تحية

من باب فيروز إلى محرابها
إعداد: الدكتور جورج شبلي

الصوت الذي يدلّك النفس برفق ومن دونه لا يطلع صباح

 

منذُ نبتَ برعمُ الموسيقى عندنا، لم يمسحْ دمعتَه على قواعدِه المَقاميّة، من رقّةٍ ورزانة، حتى قامَ موسمُ المُبدِعين الخُلاّد، هؤلاءِ الذين لو لم يكونوا لَعَظُمَ هَولُ المُصاب، فإنّما النّاسُ بمطربيهم، ولكن بينَ هؤلاءِ مَن يَسْحَقُ النِّمال، في حين يَقْنُصُ غيرُه الأسود. ولمّا كان فوقَ غرّةِ الشّمسِ دائمًا نَمَشٌ يقبّحُ وجهَها، صدقَ القول: إنّ الطبيعةَ تشتغلُ أيامَ السّنةِ لتصنعَ زهرةً فاتنة، أمّا الشوكُ فيخلقُ من أساسِه شوكًا.
من بابِ فيروز الى محرابِها وكأنّنا في موقفِ بَعْث، لا نلتقي إلاّ ببطاركةِ التّوراةِ الذين توسّعَت معهم إمبراطوريّةُ النّغمِ لتغتنيَ الموسيقى المُتقَنة. معها لا نجتازُ سوى الكواكب، فهي ليست كغيرِها من الذين لا تتعرّفُ إليهم الآلهةُ ولا ترى لهم صورةَ وجه، فالآلهةُ تلثمُ صوتَها بخشوع. وهي مِمّن تتأهّلُ بهم مآدبُ الموسيقى وترفعُ لهم الكؤوس، فأمامَ أطباقِ إبداعِها لا يُقدِّمُ أكثرُ سواها في مَضيفاتِهم إلاّ الطّعامَ البائِت.


صوت قد يوقف الشمس
فيروزُ الحجرُ الكريمُ المتوَّجُ بقرصِ الشمس، استطاعَت أن تُحدِثَ ردَّ فعلٍ إيجابيًّا في وجهِ الموجاتِ الأوروبيةِ التي قرعَت أبوابَ الموسيقى العربية، أو محاولاتِ أَورَبَةِ التقاليدِ الموسيقيةِ الشرقيةِ بالذات. فقد راعَت، وبإحساسٍ مُشبَعٍ بالأصول، الموسيقى المتطورةَ ذاتَ الأشكالِ الغربيةِ المَنبِت، وطعّمَتها بالإيحاءِ الذي يجدُ جذورَه في مناخِ الشّرق. وكان لصوتِها ذي التفرّعِ الثّنائيِّ، والذي وازنَ بين النمطِ المُترَفِ والفنِّ الشّعبيِّ، طابعٌ خاصٌ وأسلوب. فبقدرِ ما كان أمينًا للخطِّ الأصل، أي للمدرسةِ التقليديةِ بعظمتِها، استجابَ لذوقِ العصرِ في صِيَغٍ توفيقية، فنقلَ صاحبتَه إلى تَصَدُّرِ النموذجِ لعالميّةِ التّعبيرِ الموسيقيِّ الذي تخطو حركتُه باستمرارٍ في طريقِ التجديد. من هنا، كانت فيروز المجدِّدةُ من الأقلّين الذين إذا سمعْتَهم لا يتقطّعُ نبضُك، ولكن حذارِ من صوتِها الذي يمكنُ أن يستعيدَ فعلَ يشوعٍ بن نون الذي وقّفَ الشمس.
في ندوةِ الموسيقى، صوتُها هزجُ المزاميرِ وخَفَرٌ شرقيٌّ يحيطُ بتلك النّدوةِ المقدّسةِ، وكأنّ له عليها سلطةً مستتِرة، وهو لَقبٌ معه يستحيلُ الدّمُ مِسكًا. إنّ حاجتَنا إلى فيروز كحاجةِ الغابةِ الخرساءِ إلى غناءِ العصافيرِ ليُخَفِّفَ من ذعرِها. وهي كالبلبلِ الذي لا يغنّي سوى الأنشودةِ التي يشتهيها، لأنّ الغناءَ معها ليس نظمًا أو صناعة، فلو كان كذلك لكان أصحابُ الأصواتِ المَعجونةِ أَتقنَ المغنّين، ولا يصحُّ بمُصفِّقيهم سوى أنّهم صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ. إنّ صوتَها، وهو دارُ رعايةٍ للجمال، زرعَ مجدَ الموسيقى وما جناه سواها، وهو لم يودِّعِ الحيَّ الشعبيَّ عندما زارَته القصور. فصوتُها يختصرُ الباعةَ في الطرقاتِ، والبحّارةَ والفلاّحين وعشّاقَ الصّلاةِ ورفاقَ الأماسي، وذخيرتُه واسعةٌ متنوّعةٌ كما الحياة، وقد وقعَت في غرامِه مظاهرُ الجاهِ والأرقامُ القياسيّةُ وأمكنةُ الصّدارة، حتى من دونِ أوسمة. ولو نَفَقَتِ الأصواتُ أو استُنبِتَ بعضُها لبيعِه في أسواقِ النّخاسةِ الفنيّة، لن ينزفَ مظهرُ التّرفِ في المَغنى طالما رنَّ وترٌ مُرتَجِفٌ في حنجرةِ فيروز.
لقد تنافسَ مُغنّو الجيلِ الجديدِ كلُّهم في تقليدِها وفي الانتسابِ إلى فنِّها، وفي العالمِ العربيِّ بأسرِه. فهي من أساطيرِ الغناءِ غيرِ المُلَثَّمَةِ والتي إنْ سمعْتَها لا يمكنُ لك أبدًا أن تقول: إنَّ الحياةَ لم تَعُدْ تُحْتَمَل. فصوتُها الذي فاقَ شَدوَ القِيان، هو حفلٌ مفتوحٌ في مملكةٍ عامِرة، يحافظُ على التّراثِ السّماعيِّ النقيِّ في موسوعةٍ مُستفيضةٍ لأنواعِ الغناء. ولمّا كان صوتُ فيروز معلِّمًا ماهرًا ينبغي أن يشقَّ طريقَ فنّاني الأواتي من الأيام، اكتفى هؤلاء بالشّكلِ فتوقّفَ عاملُ التطوّرِ الأدائيِّ عندَ المقامِ الذي تركَته فيه فيروز، وباتَ في مرحلةِ تَقَلُّصٍ ورُكود، وفَقَدَ حيويّتَه إذْ غزَته أنماطٌ منحلَّةٌ ليس لها صلةٌ بفيروز العصرِ الذّهبي. هذه الفيروزُ التي إذا كان بعضُ الشعراءِ يرضى من القصيدةِ ببيتٍ جيّد، فالأبياتُ الجيّدةُ في صوتِها مُتلاحِقةٌ لا تَنقطع.

 

نقش في الوجدان
الصورةُ تشكّلُ نواةَ صوتِ فيروز وتَردُّ إلى عاشقيه الرّوح، لأنها نَقَلَتْه، وبموهبةٍ نادرةٍ، من ماهيّةِ الشّكلِ الى مبدأِ الفاعِليّة. والصورةُ في صوتِ فيروز نَقْشٌ في الوجدان، لذلك هي خَطِرَةٌ لأنّها تجعلُ أمّةً بمثقَّفيها واميّيها مستعدّةً لقضاءِ أسمارٍ مع القمر، كما لخوضِ أيّامٍ في ميادينِ الصَوّان. إنّ قدرةَ فيروز التي تضجُّ بها حركةُ صوتِها، تُشعلُ هذا التذوّقَ المتناغِمَ والوجدان، والمتفاعلَ مع المألوف، فينتقلُ وَعْيُ السّامعِ إلى تجربةٍ شعوريّةٍ تجتهدُ في رياضةِ النّفسِ على مُحاكاةِ الحالةِ المسموعة، لتصلَ إلى أشدِّ القُربِ من الأخيلة، ولكن بلا أَلغاز، فقمّةُ التذوّقِ معها تكمنُ في التلذّذِ بالأشياءِ المألوفةِ وكأنّنا نعرفُها لأوّلِ مرّة. وهكذا فالصوتُ الذي يعيشُ مَخاضًا، ينقلُ مشاعرَ المُعبِّرِ الى المُستمِعِ ليخلقَ انسجامًا غيرَ مرئيٍّ بينهما، وهلِ الفنُّ الرّاقي إلاّ ذلك التّكافُؤُ الكاملُ بين إحساسِ الفنّانِ وبين الصّورةِ المُؤثِّرةِ التي يُعَبَّرُ بها عن ذلك الإحساس؟

 

فليدرج صوتها في موسوعة الطب البديل
إنّ غيرةَ الجماليّةِ الموسيقيّةِ على صوتِ فيروز هي كالغيرةِ الفطريّةِ على الأمّهاتِ، لا يَسلمُ منها كائن. ذلك لأنّ فيروز صَدْرٌ أعظمُ في بهاءِ الغناءِ وزينتِه، هذا الذي احتمى في تكايا صوتِها فارتفعَ إلى مرتبةِ الفنِ الموسيقيِّ المُكتمِل. لقد فرضَت على نظامِ صوتِها بُعدًا ثالثًا هو الدَورُ العِلاجيُّ المتّصلُ بالأمزجة، فبمقدورِ سحرِ التلاوينِ في أدائِها أن يُدَلِّكَ النّفسَ برفقٍ، ويُطمئنَها على التّناغمِ مع حالِ التّوازنِ والانسجام. إنّ طقسَ الاستشفاءِ بتقاسيمِ صوتِ فيروز يُؤَطِّرُ علاقةَ الإنسانِ بنورانيّةِ السّماء، وكأنّ له طاقةَ اللمسةِ الملكيّةِ التي يتمُّ بها تجاوُبٌ بين الواقعِ والهدوء. من هنا، ينبغي إدراجُ صوتِ فيروز في موسوعةِ الطبِّ البديل.
وبعد، فيروز التي تطيرُ مع الملائكةِ وتُواعِدُ الشّمس، من دونِ صوتِها لا يطلعُ صباح.