قضايا إقليمية

ملفات فساد نتنياهو وتداعياتها
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

تتزايد الضغوط القضائية والسياسية والمعنوية على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بسبب شبهات متعددة تلاحقه وزوجته بتهم الفساد المالي والرشوة وخيانة الأمانة العامة. وقد أجمعت وسائل الإعلام الإسرائيلية على أن توصية النيابة العامة بتقديم لائحتَي اتهام ضده قد شكّلت في الواقع «زلزالًا سياسيًا»، كما وصفته في وضعه الراهن بـ«البطّة العرجاء».


هذه الاتهامات لم تكن الأولى التي توجّه لنتنياهو؛ فأثناء ولايته الأولى كرئيس للوزراء (1996-1999)، خضع أيضًا لتحقيقات جنائية تتعلّق باتّهامه بالاحتيال وخيانة الثقة. ولا يقتصر الفساد المنظّم على نتنياهو والبطانة المحيطة به فحسب، بل يشمل أيضًا حلفاءه السياسيين في حزب «إسرائيل بيتنا» بقيادة ليبرمان، وهو حزب يميني متطرف يشكّل المهاجرون الروس قاعدته الأساسية، ويُعتبر شريكًا لنتنياهو في الحكم منذ العام 2009. بينما كان نتنياهو يقول إنه سيواصل عمله في منصبه على رغم التوصية الرسمية بتقديمه إلى المحاكمة، انطلقت عدة مظاهرات شعبية في تل أبيب، احتجاجًا على الفساد الحكومي عمومًا، وضدّ رئيس الحكومة شخصيًا إثر خضوعه لتحقيقات جنائية بشأن استغلال منصبه.
تُعرف لائحتا الاتهام المشار إليهما برقمي «1000» و«2000»، تتعلق القضية الأولى بتلقّيه وعائلته هدايا ثمينة من رجال أعمال أثرياء مقابل خدمات أسداها لهم. أمّا القضية الثانية فهي قضية صحيفة «يديعوت أحرونوت» التي حاول نتنياهو شراء موقفها، عبر الحصول على تغطية إيجابية ومنحازة لأدائه السياسي مقابل إصدار تشريع يضيّق الخناق على صحيفة «إسرائيل اليوم» المجانية والأوسع انتشارًا. تفاقمت الأمور بوجه نتنياهو إثر انكشاف القضية الثالثة واسمها القضية «3000» وهي قضية شراء الغواصات الألمانية وفيها شبهات بتلقيه رشوة، والقضية «4000» المرتبطة بشركة الاتصالات الأرضية «بيزك» والموقع الإخباري الأهم في إسرائيل «واللا»، وتتضمن تهمًا بالاحتيال وغسيل الأموال.

 

نتنياهو والإعلام
جدير بالذكر أن الإعلام شكّل العقدة النفسية الأبرز لنتنياهو كرئيس للحكومة. فهو بالإعلام نجح في تسويق نفسه باعتباره أكبر المدافعين عن أمن الكيان بوجه ما أسماه «التهديدات الوجودية»، غير الموجودة أصلًا على أرض الواقع. كما نجح أيضًا من خلال الإعلام، في إيهام الإسرائيليين بأنه بغيابه عن الحكم، لن يكون هناك من يحفظ أمن الدولة ومصالحها مثله. لكنّ السحر انقلب على الساحر وبات يتخوف من تفاقم الأمور وتحوّل الإعلام ضدّه، وربما إسهامه بصورة جدية في إسقاطه.
وفق الطرح السائد في الأدبيات السياسية والإعلامية الإسرائيلية فإنّ الخطر الذي يتعرّض له نتنياهو ينقسم إلى قسمين: الأول يكمن بيد المستشار القضائي للحكومة أفيخاي مندلبليت، الذي يستطيع بقرار منه إجبار نتنياهو على الاستقالة وربما الابتعاد عن عالم السياسة. والثاني يكمن في تداعيات قضايا الفساد وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، وهذه الأمور يتحكم بها الإعلام والرأي العام وقوى المعارضة. فالثابت أن إسرائيل، على الرغم من كل شيء، تملك جانبًا واسعًا من الشفافية في التعامل مع قضايا الفساد على مستوى السلطة.

 

تداعيات تورّط نتنياهو
لقد أفرزت التغيرات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي والتحول السياسي للنخب عدة نتائج مهمة، على رأسها صهينة مستمرة لقطاعات كانت خارج الصهيونية كالحريديم الذين باتوا يشكّلون اليوم أكبر فئة استيطانية (30٪ من المستوطنين)، بالإضافة إلى تحوّل دعم الشرقيين لليمين من دعم احتجاجي كما كان عليه في التصويت في العام 1997 إلى دعم أيديولوجي. وأمام هذه الأوضاع الملتبسة تبرز احتمالات متعددة في هذه المرحلة، منها فرض منطق سياسي جديد، مفاده أنّ الحقائق الاستيطانية على الأرض هي الحل، وبقاء المستوطنات في مكانها هو مرجعية أي عملية سياسية. ومنها أيضًا ما أصاب الأجواء الداخلية في حزب الليكود على صعيد ارتفاع مستوى التطرف. فقد اتّخذ الحزب في خطوة غير مسبوقة وبالإجماع، قرارًا يُلزِم أعضاءه السعي من أجل «السماح ببناء حر في المستوطنات، وتطبيق قوانين إسرائيل وسيادتها على كل مناطق الاستيطان المحررة في يهودا والسامرة» حسبما جاء في القرار. واللافت أن هذه الأجواء انعكست على «اليسار» أيضًا، فرئيس حزب العمل المنتخب آفي غباي يسعى إلى منافسة حزب الليكود بالانزياح يمينًا، إذ أعلن عدم مشاركة «القائمة العربية المشتركة» في أي ائتلاف حكومي قد يشكّله في المستقبل، ووصفها بالمعادية لإسرائيل، معلنًا عدم ضرورة إخلاء المستوطنات في إطار اتفاقية سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وكذلك، كرّر أنه في حال فشل المفاوضات مع الفلسطينيين فسيقوم بتنفيذ انسحاب من طرف واحد، وهذه الخطة لا تفرض إخلاء مستوطنات.
برزت مخاوف من أن تُسرّع مخاطر سقوط نتنياهو من الخطوات التشريعية والعملية لضم الكتل الاستيطانية، وإعادة ترسيم حدود مدينة القدس، وقطع الطريق المستقبلي أمام حلّ الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية. لكن في الوقت نفسه، ليس من المرجح أن يعمل نتنياهو على تحويل مشاكله القانونية إلى قرارات أمنية تغطيةً لمفاسده، وخصوصًا عبر إشعال حروب إقليمية شاملة؛ فإعلان حرب أو تنفيذ عملية عسكرية يحتاج إلى موافقة مسبقة من كامل أعضاء الحكومة كما ينص عليه أحد القوانين الأساسية.

 

الانزياح نحو اليمين
إن تغيير القيادة في إسرائيل في حال حدوثه، وحتى في ظل تشكيل حكومة جديدة لا يقودها الليكود، لا يعني أنّ إسرائيل ستشهد بالضرورة تغيّرًا في المواقف السياسية المرتبطة بالاحتلال والاستيطان، وذلك بسبب انزياح المجتمع الإسرائيلي برمّته نحو اليمين، في أعقاب تغيّرات بنيوية عميقة في الديموغرافيا المجتمعية. فقد جرت عملية إعادة تموضع لأجزاء كبيرة من الفئات التي اعتبرت هامشية التأثير في الماضي، كاليهود الشرقيين وسكان مدن التطوير والحريديم والجماعات الاستيطانية، والتي أصبحت في مراكز اتخاذ القرار، مقابل إزاحة تدريجيّة لقوى المركز المؤسسة من الجماعة الأشكنازية العلمانية الاشتراكية إلى الهوامش. ويبرز في هذا المجال أيضًا تفاقم خطاب اليمين المطالب بالحفاظ على يهودية الدولة، والحفاظ على المستوطنات، والتعامل بعدائية مع الفلسطينيين في الداخل والتشكيك بنوايا القيادة الفلسطينية حيال السلام.
كذلك، قد يؤدي سقوط نتنياهو إلى ظهور لاعبين جدد في المشهد السياسي -الحزبي، عبر تشكيل حزب أو أحزاب جديدة، كوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون، ورئيس هيئة الأركان العامة السابق غابي أشكنازي، إضافـةً إلى الحديـث عـن فرص تشكيل تحالف بين رئيس حـزب «يوجـد مستقبـل» يائيـر لبيـد ووزيـر الماليـة الحالـي موشيـه كحلـون زعيـم حـزب «كولانـو» أي كلنـا.
في الخلاصة، لا يزال مصير نتنياهو مفتوحًا على الاحتمالات كلها بما فيها ربما إدانته. وبغضّ النظر عن مآلات التحقيقات الجارية حاليًّا معه، فمن المؤكد أن مشهد الفساد في اسرائيل قد بدأ يأخذ طابعًا أكثر تنظيمًا وانتشارًا وتجذّرًا خلال العقدين الماضيين على كل الأصعدة، وبخاصةٍ على مستوى القيادة السياسية العليا.