تاريخ عسكري

منهجية البحث في التاريخ العسكري
إعداد: العقيد أحمد علّو - دكتوراه علاقات دولية

على الباحث العسكري المنقب في تاريخ الفكر العسكري أن يتسلح بقانون وحدة وصراع الأضداد ضمن وحدته الجدلية**,  إذ بواسطة هذا القانون يستطيع الكشف عن أي تطور تاريخي,  فالصراع المسلح نفسه هو تناقض بين طرفين متحاربين وقوتين متصارعتين بينهما تناقض هائل,  وكذلك عند دراسته للتناقض بين السلاح المستخدم وأساليب وطرائق القتال,  أوليس في الهجوم والدفاع تناقض جدلي؟ أليست النار والحركة موجودتين في وحدة متناقضة ومطلوب من العسكري أن يجمع بينهما باستمرار في الهجوم والدفاع على حد سواء؟


مراحل البحث التاريخي العسكري

البحث عن الوثائق والمستندات:

على المؤرخ العسكري أن يبدأ أولاً بجمع الوثائق,  أو “التقميش” كما سمّاه الدكتور أسد رستم في كتاب “مصطلح التاريخ”) المطبعة الأميركية – بيروت )   وقديماً قيل: “إذا كتبت فقمّش,  وإذا حدّثت ففتش”.

يقول مؤلفا كتاب النقد التاريخي (  لانجلوا وسينوبوس): "إذا لم تكن هناك وثائق فليس ثمة تاريخ". فكثير من الحوادث والحقائق التاريخية ظلّت طي النسيان لعدم النبش عن وثائقها,  ولما عثر على وثائقها أمكن معرفة حقيقتها التاريخية. وهذه الوثائق هي الآثار,  والرسائل,  والنقود,  والأوسمة,  والألبسة والسجلات الرسمية,  والوثائق السياسية,  والاحصاءات,  والحسابات,  والآلات وغيرها.

لقد عرفنا حياة إنسان العصر القديم من صور الكهوف,  والمدافن القديمة والأدوات,  كما أمكن معرفة عادات وتقاليد إنسان العصور القديمة,  من دراسة القبائل غير المتحضرة الموجودة حالياً في مجاهل أستراليا والبرازيل وغيرها.

وأمكننا معرفة طريقة دفاع الانسان في تلك العصور عن نفسه من أسلحته البدائية التي خلفها. لذلك يجب أن تصنف هذه الوثائق وتُفهرس,  وعلى الباحث العسكري إعطاء مرحلة البحث عن الوثائق التاريخية العسكرية أهميتها. وهناك في كل مكتبة أو متحف,  تصنيف للوثائق وفهارس موضوعة لها,  والمؤرخ الناجح هو الذي يعرف كيف يصل الى هذه الوثائق بسهولة ويسر. وكلما كانت الوثائق أكثر,  كلما كانت صحة البرهنة على الفكرة التاريخية أقوى,  فعلى سبيل المثال,  عندما سيتم كشف وثائق إضافية عن الحرب العالمية الأولى والثانية ستتبدل الكثير من الحقائق المعهودة.

 

نقد الوثائق والمستندات:

نعني بذلك الدخول في مرحلة النقد والتحليل,  والغاية من ذلك الفحص التاريخي للمستندات,  والاطمئنان الى مطابقتها للحقيقة وخلوّها من الدس والتزوير.

 

نقد مصدر الوثيقة:

التأكد من مصدر الوثيقة هام جداً,  وكذلك من شخصية كاتبها. فقِطع النقود تحمل أسماء الذين سكوها,  وتاريخ صنعها,  والسيوف تحمل أسماء صانعيها وتاريخ صنعها,  ولذلك يجب العمل على تحليل الوثيقة بطريقة النقد الداخلي.

إن سرعة التصديق والغلو هما من أبشع آفات المؤرخين إذ تبعدهم عن الحقيقة الموضوعية.

 

التصنيف النقدي للمصادر:

بعد التحقق من الوثائق,  يجب أن نعمل على تصنيفها حتى نتمكن من الاستفادة منها,  وأفضل طريقة هي أن نجمع كل طائفة من هذه المصادر في قوائم,  لأن هناك أحداثاً وظواهر اجتماعية وثقافية وتربوية... وغيرها,  ثم تصنيفها حسب الطريقة المناسبة للبحث التاريخي العسكري.

 

النقد الخارجي للوثائق:

الغاية منه إثبات صحة الوثائق من ناحيتها الخارجية. وهو يقسم الى ثلاثة أقسام:

* نقد الأصالة: أي معرفة المدسوس من الصحيح بالاعتماد على الدليل الداخلي والخارجي,  ويشمل الدليل الخارجي البحث عن الوثيقة نفسها,  كالورق,  والحبر والتحليل الطيفي والكربوني لعمر الوثيقة,  واللغة والأسلوب. ويمكن الاستعانة هنا بعلوم اللغة وقراءة الخطوط,  والكيمياء وغيرها.

* نقد التحقيق: ويقصد به دراسة الوثيقة وإعادتها الى حالتها الأولى. فإذا كان النص مكتوباً بخط المؤلف وجب نشره بحروفه,  وأغلاطه,  وإذا وجدت عدة نسخ من وثيقة واحدة وجب مقارنتها,  وذكر أيها أقرب الى الحقيقة. فالتحريف قد يكون ناشئاً عن التزوير,  أو الدس,  أو عن التوهن,  والغلط.

* نقد المؤلف: تنبع قيمة الوثيقة من واضعها. فهناك فرق,  مثلاً,  بين ما يكتبه المارشال جوكوف عن نفسه وما يكتبه عنه معاصروه أو حتى زوجته.

 

النقد الداخلي للوثيقة:

إن النقد الداخلي الإيجابي الذي يشتمل على تفسير النص وإظهار معناه,  يوصلنا الى الحقيقة. والنقد السلبي يتضمن تحليل الظروف التي أحاطت بالمؤلف,  وبيان مآربه وأهوائه,  ودرجة دقته وهوايته. وسابقاً قيل "يبدأ المؤرخ بالشك".

النقد الإيجابي (Hermeneutique) يُقصد به تفسير ظاهر النص وتحرّي معناه الحرفي وإدراك المعنى الحقيقي,  ومعرفة غرض المؤلف,  والإلمام بلغته والاصطلاحات المستخدمة,  والعودة الى نصوص أخرى له,  ومقارنتها بغيره من المؤلفين الذين قاموا بما يشبه عمله. ولا يمكن للمؤرخ التوصل الى الحقيقة إلا إذا اعتمد على علوم مساعدة (Sciences Auxiliaires),  ومنها علوم اللغة,  وعلوم الفيلولوجيا (فقه اللغة) وذلك لمعرفة تطور اللغة وقواعدها,  وعلم الخطوط (paleographie) لقراءة الخطوط,  وعلم الوثائق السياسية,  والأختام والشارات (Heraldique) المختلفة للدروع,  والقطع,  والأعلام,  وعلم الأختام (Spheragistique),  وكذلك الإلمام بعلم النميات (Numismatique),  وهو علم النقود والمسكوكات والنقوش,  وعلم الجغرافيا,  وعلم الآثار,  وعلم الاقتصاد,  والعلم العسكري,  وفن الحرب,  وعلم النفس,  والفلسفة,  والقرآن والتفسير,  والحديث,  والكتب الدينية,  والرياضيات...

 

والنقد الداخلي يطرح الأسئلة التالية:

- هل أراد صاحب الوثيقة تحقيق مصلحة خاصة؟

- هل كان ينتمي الى جماعة يميل الى تصديقها؟

- هل وُجد الراوي في ظروف أو مركز أكرهه على الكذب؟

- هل جرّه الغرور بشخصيته وبقوته الى الاختلاق والتحريف؟

- هل أراد التقرّب الى الجمهور ورغب في تملقه وإثارة عواطفه؟

- هل الغاية من الوثيقة التأثير في الجمهور بأسلوبها الأدبي,  كما فعل المسعودي في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» حيث خلط وقائع التاريخ بالنوادر والشعر والطرف؟

- هل كان الكاتب في حالة عقلية تسمح له بملاحظة الحادثة؟ وهذا يمكن التأكد منه بواسطة نصوص كاتب آخر عرض الواقعة نفسها.

- هل تحققت الشروط العلمية في ملاحظة المؤرخ؟

- هل أصدر حكماً على حوادث وصفها صَرَفَهُ الكسل أو الإهمال عن ملاحظتها؟ وهل ذكر أموراً لم يرها ولم يسمعها؟ وقد أشار الى ذلك ابن خلدون منبهاً الى وصف بعض المؤرخين معارك قتالية وذكر عدد المتحاربين فيها بشكل يخالف الحقيقة.


التركيب التاريخي

بعد ذلك,  ينبغي على المؤرخ العسكري أو الباحث في التاريخ العسكري تصنيف الظواهر التاريخية التي جمعها حول الواقعة التي يدرسها,  فيضعها في قوائم منها اجتماعية,  ومنها اقتصادية,  ومنها سياسية,  ثم يبدأ عملية الإبداع والاستنباط,  فيستخدم الفرضيات لربط الوثائق ببعضها واعطائها التعليلات المتعلقة بها.

إننا ندعو الباحث الى سلوك طريق البحث عن الظواهر في مجموعات عدة تضم كل منها الظواهر المتشابهة,  كالظواهر السياسية,  والظواهر الاجتماعية,  والظواهر الأدبية والفلسفية,  والحضارية,  أو اعتماد الطريقة التي نادى بها "لانجلوا وسينوبوس" في كتابهما "النقد التاريخي",  فقد ذكرا مثالاً لتنظيم الوثائق التاريخية كما يأتي:

أ - باب الشروط الطبيعية,  ويشتمل على دراسة طبيعة الأرض والبيئة.

ب - باب الحياة العقلية: اللغة,  والفنون اليدوية والعلوم,  والفلسفة والأخلاق والدين.

ج - باب الحياة المادية: ويشتمل على شروط الحياة المادية,  كالطعام والملبس والمسكن والأسلحة وغيرها.

د - باب الحياة الاقتصادية: ويشتمل على الحياة الاقتصادية,  واقتصاد الحرب وغيرها.

هـ - باب الحياة الاجتماعية: الأسرة,  والتعليم,  والتدريب العسكري,  أو الطبقات الاجتماعية الخ...

و - باب النّظم العامة: النظم السياسية والقانونية والدينية والدولية,  والحرب والتجارة الدولية...

ثم ينبغي على الباحث في التاريخ العسكري استخدام طرائق الاستدلال التاريخي لعرض الوثائق عرضاً تفسيرياً,  فالتاريخ لن يكون جديراً باسم العلم إلا إذا حدد الباحث مادته الأولية وحصرها وحاول التركيب في صيغ عامة,  ثم طبّق هذه الصيغ على العناصر الأولية التي هدته إليها المراحل السابقة.

وفي النهاية,  إن البحث العلمي للتاريخ شائك ومعقّد,  وهو عملية ترمي الى الفهم,  والمعرفة والباحث في التاريخ العسكري سيجد دوماً في المشاريع التكتيكية والعملياتية والمناورات العسكرية,  ومشاريع القيادة والأركان الموضوعة في أي زمان ومكان,  مجالاً للبحث التاريخي لاحتوائها على خلاصة التجربة الكاملة للصراع المسلح,  من الناحية الفكرية والمادية على حد سواء. وهنا لا بد من إبراز ما قاله "تشرشل" عقب انهيار فرنسا السريع أمام قوات ألمانيا النازية لمراسل صحفي سأله: “ما الذي تعتمد عليه في إصرارك على مواصلة القتال وقد ضاع كل أمل في النصر؟”,  فأجاب: “سوف أهزمهم حتماً لأنني أعلم التاريخ العسكري خيراً منهم”.

وقديماً كان نابليون يعكف على خرائط المعارك الفاصلة القديمة قبل كل معركة خاضها في حياته العسكرية. وسيجد المؤرخ العسكري من خبرات الحروب مجالاً خصباً لاستنباط قوانين الصراع المسلح التي يستفيد منها المنظّر العسكري لوضع النظريات الأساسية في العلم العسكري,  وذلك باستخدام الطريق التحليلية والتركيبية التي أتينا على ذكرها.

إن ملايين الوثائق المتعلقة بكل حرب من الحروب يجب أن تكون موضع الدراسة والعناية من قبل الباحث في التاريخ العسكري الذي عليه العودة أيضاً الى خرائط العمليات وتوجيهات القيادات وخرائط العمل وغيرها,  سواء لدى العدو أو الصديق.

ويستطيع الباحث العسكري مثلاً استخدام الأسلوب الإحصائي في دراسة نسبة القوى والوسائط بين الصديق والعدو ومقارنة النتائج وتطابق الواقع على الأنظمة القتالية منها.

وهناك طريقة جديدة تتبع حالياً من قبل المؤرخين العسكريين وهي أن الحساب الكمي لنسبة القوى والوسائط غير كاف,  بل يجب حساب النسبة النوعية كذلك.

 

المراجع

1- الفكر العسكري: مجلة تصدر عن كلية القيادة والأركان في الجمهورية العربية السورية - العدد الأول 1976 - السنة الرابعة.

2- المنطق الحديث ومناهج البحث - د. محمود قاسم - القاهرة 1996.

3- مقدمة ابن خلدون - مكتبة الهلال - الطبعة الرابعة 1978 - بيروت.

4- النقد التاريخي - لانجلوا وسنيوبوس - ترجمة عبد الرحمن بدوي - ط. 4 - وكالة المطبوعات - الكويت - الناشر دار القلم - بيروت 1981.

* "المنهج هو الطريق الذي ينبغي اتباعه للوصول الى الحقيقة في العلوم" (ديكارت).

والمنهجية أو علم المنهج هي بناء المفاهيم الأساسية والأدوات العقلانية التي ينبغي على المنهج استعمالها للوصول الى الهدف.

** الديالكتيك: DIALECTIQUE - الجدلية:

يرى"هيجل" أن: الديالكتيك هو مبدأ الوجود الأساسي (الروح هي الوجود) وهو الشكل الذي تتطور فيه الروح المطلقة تاريخياً فتنتقل في الإندماج بالوجود الى التحقق الكامل.

أما بالنسبة لـ"ماركس" فإن: الديالكتيك هي حركة المادة نفسها وليس حركة الروح. وهذه المادة تتحرك وفقاً لقانون وحدة وصراع الأضداد,  وهذه الحركة تؤدي الى تجاوز الحالة الأولى الى حالة أرقى للمادة. ويؤدي الصراع الطبقي في المجتمع,  كما في المادة (وهو صراع الأضداد) الى تجاوز التشكيلة الاجتماعية السابقة الى تشكيلة أرقى.

ويرتكز مفهوم الديالكتيك اليوم على عملية ذهنية أو واقعية تتطور باتجاه الحقيقة عبر مراحل متعددة,  من دون أن تبلغ هذه الحقيقة بشكل تام.

(قاموس المصطلحات السياسية,  سامي ذبيان وآخرون - رياض الريس للكتب والنشر - الطبعة الأولى - لندن 1990 - ص 432 وص 230).


خطوات أساسية

على الباحث في التاريخ العسكري للحرب,  أن يقوم بالخطوات الآتية عند دراسة الحرب أو المعركة:

1- دراسة الظروف الدولية السائدة قبل الحرب.

2- دراسة الأهداف الحقيقية والخفية للحرب.

3- دراسة النواحي الاقتصادية والإدارية والفنية المحيطة بظروف الحرب.

4- دراسة مسرح الأعمال الحربية,  طبوغرافياً وديموغرافياً ونوئياً )مناخياً.(

5- دراسة نسبة القوى والوسائط الكمية والنوعية.

6- دراسة أساليب التدريب والتربية العسكرية للجانبين.

7-دراسة الخطط العملياتية وشخصيات القادة.

8-  راسة مراحل القتال في المكان والزمان.

9-  راسة النتائج والخسائر الحقيقية والخبرات التي يمكن الاستفادة منها: عسكرياً - إقتصادياً - واستراتيجياً.