- En
- Fr
- عربي
متقاعد يتذكّر
حقّقنا نصرًا كبيرًا وكبّدنا العدو الإسرائيلي خسائر فادحة
ترسم الأحلام أحيانًا مسارًا لحياة أصحابها... وهذا ما كانت عليه حال العميد الركن المتقاعد جوزف روكز. فمنذ صغره حلم بأن يكون ضابطًا في الجيش. حقّق حلمه وخاض مسيرة غنيّة بالعطاء والتضحيات والتجارب، لكنّ أكثر التجارب التصاقًا بذاكرته، هي تلك التي عاشها يومي 16 و17 أيلول 1972. آنذاك خاض الجيش اللبناني معركة شرسة ضد العدو الإسرائيلي، وكانت نتيجتها تدمير عشرات الآليات للعدو، وإجباره على الانكفاء والتراجع...
من الحربية إلى ميادين الخدمة
انتسب إلى المدرسة الحربية في العام 1949 وتخرّج منها برتبة ملازم في العام 1952. تابع دراسته الأكاديمية ونال إجازة في الحقوق، وذلك بتمنٍّ شخصي وتشجيع من قائد الجيش آنذاك العماد فؤاد شهاب. دراسته الحقوق أهّلته لتولي منصب قاضٍ منفرد في المحكمة العسكرية.
تدرّج في عدة مناصب عسكرية، فمن قائد كتيبة، إلى قائد فوج دبابات وقائد موقع صور، ومساعد قائد منطقة بيروت، وقاض منفرد في المحكمة العسكرية لتسع سنوات، أما آخر منصب شغله فكان نائب رئيس الأركان بالإنابة. حفلت مسيرته بالشجاعة مقرونة بالقدرة على استشراف الأمور والإحاطة بمختلف جوانبها. وهو يحمل عدّة أوسمة ودروع منها: وسام الحرب درجة أولى، وسام الاسحقاق اللبناني الفضي ذو السعف (درجة ثالثة)، وسام الأرز الوطني من درجة ضابط، وسام الأرز الوطني من درجة كومندور، وسام الأرز الوطني من درجة ضابط أكبر، ووسام الشرف العربي من جامعة الدول العربية.
يشغل العميد الركن المتقاعد روكز اليوم منصب رئيس ديوان رابطة قدماء القوى المسلّحة، ويقوم بإعداد كتاب بعنوان «لآلىء من عمر الزمان»، يتحدّث فيه عن مسيرته العسكرية وعن مرحلة التقاعد، وسيعود ريعه إلى عائلات شهداء الجيش.
معركة العام 1972
من أحبّ الذكريات إلى قلب العميد الركن المتقاعد روكز، ذكريات معركة أيلول 1972، يومها حقّق الجيش اللبناني نصرًا كبيرًا خلال مواجهته العدو الإسرائيلي الذي حاول الدخول إلى المخيّمات الفلسطينية في الجنوب (الرشيدية، البص، والبرج الشمالي)، والتي كان الرائد روكز آنذاك مسؤولًا عن أمنها.
جرت المعركة في 16 و17 أيلول العام 1972. وكانت هناك مؤشرات تدلّ إلى أنّ العدو الاسرائيلي قد يقوم باعتداء على الجنوب، فاتخذت الاجراءات اللازمة. ويروي العميد الركن المتقاعد روكز الوقائع فيقول: كنت برتبة رائد، عيّنت قائدًا لكتيبة الدبابات الثانية، في موقع صور وكان من مهماتي القتالية وضع فصائل دبابات بتصرف القطاعين الأوسط والغربي في منطقة الجنوب، لصدّ هجمات العدو الإسرائيلي. وبالتنسيق مع قائدي القطاعين درست أرض التمركز والمحاور المحتملة لتقدّم العدو وكانت ثلاثة: قانا – صور، جوّيا - صور، والناقورة - صور، وقد قمت ببناء ثمانين مركزًا قتاليًا في هذا المحور، واستخدمت لذلك صخورًا ضخمة مدعّمة بالاسمنت وبارتفاع يعلو نصف برج الدبابة. كان الهدف أن يتمكن الرامي من تحريك المدفع واستعمال الرشاش بحرّية في القتال أو التراجع. كنت أتفقّد المراكز من حين الى آخر، وضعت لكل مركز لائحة بالأهداف التي ينبغي أن يرمي عليها، مع تحديد مسافتها ما يتيح الرمي بسرعة أثناء القتال، وسلّمت اللوائح لآمري الدبابات، لاستعمالها عند الحاجة. بفضل هذه الخطة الاستباقية استطعنا تحقيق رمايات صائبة ودقيقة في المعركة ودمّرنا للعدو الإسرائيلي 32 آلية بين دبابة ومجنزرة ومسلسلة، أم خسائرنا فكانت 5 دبابات شاريوتير.
ويتابع العميد روكز راويًا تفاصيل المعركة: بتاريخ 16/9/1972 اتصل بي العقيد يوسف البيطار قائد القطاع الأوسط، وأبلغني بأن العدو الإسرائيلي دخل الأراضي اللبنانية وطلب مني إعطاء توجيهاتي لآمري فصائل الدبابات المتمركزة في القطاع للمشاركة بصد الهجوم. اتصلت على الفور بآمري فصائل الدبابات وطلبت منهم تنفيذ أوامر قائد القطاع والبقاء على اتصال بي لمعرفة كل جديد يطرأ، لمساندتهم عند الحاجة بفصائل من الثكنة.
في الوقت عينه، قام قائد الكتيبة بإجراءات فورية، حيث اتصل بقائد القطاع الغربي في حينها العقيد الركن فوزي الخطيب، وبقائد منطقة الجنوب العقيد سعيد نصرالله، لإبلاغهم الخبر، واتخاذ الإجراءات اللازمة: تجهيز الدبابات الموجودة داخل الثكنة للقتال، وملء صهاريج المحروقات بالبنزين ونقلها إلى مكان آمن، تحصين خزانات محطة المحروقات بأكياس الرمل، تجهيز سيارة مساعفة الآليات بالعتاد والعناصر، تأمين طاقم طبي في المستشفى الحكومي في صور، وتجهيزه لاستقبال الجرحى والشهداء، تأمين مواد غذائية ، وسوى ذلك من تدابير.
بداية المعركة
ويضيف العميد روكز: بدأت قوات العدو تتقدم باتجاه الأراضي اللبنانية في صباح السادس عشر من أيلول الساعة الخامسة وخمسة وأربعين دقيقة، وكان يواكبها الطيران الحربي الذي حلّق بكثافة في الأجواء اللبنانية. تقدّمت الآليات المعادية على خطّين، الأول بين عين إبل وصفّ الهوا، والثاني بين عيترون وبنت جبيل.
ونظرًا إلى حجم القوى المعادية وإمكاناتها مقارنة بما كان متوافرًا للجيش، كانت الأوامر تقضي بمواجهة العدو باعتماد خطة عرقلة تقدّمه، وباعتماد القتال التراجعي حين يقتضي الأمر ذلك. وهذا ما حصل، فبعد اشتباك دام نحو 45 دقيقة، أمّنت حضيرة بيت ياحون انسحاب سرية المصفّحات المتمركزة في صفّ الهوا.
وقد استمرت حضيرة بيت ياحون في رماياتها حتى أصابت ثلاث دبابات وثلاث مجنزرات معادية، وفي تلك المواجهة أصيب آمر الحضيرة الرقيب ديب صقر بشظيّة في رأسه، أودت بحياته على الفور. عندها انسحبت الحضيرة تحت وطأة قصف طيران العدو ومدفعيته وانضمّت إلى حضيرة صف الهوا. تسلّم الملازم بيارو سليمان إمرة الفصيلة، التي تراجعت باتجاه تبنين وركّزت قواها دفاعيًا، فكمنت للآليات المعادية عند مفرق حاريص، وأطلقت عليها النار.
ويتابع العميد المتقاعد روكز رواية أحداث تلك المعركة قائلًا: ظهرت على مرتفعات برعشيت قافلة للعدو مؤلّفة من دبابات ونصف مجنزرات، تقدّر بثلاثين آلية ومدرّعة. أطلقت الفصيلة النار واشتبكت مع العدو فأصابت لها دبابتين ومسلسلتين بين برعشتيت ومفرق شقرا، عندها اتجهت نحو صفد البطيخ وأخذ الطيران يقصف دباباتنا، التي استمرت في الرمي، إلى أن أصيبت إحداها ودمّرت، وقد نجت سدنتها والتحقت بالفصيلة سيرًا على الإقدام. وعندها انسحبت بناء لأمر قائد القطاع الأوسط إلى بلدة السلطانية.
تمركزت قوى للجيش على محوري تبنين- السلطانية، وصفد البطيخ- السلطانية، واشتبكت مع العدو الذي قصفها بالطائرات، فأصيبت إحدى دباباتنا بقذيفة نابالم أحرقتها مع طاقمها المؤلف من ثلاثة عسكريين وهم: الرقيب طانيوس مرعي والعريف مهنّا سعسوع والجندي الأول فيليب سلوم.
في الغندورية والقنطرة
في الغندورية تمركزت حضيرة تصدّت للطائرات المعادية بالرشاشات 12.7 في أثناء إغارتها على جسر القعقعية، وقصف دباباتنا التي لم تصُب بأذى.
أما الحضيرة التي تمركزت على محور الطيّبة- القنطرة فقد انسحبت بناء على أمر قائد المجموعة وتمركزت في مكان مموّه، لكي لا يكشفها الطيران، ثم انسحبت منه مع فصيلة المصفّحات إلى مراكز الغندورية لمساندة الفصائل الأخرى.
ويضيف: في الساعة الثانية بعد الظهر، طلب قائد القطاع الأوسط الملازم الأول أبو شقرا إرسال فصيلة دبابات إلى بلدة الشهابية لمنع العدو من التقدّم على محور الشهابية- صريفا، فأرسلت فصيلة بأمرة الملازم بيارو سليمان وتمركزت بين كفردونين ومفرق الغندورية ولم تشترك على هذا المحور بأي مهمة قتالية لعدم تقدّم العدو باتجاهها.
القطاع الغربي: قانا ...قانا
شهد القطاع الغربي مواجهات عنيفة استبسل خلالها الجيش اللبناني وأوقع خسائر فادحة في صفوف العدو جعلته ييأس من التقدم. وعما حصل في ذلك القطاع يقول العميد المتقاعد روكز: بناء على موافقة قائد القطاع الغربي العقيد الركن خطيب، أُرسلت فصيلة دبابات شاريوتير بإمرة الملازم الأول أطناس أطناس، لصدّ تقدّم العدو على محور صدّيقين- قانا- صور، فتمركزت بالحضائر على مشارف بلدة صديقين في المراكز القتالية المحضّرة لها مسّبقًا. بعد ثلاث ساعات من تمركزها، اجتاز منطقة وادي السدّ وبسرعة، رتل من الآليات والمدرعات العدوة يفوق عددها المئة. وعندما أصبحت الدبابة الأولى على مرمى السلاح الفعّال، أطلق العريف علي كنعان النار فأصاب دبابتين وجرّارًا، كما أطلق الرقيب الأول بطرس الأسمر النار على الرتل فأصاب أربع دبابات إصابات مباشرة وجانبية. عندها توقّف العدو قليلًا وفتح النار بغزارة على الحضيرة بمدفعيته ودباباته، كما أخذت الطائرات تقصف المراكز، فاضطرت دبابة العريف كنعان إلى الانسحاب بعد أن أصيبت دبابة الرقيب الأول الأسمر بعدة قذائف مخترقة ومحرقة (لم يُعرف ما إذا كانت قذائف نابالم أو قذائف مدفع)، فاشتعلت النار بداخلها وخرج طاقمها منها بسرعة. كان الطاقم مؤلفًا من: الرقيب الأول بطرس الأسمر والجندي الأول عثمان الزعبي والجندي الأول علي البرجي. أصيب الأولان بحروق وجروح مختلفة لوجودهما داخل البرج، بينما كان الثالث في مقعد السائق. وفي أثناء انسحاب دبابة العريف كنعان اشتعلت بها النار، فتمكّن طاقمها من إطفائها وحاول قطرها بدبابة ثانية، ولكن رماية الطائرات منعته من ذلك، فاتصل العريف كنعان بي وأخبرني عمّا جرى. طلبت إليه نزع إبرة الرشاش 12.7 والرشاش 7.62 وإبرة المدفع لكي لا يستعملها العدو ضدّ آلياتنا، ففعل والتحق ببقية الدبابات بسيارة آمر الفصيلة الملازم أطناس. ولم يبتعد الجميع عن الدبابة مائتي متر تقريبًا، حتى أصيبت بقنبلة نابالم، فاشتعلت كما أصيبت سيارة آمر الفصيلة بشظايا القنابل. جُرح الملازم أول أطناس برجله اليمنى وخاصرته اليسرى، وعند وصوله إلى محازاة الحضيرة الثانية المتمركزة في بلدة قانا ترجّل من سيارته وأرسل الجرحى والمصابين إلى مستشفى صور العسكري، وبقي مع حضيرة قانا على الرغم من إصابته بجروح مختلفة.
هكذا دمّرنا سبع دبابات وآليات وثلاث مجنزرات
ويتابع العميد الركن روكز حديثه عن بطولات الجيش اللبناني في هذه المعركة فيقول: في هذه الأثناء، كان العدو يتابع تقدّمه باتجاه بلدة قانا، وعند وصوله إلى مشارف البلدة وعلى مرمى السلاح الفعّال، أطلق الرقيب اسماعيل أحمد النار على الدبابات فأصاب منها تباعًا سبع دبابات ومسلسلات. أما الرقيب خليل المولى، فقد أطلق النار على الآليات التي انتشرت في كرم الزيتون جنوبي شرقي بلدة قانا.
أثناء تدميرنا الآليات الست، أسر العدو الإسرائيلي المعاون سايد معيكي (من كتيبة الإشارة)، في وادي السدّ، ولكنه استطاع الفرار.
ويتابع قائلًا: انتقلت مع فصيلة دبابات إلى محور صور- الناقورة، لصدّ تقدّم العدو على الطريق الساحلية، وقبل وصولنا إلى بلدة القليلة، قصفنا الطيران بعدّة صواريخ، فانفجر أحدها على مقربة من دبابتي وأصابتني شظية بكتفي الأيسر. عدت إلى الثكنة بأمر من قائد القطاع الغربي، حيث تلقيت الاسعافات اللازمة وأرسلت الفصيلة بأمرة الملازم أنطوان برهوم لمتابعة المهمة، لكن العدو لم يتابع تقدّمه على المحور المذكور، بل اتجه نحو بلدة جويّا، حيث قام بهدم المنازل، واتّجهت بعض آلياته نحو بلدة الشهابية التابعة للقطاع الأوسط، هناك دمّرت له قوانا ثلاث مجنزرات.
و... انسحبوا
بعد ساعات كانت الطائرات الإسرائيلية تحلّق فوق البازورية، فأطلقت عليها النار بالرشاشات 12.7. وتألّفت مجموعة مشتركة من سريّة مشاة ومن كتيبة المشاة الثانية وثلاث حضائر ودبابات لقطع طريق باتوليه - الرشيدية - قانا - صور، ومنع العدو من الوصول إلى المدينة.. ولكنه لم يتقدم، بل حلّقت طائراته فوق بلدتي قانا وجويّا ومخيّمي برج الشمالي والرشيدية ومدينة صور، وألقت قذائف مضيئة بشكل دائري، ربما كانت الغاية من ذلك إضاءة منطقة القتال لكشف تحرّكاتنا ولسحب العتاد المعطّل بطائرات الهليكوبتر...
انسحب العدو من وادي السدّ نهائيّا بفضل استبسال أبطالنا، عند الساعة الحادية عشرة والنصف من ليل 17/9/1972، فتوقّف القتال وعادت الدبابات إلى الثكنة. ونتيجة لهذه المعركة كانت الخسائر التي تكبّدها العدو الإسرائيلي بالعتاد 32 آلية (بين دبابة ومجنزرة ومسلسلة، بينما خسائر الجيش اللبناني خمس دبابات شاريوتير فقط).
بالورد والأرزّ
وختم العميد روكز حديثه قائلًا: لقد استقبل المواطنون الدبابات العائدة إلى ثكناتها مكلّلة بالنصر، بالأرزّ والورود والهتافات... كان الناس على جوانب الطرقات يهلّلون ويهتفون لجنودنا.
وأكّد العميد الركن روكز أنه طلب من قيادة الجيش حاملة دبابات، من أجل نقل الدبابة التي دمّرت سبع دبابات للعدو الإسرائيلي من ساحة القتال وتركيزها على قاعدة خاصة بها داخل ثكنة موقع صور. ولم تزل الدبابة في مكانها لتاريخه، حيث علّقت لوحة حديد نُقشت عليها عبارة تقول: الدبابة التي اشتركت بتاريخ 16 و17 أيلول 1972 في التصدّي للعدو الإسرائيلي ودمّرت له سبع دبابات.