متاحف في بلادي

منزل يوسف بك كرم في زغرتا: متحف يحتضن إرثًا وطنيًا
إعداد: جان دارك أبي ياغي
تصوير: العريف جاك بيطار

عاد بطل لبنان يوسف بك كرم ممتطيًا صهوة جواده وممتشقًا سيفه في وجه الظالمين والمتطرّفين، عاد إلى «العمارة الكَرَمية» التي أُعيد ترميمها، وهي البيت الذي كان يسكنه «البيك» وأصبح متحفًا يحتضن إرثًا وطنيًا.
شهد هذا البيت عبر التاريخ استضافة الأمراء وكبار الحكّام والمسؤولين وكل مكونات المجتمع اللبناني من جميع الطوائف. وها هو اليوم يتحول إلى متحف خاص ببطل تلك المرحلة من تاريخ لبنان وهو يضاهي بقيمته المتاحف التراثية الكبرى.


بعد إهمالٍ دام عقودًا من الزمن، عاد بيت يوسف بك كرم في مدينة زغرتا إلى دائرة الضوء بفضل جهود أبناء المرحوم سعيد الطبيش وتصميمهم على ترميم بيت المجد «الكَرَمي» والتراث الوطني والأصالة اللبنانية. يعود تاريخ تشييد البيت التراثي الذي وُلد فيه كرم في العام 1823، إلى العام 1777. من هذا البيت الذي شيّده الشماس فرنسيس كرم، انطلق يوسف بك كرم في مسيرته كزعيمٍ وقائد، جامعًا في شخصه الشجاعة والوطنية والمحبة والإيمان...
انتقلت ملكية المنزل إلى الورثة جيلًا بعد جيل، وفشلت أكثر من محاولة لإدراجه على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية. في العام 2011 اشترى آل الطبيش (سايد سعيد الطبيش وشقيقاه محسن وبطرس)، المنزل وعملوا على ترميمه بإمكاناتهم الخاصة  بعدما تداعى قسم منه على مرّ الزمن. بعد إعادة ترميمه  بحسب المعايير الهندسية التي وضعها المهندسون والخبراء، أُدرِجَ البيت في قائمة المعالم السياحية في لبنان، وتمّ تسجيله في لائحة الجرد العام للأبنية التراثية، وفي العام  2013 افتُتح المتحف برعاية وزير الثقافة.
أعاد مالك المبنى الجديد وضع البلاطة التذكارية التي كانت تعلو مدخله، وقد نُقش عليها الآتي: «الشماس كرم اعتنى في التأسيس – له ولولده - طالب من الله الكرم». والمقصود بولده يوسف كرم، جدّ بطل لبنان الذي حمل اسمه.
يقول مدير المتحف والمشرف عليه السيد محسن الطبيش إنّ أعمال إعادة بناء دار يوسف بك كرم استغرقت ثلاث سنوات ونصف وفق الخريطة الهندسية التي تتطابق مع هندسة الدار الأصلية،  مشيرًا إلى التعاون مع نخبة من الذين أجروا دراسات عن يوسف بك كرم ومن بينهم الأديب محسن أ. يمين والشاعر موريس عواد والأستاذ سمعان الخازن، بهدف التخطيط للمتحف بعد إنجاز المرحلة الأولى أي مرحلة البناء.

 

رحلة البحث عن المقتنيات
يتألف المتحف من ثلاث طبقات من العقد الحجري القديم، وله عدة مداخل ومخارج كان كرم يستعملها لتضليل العثمانيين. أما المقتنيات فقد جمعها السيد محسن الطبيش على مدى 35 عامًا تقريبًا جال خلالها في المناطق اللبنانية (من زغرتا شمالاً إلى جزين جنوبًا مرورًا بجبل لبنان)، وكانت حصيلتها مجموعة كبيرة من المخطوطات والكتب والصور وعدد من البواريد والسيوف التي كانت لكرم ورجاله.
وهو يقول في هذا السياق: عندما بدأنا الإعداد لإقامة متحف ليوسف بك عملنا على جمع مراسلاته مع القناصل وما له من كتابات في الأرشيف الفرنسي والتركي والإيطالي وفي أرشيف بكركي. كذلك سعينا لجمع ثيابه وسيفه الشخصي والبيرق وكل ما له علاقة به وبفكره. وحرصنا على أن ننشر سيرته ليتعرّف العالم إليه ليس كبطلٍ محاربٍ في سبيل استقلال بلاده فحسب، وإنّما أيضًا كمفكّرٍ سبق عصره بدعوته إلى الوحدة العربية.

 

جولة في المتحف
في الطابق الأرضي الذي كان ينطلق منه العسكر في مهماته، رتاج كبير مزخرف (باب عظيم) ومقعدان من الحجر لجلوس الحرّاس، وفي الداخل أقبية لسكن الخدم وإصطبل الخيل وبيت المونة والمطبخ مع كل الأواني التي كانت تُستعمل في تلك الفترة (حلّة الطبخ التي تتسع لحوالى 500 كلغ، فرن محمول، محمصة البن، جرن الكبّة ومدقة مطعّمة بالعاج). وفيه أيضًا أدوات تراثية، عدة الخيل، أوانٍ مصادرة من الأتراك (أدوات التعذيب ومن بينها: مقصّ لقطع الأصابع، وآخر لقطع اللسان...)، تمثال السيدة العذراء الذي كان يحمله دائمًا في جيبه، مجموعة من مسابح المرجان الأحمر عائدة له ولشقيقته، خزنة مرقمة عمرها 250 سنة، مجموعة خناجر لرجاله، برميل البارود الذي كان يُستعمل لدكّ السلاح القديم، مجموعة من الأدوات لخدمة المنزل (مكاوي الفحم، قبّان القمح، قفل الباب ومفتاحه...) وبعض الأواني التي كانت تشتهر بها منطقة زغرتا. ومجموعة من الفوانيس مصنوعة من الفخار تضاء بواسطة الزيت، وساعات جيب من الذهب، وقداحات يدوية صنع زغرتا، وكتب صلاة، وغيرها...
صعدنا عبر درج حجري إلى الطابق الأول، وهو مؤلّف من دار وغرف للسكن وفيه مكتب «البيك» والعديد من مقتنياته: أحد سيوفه العربية، سيوف تعود لرجاله، خشبة من عود الصليب، تلفكس قديم لإرسال الرسائل. في الطابق نفسه أيضًا، غرفة نوم والديه وقد عُلّق على جدرانها عدد من الصور لأبطالٍ حاربوا إلى جانب يوسف بك كرم ومن بينهم أجداد محسن الطبيش. على أحد الجدران عُلّقت مسبحة مطعّمة بالفضة ومشغولة يدويًا هي هدية من مفتي طرابلس «للبيك» بعد انتصاره في معركة بنشعي، وتُعتبر أكبر مسبحة في الشرق الأوسط. كما نجد آلة الخياطة العائدة لوالدته مع صورة لها وصور تعود إلى طفولة يوسف بك كرم. في زاوية أخرى، مركع الصلاة الخاص به، مخطوطات بخط يده، آلة تصوير قديمة كانت ترافق رجاله في الحملات والمعارك، ووثيقة مهمة من جبّة بشري تجيز له أن ينطق باسمها، ما يدل على الإجماع حول شخصه.
أيضًا عبر سلالم حجرية، نصعد من داخل الطابق الأول إلى الطابق الأخير حيث غرفة نوم «البيك» وسريره وخزانته وبعض من أغراضه الشخصية، ومنها نخرج إلى السطيحة حيث كان يستقبل ضيوفه من الأمراء والملوك، والتي تطلّ على كنيسة السيدة الأثرية في زغرتا.
مرافقنا في الجولة السيد محسن الطبيش يشير في ختامها إلى أنّ الشخصيات التاريخية الوطنية أمثال يوسف بك كرم يجب أن تكون ذكراها حاضرة دائمًا في أذهان اللبنانيين، ويوجّه تحية إلى «الجيش اللبناني، المؤسسة التي تشبه يوسف بك كرم في التضحية بالذات لمصلحة الوطن».

 

مآثر وبطولات
تعلّم يوسف بك كرم مبادئ اللغتين السريانية والعربية، كما درس مبادئ الصرف والنحو، وكان يتقن الإيطالية والفرنسية. ولم يكتفِ بذلك، بل عمل على تطوير ثقافته حتى أصبح مُلِمًّا بالأمور الدينية والأدبية والعلمية والتاريخية وحتى الإدارية، كما تعلّم الفروسية على يد الشيخ عماد الهاشم العاقوري. عاش حياة التقوى منذ صغره ولم ينقطع يومًا عن ممارسة فروضه الدينية، فجمع بين الفروسية والثقافة والإيمان.
أعلن يوسف بك كرم الثورة على الحاكم العثماني، لا حبًا بالحرب ولا طمعًا بمركزٍ أو منصب، إنّما دفاعًا عن كرامة أرضه وسيادة شعبه وحرية إنسانه. فثورته كانت صرخة حق وانتفاضة وطنية في وجه المستعمر الظالم. يُروى أنّ كرم في العام 1845، وهو في عمر23، تصدّى لعسكر الدولة العثمانية الذي أراد نزع سلاح الأهالي في الشمال بالقوة، فألحق به شرّ هزيمة وغنم منه كمية كبيرة من السلاح والذخائر. فوضعت الدولة مكافأة قيّمة لمن يأتي بكرم حيًا أو ميتًا. ولما علم بذلك، نزل بنفسه إلى طرابلس ودخل مقر القائد العثماني معرّفًا بنفسه: «بلغني أنّ دولتك وضعت جائزة لمن يأتيك برأسي أو يأتي بي إليك حيًا، فها أنا بين يديك فافعل ما تشاء على أن تأمر بتوزيع الجائزة على الفقراء». فسأله القائد: «ما الذي دفعك إلى العصيان؟» ردّ كرم: «علمت أن العسكر قادم إلينا لجمع السلاح بالقوة القاهرة، وأنّه سيفتعل ببلدي ما قام به في غير أماكن من البلد حيث اعتدى على الأهالي وعاملهم بوحشية وأهان الكهنة وحرمة الكنائس. فحملني حبُّ بلدي وشعبي والنفور من الجَوْر والظلم على أن أفعل ما فعلت». أُعجب القائد بجرأة كرم وحرية ضميره وقرّر العفو عنه وصرفه مكرّمًا.
خاض كرم عدة معارك ضدّ العسكر العثماني، أبرزها معركة بنشعي الكبيرة ومعركة سبعل وغيرها من المعارك التي انتهت بهزيمة الجيش العثماني.
في 15 آذار 1857، وكّله أهالي إهدن وقسم من أهالي الجبّة ليصبح حاكمًا على المنطقة بصلاحيات إدارية وقضائية وعسكرية واسعة. وفي العام 1860، عُيِّن وكيل قائمقامية النصارى في جبل لبنان.
وفي الجانب الديني من حياته، أسّس أخوية الحبل بلا دنس (1845)،  وجمعية مار يوسف التي عملت على مساعدة الفقراء والمحتاجين.
توفي سنة 1889 في نابولي- إيطاليا.

 

من أقواله
يقول يوسف بك كرم في رسالة وجّهها إلى اللبنانيين في 20 حزيران 1866:»... لقد حُوربت لأنّني طلبت تأييد الحق الوطني، أي حق جميع إخوتنا بالوطن إلى أي طائفة انتموا...» .
ويضيف: «أبناء وطني، ليمتنع كل منكم على الأقل من مساعدة الأخصام، ولنُلْقِ عنّا مبادىء التقسيم الطائفي، ولنعلم أنّنا شعب واحد لبناني وإخوان بالوطن من قديم الدهر، ولم يعتَرِنا الذل في أحد الأوقات، إلا إذا كانت تدخل بيننا الانقسامات...».