قضايا إقليمية

مغالطـات السياســـة الاســـرائيلية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

حتى العام 2000 كانت الفرضية الأساسية الشائعة في منطقة الشرق الأوسط هي فرضية ان كل شيء يسير على ما يرام في اتجاه الحل السلمي، وذلك تحت رعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود باراك والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وذلك على قاعدة تخلي اسرائيل عن أراضي 1967 مقابل تخلي الفلسطينيين عن اراضي 1948 ولكن فرضية السلام ما لبثت ان تحطمت على رؤوس اصحابها، وتبين انه لا بديل لحل الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني بنوع خاص وبصورة كاملة وشاملة في الجيل الحالي وربما لأجيال أخرى أيضاً. وهكذا بدأ استعداد الجميع منذ ذلك الحين للاحتمال الأرجح، وهو عدم تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة نظراً لعدم استعداد اسرائيل الجدي للتخلص من مكاسبها الجيوسياسية والجيوستراتيجية، التي حققتها في العام 1967 . في المقابل، تبين بوضوح انه لا سلام على الاطلاق من دون تخلي اسرائيل عن كل أو معظم الأراضي التي احتلتها آنذاك مع ما عليها من مستوطنات، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم الوطنية المستقلة على الاراضي المحررة، وذلك لاعتبارات سياسية وامنية واخلاقية وديموغرافية، فالاحتلال يعرّض وجود اسرائيل كدولة قومية للكثير من المخاطر وينزع عنها صفات الشرعية الدولية في الخارج وخصوصياتها الديموقراطية في الداخل، ويحرمها ايضاً من الاحساس بالعدالة الأخلاقية والتصالح مع الذات.
في مقابل هذا الطرح، يستخدم القادة الاسرائيليون منطقاً ذرائعياً تبريرياً لاحتلالهم، بالقول ان الانسحاب يعني التعرض للمزيد من المخاطر، من حيث انه يزيد من الدوافع الدينية والقومية والحضارية والانتقامية للتخلص من اسرائيل كدولة تمييز عنصري، وكمشروع استعماري لا حدود لأحلامه ومشاريعه العدوانية والتوسعية. وهنا يعود الاسرائيليون الى الدائرة المفرغة بالجدل السفسطائي حول أيهما الأسبق: الاحتلال الذي يفاقم الخطر على الدولة، ام الخطر الذي يستدعي المزيد من الاحتلال؟! متناسين الخطيئة الكبرى المرتكبة منذ العام 1948، وما رافقها من ظلم وسفك دماء السكان الأصليين واحتلال حقوقهم وارضهم وممتلكاتهم، الامر الذي اوقعهم في مأزق الخيار المستحيل ما بين الموت بسرطان الاحتلال نفسه او الموت بالعملية الجراحية لاستئصاله، بحسب تعبير رئيس المخابرات الاسرائيلية الأسبق الجنرال شبتاي تسافيط، الذي اضاف: إن خطة الفصل التي تبناها شارون ونفذها، انما جاءت كرد على هذه المعضلة المتفاقمة من خلال معادلة تفاقم الاحتلال وتزايد الخطر على الدولة. وبتعبير آخر، لقد رأى شارون ان استمرار الاحتلال هو استمرار للخطر، وانهاؤه عبر تسوية نهائية غير ممكن وغير مرغوب فيه اسرائيلياً، وبالتالي لا بد من التسوية المرحلية، وهنا تتعلق الدائرة مجدداً بمعرفة ان مثل هذه التسوية لا تنهي الاحتلال المشؤوم ولا تزيل الخطر المزعوم.

والجدار العنصري الفاصل ما هو سوى تجسيد عملي ومادي لكل هذه المفارقات والمغالطات التي اوقعت السياسة الاسرائيلية نفسها فيها، حتى ولو حاولت ان تضفي عليه بعض المواصفات السياسية من خلال تصويره بأنه مشروع لرسم خط حدود نهائية تحظى باعتراف دولي، ومن خلال ادراكها انه من المستحيل فرض أمر واقع، حتى لو تمّت تسميته بالانتقالي، من دون تصنيفه سياسياً.
لقد حاول بعض المفكرين الاسرائيليين الاستفادة من تجربة الانسحاب من طرف واحد من لبنان في شهر أيار العام 2000، ونظروا بإيجابية الى تطبيقها على الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، علماً بأن ذلك الانسحاب قد تم حتى من دون أية اتفاقات ناظمة له سوى ما خص الخط الأزرق، الذي تم النظر اليه على انه يمثل الجدار الفاصل غير المرئي للشرعية الدولية الذي يحمي المستوطنات الشمالية من دون اية تكلفة زائدة او اعباء مرهقة مادياً وبشرياً وسياسياً.
وهنا قام من الاسرائيليين من نادى باستبدال الجدار الفاصل (المعيب والمرتفع اكثر من ثمانية امتار في الفضاء وبتكلفة باهظة)، بجدار دفاعي من الشرعية الدولية. الا أن مثل هذا النداء ذهب سدى، لأن الحدود الوحيدة المعترف بها من قبل الشرعية الدولية في الساحة الفلسطينية هي حدود الخامس من حزيران 1967 بحسب مفهوم القرارين 242 و338، ولأن اسرائيل ترى من المستحيل الانسحاب الى مثل هكذا حدود من دون جباية أثمان باهظة من الفلسطينيين، أقلها حرمانهم من مختلف أشكال السيادة الأمنية عل أقل تقدير. وفي عود على بدء، يجد الاسرائيليون انفسهم امام مفارقة مريرة هي ان الحدود التي ترضي طموحاتهم وامانيهم الدينية والقومية هي حدود غير شرعية، والحدود الشرعية انما تعني فقط إنكفاء هذه الطموحات والأماني وانحسارها في حدها الأقصى الى حدود الخط الأخضر منذ العام 1967 مع بعض التعديلات التجميلية الطفيفة ربما.
وبالتالي من المستحيل ايجاد خط ازرق في الضفة الغربية على غرار جنوب لبنان، ولن يكون هناك اقرار رسمي دولي بانهاء الاحتلال المفسد لكل شيء.
اما مقاربة شارون البراغماتية او «العملية» لحل الصراع من خلال تقطيعه وتسويفه زمنياً وجغرافياً، فلن تكون اكثر من قرار غير مُوفّق من المقاربة السياسية المحتمة والمرتقبة.
لقد تصور شارون ان خطة الفصل التكتيكية المنطوية على استمرار الاحتلال، حتى ولو في شكله المقلَّص، «سوف تجعل من اسرائيل دولة هادئة امنياً لفترة تزيد على 30سنة» على حد قوله.

 واضاف: «إذا كان هناك من يتألم لإزالة مستوطنات في غزة، فأنا أكثر من يتألّم لأن مسؤوليتي تجاه أمن اسرائيل والاسرائيليين وتجاه الوضع الاقتصادي تحتم علي القيام بمبادرات للخروج من الأزمة الحالية التي علقت بها المنطقة.
 فلا يجوز لنا ان ننظر حتى تعرض علينا حلول، الهدف منها هو نقل المستوطنات التي تسبب لاسرائيل مشاكل».
في العام 1982، تصور شارون ورئيسه مناحيم بيغن بأن العدوان الواسع آنذاك سوف يعطي اسرائيل 40 عاماً من الهدوء والطمأنينة.
 إلا أن قادة اسرائيل لا يريدون على ما يبدو الاستفادة من دروس انتصار المقاومة في لبنان، واستمرار كفاح الشعب الفلسطيني عبر انتفاضاته المتكررة، من اجل بناء الدولة الوطنية واستعادة اللاجئين المشردين حقوقهم المسلوبة.
لقد تعلم الفلسطينيون من تجاربهم المرّة مع الاسرائيليين ان الصعوبة والتعقيد لا تكمن في البدء بعملية سياسية كاتفاقية اوسلو، ولا في التحرك لتكبير الأهداف والأحلام، وانما في الاسراع للوصول الى اغلاق الدائرة المفرغة لأن تركها مفتوحة سيعني العودة الى المربع الأول، حيث ستحسم الأمور الاستراتيجية حينئذ لصالح الجانب الأقوى، وهذا ما فعله ايهود باراك عندما رفض تطبيق الحلقة الاخيرة من الاتفاق، فوقع الفلسطينيون في فخ التخلي عما كان في ايديهم بقبولهم الانتقال الى مفاوضات الوضع النهائي، بعدما اتضح إصرار اسرائيل على امتلاك حق السيادة الكاملة على الحدود البرية والبحرية والجوية للكيان الفلسطيني المنشود، وبذلك تحول أي تقدم سياسي الى وهم ليس له أي مضمون استراتيجي لأنه تقدم على طريق مسدود.