قضايا إقليمية

مقوّمات الوجود في مستقبل دولة العدوّ الإسرائيلي
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

من المسلّمات الأولى، التي يتوافق عليها الإسرائيليون، من اليمين واليسار والوسط، أنه لا مكان على الإطلاق لدولة واحدة موحدة لكل مواطنيها، يتساوى فيها الفلسطينيون العرب والإسرائيليون اليهود في حقوق المواطنة، سواء كانت هذه الدولة ثنائية القومية أو مفدرلة أو ديموقراطية ليبرالية.

 

دولة المواطنة كابوس مرعب للصهاينة
هناك علاقة تنافٍ وتعارض متبادل بين الدولة القومية العنصرية للشعب اليهودي، التي تطالب بها الغالبية الساحقة من الإسرائيليين، وبين الدولة الديموقراطية الواحدة التي تساوي بين الفلسطينيين واليهود والتي يقبل بها كثير من الفلسطينيين وقليل من اليهود. فإذا كانت دولة العدوّ الإسرائيلي هي حقًا وفعلًا الدولة القومية لليهود، فهذا يعني مباشرة أن المواطنة الفلسطينيية في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات يجب أن تتحقق خارج حدود «دولة إسرائيل اليهودية» الموسّعة، إمّا من خلال دولة فلسطينية مشوّهة ومقطّعة الأوصال بالأسوار العالية، أو من خلال استمرار الاحتلال، أو من خلال التمدد إلى أراضي مصر والأردن وغيرهما من الدول، أو حتى من خلال نظام يشبه نظام الفصل العنصري (آبارتهايد). المهم: لا مكان لدولة واحدة يتساوى فيها اليهود الإسرائيليون مع الفلسطينيين العرب في حقوق المواطنة، ذلك أن دولة المواطنة التي تساوى بين الجميع في الحقوق والواجبات، هي الكابوس المرعب للحركة الصهيونية، وتحديدًا لفكرة أن «دولة إسرائيل» هي الدولة القومية لليهود، داخل حدودها وخارجها.

 

ليهودية الدولة أسبقية على ديموقراطيتها
الخلاصة المستفادة من هذه المقدمات الأولية هي أن ليهودية الدولة أولوية وأسبقية واضحة وصريحة على ديموقراطيتها. وبناء عليه، وفي حال الإقرار النهائي للقانون الأساسي حول الدولة القومية، فإن ديموقراطية إسرائيل تكون حتمًا تحت سقف يهوديتها، وهي بالتالي ديموقراطية عنصرية تنتهي عند الحدّ الذي لا يتنافى مع يهوديتها أو ينتقص منها.
إنّ ما سبق ذكره يوضح ما كان غامضًا، ويفسّر ما كان ملتبسًا ويعرّي ما كان مستترًا، بشأن مكانة المواطن الفلسطيني داخل «دولة إسرائيل» المستقبلية: فهو مواطن حقًا، لكنه مواطن من الدرجة الثانية (الدرجة الأدنى) تمامًا مثل لغته التي ينتفي عنها طابع اللغة الرسمية، وتمامًا مثل الديموقراطية التي يتمتع بها، أي ديموقراطية مبتورة ومعطوبة.
وبالتالي، فإن هذا الوضع القانوني الرسمي والنهائي للكيان الصهيوني إنما يقول للاّجئين الفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية وخارجها: إن عودتكم بأعداد كبيرة ونسب عالية إلى قراكم ومدنكم داخل حدود «دولة إسرائيل، دولة الشعب اليهودي»، تحت ذريعة حق العودة، غير واردة. فلا معنى لدولة قومية لليهود إذا كان الفلسطينيون فيها مواطنين بأعداد كبيرة ونسب عالية، تفوق بكثير الأعداد والنسب الحالية. وبكلمات أخرى، يجب أن يظل اليهود غالبية ساحقة من مواطني الدولة، وللمدى البعيد، لكي تبقى إسرائيل دولتهم القومية الواضحة. وهذه الرسالة موجّهة بشكل مباشر إلى اللاجئين الفلسطينيين المشرّدين في الشتات، والذين لا يزالون يحلمون بممارسة حق العودة وفق القرار الدولي رقم 194.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين الموجودين داخل حدود «دولة إسرائيل»، فليس لهم حقوق جماعية في إطار الدولة العنصرية، الدولة القومية لليهود، وحقوقهم فيها تقتصر على الحقوق الفردية، المدنية منها والسياسية. إنهم مجرد مواطنين أفراد وجماعات دينية ليس أكثر. وهم بالتالي ليسوا أقلية قومية لها حقوق جماعية، ثقافية وغير ثقافية. فحق تقرير المصير حكر على اليهود في الدولة، ولا ينطبق بالتالي عليهم، وهم ليسوا، كاليهود في إسرائيل، مواطنين أسيادًا. وعليهم ألاّ يحلموا بالانفصال عن جسد الدولة، ولا الجنوح نحو تحويلها إلى دولة ثنائية القومية، ولا التعلّل بأفكار حول حكم ذاتي جغرافي أو ذي معنى. كما ليس لهم أي دور في الأمور التي تخص سيادة الدولة من حيث طابعها اليهودي، وما يشتق من ذلك على مستوى الرموز والنشيد الوطني واللغة القومية والعطل الرسمية والأمن والحدود، إلى آخره...

 

«دولة إسرائيل» هي ما هي عليه
باختصار شديد إن «دولة إسرائيل» هي ما هي عليه، وستبقى كما هي عليه، دولة خاصة للشعب اليهودي في المقام الأول، فهذا الشعب هو صاحب البيت وهو الآمر الناهي بكل ما يخص سيادة الدولة، طابعها، أمنها، حدودها، مستقبلها ورموزها. أما المساواة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل فتظل، كما كانت دائمًا، تحت هذا السقف، سقف السيادة ومشتقاتها.
في ما يتعلق باليهود خارج حدود «دولة إسرائيل»، فالدولة هي دولتهم القومية، وعليهم قبل أي شيء أن يحافظوا عليها وعلى يهوديتها، كما تحافظ هي عليهم وعلى يهوديتهم. وهي ملجأهم، وهي لهم كما لمواطنيها من اليهود الآخرين، ولهم وحدهم دون سواهم حق العودة إليها متى شاؤوا، ولا دولة قومية لهم سواها. وقانون العودة المعمول به حاليًا منذ العام 1950 خير دليل على التزام الترحاب بهؤلاء واحتضانهم.
إن الرد الفلسطيني على تحدّي قانون الدولة القومية العنصري، وعلى يهودية الدولة عمومًا، يجب أن يؤكد على أسبقية القضية الحقوقية والديموقراطية والقانونية على القضية القومية أو الدينية المزعومة. والدولة القومية ذات الديموقراطية الإثنية (Ethnocracy)، كما هي إسرائيل منذ قيامها وحتى الآن، كما يؤكد على ذلك، ويرمي إلى تحصين ذلك، قانون الدولة القومية، هي دولة الديموقراطية المبتورة من وجهة نظر غير اليهود من مواطنيها. وهي، ثانيًا، دولة لا تبشر بأكثر من الفصل الديموغرافي- الجغرافي (وبشروط غير منصفة) كحلّ للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بكل ما يعنيه ذلك أو ينتج عنه من التنكّر لحقوق المشرّدين الفلسطينيين بالعودة.
لقد قال نتنياهو سابقًا، إن أي اتّفاق سلام مع الفلسطينيين لن يشمل إخلاء أي مستوطنة في الضفة الغربية، مستندًا في ذلك إلى الدعم الأميركي، وإلى ما قاله الرئيس الأميركي ترامب في بداية حكمه: «إن المستوطنات ليست المشكلة في عملية السلام». إنّ ما تقدّم يُعتبر تكملة لما بدأه أرييل شارون من ضم للأراضي في الضفة الغربية، ومن إخراج للتجمعات الفلسطينية خارج خارطة إسرائيل الجديدة التي يمثّل جدار الفصل العنصري في الضفة والقدس، شكلًا من أشكال حدودها الرسمية لكن غير النهائية. والجميع قد بات يعي شكل تلك الخارطة ويعلم أيضًا انتهاء فكرة حلّ الدولتين، وإن ما جرى ويجري من إجراءات سياسية وميدانية على الأرض لفرض حلول ملزمة على الفلسطينيين، إنما هدفه قتل حلمهم في الدولة. لكن على الرغم من أي شيء فإن إسرائيل ومنذ إنشائها لم تنجح في نزع حلم الوطن من عقول الفلسطينيين وأفئدتهم، ولن تتمكن من تجريدهم من شخصيتهم السياسية الوطنية والقومية التي ستستمر في ملاحقة الاحتلال الظالم كالشبح بالمقاومة وفي المؤسسات الدولية جميعها، للحفاظ على بقاء القضية الفلسطينية حاضرة وحيّة في صلب السياسة الدولية.