وقفة مع اللغة

من أسطورة بابل إلى مدرسة الألسن في مصر
إعداد: دموع يوسف الحلاق

الترجمة أداة للتفاعل الحضاري
تؤدي الترجمة دورًا أساسيًا في التفاعل بين الشعوب والحضارات، فمن خلالها نستطيع معرفة تراث الأمم وما أنتجته من فكر وأدب وعلم، والاستفادة منه. تاريخ الترجمة موغل في القِدم، ولعلّ أقدم ما وصلنا عنها هو أسطورة «بابل».

 

الأسطورة
جاء في سفر التكوين من كتاب العهد القديم أن أبناء سام بن نوح سكنوا أرض شنعار وكانوا ينطقون لغة واحدة، وأرادوا أن يبنوا مدينة وفيها برج تلامس قمته السموات، كما أرادوا أن يتّخذوا لهم اسمًا لكي لا يتشتتوا في أرجاء الأرض. وبعد أن ارتفعوا بالبرج، نزلت عليهم لعنة من الآلهة، فجعلتهم يتكلّمون كلّ بلغة مختلفة وشتّتتهم في نواحٍ مختلفة. ومن هنا جاء اسم «بابل» أي بلبلة اللسان وتفرقة الألسن. وبعد الاختلاف والتباين في اللغات، صعُب على البابليين أن يتخاطبوا ويتفاهموا، فشرعوا بالترجمة.
يُقال إنّ بوادر الترجمة ظهرت في الألف الثالث قبل الميلاد حين أراد الملك الآشوري سرجون الأوّل أن ينشر أخبار انتصاراته وغنائمه بلغات كثيرة، في أرجاء امبراطوريته. وقد وجد قسط من أعمال الترجمة هذه، بالاضافة إلى ترجمة المراسيم الصادرة عن الملوك آنذاك، على لوائح طينية في مواقع أثرية مختلفة. ومن هذه اللوائح «حجر الرشيد» (Rosetta Stone)، الذي يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهو أشهر عمل ترجمة وصل إلينا من العالم القديم. وقد اكتشف في القرن الثامن عشر وكان يحتوي على كتابة مزدوجة تمثّل نص كُتب بشكلين: الكتابة الهيروغليفية والكتابة الديموطيقية، مع ترجمة باللغة الإغريقية لهاتين الكتابتين. وبما أن الكتابة الديموطيقية هي التي كانت تُستخدم في الحياة اليومية في مصر، فقد وفّر هذا الحجر المفتاح الذي فُتحت به اسرار مصر القديمة.

 

الترجمة في بدايات الإسلام
تنبّه العرب لأهمية الترجمة منذ العصر الجاهلي عندما كانت تربطهم علاقات تجارية واقتصادية بالشعوب المحيطة بهم، كالفرس والروم والأحباش. وكان العصر الإسلامي، عصر النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) عصرًا مهمًا جدًا للترجمة. فقد تنبّه إلى أهمية التواصل مع الشعوب المجاورة مثل اليهود والرومان، فأمر الصحابيين زيد بن ثابت وسلمان الفارسي بتعلّم السريانية والعبرية ليترجما له ما يرده من ملوك الشعوب المجاورة. وبعد الفتوحات الإسلامية أصبحت الترجمة حاجة ومطلبًا، فكان الخلفاء الراشدون وخلفاء الدولة الأموية والدولة العباسية بحاجة إلى وسطاء بينهم وبين غير العرب للتواصل. لكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه مع أنّ الفتح الإسلامي تأسس على نشر الدعوة الإسلامية التي تمثّلت بنشر تعاليم الدين الإسلامي المنصوص عنها في القرآن الكريم، فقد نهى المسلمون ترجمته.

 

في العصر الأموي
في العصر الأموي حظيت الترجمة بالاهتمام وخطت أولى خطواتها في المجال العلمي، وتمّت ترجمة الكتب المتعلّقة بالفلك والطب والكيمياء وفن العمارة. وكان الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية أوّل من شجّع على الترجمة، إذ أمر جماعة من فلاسفة اليونان الذين كانوا يعيشون في مصر بترجمة عدد من الكتب من اليونانية والقبطية إلى العربية. ولأن الأمير خالد كان يسعى إلى تحويل المعدن إلى ذهب كانت معظم الكتب المنقولة إلى العربية في علم الكيمياء. أما في الطب، فنُقل أوّل كتاب طبي إلى العربية في زمن مروان بن الحكم. وكان كاتبه طبيبًا عاش في الاسكندرية في زمن هرقل وهو اهرن القس بن أعين الذي ألّف كتابًا باليونانية وترجمه بنفسه إلى السريانية، ثمّ قام طبيب بصري يُدعى ماسرجويه بنقله إلى العربية. ومن أشهر مترجمي ذاك العصر، يعقوب الرهاوي الذي نقل كتب الإلهيات اليونانية.

 

العصر العباسي
مع حلول العصر العباسي، لقيت الترجمة تشجيع الخلفاء والوزراء، وكانت تخضع إلى الكثير من التدقيق والتصحيح. وقد استطاع الفلاسفة والعلماء العرب والمسلمون أن يستوعبوا المعارف المترجمة بسرعة، وأن يصححوا ما فيها من أخطاء عن طريق النظر العقلي والمنطقي والتجربة العلمية، وأضافوا الكثير من نظرياتهم وأفكارهم، ليجعلوا المادة المترجمة مناسبة للبيئة وللمجتمع العربيين.
مرّت الترجمة في العصر العباسي بمرحلتين:
بدأت المرحلة الأولى في عهد الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، وكان من أشهر مترجمي تلك الحقبة يحيى بن البطريق، جورجيوس بن جبرئيل الطبيب وعبد الله بن المقفع. ومن الكتب التي تُرجمت آنذاك: كتاب الأدب الصغير وكتاب الأدب الكبير، وكلاهما من الأدب الفارسي، وكذلك كتاب المنطق لأرسطو وغيرها. كان هذا الخليفة العباسي شغوفًا بالطب والهندسة والفلك والنجوم، لذلك راسل ملك الروم طالبًا منه كتب الحكمة، فبعث إليه الأخير كتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات. جمع الخليفة حوله نخبة من العلماء في مختلف نواحي المعرفة وشجّعهم على ترجمة العلوم، ثمّ أنشأ ديوانًا للترجمة.
اهتم هارون الرشيد أيضًا بترجمة الكتب ووسّع ديوان الترجمة. وبعد احتلاله «عمورية» (منطقة بيزنطية)، طلب من البيزنطيين تسليمه المخطوطات الإغريقية القديمة. وأشهر الكتب التي تُرجمت في عهده كتاب المجسطي لبطليموس، ومعناه: الترتيب في الفلك. يُعرَف هذا الكتاب بالأطروحة الكُبرى ويُعدّ أقدم مؤلَّف في الفلك، يتكوّن من 13 فصلًا، خُصص كل منها لناحية من نواحي الكون، وظهرت فيه أول فكرة حول مركزية الكون جعلت من الأرض مركزه، وبقيت هذه الفكرة سائدة إلى أن نقدها كوبيرنيكوس في القرن السادس عشر ميلادي. ترجم هذا الكتاب اسحق بن حنين إلى العربية ومنها تُرجم إلى اللاتينية وباقي اللغات.
أما المرحلة الثانية، فبدأت في عهد الخليفة العباسي السابع المأمون إذ أنشأ في بغداد، «بيت الحكمة» الذي وضع أساسه الخليفة العباسي الخامس، هارون الرشيد. انتعشت الترجمة في عهد المأمون وبالتالي انتعشت أحوال المترجمين، الذين عملوا على المنطق والطب والفلسفة والطبيعة والسياسة... ومن الكتب المترجمة آنذاك، كتاب الشفاء من الأمراض وكتاب القوى الطبيعية، كلاهما لجالينوس، وأصول الهندسة لإقليدس والسياسة لأفلاطون وغيرها. تبيّن لنا هذه الشواهد التاريخية مدى شغف العرب بالعلم واهتمامهم بالوقوف على العلوم الأخرى ومحاولة تطويرها، فحين قرّر الأوروبيون في عصر النهضة نقل الفلسفة اليونانية، احتاروا بين ترجمتها بصورتها اليونانية أو بصورتها العربية بعد أن طوّرها العرب.

 

انحسار فازدهار من جديد
بعد غزو المغول العراق وسقوط بغداد (1285م.) على يد هولاكو، انقلبت المقاييس وانحسرت الترجمة مع انحسار البحث العلمي وانشغل الناس بالحروب، وعمّ الجهل معظم أصقاع الوطن العربي، إلى أن بدأت الترجمة تعود للازدهار في مطلع القرن التاسع عشر.
كان للترجمة أثر ثقافي داخل الوطن العربي وخارجه. فقد حفظ العرب، على أساس ما قدمته الترجمة، علوم من سبقهم وصحّحوا ما احتاج إلى تصحيح وأضافوا الكثير مما اكتشفوه وخبروه، مثلاً في الرياضيات والفلك والطب.
تزامن ازدهار العلوم والمعارف عند العرب مع انتشار الجهل في أوروبا. وقد بدأ الغرب ينهل من الثقافة العربية التي تسرّبت إليه من مصر وسوريا في الحروب الصليبية، ثم من جنوبي ايطاليا والأندلس. ومن أقدم ناقلي المؤلفات العربية قسطنطين الذي جاب البلدان الإسلامية، وجيرارد الكريموني.
بعد الانحطاط وانحسار الحركة الفكرية، ظهرت اليقظة في مصر والشام وأدرك المفكرون العرب الطامحون إلى الاستقلال والسيادة القومية وصون الثقافة العربية، أنه من الواجب استئناف ما انقطع والسير مجددًا في طريق التقدم العلمي، بعد أن أيقنوا أن العلم هو مصدر القوة وأن اوروبا امتلكت القوة المادية والصناعية والعسكرية بفضل تقدم علومها. فقد أحضر نابوليون معه إلى مصر عددًا كبيرًا من العلماء الذين أسسوا مجمعًا علميًا فرنسيًا. ثمّ جاء محمد علي الذي بدأت معه النهضة فأسس مدارس للعلوم العسكرية والطب البشري والبيطري والهندسة والزراعة وغيرها... ومن بين هذه المدارس «مدرسة الألسن» المخصصة للترجمة.
شهدت الترجمة ازدهارًا لم يسبق له مثيل في القسم الثاني من القرن العشرين، فقد ازداد عدد المترجمين والترجمات، واتسعت دائرة التواصل والاتصال بين الشعوب. وقطع العالم أشواطًا كبيرة في حقول العلوم والتكنولوجيا، الأمر الذي ولّد كمًا ضخمًا من المعلومات التي لم يكن من الممكن حصرها ضمن الحدود الإقليمية الواحدة.