قدرنا الشهادة

من المستشفى العسكري إلى بلونة فالمريجات: في وداع «شيخ الشباب» الرائد الشهيد بيار بشعلاني

هل خطر للرائد بشعلاني مرة أن طفله الرضيع لن يستطيع التلفظ بكلمة «بابا» يومًا؟
هل سمح له الواجب بما يكفي من الوقت لتأمّل فلذه كبده واحتضانه كما يفعل كل الآباء؟
الجواب عن السؤال الأول هو على الارجح، «نعم»، وعن الثاني، «لا».
لكن لا الـ«نعم» جعلته يتردد يومًا في اداء واجبه، ولا الـ«لا» كانت قادرة على إعاقة اندفاعه.
إختار رسالته ومضى في مسيرة ناصعة لا يعرف دروبها إلا الشرفاء الشرفاء.
رحلة وداع الرائد الشهيد بيار بشعلاني كانت طويلة رسمت معالمها مناقبيته خلال حياته، ووحشية الجريمة في استشهاده. فالتشييع الحاشد في بلدته المريجات سبقه وداع في بلونة البلدة التي يقع فيها منزله، أما الحزن والغضب فقد كانا اكبر من أن يتسع لهما مكان، في اليرزة، في كل ثكنة ومركز عسكري، وفي كل منطقة وناحية وبلدة وبيت.
قيادة الجيش كانت قد أعلنت في بيان صادر عن مديرية التوجيه أنها ستشيّع الرائد الشهيد في بلدته المريجات، غير أن بلدة بلونة أرادت أن تودعه لتقوم بالواجب حيال «شيخ الشباب» كما يسمّيه أهلها.
الاستعداد للاستقبال بدأ منذ ليل السبت، وعندما وصل الجثمان من المستشفى العسكري قرابة الحادية عشرة إلا ربعًا من قبل ظهر الأحد، كان في الانتظار أهالي البلدة مع اهالي بلدات مجاورة، يتقدمهم عدد كبير من الفاعليات. شرائط بيض، نثر أرز وورود على وقع موسيقى النوبة وإطلاق مفرقعات تحية للشهيد الذي حمل جثمانه من مدخل البلدة إلى منزله.
في المنزل دار الأصدقاء ببيار في كل زاوية قبل أن يرافقوه إلى مثواه الأخير.

 

استقبال يليق بالأبطال
بلدة المريجات ازدانت بالشرائط البيض وبصور ابنها البطل الشهيد، ورفعت اليافطات التي تدعو إلى الاقتصاص من القتلة، وانتظرت وصول الجثمان لتستقبله بما يليق بالبطل. وقد توافد إلى المريجات المعزّون من رسميين وفاعليات مدنية وروحية وعسكرية وفي مقدمهم قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي قدم التعازي الى عائلة الشهيد في صالون كنيسة مار جرجس، متعهدًا الاقتصاص من القتلة.
ولدى وصول الجثمان إلى البلدة التي ضاقت شوارعها بالوافدين اليها، أدت له وحدات من الجيش مراسم التكريم وجرى تقليده الأوسمة.
حضر التشييع ممثل رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان رئيس الأركان السابق اللواء الركن المتقاعد شوقي المصري، ووزير الدفاع فايز غصن وقائد الجيش العماد جان قهوجي ممثَّلين بالعميد الركن عدنان ابو ياسين، إلى حشد من الشخصيات الرسمية والروحية والاجتماعية، وأبناء منطقة البقاع وفعالياتها ورفاق السلاح.
 احتفل بالصلاة مطران زحلة للموارنة منصور حبيقة وعاونه لفيف من الكهنة والاكليروس، وبعد الصلاة ألقى المطران حبيقة كلمة تناول فيها مزايا الشهيد وإيمانه بربه وبوطنه الذي افتداه، مطالبًا بالاقتصاص من القتلة، والحفاظ على هيبة الدولة.

 

التطاول على الجيش خيانة عظمى
كلمة قيادة الجيش ألقاها العميد الركن ابو ياسين واستهلّها بالقول:
«بدماء الشهداء يحيا الوطن وكلّما كثرت القرابين على مذبحه ازداد قداسة ومنعة وشموخًا.
إنه طريق المجد والخلود، الذي لا يسلكه إلا الرجال الأبطال المؤمنون بقدسية الرسالة، وواجب التضحية بالغالي والنفيس في سبيل الوطن، وعلى هذا الطريق مضى شهيدنا البطل الرائد بيار، فارسًا مقدامًا، مدافعًا صلبًا عن سيادة الوطن وأمنه واستقراره، مستبسلًا في مواجهة أيادي الإرهاب والإجرام حتى الشهادة».
وأضاف قائلًا:
«إن الاعتداء الغادر الذي تعرّضت له دورية الجيش في منطقة عرسال، وهي تقوم بواجبها الطبيعي في ملاحقة أحد المطلوبين الخطرين إلى العدالة، بتهمة القيام بأعمال إرهابية، هو اعتداء على لبنان بأسره، وهذا ما أجمع عليه اللبنانيون على اختلاف أطيافهم، فالتطاول على الجيش خيانة عظمى، لا سيّما في ظلّ هذه المرحلة الحرجة، حيث تعمل هذه المؤسسة ليل نهار للحفاظ على وحدة الوطن ومسيرة سلمه الأهلي وإبعاد شبح الصراعات الإقليمية عنه. وكونوا على ثقة بأن الجيش سيلاحق المجرمين الضالعين فيها بحزم ومن دون هوادة، حتى توقيفهم وتقديمهم إلى العدالة».
وختم:
«شهيدنا الغالي، لقد شاء القدر يا بيار وأنت في زهوة الشباب النابض بالعزم والعنفوان، أن تفارق مؤسستك التي أحببتها وأعطيتها من كلّ جوارحك، تاركًا في قلوب الأهل والرفاق، جروحًا عميقة، وحزنًا عصيًا على النسيان، لكن عزاءنا الدائم يبقى في مآثرك الحيّة التي صنعتها بالجهد والتعب والعرق خلال مسيرة حياتك العسكرية، فقد عرفناك مثال الضابط الشجاع، المتّقد بالاندفاع والحماية، المخلص لمؤسسته، المحصّن بالمناقبية والأخلاق، والمحبّ لرؤسائه ورفاقه. وكنت إلى جانب ذلك بحق، صورة زاهية عن عائلتك الوطنية الأصلية».

 

والد الشهيد
والد الشهيد السيد جورج بشعلاني غالب حزنه وألمه، والقى كلمة شكر فيها أبناء بلدته الأوفياء، وكل من شاركه مصابه الجلل، وخص بالشكر رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وقيادة الجيش والعماد قهوجي، وطالب بالعمل على الاقتصاص من القتلة وسوقهم إلى العدالة حفاظًا على المؤسسة الوطنية الضامنة لكل فئات الشعب اللبناني.
وبعد انتهاء مراسم التشييع وعلى وقع معزوفة الموتى, حمل رفاق السلاح شهيد المؤسسة والوطن إلى مثواه الأخير حيث ووري في ثرى مدافن العائلة.

 

رئيس الجمهورية معزيًا
عقب تشييع الرائد بشعلاني زار رئيس الجمهورية بلدة المريجات حيث قدّم واجب التعزية.
وقال الرئيس سليمان: «يوجد تصميم على توقيف المعتدين ومحاكمتهم، وكل من يعتدي على الدولة وعلى الجيش يجب أن ينال جزاءه في أسرع وقت، ولا أحد يغطيه».
وأضاف: «يجب على كل مواطن يحب الدولة أن يلتف حول الجيش ويرفض المتطرفين والإرهابيين ويضع لبنان في أولوياته».