مع المؤن والذخائر اللازمة للحملة.
وتم أيضاً تجميع حوالى 13ألف بحار لتأليف طواقم المراكب العسكرية والمدنية التي يبلغ عددها حوالى 500 مركب. ونظراً لتطويع العديد من البحارة على وجه السرعة وبخبرات محدودة في المجال البحري، اعتبر هذا العدد غير كاف وقدر النقص الحاصل واللازم للرحلة من البحارة بنحو ألفين إضافيين. ولتعويض النقص في العديد وفي خبرة وتدريب الطواقم، عمل قائد القوى البحرية للحملة الأميرال برويس على الإستفادة الى أقصى الدرجات من قدرات وطاقات الضباط المميزين الذين اختارهم لمرافقته في الرحلة.
وبينما كان الأسطول الفرنسي ينهي كافة التحضيرات المتعلقة بالحملة ويستعد للإبحار، كانت بريطانيا تعيش أجواء خوف ورعب على كافة الصعد المدنية والحكومية والعسكرية.

 

أجواء بريطانيا خلال مرحلة تحضير القوى الفرنسية للإبحار

بحسب الصحافة البريطانية في حينه، سادت الأوساط الشعبية والحكومية وأوساط قيادة البحرية البريطانية ووزارة الدفاع، أجواء من القلق والخوف الكبيرين فور عودة الجنرال بونابرت من إيطاليا، فالخطوة اللاحقة له كانت كما هو معروف غزو الجزر البريطانية. لذلك سارعت الحكومة البريطانية الى طلب تبرعات مالية فورية من المتمولين البريطانيين والشركات القادرة على المساعدة في تغطية النفقات الحربية الطارئة في مجال الدفاع عن بريطانيا ضد الغزو الفرنسي المرتقب. وفي هذا المجال قدّم الملك جورج الثالث ثلث ثروته كدعم للإمكانيات الدفاعية. كما شجعت الحكومة إنشاء الميليشيات الشعبية في المدن والمناطق الساحلية لمساندة الجيش النظامي في الدفاع عن بريطانيا.
قائد القوى البحرية الإنكليزية في حينه الأميرال سبنسر اتخذ تدابير استثنائية في مجال الأسطول الحربي للتصدي لأي محاولة بحرية فرنسية لتنفيذ إنزال على الجزر البريطانية.
وكلّف لهذه الغاية قائد الأسطول البريطاني في البحر المتوسط الأميرال جرفيس إرسال عدة مراكب حربية بقيادة أفضل ضابط بحري من مساعديه بمهمة التواجد مقابل مرفأ طولون الفرنسي لمراقبة تحرك الأسطول الفرنسي والإستعدادات الجارية هناك عن كثب وبصورة مباشرة، والإفادة تباعاً من هذه الإستعدادات والتحركات واتخاذ كافة الإجراءات البحرية اللازمة لمنع المراكب الفرنسية من الإبحار والتوجه الى إسبانيا لفك الحصار عن المراكب الحربية الإسبانية في "CADIXس أو الإلتحاق في "BRESTس بباقي الأسطول الفرنسي الموجود هناك.
وقد اختار الأميرال جرفيس لهذه المهمة الأميرال نلسون وأرسله بسرعة على رأس قوة بحرية مؤلفة من ثلاث مدمرات وفرقاطتين.
إن ما دفع بالسلطات البريطانية الى إعلان التعبئة العامة ومباشرة الاستعداد للدفاع عن الجزر البريطانية ضد الغزو الفرنسي، هو التحرك العسكري الفرنسي المكثّف الجاري علناً في مرفأ طولون بعد عودة الجنرال بونابرت من إيطاليا وتحقيقه الإنتصارات الساحقة على جيوش الإمارات الإيطالية.
وقد تعمدت وزارة الحرب الفرنسية تسريب هذه التحضيرات الى الصحافة الفرنسية حتى بعد اتخاذ قرارها الضمني بتعديل الهدف الرئيسي للحملة لاحتلال مصر، وذلك بهدف تضليل السلطات العسكرية البريطانية وتأمين عنصر المفاجأة للحملة العسكرية الفرنسية، وراحت الأوساط القريبة من نابليون تسرب شائعات مغلوطة عن عزمه احتلال صقلية واحتمال تنفيذ غزو للبرتغال وحتى السيطرة على جبل طارق باعتباره نقطة استراتيجية بحرية هامة.

 

التحضيرات الفرنسية لإبحار حملة الغزو الفرنسية

انشغال القيادة العسكرية البريطانية بالاستعداد لتحسين دفاعاتها في الجزر البريطانية وإعطائها هذه التحضيرات الأفضلية في تحركها، حال دون المباشرة الفورية بتعزيز مجموعة الأميرال «نلسون» المكلفة بمراقبة الأسطول الفرنسي، واقتصرت قوى هذه المجموعة على بضع مراكب غير كافية لتخوض معركة حاسمة وفاصلة ضد البحرية الفرنسية التي كانت تستعد بصورة علنية للإبحار.
عمل الأميرال نلسون على تواجد المراكب المتوافرة لديه مقابل مرفأ طولون وجواره لمراقبة استعدادات الأسطول الفرنسي الذي بدأ بالتحرك بتاريخ 19 أيار. وقد ساعد الهواء الذي يهب من البر نحو البحر بقوة والمعروف بـ "mistralس المراكب الشراعية الفرنسية للخروج من المرفأ، وكان من حسن طالع الجنرال نابوليون فعلاً أن تسببت رياح "Mistralس بالتقائها مع الرياح البحرية بعاصفة محدودة، مما سبـب صعوبـات في الرؤية للأسطـول البريطاني إضافـة الى تضرر مركب القيادة الذي يستقلـه الأميرال نلسون مما اضطر هذا الأخير للاحتماء خلف جزيـرة سان بياد بغية إصلاح العطل، وبذلك فقد اثر الحملـة البحرية الفرنسية بعد خروجها من مرفأ طولون، لكن الأميرال نلسون لم يفقد الأمل وسارع على الفور الى إفادة قيادته عن انطلاق المراكب الفرنسية وطلب تعزيز قوته البحريـة. وفور إصلاحه أعطال مركب القيادة، انطلـق في البحر في 24 أيار لملاحقة المراكب الفرنسية التي غابت عن أنظاره، معتمـداً على اتجاه إبحار هذه الأخيرة بعد الاستعلام عنه من المتعاملين مع البحرية البريطانية.
في 28 أيار علم نلسون ان المراكب الفرنسية اتجهت جنوباً مقابل السواحل الإيطالية في بحر التريني.
وفي حزيران كانت وصلت التعزيزات الحربية البحرية الى الأميرال نلسون بناء لطلبه، وهي عبارة عن إحدى عشر مركباً حربياً انطلق بها بأقصى سرعة ممكنة بواسطة فتح كافة الأشرعة لملاحقة الأسطول الفرنسي الذي كان يتحرك بسرعة متوسطة. وصل نلسون مقابل "CIVITAVECCHIAس في 14 حزيران، وعلم من جواسيسه في المنطقة ان نابليون متجه لاحتلال صقلية الغربية وشوهدت مراكبه تمر عبر "MESSINAس. ولدى توقف المراكب الإنلكيزية في نابولي لمدة ثلاثة أيام للتزود بالمؤن المختلفة اللازمة لمواجهة الأسطول الفرنسي واستقصاء معلومات عنه، علم نلسون أن بونابرت موجود في مالطا وقد احتلها من دون أي مقاومة. قيادة البحرية الإنكليزية التي كانت تتابع الموضوع عن كثب، اعتقدت ان نابليون مصمم على احتلال كافة النقاط الستراتيجية الموجودة غربي البحر المتوسط تمهيداً للإنطلاق بعدها الى غزو الجزر البريطانية. لكن توقعات الأميرال نلسون كانت مختلفة، وكان لديه قناعة راسخة أن هدف نابوليون التالي هو احتلال مصر بغية مسك خطوط المواصلات التجارية والإقتصادية الإنكليزية الى مستعمراتها في الهند.

 

إنطلاق الحملة الفرنسية الى مصر

انطلق نابوليون بعد السيطرة على مالطا باتجاه مصر في 19حزيران سالكاً طريقاً غير مباشرة إليها بغية تضليل المراقبة، واتجه باتجاه الشمـال الشرقي معرجـاً أمام سواحل كريت، ثم اتجه جنوباً لبلوغ الشواطئ المصرية من الجهة الشمالية، وذلك تلافياً للوقوع في كمين قد ينصب له من قبل البحرية البريطانية، في حال كشفت حقيقة تحركاته، وكان نابوليون يدرك جيداً مدى التفوّق البريطاني على الأسطول الفرنسي في البحر.
فور بلـوغ الأميرال نلسـون خـلال تواجـده في نابولي للتزوّد بالمؤن خبر مغادرة نابليون جزيرة مالطا وإبحاره شرقاً، أيقن صوابيـة توقعـاتـه بأن احتـلال مصر هو الهدف الأساسي للحملة الفرنسية. فسارع على الفور للحاق بنابليون وبأقصى سرعة بهدف اعتراضه وتدمير مراكبه في البحر قبل إنزال قواته الى الشاطئ.
لكن الحـظ شـاء هـنا أيضاً وكذلك العـناية الإلهية عدم التقاء الأسطولين في البحر إذ مرا ليل 22 - 23 على مسافات قريبة نسبياً من بعضهما البعض خلال مسارهما جنوبي جزيرة كريت باتجاه السواحل المصرية من دون أن يشعر أو يشاهد أحد منهما الآخر.
ونتيجة اختلاف المسارين وصل الأميرال نلسون بتاريخ 28 حزيران مقابل مرفأ الإسكندرية وكانت دهشته كبيرة عندما تبين له خلو المرفأ والشاطئ من أي وجود فرنسي، باستثناء بعض المراكب التركية الصغيرة. اعتقد نلسون عندها إن نابليون خدعه بانطلاقه شرقاً من مالطا بغية تضليله عن هدفه المرتقب القادم والقاضي باحتلال غربي صقلية. ووفقاً لتوقعات قيادة البحرية البريطانية وبعد القيام بجولة تفتيشية سريعة عن الفرنسيين على الشواطئ المصرية في جوار الإسكندرية، غادر مصر متوجهاً بأقصى سرعة غرباً باتجاه صقلية وكان ذلك بتاريخ 29 حزيران.
في هذه الأثناء كانت طلائع المراكب الفرنسية القادمة من الشمال تقترب من السواحل المصريـة حيث وصل مركب القيادة الذي يحمل نابوليـون والمعروف بـ"LA JUNONس السواحل المصرية يوم مغادرة الأسطول البريطاني وإنما بعد ساعتين فقط، ولم يشاهد أي طرف الآخر بالرغم من إن المسافة التي تفصل بينهما لا تتعدى العشرين ميلاً بحرياً، فالرادار البحري وكذلك وسائل الإتصال اللاسلكي لم تكن موجودة ومعروفة في حينه، وكانت المراقبة البحرية تتم بواسطة النظر وترتكز على الإستعلام.
وصلت المجموعة الرئيسية من المراكب الفرنسية الى مقابـل مرفـأ الإسكندريـة بتاريخ 1 تمـوز وأعطى نابليـون فوراً الأمـر بمباشرة إنـزال القوى والأعتـدة الى البر وقد استغرقـت هذه العمليـة ثلاثـة أيـام.
وبينما كان نابليون يستعد للمعركة البرية ضد المماليك على البر ومباشرة زحفه جنوباً لاحتلال القاهرة، طلب من قائد الأسطول الفرنسـي وضع مراكبه في مكان آمن، على مقـربة من القوى التي تم إنزالها لاستعمالها عند أي طارئ، واقتـرح عليه إدخال هذه المراكب الى مرفأ الإسكندرية القديم إذا كانت أعماق المرفأ تسمـح بذلك وحيث ستكـون تحت حماية المدفعيـة البرية الفرنسية ضد أي هجوم إنكليزي محتمل عليهـا من جهة البحـر.
لكـن الأميرال برويس أبـدى رغبته بنقل المراكـب الفرنسية الى كورفـو في اليونان حيث ستكون بوضع آمن وعلى مسافة قريبة للتدخل، فقد كان لديه شك في إمكانية إدخالها الى مرفأ الإسكندرية، هذا الرأي أغضـب نابليـون الذي طـلب مباشـرة درس إمكانية إدخال المراكب الى الإسكندرية.
وبانتظار معرفة نتيجة مسح أعماق مرفأ الإسكندرية أعطى الأميرال الفرنسي توجيهات الى مراكب الأسطول الفرنسي بالرسو شمالي شرقي مرفأ الإسكندرية في خليج أبو قير.
وبدلاً من الإنكباب فوراً على دراسة أعماق مدخل مرفأ الإسكندرية وأحواضه بسرعة، راح البحارة الفرنسيون يهتمون بصيانة مراكب الأسطول الحربي إضافة الى زيارة البر المصري للتعرف عليه، بينما تمت أعمال مسح الأعماق ببطء. ويعود ذلك الى مستوى الإنضباط المنخفض لدى طواقم البحارة التي تم تجنيدها للحملة بصورة عشوائية وعلى عجل، والتي لم تتأقلم بصورة تامة مع الحياة العسكرية لجهة التجاوب بدقة في تنفيذ الأوامر المطلوبة منها.
وفـي هذه الأثنـاء كان الأسطول البريطاني يبحر بأقصـى سرعـة ممكنـة باتجاه جزيرة صقلية بقيادة الأميرال نلسون الذي عاد مجدداً يرجـح توجه الحـملة الفرنسية الى مصر.
استـغل نلسـون توقفـه في صقلية لتـزويد مراكبه بالمؤن والمياه الحلوة وانطلق مجدداً باتجاه الشرق فكان وصوله الى الإسكندرية في الأول من آب الساعة 14:45.

 

المواجهة البحرية بين الأسطولين الفرنسي والبريطاني

يمتد خليج أبو قير على مسافة 18ميلاً بحرياً (3،33 كلم) من جزيرة أبو قير (أو جزيرة نلسون) حتى الرشيد في الجنوب الشرقي، وقد انتشرت فيه المراكب الفرنسية مقابل الشاطئ وفقاً لترتيب الرتل، من دون أخذ احتياطات قتالية، على اعتبار أن هذا التوقف مؤقت.
فور وصوله الى خليج أبو قير، قرر نلسون مباشرة الإستعداد لمهاجمة الأسطول الفرنسي المتوقف على الياطر في الخليج مستفيداً من الرياح المؤاتية.
في الجانب الفرنسي، وبعد عقد اجتماع حرب عاجل أصر الأميرال برويس على مواجهة الأسطول البريطاني من قبل المراكب الفرنسية وهي متوقفة على الياطر خلافاً لرأي دي شايلا الذي اقترح رفع الأشرعة ومواجهة الأسطول البريطاني في البحر. كما أن القائد الفرنسي استبعد حصول المواجهة البحرية فوراً نظراً لقرب حلول الظلام وصعوبة خوض معركة ليلية من قبل السفن الشراعية البريطانية. واعتبر أن ذلك سيسمح له بالاستعداد ورفع الجهوزية في مجال العناصر التي أوعز إليها بالالتحاق فوراً بالمراكب، إضافة الى ذلك كان هنالك شعور لدى القادة الفرنسيين بتفوقهم على الأسطول البريطاني بفضل الدارعات المرافقة للأسطول الفرنسي والتي لإحداها 120مدفعاً الى ثلاث أخريات لكل منها 80 مدفعاً؛ ومقابل 17مركباً فرنسياً كان لدى نلسون 51 مركباً جميعها من القياس المتوسط ومسلحة تسليحاً متوسطاً (نحو 64 مدفعاً لكل منها).
كان الأميرال الفرنسي يخشى مهاجمة أسطوله من المؤخرة أي من جهة الجنوب، لذلك عمد الى تركيز مراكبه القوية في الوسط لتأمين مساندة المؤخرة عند الضرورة وبذلك تم إهمال مقدمة الأسطول.
جهوزية المراكب الفرنسية من الطواقم البحرية لم تكن تتعدى 50% نظراً لإرسال باقي العناصر للتزود بالمؤن، وكانت قد نفذت في معظمها أعمال طلاء لأقسامها الخشبية وبالتالي كانت عرضة للالتهاب السريع كون الطلاء لم يجف بصورة تامة.
بعدما تحقق نلسون من نقاط الضعف الموجودة في الجانب الفرنسي (ترك مسافات كبيرة بينها، بعدها عن مساندة المدفعية الساحلية، إمكانية استعمال اللسان البحري بينها وبين الشاطئ) قرر مهاجمة مقدمة الأسطول الفرنسي بدون تأخير ومن الجهتين، وبدأ المواجهة البحرية الساعة 18.30. وقد قامت ثمانية مراكب بريطانية بإحاطة خمسة مراكب فرنسية وإمطارها بالقذائف من الجهتين في آن واحد وعلى مسافات قريبة جداً يمكن معها استعمال المسدسات الصغيرة. وقد راهن نلسون على خبرة قادة مراكبه العالية في مجال المناورة وتنفيذ أوامره بحذافيرها.
بالرغم من مفاجأة الفرنسيين بالهجوم الليلي غير المتوقع وبالرغم من تدني مستوى جهوزية مراكبهم بالعديد فقد، خاضوا المعركة بكل شجاعة وتصميم ملحقين إصابات مباشرة بالمراكب البريطانية.
وحوالى الساعة 00،02 أحاط مركبان بريطانيان بمركب القيادة الفرنسية «الشرق» وأمطراه بقذائف مباشرة أدت الى مقتل قائد الأسطول الفرنسي برويس على الفور، واستمرت المواجهة العنيفة بين هذه المراكب، الى أن أصابت إحدى القذائف البريطانية مستودع الذخيرة على مركب القيادة الفرنسي مما أدى الى حصول انفجار كبير فيه وتلاشي أجزائه، وبالتالي مقتل معظم طاقمه البالغ عدده نحو ألف عنصر. وقد دوى صوت انفجار مركب القيادة في المنطقة محدثاً ذهولاً كبيراً لدى السكان على البر.
بعد تدمير مركب القيادة الفرنسية وشل أو أسر مراكب المقدمة، انتقلت المراكب البريطانية مجتمعة لتركيز الهجوم على وسط المراكب الفرنسية ومؤخرتها، وعند بزوغ الفجر سجل شل واستلام باقي المراكب الفرنسية. وجاءت حصيلة المعركة البحرية تدمير بارجتين ومدمرتين فرنسيتين وأسر تسعة مراكب مع ثلاثة آلاف بحار. كما قتل خلال المعركة 1700بحار فرنسي بينهم قائد الأسطول الأميرال برويس.
في الجانب الإنكليزي سجل مقتل 288عنصراً وجرح نحو ألفين، وبالرغم من عدم خسارتها أي مركب إلا أن ثلثي المراكب البريطانية أصيبت خلال المواجهات إصابات مباشرة، وأصبحت بحاجة الى إجراء تصليحات فيها، وقد أصيب خلال هذه المعارك الأميرال نلسون إصابة بليغة.
عمد نلسون الى إرسال إحدى سفن الأسطول "LEANDERس الى نابولي لإبلاغ القيادة بالنصر الذي حققه ضد البحرية الفرنسية، ولكن هذا المركب تعرّض للأسر من قبل قائد فرنسي تمكن من الهرب بمركبه فور بدء المعركة البحرية وتدمير مركب القيادة.

 

تقييم نتائج المعركة

مما لا شك فيه أن النتائج الباهرة التي حققها الأميرال نلسون في معركة أبو قير أحدثت ثورة في مجال التكتيك البحري في حرب السفن الشراعية والتي كانت تعتمد على نظريات رودنيي القائمة على استعمال تشكيل الرتل للسفن ومواجهة السفن المعادية بعد الإقتراب منها.
فقد ارتكز الأسلوب المتبع من قبل نلسون على ما يلي:
- التقدم نحو المركب المعادي وإحاطته من الجهتين اليمنى واليسرى.
- تكثيف القوى المهاجمة على المراكب المعادية بحيث يتم مهاجمتها بعدد مضاعف من المراكب.
- توزيع المراكب المهاجمة بدقة لإحاطة المراكب المعادية من الجهتين، والإستفادة من المسافات المتروكة بينهما مما سهّل مناورة السفن المهاجمة.
- اتخـاذ قرار المهاجمـة ليلاً خلافـاً لما كـان معـهوداً في المعـارك البحريـة الشراعيـة في حينه، مما وفّـر له عنصـر المفاجـأة.
في المقابل يجمع المحللون الفرنسيون على أن الخطأ الرئيسي الذي ارتكبه الفرنسيون في هذه المعركة هو إضاعة الوقت فور وصول الحملة الفرنسية وعدم تأمين المراكب في مرفأ الإسكندرية تحت حماية المدفعية البرية الفرنسية، إذا كانت الأعماق تسمح بذلك، أو نقلها الى مرفأ كورفو في اليونان. ويتحمل مسؤولية ذلك في الدرجة الأولى الأميرال برويس كونه قائد الأسطول خصوصاً أنه كان لديه نحو شهر لحل هذه المشكلة، إلا أنه بقي متردداً حيال تأمين سلامة مراكبه فترة طويلة.
ولكن نابوليون الذي يعتبر قائد الحملة يتحمل جزءاً من هذه المسؤولية، فقد كان في هذه الأثناء منغمساً في معاركه البرية ضد المماليك ويتقدم جنوباً لاحتلال القاهرة، وكان يرغب بإبقاء الأسطول على مقربة منه في حال هزيمته في المعارك. ويقال إنه بعد تحقيقه الإنتصارات في المعارك البرية أوفد رسولاً الى الأميرال برويس لإبلاغه ضرورة تأمين المراكب ولو في كورفو في اليونان، لكن هذا الرسول لم يصل الى الإسكندرية بعد وقوعه في مكمن نصبه المماليك.


وخلال وجود نابوليون في جزيرة سانت هلينا وخلال إعادة إستعراضه الأحداث والمعارك التي خاضها سابقاً وفي حديثه عن معركة أبو قير، حمّل الأميرال برويس مسؤولية تدمير الأسطول الفرنسي، وقال إن استشهاده في المعركة عوّض عن الخطأ الذي ارتكبه.
بالنسبة لنتائج معركة أبو قير على حملة نابوليون، فإن خسارة الأسطول البحري الفرنسي أفقدت نابوليون الوسيلة التي كانت تؤمن له التواصل والمواصلات مع فرنسا، ومع أن نتائج هذه الخسارة لم تظهر بصورة فورية فالحملة برمتها حكم عليها بالفشل.
وسرعان ما بدأت تظهر نتائج ذلك الفشل لدى قيام نابوليون بحملته على فلسطين وسوريا وحصاره مدينة عكا، فقد عملت البحرية البريطانية على إمداد هذه القلعة من البحر وكذلك ضرب المواصلات البحرية التي تؤمن الدعم اللوجستي للحملة الفرنسية والتي سرعان ما انكفأت مجدداً الى مصر بسبب عدم تحقيقها نتائج ملموسة على الأرض. عمد بعد ذلك الإنكليز الى تحقيق السيطرة على البحر المتوسط. وإنطلاقاً من البحر عمدوا الى السيطرة التدريجية على أهم المواقع الفرنسية التي راحت تسقط في أيديهم تباعاً من كورفو (1799) ومالطا (1800) الى مصر (1801).