من خط الهدنة إلى الخط الأزرق: معضلة الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلّة

من خط الهدنة إلى الخط الأزرق: معضلة الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلّة
إعداد: د. منذر جابر
أستاذ جامعي

تغني حالة اللبنانيين عامة, وعدم “تصديقهم” ما كان يحصل من انسحاب إسرائيلي, وما كان يحصل من ترسيم حدود, ومن تراجع إسرائيل عن أراض كانت قد اقتطعتها وضمتها على امتداد خمسين عاماً ابتداء من هدنة 1949, وتراجعها عن خروقات حدودية تقاس بالأمتار القليلة, أو حتى بالمتر الواحد, تغني حالة اللبنانيين هذه, الباحثين والأكاديميين عن تصوير حجم ما شهدته منطقة الجنوب اللبناني منذ فجر الرابع والعشرين من أيار الماضي.

الحدود الجنوبية: لزوم ما يلزم!!
ظلّ انسحاب إسرائيل من لبنان رهاناً خاسراً على امتداد الاحتلال الإسرائيلي بدءاً من سنة 1978, إذ ليس من عادة محتل, قوي بامتياز, التسليم بقضاء الانسحاب, فكيف إذا كان هذا المحتل على موعد دائم مع نفسه “شعباً مختاراً”, يحلّ ويستحلّ أراضٍ وشعوباً ما وسعت حاجاته الأمنية أو السياسية أو التوراتية “التاريخية”.
ولكن مقاومة اللبنانيين, المتصلّبة يوماً بعد يوم, أكرهت القيادة الإسرائيلية على “بطولة” الانسحاب, وأخرجتها من سكرة قوّتها وطموحاتها, وأعادتها إلى أرضية احتلاها: خسائر يوميّة جارحة, وحركات تململ داخلية مع مواجع خسائره البشرية, واختباء دائم وهروب لسكّان المستعمرات الشمالية وانتقام إسرائيلي ملجوم دوماً بتوازن “رعب الكاتيوشا”.
ويبدو أن هذه الخطوة الإسرائيلية, فاجأت في لبنان, عامة الأفراد والأقلام والأحزاب “كلّها”. كان يكفي اللبنانيين, أن يعرفوا أن إسرائيل في حدّهم الجنوبي, لكي يبرأوا من جهلهم بخطوط هذا الحد.
أما الأقلام والأحزاب والقيادات السياسية, فلم تلتفت إلى الحدود الجنوبية مرّة, لا قبل مؤتمر مدريد (1991) ومباشرة المفاوضات العربية الإسرائيلية ولا من بعدها, وترى فيها تعليمه أو ترسيمة وطنية, تشكّل بنداً من قضايا الوطن لدى هذه الأحزاب, أو بنداً من مواقعها ومواقفها وحواراتها المتبادلة في معارضاتها أو في موالاتها مع سياسات الحكومات القائمة. ولولا أعمال ما زالت يتيمة للدكتور “عصام خليفة” حول الحدود الجنوبية في موازين الصراع الدولي وفي موازين القوى المحلية وفي موازين المياه, لظلّت الأدبيات اللبنانية خلّواً من مواضيع الحدود, وظلّت أبحاث الحدود غشيمة سائبة, وظلّت فاكهة مقالات صحافية قصيرة تدور مع مروحة المواقف والأحداث, قاسية عاصية أم لينة مسايرة, وفي الحالين دون كبير علم في الأمر, ولا تفرّق غالباً ما بين “بعير” القرار 425 وما بين “ناقة” القرى السبع. ولا يبتعد الفنيون الجغرافيون عن مثل هذه الحالة, فهذه خارطة لبنان السياحية, وفي طبعتها الخامسة عشرة والصادرة سنة 1991, توقع قرية “النبي يوشع” إحدى القرى السبع, المرفوع طلب استعادتها من إسرائيل, علماً في رأسه نار, توقعها داخل الأراضي اللبنانية الحالية, على خط المواصلات الذي يصل ما بين “عيترون” و”بليدا” (راجع خارطة          رقم 1).
ولكن القراءة الرسمية اللبنانية للقرار 425, إبان المداولات الدولية التي رافقت خطوات الانسحاب الإسرائيلي, شكّلت مع الموقف الثابت للحكم اللبناني بضرورة الوصول كاملاً إلى الحدود الدولية, تعويضاً عن التباطؤ السياسي السابق في توضيح الحدود الدولية كما يطالب القرار 425. ويعد ذلك إنجازاً كبيراً بحدّ ذاته, مع التبديلات والتغييرات الطبيعية التي كانت إسرائيل قد أحدثتها في هيئة المساحات المقتطعة والمضمومة, من غرس بساتين إلى إزالة العلامات الحدودية “الدولية” التي تدلّ, على الأرض, بين ما هو “فلسطيني محتل” وبين ما هو “لبناني”.

الحدود التي “لا تعرف حداً”:
لا يبدو الخلاف حول الحدود الدولية اللبنانية ­ الفلسطينية واستطراداً الحدود اللبنانية مع “إسرائيل”, حالة فاردة في النـزاعات الحدودية الدولية. فالخلافات الحدودية تغطّي علاقات الدول جميعاً, لا بل إنها تعشش أحياناً داخل مكونات بعض الدول([1]).
ولكن فرادة الحالة هنا, تأتي من فرادة الكيان الإسرائيلي عينه. فهو كيان هجين مغروس, شاءت صدفة الميثولوجيا وصدفة التوازن الدولي أن يكون على أرض فلسطين, بعدما كانت الصهيونية نفسها تتأرجح في خياراتها وتداول غير منطقة من كرتنا الأرضية, لتكون محطّة الدولة الصهيونية الموعودة: في قبرص أو في جانب من أميركا الجنوبية (زاوية من بلاد الأرجنتين الواسعة), أو في جانب من القارة الأفريقية (أرض غينيا).
وتأتى فرادة الحالة كذلك, من أيديولوجيا هذا الكيان: صهيونية ممتدة في تـخيّرها على شعوب الأرض, وممتدة في شكواها وتظلّمها: فالشعب اليهودي يبقى دوماً شعباً مختاراً, والسبي يبقى سبياً وإن تقادم لآلاف السنين, والمحرقة تبقى محرقة, تزداد اشتعالاً وتعويضات وتنتقل أوزاراً من جيل إلى جيل.
وتأتي فرادة الحدود ثالثاً, من كون سياسة إسرائيل باب شر وعداوة دائمين, لا علاقة لحالتي السلم والحرب بتحديد هذه الحالة أو تلك من حالات التجاور. فقضايا الاقتصاد والأمن والمياه والأراضي الخصبة والمشرفة استراتيجياً, وانتزاع كل ذلك ونزعه عن حقوق الجوار, كانت عصب مداولات السياسة الدولية, بضغط من أوساط الصهيونية, في تحديدها الأبعاد الجغرافية لهذا الكيان. بمعنى أن هذه المداولات بشأن هذا الكيان العتيد, وقد افتقد الأساس التاريخي في رسم حدود له, بادرت إلى أرضية الحاضر أو المستقبل في الاقتصاد والأمن لرسم حدوده. وهذا ما تمثّله أصدق تمثيل كلمة “غولدا مائير” لصحيفة “معاريف” 1972: “نريد تغييراً في حدودنا, في كلّ حدودنا, من أجل بلادنا”.
وتأتي الفرادة رابعاً, في بقاء حدود هذا الكيان مفتوحة غير مضبوطة. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم, التي لم تضع “حداً” لحدودها. وهي حالة استدعت من هيئة الأمم المتحدة, عندما تقدّمت إسرائيل منها بطلب انتساب إلى عضويتها, إشارة وشرطاً فريداً لقبولها, لم يطل غيرها من الدول. فقد ربطت عضويتها بشروط وردت في مقدمة قرار الموافقة: “...ومع الأخذ بعين الاعتبار إعلان دولة إسرائيل أنها سوف تقبل دون تحفظ التزامات الأمم المتحدة التي نصّ عليها الميثاق, وتقيّدها بواجباتها, منذ اليوم الأوّل الذي تصبح فيه عضواً في هذه المنظمة”.
ومع الأخذ بعين الاعتبار التصريحات والشروح التي قدمها ممثّلو حكومة إسرائيل أمام اللجنة السياسية الدائمة, والتي تعهّدوا فيها بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتّخذة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1948 (المتعلّقة بالحدود) وفي الحادي عشر من كانون الأوّل 1948 (التقسيم أو التعويض عن اللاجئين) فإن الجمعية العامة تقرّر قبول إسرائيل في عضوية الأمم المتحدة”([2]).
وعلى هذا, يكون لكلّ حجر حدودي ما بين لبنان و”إسرائيل”, حسابات ليس في موازين العلاقة ما بين الدولتين وحسب, بل بين إسرائيل والمدى الإقليمي المحيط كاملاً. وليس هذا بجديد فمراجعة المداولات البريطانية والفرنسية, وهي أساس أيّ حوار حدودي حالي, لا تخرج بغير هذه القناعة, حول تشابك “صغائر” الجغرافيا من ضفّة نهر أو نبع أو تلّة أو مرج صغير, مع قضايا العلاقات الستراتيجية الحاسمة في السياسة والعسكر والاقتصاد. ولنا في مساحة “طابا”, الصغيرة أو في البعد أو القرب أمتار قليلة عن شاطئ “طبريا”, أو في مساحات صغيرة في “وادي عربة”, أسانيد قاطعة في ذلك.
انطلاقاً من هذه الفرادة الإسرائيلية في رؤية حدودها, تتعدى منطقة الجنوب الحدودية بأهميّتها, مساحتها الجغرافية, وتكتسب موقعاً بارزاً في مخططات الأمن والاستيطان الإسرائيليين . وهي, وإن كانت لا تفي إلا بالقليل من طموحات الحركة الصهيونية, فإنها تشكّل خطوة في سبيل تزخيم الحدود الشمالية لكيان إسرائيل. فهذه المنطقة في حدّها الشمالي, خطّ الهدنة مع لبنان, تشكّل شريطاً أمنياً أوّلاً, لأنها تضمّ سلسلة من المرتفعات والتلال في الأراضي اللبنانية وتطلّ على عمقها غالباً, كمرتفعات “المنارة” (950م) و”مسكاف عام” (910م) وجبل “عداثر” جنوبي قرية “رميش”        (1006م)([3]), و”قلعة الراهب” في منطقة “الشعب” (731م), “المطلة” (525م) “المالكية”          (890م), إضافة طبعاً إلى بعض مرتفعات إصبع الجليل التي هي امتداد لمرتفعات “جبل الشيخ”.
وإدراكاً من المخططين الصهيونيين لأهميّة هذه المنطقة, راحوا يبنون باكراً مستعمراتـهم, في محاذاة خطّ الانتداب أو في داخله في الجهة الشمالية (داخل لبنان), وفي سنوات سابقة على قيام الكيان الصهيوني, ومن أهم هذه المستعمرات في “الجليل الغربي”: “عين عيرون” (1934), “حانيتا” (1938), “ألون” (1938), “متسوفا” (1940). وفي “الجليل الشرقي”: “المطلة”          (1896), “كفار جلعادي” (1916), “بيت هيلل” (1940), “راميم” (1944) “راموت نفتالي”    (1945)([4]).
ومع هدنة 1948 عملت إسرائيل على توسيع احتلاها لمناطق حدودية لبنانية جديدة, عندما اجتاز لواء “كرملي” الإسرائيلي خط الحدود أوائل تشرين الثاني 1948, “وسيطر على القرى الواقعة غربي طريق المنارة والبالغ عددها 17 قرية... ووصلت قوات اللواء إلى “دوبا” (وادي دبي يقع غربي قرية بلدة حولا) في الغرب وإلى نهر الليطاني في الشمال”.([5])
وفي السنة الأولى من قيامها, سارعت إسرائيل إلى بناء مستعمرات عديدة في الجليل منها: بيتست, اينان, تساهال, شلومي, شومرا, كفار روش هانيكرا, ملكياه, ميرون, يرؤون, يفتاح, يوفال. كذلك لم تتأخّر في مباشرة ملء مناطق الجليل بالمستعمرين الجدد فور إنجاز الاحتلال: “... قلت له أن يرسل عشرة آلاف مهاجر إلى قرى الجليل... بيد أن الوقت ثمين ­ فعليه أن يعجّل في توطين عشرة آلاف يهودي في الجليل...([6])
وقد أظهرت حرب 1948 الأهمية العسكرية لهذا الشريط الحدودي الجليلي, إذ شكّل بالنسبة إلى الفريق العربي نقطة تجمّع لجيوشه, النظامية منها أو المتطوعة المتمثّلة في جيش الإنقاذ. فقد تجمّعت, على سبيل المثال, في معركة “المالكية” الثانية (5 ­- 6 حزيران 1948) قوات عسكرية زاد عديدها على ثلاثة آلاف مقاتل من الجيوش اللبنانية والعراقية والسورية ومتطوّعي جيش الإنقاذ, بالإضافة إلى فصيل من المتطوّعين اليوغسلاف([7]). وقد عرفت هذه المنطقة إلى المعارك العسكرية الشرسة في “كامب يوشع” و”المالكية”([8]) مجازر دموية ليست من حمأة العمل العسكري, وإنـما من حمّى العدوانية والقتل الصهيونيين, كما حدث في “قِديثا” و”صلحة”, في الجانب الفلسطيني.
ومثل هذا جرى في “حولا” يوم 13 تشرين الأوّل 1948, أي بعد عشرة أيام بالضبط من “الصف” في “صلحة”. فقد دخل الإسرائيليون “حولا”, بعد انسحاب مشبوه لجيش الإنقاذ, دخلوا متنكّرين بلباس هذا الجيش وشاراته, ووقع في أسرهم من أهالي القرية خمس وثمانون رهينة, جُمعوا في ثلاثة بيوت, إلا من استخلصته من أيدي الإسرائيليين قوات هيئة الأمم المتحدة. أُعدموا جميعاً, ولم ينج منهم إلا ثلاثة. وكانت الحصيلة نحو سبعين شهيداً أو ما نسبته 82% من أهالي القرية([9]).
كذلك كان التدمير الكلّي نصيب جميع القرى العربية في الجليل الأعلى المحاذية للحدود مع لبنان. والخريطة التي ينقلها غازي فلاح عن القرى العربية التي دُمّرت في الجليل سنة 1948, لا تبقي سوى قريتين قائمتين على الحدود مع لبنان في الناحية الجنوبية قبالة “علما الشعب”, بينما الدمار يمحو القرى جميعاً في إصبع الجليل بدءاً من الحدود اللبنانية حتى الحدود السورية من جهة الشرق ([10]). أما القرى الباقية في قلب الجليل وعلى مسافة من الحدود اللبنانية, “فقد أُحيطت... من كل جهة بحزام من المستوطنات اليهودية” ونجد من الزاوية الجيوبوليتيكية أن هذا الحزام من المستعمرات “وقف حاجزاً يحول دون اتصال القرى العربية المتبقية في إسرائيل بنظائرها خارج الحدود في الدول العربية المجاورة([11]).
أخيراً تبقى كلمة بن ­ غوريون هي الأكثر دقة في التعبير عن موقع الجليل والشريط اللبناني في ستراتيجية الاستيطان الصهيوني: “لا ينبغي الظن أن الجليل لنا, بعد الاحتلال العسكري. وليس هناك إمكان لأن يكون في أيدينا جليل خالٍ ومقفر. فإذا لم نسارع إلى استيطان الجليل الأعلى ­ فهذه ستكون هزيمة سياسية. ينبغي إقامة سلسلة من المستوطنات على امتداد شاطئ البحر حتى “رأس الناقورة” وعلى امتداد حدود لبنان كلّها وفي ضواحي “صفد” أيضاً. وينبغي استقدام مهاجرين جدداً لهذا الغرض والطلب من الهيئات الاستيطانية إرسال مرشدين, وإذا كان هؤلاء في الجيش فيجب إخراجهم, لأن للاستيطان هذا قيمة عسكرية”([12]).

ترسيم الخط الأزرق:
تميّزت عمليّة ترسيم الخط الأزرق الوهمي بمفارقات غير مسبوقة. فالإنسحاب الاسرائيلي والبحث في الحدود هما من السوابق في العلاقات العربية الاسرائيلية. فالانسحاب تمّ بلا مفاوضات, وحتى من دون لقاءات تنسيق ميدانية, وترك للأمم المتحدة, وليس لاعتبارات الأمن الإسرائيلي, مهمّة تصوّر خط أزرق للحدود, مع ان حدود “مصالح” اسرائيل كانت دائماً خطوطاً حمراء لمواقعها وحدودها.
إن مقارنة سريعة مع قواعد الانسحابات الإسرائيلية من أراضٍ عربية كانت قد احتلتها سابقاً في مصر والأردن, ترينا حجم الإنجاز اللبناني. ففي الاتفاقات المصرية الأردنية, كان يقابل الانسحاب الإسرائيلي “انسحاباً” مقابلاً لمصر والأردن من الصراع العربي الإسرائيلي. أما في الحالة اللبنانية, فإن الانسحاب الإسرائيلي, تمّ دون أي التزام لبناني مقابل يطال أوجه الصراع العربي الإسرائيلي القادمة, في مواقف محايدة في لواحق أيام هذا الصراع, وفي كافة مستوياته السياسية أو العسكرية. لا بل أن هذا الانسحاب الإسرائيلي, تزامن مع خطاب سياسي لبناني, رسمي هذه المرة, وعلى لسان أعلى المراجع المسؤولة, يؤكّد على تلازم الموقف اللبناني, من الصراع العربي الإسرائيلي, مع الجوانب الممتدة لهذا الصراع على المسار السوري, وعلى مسار مستقبل الشتات الفلسطيني وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
يخالف الانسحاب الإسرائيلي من لبنان إذن, مجمل التوجهات السياسية الإسرائيلية, التي طالما حاولت أن يكون “الحوار” ثنائياً ما بينها وبين كلّ دولة على حده من دول الطوق العربية, ومن بعد ذلك يتمّ الالتفات إلى المنظمات والهيئات الدولية لتشكّل تغطية وضماناً لاحقاً, لأيّة اتفاقات في حال حصولها. والجديد في الانسحاب الإسرائيلي من لبنان أن إسرائيل أعلنت, وبعد 22 سنة من الرفض السياسي والعملي, قبولها قراري مجلس الأمن رقم 425 و426. أي أنها اندفعت في مسار سياسي مقلوب, مقارنة مع سياساتها السابقة. والبديهي هنا أن هذين القرارين بضمانتهما الدولية يعنيان, في التطبيق العملي, تراجع إسرائيل إلى خط الهدنة ما بينها وبين لبنان, أي إلى الحدود الدولية, باعتبار أن خط الهدنة هو الخط الذي التزمته إسرائيل حدوداً دولية, وبكفالة الأمم المتحدة, مع توقيع اتفاقية “رودوس” سنة 1949. وهذا هو أقصى “الاعتراف” السياسي الذي استطاعت إسرائيل “إنجازه” من انسحابها من الأراضي اللبنانية المحتلّة. والوجه الجيو سياسي لهذا “الإنجاز”, أي العودة إلى توازن الهدنة, هو توصيل إسرائيل فعلاً إلى الإذعان لمعاهدة باريس 1920 وترسيمها 1923, وهو موقف لم تستجب له مرّة إسرائيل, في نظرتها إلى الحدود مع لبنان, انطلاقاً من أسانيد توراتية حيناً, وحيناً انطلاقاً من أسانيد المعطيات التي كان الساسة الصهاينة يرونها في العشرينات والثلاثينات والأربعينات, ومن بعدهم كان يراها الساسة الإسرائيليون منذ أواخر الأربعينات, ضرورية لأمن “دولة إسرائيل”([13]).
ويزيد في ألق هذا الإنجاز وتاريخيته, أنه أطاح بمخططات إسرائيلية لترسيم حدودي لبناني يتناسب مع طموحاتها الستراتيجية. وهو ما يجهر به صراحة “موشيه برافر” حين يكتب “وقد يقتضي بروز مثل هذا الوضع إعادة تخطيط الحدود مع السلطات اللبنانية الجديدة...ولا نرى أن هناك ما يمنع من إعطاء الجانب الستراتيجي الأهميّة الأولى في تخطيط الحدود”([14]).
كان هذا الجانب الستراتيجي الإسرائيلي يحتج بضرورة إجراء “بعض التعديلات الصغيرة أو المحلية على الحدود الكثيرة الانحناءات والالتواءات فوق الطبيعة الجبلية, من أجل جعلها مستقيمة وتقصيرها إلى أبعد حدّ ممكن”([15]). ولكن “شد” الحدود وتجليسها في العرف الإسرائيلي, كان يشكّل مظلّة لما هو أدهى في آثاره على التماسك الوطني اللبناني: و”يمكننا الافتراض هنا أن إسرائيل لن تستطيع التغاضي عن المصير الذي قد يخبئه القدر للقرى الحدودية المسيحية اللبنانية, وأنها قد تعمد إلى طرح فكرة استبدال حدودها السياسية الحالية مع لبنان, تلك الحدود العرقية اليهودية العربية إلى حدود سياسية عرقية من لون جديد, بحيث تكون من الجانب الإسرائيلي حدوداً عرقية إسرائيلية مسيحية, وعلى الجانب الآخر حدوداً عربية إسلامية (شيعية)”.
جاء الإنجاز الأكبر في مواجهة هذه الستراتيجية الحدودية الإسرائيلية, من الرد الوطني اللبناني “باستقامة وشد” الحدود الداخلية السياسية والاجتماعية لدى هيئات المجتمع اللبناني كافة, بالتأكيد على الاستقرار السياسي والتوازن الوطني والالتفات حول قيامة الدولة الجامعة.
وفي ميدان الإنجاز اللبناني يأتي اتخاذ الموقف والثبات عليه: “المسألة ليست مسألة أمتار بل مسألة مبدأ والذي لا يحافظ على حقّه لا أحد يحترمه. الحقّ حق وليس بحجمه”([16]). وهذا الموقف هو الذي أدّى إلى استرجاع أراض لبنانية كانت محتلّة مع تحديد عام 1948, كما هي حال الـ2300 دونم التابعة لبلدة “هونين”, أو محتلّة ما بعد هذا التحديد بقليل بوضع اليد الإسرائيلية عليها, كما هي حال الـ1800 دونم قرب مستعمرة “المنارة”, والتي جعلت من هذه المستعمرة بعد انسحاب إسرائيل على بعد 6 أمتار فقط من الحدود([17]). أو أراض مستحلة في عمليات الضم والاقتطاع التي كانت إسرائيل تمارسها على امتداد سيطرتها بالنار أو بالاحتلال المباشر للشريط اللحدّي. وقد بلغت هذه الأراضي المسترجعة 17 مليون متراً مربعا ([18]) (17,676,600م2 تماماً). وهي مساحة لا يعرف سرّها إلاّ أبناء الحدود أنفسهم, فهي إما مرتفعات مشرفة ستراتيجية, وإما أنها تمثّل الصفوة من الأراضي الزراعية المنبسطة, بين منفرجات وتلال وهضاب المنطقة الحدّية مع فلسطين.
 

حدود الخط الأزرق: دفعة على الحساب
طرح الانسحاب الإسرائيلي إشكالية فعلية, فكان اختراع الخط الأزرق, حلاً فذاً لفضّ “الاشتباك” وما بين القراءة اللبنانية للحدود الدولية, والتي يرى لبنان ضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل إليها من دون قيد أو شرط, كما ينصّ على ذلك القرار 425, ومن دون أية اتصالات أو محادثات ثنائية مباشرة أو بالواسطة عبر طرف ثالث, وبين القراءة الإسرائيلية للحدود الدولية التي ستنسحب إليها. وقد جاء الخط الأزرق, أو الخط العملي في تسمية ثانية, قراءة ثالثة على ذمّة الأمم المتحدة هذه المرّة, لخط الانسحاب الإسرائيلي, وهو خط لا يختلف برأي الجانب الدولي عن خط الحدود الدولية لعام 1923 إلا “في حدود العشرة بالمائة فقط, وفي مساحات لا تتعدى الأمتار القليلة”([19]). وقد جاء على قاعدة بأنه يجب للأمم المتحدة “ان تحدّد مادياً الأجزاء المعنية من هذا الخط ميدانياً من اجل ان تستطيع القيام بمسؤولياتها المتعلقة بالتحقق من الانسحاب الإسرائيلي”([20]).
ولم تعد ذات بال الاختلافات ما بين النظرتين اللبنانية والإسرائيلية إلى هذا الخط([21]), ما دام الموقف اللبناني الثابت من هذا الخط, بأنه لا يعني حدوداً دولية بين لبنان وإسرائيل, وهذا ما أقرّت به الأمم المتحدة. “عليّ ان اشدّد على أننا لا نرسم الحدود, أنها مسألة تتعلّق بالدول وليس بنا. ان أيّ خط يصادق عليه مجلس الأمن, بهدف التحقّق من الانسحاب سيكون دون مساس قانوني بأيّ اتفاق مستقبلي حول الحدود بين الدول المعنية...”([22]). ويجدر هنا ان نشير إلى ان هذا الموقف للمبعوث الدولي ( لارسن) لم يكن هدية مجانية للبنان, وإنما جاء بعد احتجاج لبناني شديد على ما حاولت الأمانة العامة للأمم المتحدة تصويره من أن الخط الأزرق هو خط حدودي دولي, ويتمثّل وجه الاحتجاج بعدم وجود مثل هذا الخط الحدودي لا في الخرائط التي يملكها لبنان, ولا في تلك التي تملكها الأمم المتحدة, ولا حتى تلك الموجودة لدى دولتي الانتداب. ثم ان موقع التساؤل يأتي حول حق الأمم المتحدة في أن تجيز لنفسها ترسم حدود وهمية بين دولتين وتعترف بها, وتتجاهل حدوداً دولية موثقة سبق وأقرّتها واعترفت بها منذ ان كان لبنان تحت الانتداب إلى حين الإعلان عن قيام دولة لبنان الكبير بحدوده المعترف بها دولياً.
إن ما حصل إذن هو انسحاب إلى خط أزرق. وهو خط في عرف الأمم المتحدة يمثّل نظرياً أقرب المسافات إلى خط الحدود الدولية. ولكن الإجابة على “ماذا تبقّى لنا” تفترض بداهة جواباً واحداً: الوصول إلى الحدود الدولية وصولاً كاملاً غير منقوص بخرق أو بفتق. ولكن هذه الإجابة تستتبع سؤالاً آخر: “هل الحدود المتعارف عليها “دولية” ما بين لبنان وفلسطين بموجب ترسيم نيوكومب ­ بوليه 7/3/1923, والتي أكّدها اتفاق هدنة 23/3/1949 حدوداً “دولية” ما بين لبنان وإسرائيل, هي فعلاً الحدود التي كان اتفاق باريس 23/12/1920, قد عرّفها حدوداً دولية والتي جاء على أساسها الترسيم اللاحق مع لجنة نيوكومب ­ بوليه؟
إن الوقائع والظروف السياسية الدائرة راهناً, تخرج الحدود اللبنانية ­ الإسرائيلية في ميزان العلامات القائمة, عن الاعتبارات الدولية التي تحكّمت في ترسيمها الأوّل, وهي اعتبارات تنبع أساساً من المصالح البريطانية والمصالح الفرنسية وخططهما السياسية من منظور السيطرة على المنطقة. كانت هذه الترسيمات إذن تنبع من “تقنيات” التوازن السياسي الدولي والسياسي المناطقي والمحلّي, أي أنها تنبع من حدود توازن مزدوج أو مثلث, ونقطة التوازن هذه هي بالقطع, وراء التباين القائم بين القراءة البريطانية والقراءة الفرنسية لحدود اتفاقية 1920.
إلى هذا التوازن والتباين نضيف عوادي الطبيعة, وعوادي تقصّد إزالة ترسيمات الحدود وعلاماتها والمحدّدة بـ38 معلّماً رئيسياً و98 معلّماً وسيطاً و11 معلّماً مساعداً, وفقاً لاتفاقية بوليه ­ نيوكومب عام 1923 واتفاقية الهدنة عام 1949. ذلك أنه عند ترسيم الحدود وفقاً لاتفاق 1923 “وضعت حجارة ونوع من الأسمنت على الأرض وتمّ انتقاء مواقع لحسن الرؤية وعند الانعطافات الحدودية. وقد زالت الأعمدة مع مرور الزمن والتغير البيئي”. أما “الأعمدة اللبنانية ­ كما يلاحظ الجنرال سيرنيان([23]) ­ فكانت مثبتة على قمم الجبال والوهاد وما لبثت أن اختفت بسبب عمليات التخريب أو تمّ تدميرها عام 1978. كما اقتلع بعضها من إسرائيل وثبتت محلها مراكز إسرائيلية. ولاحظت ­ يتابع الجنرال ­ أنه لم يبق منها سوى عمود واحد”([24]).

والآن وقد تمّ ترسيم الخط الأزرق خطاً مؤقتاً بانتظار ترسيم نهائي للحدود, فإن المحذور الذي كان يحكم السياسة اللبنانية, وحتى لسنوات قليلة من تاريخ الانسحاب الإسرائيلي, فتح الملف الحدودي, خوفاً من طموحات إسرائيلية باتجاه الشمال, أي باتجاه الجنوب اللبناني, هذا المحذور زال إلى غير رجعة.
وعلى هذا الواقع المستجد, أن ينتقل بالموقف اللبناني من رؤيته الحدودية الترسيمية, إلى واقع أكثر جذرية, أعني المطالبة بالعودة إلى الحدود الدولية الفعلية والصحيحة, كما تحددت في اتفاقية باريس 23/12/1920, والمطالبة بترسيم دقيق وصارم لتلك المعاهدة, التي هي في أساس أي ترسيم لاحق, والتي ارتكبت باسمها كل التجاوزات اللاحقة, المتمثلة في تحويرات تطالها انطلاقاً من توازن المصالح الفرنسية والبريطانية اللصيقة بالمصالح والمشاريع الصهيونية لمستقبل فلسطين.
وما سنحاوله في الصفحات التالية, هو الإطلالة على التحديد الدقيق لمعاهدة باريس, وترسيماتها المغلوطة في اتفاقية نيوكومب ­ بوليه, وهذا ما يوصلنا فعلاً إلى ما يتوجب علينا العمل لاستعادته من خلال العودة أوّلاً إلى هذا الترسيم الصحيح, وثانياً من خلال تأكيد لبنانية “مزارع شبعا”, وثالثاً من خلال إقفال اللهفة الإسرائيلية للمياه اللبنانية باستثمار مياه أنهره الجنوبية خير استثمار.

الحدود الدولية بين المرسوم والترسيم:
لقد ارتبطت الحدود اللبنانية الفلسطينية (واستتباعاً الحدود السورية الفلسطينية), منذ ولادتها بتعقيدات المواقف المتقابلة ما بين الانتدابين البريطاني والفرنسي, وخططهما المعلنة والخفية في السيطرة على المنطقة. إضافة إلى الطبيعة الجغرافية من أودية ومنحدرات وجبال والذي تمر فيها هذه الحدود, إلى كثافة الوجود البشري على الجانبين الفلسطيني واللبناني, والذي يكفي لتأكيده, القول بأن القرى الحدودية اللبنانية, في الخط الحدودي, أو القرى الخلفية القريبة والمواجهة للجليل الفلسطيني (الغربي) أو المواجهة “لإصبع الجليل” (الحدود من الشرق), تزيد في تعدادها على المائة قرية وبلدة, أي بمعدل تجمع سكاني معتبر مقابل لكلّ كلم حدودي طولي([25]). ويزيد من تشابك هذا الأمر, العلاقات التاريخية الممتدة ما بين تجمعات هذا “الجليل الفلسطيني” (الجليل الأعلى), والجنوب اللبناني المعروف تاريخياً “بالجليل الأسفل”, وهي صفة ما تزال محفوظة في التسمية التي تأخذها بلدة “قانا” الجنوبية مع توصيفها “بقانا الجليل”.
وبالعودة إلى تاريخية الترسيمات الحدودية نرى فلسطين الإنكليزية في اتفاقية “سايكس بيكو”, كانت خارج حوض منطقة “الحولة” التي كانت من حصة المنطقة الفرنسية, كذلك كانت مدينة “صفد” ومنطقتها. وهذا يعني أن الخط الجنوبي لمنطقة الانتداب الفرنسي كان يصل ما بين “رأس الناقورة” والطرف الجنوبي لمنطقة “صفد”.
وبالنظرة إلى اتفاقية 23/12/1920, وإلى ترسيماتها في اتفاقية 7/3/1923, نطرح السؤال التالي: كيف تحدد حدود ما بين لبنان وفلسطين, بموجب هذه الاتفاقية؟
انطلاقاً من المادة الأولى في “تعيين الحدود”, ترسم اتفاقية باريس 1920 الحدود اللبنانية الفلسطينية وفقاً للخط التالي:
“... ومن هناك (من بانياس) سترسم الحدود باتجاه الغرب حتى “المطلة” التي ستبقى ضمن الأراضي الفلسطينية, وسيقتفي أثر هذا الجزء من الحدود بشكل يضمن معه للمنطقة الواقعة تحت الانتداب الفرنسي, مواصلات سهلة داخل المنطقة بأكملها مع مناطق “صور” و”صيدا”, وكذلك استمرار الطريق الواصلة ما بين غرب وشرق “بانياس”, ومن “المطلة” ستصل الحدود حتى الخط الفاصل بين “وادي الأردن” و”حوض الليطاني”. ومن هنا ستتبع هذا الخط باتجاه الجنوب, وبعد ذلك ستتبع بشكل أساسي الخط الفاصل ما بين “وادي فارة حورون” و”كركرة”, التي ستبقى تحت الانتداب البريطاني “ووديان “الدبلة” و”العيون” و”الزرقة” التي ستبقى تحت الانتداب الفرنسي وستصل الحدود البحر الأبيض المتوسط في ميناء “رأس الناقورة”, سيبقى في المنطقة الواقعة تحت الانتداب الفرنسي([26]).
اتفاقية 23/12/1920 الحدودية إذن, والتي وقّعت في “باريس” ما بين اللورد “هاردينغ أوف بنشورات” والفرنسي “ليغيس”, كانت ترجمة جديدة لتوازن ما بعد الحرب, وترجمة أكثر وضوحاً للسياسة البريطانية في تكبير حدود انتدابها المرصود, في مقبل الأيام, كإطار سياسي لوعد “بلفور” اللاحق. وقد شكّلت هذه الاتفاقية أساس المسح التفصيلي للحدود, والذي قامت به لاحقاً لجنة حدودية عُرفت باسم رئيسيها “نيوكومب ­ وبوليه” (S.F. Newcomb, N. Paulet ), والتي كان تشكيلها تنفيذاً للمادة الثانية من معاهدة باريس الآنفة. لقد كانت اجتماعات “نيوكومب ­ بوليه”, اجتماعات “تسليك” حدود لتعريف 23/12/1920, أي أنها كانت تهدف بالأساس إلى إزالة بعض الصعوبات المتعلقة بانتقال السكان, وباستثمارهم لأراضيهم الواقعة على جانبي الحدود. لذلك كان لها اجتماعات مع أعيان القرى. وقد توصّلت اللجنة إلى وضع تقريرها المفصل في 23/2/1922, والذي لم تصدّق عليه بريطانيا إلا بعد ما يزيد على السنة من تداوله, أي في 7/3/1923. وقد أصبح هذا الترسيم الحدودي شرعة دولية بدءاً من سنة 1924, أي بعد إقراره في “عصبة الأمم”, والتي عاودت سنة 1934 تأكيد قرارها الآنف. كذلك تكرس هذا الاتفاق شرعة دولية مع تأكيد هيئة الأمم المتحدة في القرار 181 (قرار تقسيم فلسطين) في 29 تشرين الثاني 1947, على الحدود الدولية لفلسطين. حيث جاء في الجزء الثاني من القرار: “يحد منطقة الدولة العربية في “الجليل الغربي” من الغرب البحر الأبيض المتوسط, ومن الشمال حدود لبنان من “رأس الناقورة” إلى نقطة شمالي “الصالحة”. كذلك تكرّست هذه الحدود, شرعة دولية في اتفاقية الهدنة الموقّعة بين لبنان وإسرائيل في 23/آذار/1949, عندما حددت الاتفاقية في البند الأوّل من المادة الخامسة خط الهدنة الدائمة هو “خط الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين”.
ومن جديد ارتفدت هذه الخطوط بشرعية إضافية, من مراكز القرار الدولية هذه المرة, عندما أذاعت كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في 26 أيار 1950, بياناً أعلنت فيه تمسّكها بالوضع القائم في الشرق الأوسط, ودعت إلى المحافظة على خطوط الهدنة بين إسرائيل والدول العربية, وحذّرت من أنها ستتدخل عسكرياً في حال أُحدث تغيير في هذه الحدود.
إن قراءة الاتفاقية الآنفة تقودنا إلى تسجيل ملاحظات عدّة نكتفي منها باثنتين تتعلقان بطرفي الحدود: الحد الغربي من طرف البحر, والحد الشرقي قبل نقطة الانطلاق شمالاً طوال إصبع الجليل.
1- ­ إن وادي “كركره” يمر جنوبي قرية “البصة” (خارطة رقم 2). وهو وادٍ شتوي يبتدئ تجمّعه بالقرب من “تربيخا”, ويمر “بخربة كركره” التي ينسب إليها... ثم ينتهي في البحر جنوب “مينة المشيرفة” على بعد كيلومترين من رأس الناقورة([27]).
إن تسمية هذا الوادي حداً جنوبياً لمنطقة الانتداب الفرنسي, يعني أن قرية “البصة” الواقعة في الكتف الشمالي لهذا الوادي, تقع حكماً داخل الحدود اللبنانية, وهذا ما كانت عليه هذه القرية حتى مطلع الأربعينات. فقد لاحظ أكرم زعيتر أن قرية “البصة” التي تقع على الحدود الشمالية “ومع أنها من فلسطين ­ والاستدراك هنا لأكرم زعيتر ­ إلا أن سور “تيغارت” الشائك قد فصل نصفها عن فلسطين, وأُقيم بطرف القرية من جهة الجنوب الغربي, باب حديدي يفتح في أوقات معيّنة لدخول أهل القرية من بابه إلى فلسطين, وهناك عند الباب أُقيم معقل للبوليس البريطاني لحراسة الباب. ويسمى هذا المعقل “كمب نمرة واحد” يرأسه شاويش بريطاني. ومن هناك تمتدّ الطريق الشمالية المحاذية للشريط الشائك سريعاً حتى تصل إلى الحولة”([28]).
إن شريط “تيغارت”([29]), وموضعه الحدودي جنوبي قرية “البصة”, يشكّل مرجعية حدودية أساسية, كونه “ماركة” بريطانية الصنع. فالمعروف أن هذا الشريط شكّل عازلاً على امتداد الحدود اللبنانية الفلسطينية, طيلة عامي 1938 ­ 1939, وقد أقامته سلطات الانتداب البريطاني, قطعاً للمدد الذي كان يصل إلى فلسطين من لبنان, إبان ثورة الشيخ عز الدين القسّام 1936 ­ 1939. ومع أن هذا الشريط العازل, لم يقم, باعتراف الأدبيات الحدودية الإسرائيلية, “فوق الخط الحدودي بالضبط بل بالقرب منه”([30]), إلا أن, هذه الأدبيات تتحاشى الإشارة إلى أن الخط الحدودي الذي يطابق امتداد هذا الشريط, كان الخط الذي يجاور التجمعات السكنية أو يخترقها, لأن الهدف الأساسي من إنشائه كان مراقبة هذه التجمعات وإطلاق النار أو اعتقال كلّ من يخترق الحدود دون إذن مسبق. بينما كانت تضاريس الجبال والأودية عوائق طبيعية أو موجبات عسكرية, تمنع تطابق خط الحدود مع أسلاك هذا الشريط. على هذا يمكن القول بأن البوابات القائمة على هذا الشريط وفي مداخل القرى من صوب لبنان أو في مخارجها من الناحية الجنوبية صوب فلسطين هي أقرب نقاط الشريط الشائك إلى الخط الحدودي, سيما وأن هذه البوابات, والتي عرفتها العامة باسم كامب (كامب نمرة واحد قرب “البصة”, “كامب سعسع”, “كامب صلحة”, “كامب يوشع”, بوابة أو “بوابة بيسمون”) (راجع خارطة رقم 4), كانت عبارة عن ثكنات وأبراج عسكرية كبيرة تذكر بقلاع القرون الوسطى.
2- ­ أما بالنسبة للحد الجنوبي الثاني الذي تحدّده اتفاقية 23/12/1920, وأعني به “وادي فارة حورون” (خارطة رقم 3), فهو الوادي الذي يحمل مياه الأمطار الهاطلة في نواحي “سعسع” و”الجش”, حيث يعرف عندها باسم “وادي المعصمية”, و”فارة” حيث يعرف باسمها. وعند قرية “ديشوم” يأخذ اسم “وادي الحنداج”, وينتهي في بحيرة الحولة عند قرية “تليل”, بعد أن يمر بقرية “الحسينية”. تجري مياهه في أكثر أوقات السنة.
إن اتخاذ هذا الوادي حداً جنوبياً تقف عنده منطقة الانتداب الفرنسي يعني أن قـرية “فارة”, في الكتف الشمالي لوادي “فارة”, أو على الأقل قرية “صلحا” وهي إحدى القرى السبع, الواقعة شمالي قرية “فارة”, تدخل, بموجب تعريف اتفاقية باريس 23/12/1920. في منطقة الانتداب الفرنسي.

الحدود الدولية و”حد الزعرورة” الإسرائيلية:
نسارع هنا إلى القول بداية, بان الحديث من قِبل باحثين لبنانيين عن ترسيمات حدودية خاطئة جرت على قاعدة تطبيق خاطئ على الأرض (نيوكومب ­ بوليه) لاتفاقية باريس 23/12/1920, يبدو وكأنه قفزة في فراغ القراءات الدائرة حول الحدود الدولية ما بين لبنان والكيان الإسرائيلي. فالرد السياسي أو التفاوضي (في حال حصوله) على مقولة الخطأ هذه, سوف يكون جاهزاً, وفق الصيغة الشعبية الشائعة: “التوك من المكوك”. و”مكوك” الكتابة الوطنية يدفع بالباحث اللبناني, إلى مط الحدود إلى “صدر” أراضيه وقياساته وفقاً لقيمة وطموحاته الوطنية.
وعلى هذا, سنحاول في مناقشتنا للترسيم الحدودي, أن ننطلق من القراءة الإسرائيلية نفسها, والتي تقرّ بلا مواربة بحقوق لبنانية واسعة, يتوجّب على المفاوض اللبناني أن يركّ عليها أسانيده في الدعوة إلى ترسيم حدودي وإلى ترسيمات دولية ضامنة, وحسب تعريف ومرسوم “الجد” التاريخي لكل الترسيمات الحدودية اللاحقة, أعني معاهدة باريس 23/12/1920.
سيشكل مؤلف موشيه برافر “حدود دولة إسرائيل([31]), مرجعنا في الإطلالة على ترسيمات اتفاقية نيوكومب ­ بوليه (7/3/1923), وقد جاءت قبل أن يكون لمؤتمر مدريد موقعه من العلاقات العربية الإسرائيلية, أي بتعبير آخر, قبل أن تصبح الحدود العربية الإسرائيلية على المحك العملي, وقبل أن توكل المفاوضات القائمة أمر هذه “الحدود” إلى السياسيين والخبراء العسكريين الإسرائيليين.
كيف ترى هذه الدراسة الإسرائيلية إلى الحدود اللبنانية ­ “الإسرائيلية”؟
يقول موشيه برافر إن لجنة نيوكومب ­ بوليه([32]), مارست عملها لمدّة تزيد قليلاً على السنة, إذ أنهت أعمالها مطلع 1922. وقد حفلت هذه السنة “بمحاولات حثيثة” من قِبل بريطانيا لإجراء تعديلات على خط تعريف الحدود. كما جاء في اتفاقية باريس 23/12/ 1920. وكان ذلك “امتثالاً لعدم الرضى الذي كانت تبديه الحركة الصهيونية بهذا الصدد, وأيضاً من جانب الكادر السياسي في وزارة الخارجية البريطانية, ومن جانب الموالين للحركة الصهيونية([33]). وهي مطالبات لم تتوقف بالرغم من انتهاء لجنة نيوكومب ­ بوليه من عملها, ورفعها تقريراً مفصلاً إلى دولتيهما المنتدبتين في 3/2/1922. فقد شرع البريطانيون في عملية مساومة طويلة الأمد حول إمكانية إجراء تعديلات جديدة. ولم يصادقوا على التقرير الآنف إلا بعد سنة من تقديمه, أي في 7/3/1923. “ومن ثمّ مضت سنة أخرى حتى نيسان 1924, حتى أصبح الخط الذي تمّ تحديده من قِبل (لجنة نيوكومب ­ بوليه) بمثابة الحدود الشمالية والشمالية الشرقية (لأرض إسرائيل), بعد نقل منطقة تبلغ مساحتها 192 كيلومتراً مربعاً, بجميع من فيها وما فيها من قرى (حوالي عشرين قرية) من إطار الحكم الانتدابي الفرنسي, إلى إطار الحكم الانتدابي البريطاني (أرض إسرائيل)([34]). وقد شملت هذه المساحة مستوطنات (إصبع الجليل), وتل دان, ومصادر وادي دان...”
“لقد أدخلت تغييرات تكاد تكون جذرية على الحدود التي تمّ الاتفاق عليها بين الفرنسيين والبريطانيين في اتفاقية باريس 1920, خلال تخطيط الحدود والتعديلات التي أجرتها لجنة (نيوكومب ­ بوليه) على الحدود الشمالية, والشمالية الشرقية (لأرض إسرائيل), إضافة إلى تعديلات كبيرة أخرى أدخلت على تلك الحدود منذ عام 1924 وحتى انتهاء الحكم الانتدابي البريطاني..”([35]).
ويتابع موشيه برافر “تمكّن البريطانيون من زحزحة الحدود من رأس الناقورة نحو الشمال حتى المدخل الجنوبي لمدينة صور. ولو أن اللجنة الحدودية المشتركة تمسّكت باتفاقية عام 1920 لوجدنا أن الحدود تبدأ على ساحل البحر الأبيض المتوسط على بعد يتـراوح بين كيلومتر واحد إلى اثنين جنوباً”([36]).
ويعلو الخط الحدودي من “الناقورة”, حتى يصل إلى رأس السلسلة الصخرية هناك, ويسير فوقها حتى يصل بالقرب من قرية لبونه اللبنانية. ويسير ملتوياً من هناك حتى يصل بالقرب من قرية (زرعيت), موازياً لبعض المعالم الطبيعية البارزة...
“وفي هذه المنطقة بالضبط حدث الانحراف عن اتفاقية عام 1920, لصالح “إسرائيل” في الجنوب في (رأس الناقورة) وبالقرب من قرية (علما الشعب) لصالح لبنان.

 

ومن حـدود زرعيت, وحتى (افيفيم) خططت الحدود بـشكل يـتلاءم مع أراضي الفلاحين هناك وخاصة قرية ساسا([37]) وبرعام([38]) جنوب قريتـي (رميش ويارون)...
ومن الجدير بالذكر أن الانحراف في هذا القطاع عن اتفاقية 1920 أكبر من الانحراف الذي حدث في القطاع السابق, وغالبيته لمصلحة إسرائيل”([39]).
ثم ينتقل برافر للحديث عن الحدود الشمالية الشرقية فيقول, إن اتفاقية 1920 حددت طريق شمال الجولان (طريق بانياس) حتى ساحل البحر الأبيض, بمثابة عامل توجيه أساسي في رسم الحدود وتخطيطها, وقد أُعطيت الأولوية لبقاء تلك الطرق في الطرف الفرنسي من الحدود, على جميع الأولويات الأخرى التي يمكنها أن تساعد أو تحول دون رسم الحدود, مثل المعالم الجغرافية والطبيعية وأراضي القرويين.
وعلى ضوء ذلك حدث في بعض الأحيان تقسيم لأراضي “المطلة”, وبقي جزء منها في ناحية, بينما باقيها في الناحية الأخرى من الحدود اللبنانية.
“وبذل البريطانيون جهوداً جبارة للسيطرة في هذا القطاع على موارد مياه نهر الأردن... وقد رفض البريطانيون نسبة الحدود إلى “تل دان” ­ “تل القاضي”([40]), رغم كونه ابرز ما في المنطقة ويمكنه أن يكون ملائماً جداً لهذا الغرض. وأصروا على أن تسير على بعد قليل شماله, كي تقع جميع مصادر نهر (دان) داخل حدود (أرض إسرائيل). متغاضين عن حقيقة كون التل, والأراضي القريبة المحيطة به من أملاك إحدى العائلات اللبنانية([41]). وقد أشارت خرائط تعليم الحدود بوضوح إلى ملكية البريطانيين لتل دان, وجميع الآبار الموجودة بالقرب منه”([42]).
ولكن الانتهاكات البريطانية في ترسيمها لاتفاقية باريس لم تقف عند حدود ترسيمات 1923 أو السنتين التاليتين لهذا التاريخ. فقد ظلّ القضم غير المعلن مستمراً, وكان اكتشافه أو “النـوم” عليه, خاضعاً لبارومتر العلاقة بين فرنسا وبريطانيا. ففي عام 1940, كما يرى موشيه برافر, أدى استسلام الفرنسيين لألمانيا إلى خلق نوع من التوتر بينها وبين بريطانيا. مما حدا بالطرفين إلى تشكيل لجنة عسكرية لإعادة دراسة الحدود بين (أرض إسرائيل) ولبنان. واكتشف الفرنسيون يومها “أنه حدث خطأ في تعليم الحدود في المنطقة الواقعة بالقرب من (أفيفيم) بالقرب من قرية (صليحة) حيث أخطأ مخططو الحدود هناك, وعلّموا الخط الحدودي في المنطقة الواقعة بالقرب من (أفيفيم) بالقرب من (صليحة) في غير مكانه الحقيقي. وأدخلوه إلى المنطقة الفرنسية مسافة 400 متراً شمالاً”.
وكان تعديل الحدود في تلك المنطقة يقتضي نقل السيادة من الانتداب البريطاني إلى الانتداب الفرنسي (لبنان) على منطقة تبلغ مساحتها حوالي كيلومترين مربعين. ويضم قسماً من مركز شرطة (صليحة), وقسماً من الطريق الشمالي الذي شقّه البريطانيون على طول الحدود, وقسماً من الحاجز الشائك الذي نصبوه للحيلولة دون عمليات التسلل اللاشرعية. الأمر الذي كان يمكنه أن يفتح ثغرة واسعة وخطيرة في جهاز الرقابة الذي أنشأه البريطانيون لمواجهة التسلل, لو أعادوا هذا القطاع إلى الفرنسيين.
ونظراً لإدراك الفرنسيين ذلك, فقد اقترحوا بقاء الحدود في هذا القطاع على ما هي عليه, مقابل تحريك حوالي مائتي متر شرقاً في القطاع الحدودي المقابل لقرية “حولا” في (راميم)([43]) حيث تقطع الحدود في هذا القطاع طريقاً حيوية هامة جداً, وتعتبر بمثابة شريان مواصلات رئيسي بين مجموعات من القرى اللبنانية...”([44]) “وقد نحا البريطانيون نحو قبول هذا الاقتراح”. ولكن الاحتلال البريطاني لكلّ من لبنان وسوريا قلّل من الاهتمام لمكان الحدود المذكورة.
أما الخط الحدودي بموجب اتفاقية الهدنة في آذار 1949, فقد انطبق, من الناحية النظرية على الأقل, على خط الحدود السائدة إبان الانتداب البريطاني, إذ لم يتلاءم هذا الخط مع خطوط إطلاق النار والمواقع التي كان يتمترس بها الجانبان المتحاربان, والتي كان لواء “كرملي” الإسرائيلي في علمية “حيرام”, قد احتلّ شريطاً من القرى اللبنانية في الضفة الشرقية ومن الزاوية الجنوبية من الحدود اللبنانية. وهذا ما يتفرّد به سياق الهدنة اللبناني الإسرائيلي عن باقي السياقات العربية, حيث لبثت فيها الأطراف المتحاربة في الخطوط التي كانت تحتلها مع “هدنة رودوس” 1948- ­ 1949.
ولكن المصادر الإسرائيلية تعود ثانية وتعترف بخرق “حدود” اتفاق الهدنة. ويأتي الإقرار هذه المره على قلم بن غوريون في يوميات حربه, حيث يحدد أن الخرق تمّ على العلامة الحدودية رقم واحد والتي تقع في منطقة “رأس الناقورة”, والذي كان احتلاله يشكل هاجساً عسكرياً إسرائيلياً. فقد وصل لواء “كرملي إلى مشارفه في 16/5/1948. وفي 11/6/1948 سيطرت قوات العدو على مواقع منه. وقد شكّل بقاء هذه القوات هدفاً سياسياً وعسكرياً بذاته. ففي واحدة من مداولات القيادة الإسرائيلية اقترح ييغيل يادين أن يتخلّى اللبنانيون عن “رأس الناقورة” مقابل أن يتخلّى الإسرائيليون عن خمس قرى لبنانية: “القنطرة” و”دير سريان” و”القصير” و”علمان” و”يارون”, من أصل القرى الـ14 التي كانت لإسرائيل قد احتلتها عام 1948 خلال عملية “حيرام”.
وبدوره كان “موشيه دايان” يرهن تطبيق اتفاق الهدنة “بإعادة رأس الناقورة”. فها هو يعلن في جلسة الكنيست مساء 16/3/1948 “بالنسبة إلى لبنان حسمت بتوقيع الهدنة ­ طبعاً ­ إذا كان لبنان سيعيد “رأس الناقورة...”([45]).
ومتابعة بقية العلامات الحدودية الـ38 على طول الكيلومترات الحدودية الـ78, تدفع إلى الشبهة بتوقيع العديد من تلك العلامات. فالمسح الجغرافي للحدود الجنوبية قبل توقيع هدنة 1949, والذي جرى ما بين 5 و15 كانون الأول من السنة نفسها, يدفعنا إلى القول بتغيير جدي حصل في مواقع العديد من تلك العلامات الحدودية إذ بلغ مجموع العلامات الحدودية التي يجب أقامتها من الفئة “أ”, إحدى عشرة علامة. وبلغ مجموع العلامات الحدودية التي يجب إقامتها من الفئة “ب” مئة وأربع علامات. وبلغ مجموع العلامات الحدودية المقتلعة تسعة علامات([46]).
ويبقى أن نشير هنا إلى عدم حسم الخلاف الحدودي البريطاني الفرنسي في ما يتعلّق بالمنطقة ما بين “المطلة” و”الحاصباني”. فقد نشب خلاف حول مخططي حدود الهدنة بين إسرائيل ولبنان, في ما يتعلّق بمكان الخط الحدودي الممتد من مرتفع يقع على بعد كيلومتر ومئتي متر من جنوب شرق “المطلة” وحتى ضفّة “نهر الحاصباني”.
“فقد نصّت اتفاقية الحدود الفرنسية البريطانية على أن الحدود في هذه المنطقة تسير بمحاذاة طريق المطلة بانياس وعلى بعد مئة متر جنوباً وقد طرأت منذ عام 1923 تغييرات كثيرة على هذه الطريق مما أثار الكثير من الادعاءات والمزاعم إبان تخطيط حدود الهدنة بمكانه الدقيق.
وقد اتفق الطرفان عام 1950 على أن تبقى مسألة تخطيط الحدود في هذا القطاع مفتوحة حتى التوصل إلى تسوية نهائية للعلاقات والقضايا الحدودية المعلّقة بين الدولتين. وقد استخدم الخط الحدودي الذي نصّت عليه وجهة النظر الإسرائيلية عملياً كخط هدنة”([47]).

وبعد....
إن الإطلالة على هذه “الاعترافات الأكاديمية” الإسرائيلية في تحوير ترسيمات 1923 لاتفاقية باريس 1920, تقودنا, ودائماً من منطوق القراءة الإسرائيلية عينها, إلى سوق الملاحظات التالية حول أية ترسيمات حدودية نهائية بين لبنان و”إسرائيل”:
1- ­ اعتراف إسرائيل باقتناص 192 كلم2 تضمّ عشرين قرية حدودية من ضمنها القرى السبع لم تنصّ عليها اتفاقية باريس 1920 لتعريف الحدود, وهي تمتدّ على منطقة يتراوح عرضها ما بين 1- ­ 2 كلم.
2- ­ أن المنطقة الممتدّة من “المطلة” إلى “بانياس”, شكّلت محور نزاع بريطاني فرنسي, تمثل أخيراً باستخدام الخط الحديدي الذي نصّت عليه, في هذه المنطقة, “وجهة النظر الإسرائيلية عملياً كخط هدنة”. وهذا ما يستتبع أن تكون الحدود اللبنانية الفلسطينية السورية هي منطقة “وادي العسل”, والتي كان فيها كما يذكر كلّ المعمرين في تلك المنطقة علامات لترسيم الحدود. كذلك فإن هذا التحديد يستتبع أن تكون الحدود اللبنانية ممتدة حتى بلدة “النخيلة”, التي تؤكد الوثائق على لبنانيتها([48]).
3- ­ أن ملكيات الأراضي التي يقع فيها “تل ­ دان” (تل القاضي) ونبعه والأراضي المحيطة به من أملاك عائلات لبنانية.
4- ­ أنه اكتشف عام 1940, خطأ في تعليم الحدود في المنطقة الواقعة بالقرب من مستعمرة “أفيفيم” بالقرب من قرية “صلحة”, إذ أُدخل الخط الحدودي مسافة 400 م داخل المنطقة الفرنسية شمالاً.
5- ­ أن إسرائيل اقتطعت من منطقة “رأس الناقورة” أثناء تحديد خطوط الهدنة 1949, تحت وطأة احتلالها لقرى جنوبية حدودية إثر “عملية حيرام” 1948 وأقامت عليها مستعمرة روش هانيكرا, وهذا يلغي ما ينقل عن تطابق خطوط الهدنة مع تخطيط 1923.
6- ­ أن حقوق المواطنين اللبنانيين في أراضيهم داخل فلسطين المحتلة مصانة بكاملها بموجب ترسيمات 1923, واستتباعاً بموجب اتفاق حسن الجوار الذي وقع في 2/2/1926, والذي اشتمل على سلسلة من الترتيبات حول وظائف الحدود. “وقد سُمح للقرويين في إطار هذه الترتيبات بمواصلة استخدام الطرق إلى قراهم, وحتى ولو اقتضى الأمر قطع الحدود, مع الاحتفاظ بكامل الحقوق لفلاحة الأرض, وجني المحصول من الأراضي الزراعية واستخدام الموارد المائية (بما فيها من الأنهار والقنوات والوديان) واستخدام المراعي, التي كان يملكها أي طرف داخل حدود الطرف الآخر...
كما اتفق على جبي الضرائب من المواطنين التابعين للدولة, إذا كانوا يمتلكون أراضي في حدود الدولة الأخرى...”([49]).
وقد كانت حقوق هؤلاء في عبور الحدود الفلسطينية وراء إنشاء بوابات لتنظيم عبور هذه الأعداد الكثيرة في “بيسمون”, و”يوشع” و”صلحا” و”سعسع” و”البصة” كما سبق وأشرنا.
ولا ينطبق الأمر كما يتبادر على ملكيات أهالي القرى السبع وحدهم, فغالبية الحصص في سهل “الحولة” مثلاً, ما زالت تعود ملكياتها إلى أهالي “مرجعيون”, من آل غلمية وبركات وعبله وجبارة وحوراني وندا وفرحة, وهي مساحات واسعة ممّا لم تحرز الشركات اليهودية لشراء الأراضي في فلسطين, نجاحاً في شرائها([50]).
7- ­ أن للبنانيين حقوقاً في الصيد في مياه من فلسطين بموجب اتفاقية 1923: فقد ورد الاتفاقية ما نصّه بالحرف: “يحق للسكان السوريين واللبنانيين الصيد في بحيرة “الحولة”, وبحيرة “طبريا” و”نهر الأردن” بشكل متساو تماماً مع سكان فلسطين, غير أن مسائل تأمين الملاحة والدوريات الشرطية, في البحيرتين تكون من حق حكومة فلسطين.

ثانياً: في العرقوب:
أ-­ في خراج كفر شوبا:
لم يتوقف احتلال إسرائيل سنة 1967 في العرقوب على “المزارع” وحدها كما يدور الآن في الأذهان, فقد امتدت إلى غير منطقة من “العرقوب”: (وادي الخنساء, البحاصير, رويسة بيت الراس, رويسة السماق والجبل الأحمر وجبل الروس), إضافة إلى منطقة “مشهد الطير” التابعة للأوقاف الإسلامية. وهذه المناطق تمتد من خراجات “كفر شوبا” و”كفر حمام” و”شبعا” باتجاه “القنيطرة”, ويأتي “جبل الروس” في طليعة تلك المواقع من حيث الأهمية العسكرية, بجانبه الشرقي التابع لسوريا وبجانبه الغربي التابع للبنان, والذي يشرف على الجنوب اللبناني حتى البحر. وقد شهد هذا الجبل معارك قاسية بين الجيشين السوري والإسرائيلي خلال معارك الثمانين يوماً التي أعقبت حرب 1973.
وفي غمرة المواجهة الإسرائيلية السورية سنة 1973, اقتطعت إسرائيل في مرتفعات “جبل الشيخ” العديد من المواقع اللبنانية, أهمها في خراج بلدة “شبعا”: “جورة العليق وبركة النقار والسواقي وتلّة السدانة”, الواقعة بين “شبعا” و”الهبارية”, وتتميز بموقعها الاستراتيجي المهم الذي يطلّ على القطاع الشرقي كلّه, وصولاً إلى محيط “الشقيف” ومنطقة النبطية.
سنة 1975 تقدمت إسرائيل شمالي شرق “كفر شوبا” من جبل “الشميس” الذي يشرف على عموم القطاع الشرقي. وباحتلاله صارت “كفر شوبا” في وضع عسكري بالغ الحرج, وصارت سائر منطقة “العرقوب” و”مرجعيون” تحت التهديد الجدي.
هذه الأراضي المقتطعة من “العرقوب” (خارج حالة المزارع)؛ كانت قد تكرّست, أمام الدوريات الإسرائيلية, ميداناً حراً بدءاً من سنة 1975. صحيفة “السفير”([51]) تجعل مساحة هذه المنطقة بطول 8 كلم وعرض 3-­ 4 كلم, وتمتدّ من “تلّة السماقة” حتى مزرعة “شانوح” مروراً ببيادر “حيفا” جنوب شرق “كفر شوبا”.
لقد امتدت “مزارع شبعا” في صيتها أرضاً لم تنسحب منها إسرائيل, لتغطي مساحات واسعة من بلاد العرقوب في خراج “كفر شوبا” ما زالت إسرائيل تحتلها, وتمتد من “المجيدية” غرباً حتى “جبل الروس” شرقاً.
لم تكن هذه المنطقة شأن “المزارع” ارض احتلال إسرائيلي بدءاً من 1967. كانت في قسم منها فقط, وبدءاً من 1972, ارض استحلال للتحركات الإسرائيلية العسكرية ومحاولاتها تصفية القواعد الفلسطينية في تلك المناطق.
ويحفظ أهالي “كفرشوبا” وثائق وأسماء عقارات تلك المنطقة المحتلّة. وهي التالية: (كرم حالا, باب الهوا, المعيصرة, ظهر الحمار, الشمايس, مراح الفحول, جورة الزين, رويسة أحمد يعقوب, المبسوطة, شعاب سعد الدين, كسارة فياض, حفور الحمص, مقلب الخرايب, حاكورة الركيزة, المرج, شعب النقير, عقبة برختا, باب الحجر, مراح فراشة, شعب الهرهر, شعب الخطيب, رويسة اللوزة, خلة القضاب, رويسة عقبة برختا). وهذه بمجملها عقارات كبيرة تقارب في مساحتها الـ 8 كلم مربع.

ب- ­ في مزارع شبعا:
شكلت “مزارع شبعا” (14 مزرعة) الحلقة الأكبر في مسلسل الضم والاقتطاع الإسرائيليين لأراضٍ لبنانية. وتمتد هذه “المزارع” في الطرف الشمالي الشرقي لمنطقة “العرقوب”, على مساحة تبلغ بين 25 ­ 30 كلم مربعاً, (والباقي يتبع للجولان السوري). وقد اجتاحتها إسرائيل مع وقف إطلاق النار بعد حرب حزيران 1967, فاستولت في 15 حزيران على ست مزارع (مغر شبعا, خلة غزالة, ظهر البيدر, رويسة القرن, جورة العقارب, فشكول) وهجّرت معظم سكانها, بعدما قتلت المواطن شحاده أحمد موسى وجرحت العشرات وأحرقت المواسم.
في 20 حزيران احتلت ثلاث مزارع (قفوة, زبدين, رمتا), وفي 25 حزيران استكملت إسرائيل اجتياحها “للمزارع”, ثم أقدمت على احتلال مزرعة “بسطرة”, لتبدأ في صيف 1972 عملية الضم لـ80% من مساحة “المزارع” بعد أحاطتها بالأسلاك الشائكة والمكهربة, وقد أدت هذه العملية فعلياً إلى تدمير 1070 مسكناً في هذه “المزارع”, وإلى طرد 400 عائلة كانت تسكنها بشكل دائم و500 عائلة كانت تقيم فيها موسمياً, وأدّت إلى منع 6000 عائلة من استثمار ملكياتها فيها.
وبعدما استكملت إسرائيل ضم هذه “المزارع”, عمدت في سنة 1985 إلى بناء ثلاث مستعمرات, وضع حجر الأساس لها الحاخام الإسرائيلي “مئير كاهانا”, وقد خصّصت مستعمرتان, الأولى في “رويسة النعمان” والثانية في “زبدين”, لتوطين اليهود “الفلاشا”, فيما خُصّصت المستعمرة الثالثة في خراج مزرعة “مراح الملول” للسياحة والتزلج.
وقد تمثّلت آخر خطوة إسرائيلية في إحكام السيطرة على كامل “المزارع”, بطرد ما تبقّى فيها من سكان, عن طريق تخييرهم ما بين ترك هذه “المزارع” وإخلائها قسراً خلال مدة لا تتجاوز العشرة أيام, وبين الموافقة على إمضاء صكوك البيع وقبض التعويضات والمغادرة, مع بلاغ حاسم في هذا الأمر: “سواء قبضتم أم لم تقبضوا. إسرائيل قررت ضم “المزارع”. فقد صدر قرار عن القيادة العسكرية يقضي بضم “المزارع”. جوبه هذا العرض برفض قاطع. وفي صباح 12نيسان 1989 نفّذت إسرائيل تهديدها وجمعت القلة الباقية من السكان (60 عائلة) في حدود الـ300 شخص. كرر القائد الإسرائيلي موقف إسرائيل طالباً منهم الموافقة على عرضه السابق, بضرورة القبول بالبدل المالي عن أملاكهم. رفض الأهالي مجدداً, وعلى وقع إطلاق النار, غادر الأهالي على البغال إلى “شبعا” عبر مسالك جبلية وعرة, دون أن تنفع في ردّهم تحركات وزارة الخارجية التي أرسلت تعليماتها إلى مندوب لبنان الدائم بضرورة الاتصالات لتأمين ضغط دولي من أجل وقف الإنذار, حتى “لو استلزم الأمر دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الانعقاد وبصورة طارئة في حال تم ذلك”.
لكن الأمر تمّ, واستتم لاحقاً, وبالرغم من شكوى عاجلة ثانية ضد إسرائيل, فقد تابعت خطواتها بضمّ مزرعتي “بسطرة” و”فشكول” آخر حبات “مزارع شبعا”, وإدخالهما مع غيرهما من المناطق البتراء من “العرقوب”, ضمن الحزام الذي يزنّرها بدءاً من قرية “الغجر” ­ “المجيدية” وصولاً إلى امتداد الطرف الغربي “لمزارع شبعا” مروراً بخراج بلدة “الماري”.
ومما يتوجب الإشارة إليه في الحديث عن مزارع “شبعا”, هو أنه مع إقدام إسرائيل باكراً على احتلال هذه “المزارع”, ومنذ العام 1967, فإن الإشارة الرسمية الأولى عن احتلالها كانت في الكتاب الذي أعدّته وزارة الإعلام عام 1982 “لبنان, مأساة وصمود”. على هذه القاعدة من تناسي الدولة, كان أهالي “المزارع” يتابعون تحرّكهم في اتجاهين: الأوّل ويهدف إلى الحصول على اعتراف من الدولة اللبنانية بأن “مزارعها” محتّة, وبأنها بالتالي مشمولة بقرارات الأمم المتحدة الداعية إلى انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي اللبنانية المحتلة وتحديداً القرار 425([52]).
أما اتجاه العمل الثاني في لقاءات أهالي “المزارع” مع المسؤولين اللبنانيين, فهو تأكيد ملكيتهم لمزارعهم. وكانت ثمرة ذلك أن طلبت السلطات اللبنانية بعدما باشرت إسرائيل بمسح هذه “المزارع” وطرد السكان منها, من كلّ من له أملاك فيها, أن يبلغ أسمه والمساحة التي احتلّت من أملاكه واسم هذه الأراضي, وفتحت لذلك سجلات في مخفر درك “شبعا”. استمرّ المخفر في تسجيل الأسماء وإجراء الإحصاءات تلك حوالى 3 أشهر... وقد “ثبت أن أصحاب هذه “المزارع” لديهم شهادات قيد لأملاكهم من أمين السجل العقاري في “صيدا”. ويعود تاريخ هذه الملكيات إلى العهد العثماني وإلى سنوات 1947, 1950, 1952, 1954, 1956”([53]).

إن الوثائق اللبنانية المقدمة من قبل الحكومة اللبنانية, بصفة رسمية, والتي تحاول فيها أن تبلغ الأمم المتحدة عن لبنانية هذه “المزارع”, وأهم هذه الوثائق الكتاب الموجه من قِبل رئيس الحكومة السابق “سليم الحص”, إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة كوفي أنان([54]), هذه الوثائق أصبحت اليوم غير ذات وزن في مهمتها تلك, بعد البلاغات السورية وتأكيدها لبنانية هذه “المزارع”. ويأتي في مقدمة هذه البلاغات, ما ورد على لسان الرئيس السوري في خطابه في مؤتمر القمّة العربي المنعقد في القاهرة في تشرين الأول 2000. وآخرها كانت المذكّرة السورية التي رفعها في 24 تشرين الأوّل 2000, السيّد ميخائيل وهبه, مندوب سوريا في الأمم المتحدة. وهي أوّل وثيقة رسمية تصل محفوظات الأمم المتحدة حول هذا الموضوع, وقد جاءت رداً على رسالة إسرائيلية وجهت إلى مجلس الأمن في السابع من تشرين الأول تضمّنت تهديداً مبطّناً إلى سوريا, إثر أسر حزب الله الجنود الإسرائيليين الثلاثة في “مزارع شبعا”.
إن الصيغة المباشرة التي تطرح فيها هذه الوثيقة, انتساب “المزارع” إلى الحدود اللبنانية, لا تترك حول هذا الأمر شكوكاً أو لبوساً, إذ تقول: “إن الذي يهدّد الأمن والسلم في المنطقة هو استمرار تجاهل إسرائيل قرارات الشرعية الدولية, وبخاصة قراراي مجلس الأمن رقم 242 و338, وعدم استكمال انسحابها من الجنوب اللبناني إلى الحدود المعترف بها دولياً, بما في ذلك “مزارع شبعا”, واستمرار احتلاها للأراضي العربية بالقوة منذ حزيران 1967([55])”.
إن عدم الانسحاب الإسرائيلي من “مزارع شبعا”, لا يجد قواعده في ترسيمات بعض الخرائط الجغرافية الموجودة, والتي تجعل هذه المزارع تتقلّب ما بين جانبي الحدود اللبنانية والسورية, وهو أمر يبدو بالمطلق, وكأن لا دخل لإسرائيل في الوقوف عنده.
ومن جهتها, لا ترى الأدبيات الحدودية الإسرائيلية, والتي جاءت على أقلام أكاديميين “إسرائيليين” ما يُبعد منطقة المزارع عن حدّها اللبناني. لنقرأ ما يكتبه البروفيسور الإسرائيلي موشيه برافر حول خط الحدود “الإسرائيلي”, اللبناني, السوري:
“في إحدى الخرائط المرسومة عام 1932 يبدو مكان التقاء الحدود الإسرائيلية السورية اسفل جبل الشيخ, على بُعد مئات من الأمتار شمال قرية “بانياس”, ويمتدّ من هناك في خط مباشر تقريباً لمرتفعات الجبل.
وعلى ضوء هذه الخريطة, فإن المناطق الواقعة بين مجرى “نهر الحاصباني”, وبين جنوب “جبل الشيخ” تعود جميعها للسيادة اللبنانية. في حين أن هناك خرائط أخرى تؤكد على أن هذه المنطقة تعود للسيادة السورية, الأمر الذي أثار الكثير من الشكوك والخلافات بين الدولتين حول مكان الحدود الدقيق بينهما, وإثر حصولهما على الاستقلال...
وفي أعلى جبل “دوف” يتجه الخط الحدودي شرقاً, متسلّقاً حتى ارتفاع ألفي متر حتى يلتقي بخط فصل القوات, الذي هو الآن خط الحدود الحالية بين “إسرائيل” وسوريا ­ ويصل إلى خط الحدود الإسرائيلي اللبناني هنا إلى أقصى طرفه الشمالي.
وباستمرار سير الحدود نحو الشمال, يصبح بمثابة حدود بين لبنان وسوريا, والتي تصل حتى أعالي “جبل الشيخ” ­ على ارتفاع 2814 متراً ­ وتسير على طول المنطقة المائية العازلة بين الوديان المندفعة غرباً نحو الحاصباني ونهر الأردن, ونهر الليطاني, وتلك المتدفقة شرقاً نحو حوض دمشق.
ويبلغ طول هذا القطاع الحدودي ­ الممتد من نهر الحاصباني وحتى نقطة التقاء الحدود السورية الإسرائيلية الحالية فوق أعالي “جبل الشيخ” ­ إلى حوالي 22 كلم. بشكل يجعل طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية يصل بشكل شامل إلى حوالي مائة كيلومتر([56])”.
إن عدم الانسحاب الإسرائيلي من “مزارع شبعا”, لا يجد قواعده في ترسيمات بعض الخرائط الجغرافية أو في بعض الاعتبارات المتداولة والتي تجعل هذه “المزارع” متقلبة ما بين جانبي الحدود اللبنانية والسورية, وهو أمر لا دخل لإسرائيل, بالمطلق بالوقوف عنده أو توليه. إن عدم الانسحاب هذا هو رغبة جامحة في البقاء في بورصة العلاقات الإقليمية بأسهمها الستراتيجية والمائية والأمنية ليس غير.

ثالثاً: استعادة “شريعة” المياه:
يبدو الحديث في إسرائيل والمياه, لزوم ما لا يلزم في الحديث عن المطامع التوسعية الحدودية الإسرائيلية. وهي مطامع لم تتأخر في الظهور منذ أواخر القرن الماضي, وقد دامت حتى أواخر القرن الحالي ترويسة في المواقف السياسية الإسرائيلية, حتى باتت هذه الأطماع, في عرف اللبنانيين, في موقع القضية المفتوحة على الدوام في حالتي السلم والحرب, إن على مستوى الصراع في المنطقة و”فراغ العين” الإسرائيلية الدائم إلى المياه, أم على المستوى المحلّي اللبناني, والمتمثل بتجميد خطط الدولة لاستثمارها نهر الليطاني. وقد بات أي عدوان عسكري إسرائيلي, أو حتى أي تحرك عسكري, يقوم في نظر الكثيرين من اللبنانيين على قاعدة الحاجة الإسرائيلية إلى المياه, أكثر منه جزءاً من منظومة عدوانية إسرائيلية تتحكم بموقع إسرائيل من قضايا المنطقة عموماً, وقد تشكّل المياه واحدة من عوارضها الحية المباشرة.
وبدورها كانت الوقوعات والأحداث الحاصلة بدءاً من 1978, تزيد من مخاوف اللبنانيين عموماً, والجنوبيين خصوصاً. نسوق على سبيل المثال لا الحصر, اكتشاف ثغرة تمتد على مسافة 10 كلم في مواجهة منطقة “الخردلي” لا تشغلها قوات الطوارئ, وهي تقابل النقطة الأقل عرضاً ما بين مجرى “الليطاني” وخط الحدود الجنوبية([57]). وكذلك تسييج إسرائيل لنهري “الحاصباني” و”الوزاني” ومحاصرة مجاريهما. وإقدامها في أوائل عدوانها 1982, “ولدى وصولها إلى “بحيرة القرعون”, على الاستيلاء على كافة المعلومات عن “سد القرعون” والطقس ومجرى النهر وأخذها”([58]). وإنشائها مديرية لنهر الليطاني” اللبنانية(58). وطلبها من المزارعين اللبنانيين بعد اجتياح آذار 1978, عدم فتح آبار ارتوازية من دون إذنها. ثم يأتي الموضوع الأخير, الذي ظل مادة تداول سياسي وإعلامي لسنوات, أعني به ما تردد عن حفر النفق اللازم لجر مياه الليطاني باتجاه “بحيرة طبريا”.
تقودنا هذه الملاحظات والمتابعات إلى القول بضرورة “اكتشاف” الأنهر اللبنانية (الليطاني والحاصباني والوزاني), لسحبها من بورصة التداول المائي في المخططات الإسرائيلية, والتي أبرزتها تكراراً في مداولاتها في مؤتمرات الدول المتعددة ومؤتمرات “الشراكة المتوسطية” في “الرباط” و”عمان” و”الدوحة”, أو كما برزت مطلع التسعينات مع طلب البنك الدولي من لبنان, الموافقة على بيع إسرائيل من مياه الليطاني ما مقداره 500 مليون متر مكعب سنوياً, أي ما يعادل 5/7 من طاقة النهر, مقابل 85 سنتاً أو دولاراً واحداً للمتر المكعب الواحد. “هذا وتكمن المناورة في تخطيط الحكومة الإسرائيلية لبيع المتر المكعب الذي تشتريه بهذا الثمن البخس من القطاعات الخاصة في إسرائيل, وهذه القطاعات مستعدة لدفع مبلغ يصل إلى 16$ للمتر المكعب الواحد, فتكون الحكومة الإسرائيلية أمّنت بذلك ربحاً تجارياً وافراً... لقد وضع لبنان نفسه في مأزق صعب, إذ أعطى للإسرائيليين الحرية في تقدير سعر مياهه وحجمها. وفي حين تطلب الحكومة اللبنانية مساعدات مالية من البنك الدولي وسواه من مصادر التمويل التابعة لحكومات البلدان الصناعية لبناء ما هدمته الحرب, والقيام بمشاريع إنمائية شاملة, فإنها, أي الحكومة اللبنانية, لن تكون في وضع يسمح لها برفض أي عرض يقدمه الأميركي أو الإسرائيلي أو غيرها بدفع 500 مليون $ في العام, لقاء 500 مليون متر مكعب من المياه, من دون النيل من صدقية الحكم اللبناني”([59]).
نقول بإعادة اكتشاف هذه الأنهر والتثبت منها, لأن مياهها, في مجاريها داخل الأراضي اللبنانية أو في مصباتها اللبنانية (الليطاني), أو الفلسطينية (الحاصباني والوزاني), تكرج بلا سدود مانعة, وبلا فائدة أو مردود اقتصادي مبرمج, وبقاؤها خارج أية سياسة مائية اقتصادية واجتماعية مدروسة, يشكل “شاطئ الأمان” الذي تستلقي عليه إسرائيل في مطالبتها اقتسام مياه الليطاني, دفعاً لشحّ يلوح من بعيد, سوف يجفف عروق اقتصادها وزراعتها وعروق سكانها, والذي لن تجد له الدواء الناجع إلا بترياق الليطاني وروافد الجولان ومرتفعات “شبعا” ومزارعها, بمياهها المهدورة جميعاً عند أقدام مصباتها, والتي لا تزيد في فائدتها عن بلل شفاه المواطنين اللبنانيين القريبين من ضفافها ليس غير. أي أن هذه الأنهار لا تلزم للبنان, إلا في الحد الأدنى من الاستثمار. وعلى هذا الواقع يقوم الادعاء الإسرائيلي الدائم “بحقوق” في هذه المياه.
إن بعث نهر الليطاني من جديد, مصدر حياة ريانة في الاقتصاد والاجتماع اللبنانيين([60]), وليس كما هو الآن, وكما يرى محقاً, جعفر شرف الدين, وزير الموارد المائية والكهربائية الأسبق “مشروعاً لإنتاج وبيع الكهرباء يوازن موازنته ويسدد ديونه ليس إلاّ”([61]), بعث هذا المشروع يثبت كم هي حاجة لبنان لكلّ نقطة من مياه هذا النهر, وهذا ما يشكل الرد العملي على ما يتوجب على لبنان تحقيقه لاستعادة “الليطاني” من أحلام الترسيمات الحدودية الإسرائيلية “لأرضها ومياهها”, والتي ستكون بلا شك مادة أولى في موائد أية مفاوضات مقبلة للوضع النهائي ما بين لبنان (وسوريا) وإسرائيل.
ويجدر هنا أن نشير إلى إعلان مصلحة الليطاني, أنها قد أنجزت في كانون الأوّل 1993 مخططاً عاماً لتجهيز حوض الليطاني, وهو مشروع يضع حداً لحرب المناسيب (ما بين منسوب 600 م و800 م) و”نقارها” الذي طالما أورث, إلى فقر التمويل, توقفاً وإحجاماً عن التنفيذ. وتتراوح مدّة تنفيذ هذا المشروع ما بين الـ5 إلى 10 سنوات بكلفة إجمالية تصل إلى 871 مليون دولار. “وقد أصبح هذا المخطط في عهدة مجلس الوزراء, وكان من المتوقع أن ينطلق تنفيذه معوضاً غياب 20 سنة”([62]).

العودة إلى الترسيم أم العودة عن مواقع:
إن المطالبة بترسيم جدي ودقيق للحدود الجنوبية بموجب الاتفاقات الدولية, هو ما يجب أن يكون في لب المطالبة اللبنانية. أي أنه يجب أن تكون الحدود كحالة جغرافية ­ سياسية مترابطة كاملة, لا أن تكون المطالب الحدودية مطالب على “القطعة”, سواء أكانت هذه “القطعة” على قدر موقع أو تلّة أو كانت كبيرة على مساحة “القرى السبع” أو “مزارع شبعا”, أي أنه لا ينبغي علينا قراءة الحدود اللبنانية ­ الإسرائيلية, بموجب الاقتطاعات من الأراضي اللبنانية التي حصلتها إسرائيل بعد قيامها, وهو ما تحاول الأدبيات اللبنانية الحدودية في تبيانه دائماً في حديثها عن سياسة إسرائيل الحدودية ومطامعها, لأن هذه الاقتطاعات تتم في حضن خطايا الترسيم الحدودي لتاريخ 7/3/1923, أي أن إسرائيل تنطلق من أرض لبنانية لاقتطاع أرض لبنانية جديدة.
فالبحث على الأرض بترسيم 7/3/1923, يرينا أن الترسيم يخالف تماماً إعلان اتفاق باريس الحدودي 1920, فافتراق ما هو مرسوم في إعلان الحدود عن ترسيماته العملية يمثل بعضاً من ميل ميزان العلاقة البريطانية الفرنسية لصالح بريطانيا وسياستها في إمداد الخطة الصهيونية بمواقع وأراضٍ جديدة لحساب “أرض إسرائيل” العتيدة, مما أوجب على “المسّاح” الفرنسي خفة وتنازلات وقت الترسيم الصحيح, وهي خفة لم تجد مراجعة جديدة لاحقة من “مسّاحي” لبنان مع اتفاقات الهدنة عام 1949, حيث كانت الكفة الإسرائيلية راجحة تماماً في الميزانين العسكري والسياسي.
إن سرعة حصول الترسيمات الحدودية السابقة, لا تقود بنا إلى القول ببساطة مشاكل الحدود ما بين لبنان وإسرائيل, والتي لم يستلزم ترسيمها وتحديدها سنة 1949 أكثر من أيام أربعة, إذ بدأت المفاوضات في 5 كانون الأوّل وانتهت في 12 منه, مع تعطيل ثلاثة أيام بناء على طلب إسرائيل   ([63]). هذا في الوقت الذي تدوم فيه ترسيمات حدود ما بين دول جيران حسن, أو بين دول شقيقات سنوات وسنوات تمر عبرها علاقات هذه الدول بأزمات قد تصل إلى حد الحروب الدموية.
يجب الانطلاق في معالجة الملف الحدودي على قاعدة شرعية الاتفاقات الدولية, ومن باب الترسيم الصحيح لهذه الحدود بموجب تلك الاتفاقات, وإذا ما استلزم الأمر عن طريق مؤسسات وشركات مسح دولية محلّفة تعمل بالتنسيق مع فريق من الضبّاط اللبنانيين. خصوصاً وأن تجربة الفريق الذي كلّف بتحديد خط الانسحاب (الخط الأزرق) بعد تحرير الجنوب والبقاع الغربي في أيار 2000, أثبت كفاءة واضحة وتمكّن بعد ثلاثة أشهر من العمل من استعادة 17 مليون متراً مربعاً من الأرض, مع الاحتفاظ بحقوق الاعتراف حيال كلّ ما هو نافر بين الحدود اللبنانية الدولية والخط الأزرق الوهمي الذي رسمته الأمم المتحدة.
هذا مع الإشارة إلى أن العمل الذي قام به فريق الضبّاط اللبنانيين, لا يعتبر ترسيماً للحدود بحسب ما تعنيه كلمة “ترسيم”.
إن هذا الباب “الشرعي” في المطالبة, هو أكثر الأبواب ضماناً وعصمة أمام الريح الحدودية الإسرائيلية.فإسرائيل لم تنظر مرة إلى قضية الحدود سوى أنها من تقنيات السيطرة على موازين السياسة والاقتصاد والاجتماع. وهذا ما يشخصه بدقة وصراحة وصدق رئيس وزراء إسرائيل الأول “دافيد بن غوريون”, في رده على مذكرة أميركية رُفعت إليه في 8/9/1948, وفيها تعرب الولايات المتحدة عن تمنياتها لإسرائيل قوية بناءة داخل حدود (أرض) إسرائيل, وتريد (الولايات المتحدة) في الوقت نفسه, أن تعرف من إسرائيل وبسرية متناهية, رد الحكومة الإسرائيلية المؤقتة على الأفكار الحدودية الواردة في المذكرة”, في رده آنذاك يقول بن غوريون:
“إن الحدود Trying- on for size (أي تجربة قياس ثوب في محل تجاري)([64]). وجسم إسرائيل الحدودي “لبّيس”.


[1] نسوق على سبيل المثال الخلافات الحدودية ما بين الإمارات العربية المنضوية داخل دولة الإمارات العربية المتحدة.

[2] خليفة, عصام, لبنان, المياه والحدود, بيروت, 1996, ص 81.

[3] لفت إشراف هذا الجبل نظر رحالة القرن التاسع عشر “وفي الشمال الشرقي على الصعيد الذي يفصل مياه “الحولة” عن البحر المتوسط يقع جبل عداثر, وهو قمة مخروطية الشكل, منعزلة عن البحر جنوبي رميش”. راجع: روبنصون, أدوار, يوميات في لبنان, ج1, بيروت, دار المكشوف, 1048, ص 186.

[4] راجع: صايغ, أنيس, بلدانية فلسطين المحتلة, مركز الأبحاث الفلسطيني, بيروت, 1968, (الأسماء مرتبة حسب الأحرف الأبـجدية).

[5] راجع: “حرب فلسطين 1947 ­ 1948: الرواية الرسمية الإسرائيلية, مؤسسة الدراسات الفلسطينية, بيروت, 1986, ص 660. وتتابع الرواية الرسمية الإسرائيلية أن لإسرائيل في مفاوضات الهدنة اللاحقة, حاولت الحصول على تنازلات من سوريا لقاء إخلاء هذه القرى, دون أن تصيب أي نجاح”. راجع: ص 705.

[6] راجع: بن غوريون, يوميات الحرب (1947 ­ 1948), ترجمه عن العبرية أحمد خليفة وسمير جبور, مؤسسة الدراسات الفلسطينية, بيروت, 1993, ص 673.

[7] راجع: الهندي, هاني, جيش الإنقاذ (1947 ­ 1949), شؤون فلسطينية, العدد 24, آب/أغسطس, 1973.

[8] بشأن معركة “المالكية” راجع: حسن الريس, فايز, “القرى السبع الجنوبية” (بيروت: مؤسسة الوفاء, 1985), ص 101 وما بعدها. كذلك راجع: وزارة الدفاع الوطني ­ الجيش اللبناني ومؤسسة الدراسات الفلسطينية, “القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني” (بيروت, 1973), ص 553 وما بعدها.

[9] لمزيد من التفصيلات وأسماء الضحايا, راجع: قاسم, حسن, “حولا قرية منسية”, رسالة أُعدت لنيل شهادة الجدارة (بيروت: الجامعة اللبنانية, معهد العلوم الاجتماعية ­ الفرع الأول, 1989 ­ 1990), ملحق رقم 2. راجع كذلك: كاتيا سرور, “شهادات من جبل عامل”. جريدة السفير, 25/2/1983.

[10] راجع: غازي فلاح, “الجليل ومخططات التهويد” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية, 1993), ص 24.

[11] راجع: المصدر نفسه, ص 28.

[12] بن ­ غوريون, مصدر سبق ذكره, ص 610.

[13] حول هذه الرؤى الصهيونية والإسرائيلية , راجع: خليفة, عصام, لبنان..., ص 61 وما بعدها.

[14] برافر, موشيه, ص 213.

[15] برافر, موشيه, ص 212.

[16] من كلام رئيس الجمهورية, راجع: السفير, 22/7/2000.

[17] صحف 22/7/2000.

[18] راجع: “النهار”, 22/7/2000.

[19] صحف 8/تموز/2000.

[20] صحف 6/أيار/2000.

[21] 6 نقاط يعتبر لبنان أنها تشكل انتهاكاً للحدود الدولية. وهناك 7 نقاط في عرف إسرائيل. صحف 8/تموز/2000.

[22] صحف 8/7/2000.

[23] معاون قائد اليونيفل.

[24] راجع صحف 8/تموز/2000.

[25] تكاد الحدود المصرية الفلسطينية (210 كلم) أن تكون خلّواً من أي وجود بشري ثابت, اللهم سوى عدد محدود جداً من قبائل متنقلة عبرها ما بين نقطتي “رفح” و”خليج العقبة”. كذلك فإن الحدود الفلسطينية مع الأردن624 كلم, لا تعرف وجوداً بشرياً ذا كثافة, إذ لا تزيد التجمعات السكانية على طول الخط الحدودي الفلسطيني الأردني, على الـ71 تجمعاً, جلّها هيئات قروية صغيرة العدد.

[26] نيلس يان, “تعيين الحدود الشمالية لفلسطين في الأعوام 1918 ­ 1920”. مجلة شؤون فلسطينية, عدد 52, ك 1, ص92.

[27] الدباغ, مصطفى, فلسطين بلادنا, ج 7, قسم 2, ص 164, و337.

[28] زعيتر, أكرم, وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية, 1918 ­ 1939, بيروت, مؤسسة الدراسات الفلسطينية, ط2, 1984, ص 503.

[29] “تيغارت” ضابط بريطاني خدم في الهند وقد نجح هناك في القضاء على حركات التمرد بعزلها في مناطق مشرّطة.

[30] برافر موشيه, حدود أرض إسرائيل, دار الجليل, عمان, 1982, ص 131.

[31] ­ برافر موشيه, حدود دولة إسرائيل. في الماضي والحاضر والمستقبل. الجوانب السياسية والجغرافية, ترجمة بدر عقيلي, دار الجيل, عمان, 1982. وهو الكتاب الإسرائيلي الوحيد الذي يبحث في حدود “دولة إسرائيل”. مؤلفه بروفيسور في جامعة تل أبيب. وقد جاء هذا الكتاب, كما يقول مؤلفه “ثمرة معلومات جمعها من هنا وهناك بشق النفس, وقد وضعتها تحت تصرف وزارة الخارجية الإسرائيلية منذ 30 سنة. ولكن الوزارة لم تعرها أي اهتمام. نظراً لأن القضية لم تكن آنذاك مثار أو قيد البحث.
ونحن سنضرب صفحاً عن خلفية الكاتب الصهيونية, ذلك أنه ينطلق من اعتبار “أرض إسرائيل” حقيقة مسلمة غير قابلة للنقاش. ويحاول أن يفسر تصور وضعية “أرض إسرائيل” انطلاقاً من نظريات الحدود المختلفة. فلا مجال للتشكيك “بدولة إسرائيل” وكيفية قيامها والأهداف التي صارت من أجلها, والطبيعة السياسية لعملية إقامة هذه الدولة. بل ينطلق من اعتبار أن “دولة إسرائيل” حقيقة قائمة منذ ما قبل الميلاد, وما زالت حيث مرّت بمراحل مختلفة إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن, وأن “أرض إسرائيل” التي أُقيم على جزء منها “الدولة” في بعض المراحل هي الأخرى أرض منزلة لليهود منذ القدم وتم “التطاول” عليها في بعض مراحل التاريخ من قِبل الغزاة...!
ولا تخفي المصطلحات التي يوظفها الكاتب في خدمة أغراضه وهو يحاول إثبات حدود إسرائيل, فذلك ما يمكن أن يتجاوزه القارئ. فالاستعاضة عن اسم فلسطين بـ”أرض إسرائيل” لا تخرج عن المألوف في الفكر الصهيوني.

[32] ­ راجع: ص 109 ­ 134. المقاطع بين مزدوجين مأخوذة بحرفيتها, نشير للصفحات عند الضرورة. (والتشديد بالحرف الأسود مني).

[33] راجع: ص 119.

[34] تبلغ هذه الحواضر المأهولة الـ 30 ما بين قرية ومزرعة وهي: “ابل القمح, السنبرية, الخصاص, المنصورة, الزرق التحتاني, الزرق الفوقاني, الخالصة, لزازة, قيطية, العابسية, الناعمة, الدوارة, الصالحية, الزاوية, صلحة, المالكية, قدس, النبي يوشع, هونين, المنارة, المنشية, دفنه, المطلة, خان الدوير, تل حاي, جاحولا, الشوكة التحتا, البويزية, ميس, كفر برعم”. راجع: الدباغ, مصطفى مراد, بلادنا فلسطين, بيروت, دار الطليعة, 1974, ص 142 , 144 , 146 , 149 , 150 , 153 , 154 , 155 , 158, 161, 219, 222, 223, 227, 234,229, 236, 237.

[35] برافر, ص 120. راجع كذلك: ص 128 و129.

[36] برافر, ص 122.

[37] قرية سعسع, دمرت عام 1948. تأسس مكانها كيبوتز من مهاجرين من الولايات المتحدة الأميركية ومن كندا. لذلك يسمى بالكيبوتز الأميركي. مقابل بلدة رميش. راجع: صايغ, أنيس, بلدانية فلسطين المحتلة, منشورات مركز الأبحاث الفلسطيني, بيروت, لبنان, 1968, ص 175.

[38] قرية “كفر برعم” العربية. دُمرت عام 1948: وفي مقاطعة “صفد” بالقرب من الحدود اللبنانية مقابل بلدة “يارون”. راجع: أعلاه ص 55 .

[39] برافر, ص 123.

[40] منطقة تعرف تاريخياً “بتل القاضي”. وكان فيها قرية عربية صغيرة أسمها “خان الدوير”. يرتفع 525 متراً عن سطح البحر. راجع: أعلاه ص 145.

[41] يمتلك أهالي نبع “الدان” أو “اللدان” الذي يتفجر نبعاً غزيراً من “تل القاضي” وهناك لدى عائلات عديدة من “شبعا” ملكية صادرة عن مأمور التسوية في قضاء “صفد”, “لواء الجليل” و”عكا”, بموجب قانون تسوية “حقوق ملكية” باللغات الثلاث العربية والإنكليزية والعبرية مؤرخة في 26 كانون الثاني 1940, و”تل القاضي” جزء من عقار مساحته 400 دونم تابع “لشبعا”. راجع: “الحياة” 18/أيلول/2000.

[42] راجع: ص 124.

[43] مستعمرة المنارة وكيبوتز راميم أعلى كيبوتز في “إسرائيل”. أسسه يهود مهاجرون من ألمانيا وبولندا.

[44] راجع: ص 132.

[45] راجع: بن غوريون, يوميات الحرب (1947 ­ 1949), مؤسسة الدراسات الفلسطينية, بيروت, 1993, ص 397 ­ 722.

[46] راجع: خليفة, عصام, لبنان, المياه والحدود, ص 85.

[47] برافر, موشيه, ص 157 ­ 158.

[48] حول هذه الوثائق راجع دراسة عصام خليفة, النهار, 20/6/2000.

[49] برافر, موشيه, مرجع مذكور, ص 129 ­ 130.

[50] نذكر هنا الكلمة التي ذهبت مثلاً في الجنوب, حول امتناع الأمير خالد شهاب عن بيع أراضيه من الشركات العقارية الصهيونية, رغم حاجته إلى الأموال: “جاع وما باع”.

[51] راجع: “السفير”, 22/4/1989.

[52] راجع: “الكفاح العربي”, العدد 245, ص 19 وما بعدها. العدد 350, ص 16 وما بعدها. راجع كذلك: “بيروت المساء”, 1/5/1985, ص 25. و26/8/1985. وكذلك “النهار”, 2/4/1982, و”السفير” 28/4/1989 و3/5/1989. وكذلك صحف 12/7/1997.

[53] راجع: “السفير”, 16/3/1996.

[54] راجع: صحف 20/5/2000, وحول بعض الوثائق المتعلقة بمزارع شبعا. راجع: السفير 16/5/2000 ودراسة عصام خليفة, “السفير”, 19/5/2000.

[55] راجع: “المستقبل”, 21/11/2000 و23/11/2000.

[56] برافر, موشيه, حدود أرض لإسرائيل, ص 186 ­ 187.

[57] تم كشف هذه الثغرة أواخر سنة 1981 من قبل العميد ريمون اده.

[58] راجع ستورك, جو, “المياه واستراتيجية الاحتلال الإسرائيلي” دراسة منشورة في “ميريت ريبورت”, عدد آب, 1983, “السفير”, 12/8/1983.

[59] الاكسبرس, نقلاً عن “السفير”, 14/8/1983. كذلك راجع: أبو ملحم رياض, “السيطرة على المياه خطة لإسرائيلية قديمة”, “الحياة”, 25/8/1996.

[60] راجع: زغيب, فيليب, “النهار”, 26/2/1996. راجع كذلك: شريف موسى, “البنك الدولي ومياه الليطاني”, “الحياة”, 25/9/1996.

[61] رداً على تحركات الإمام موسى الصدر في الجنوب, كان الكلام الرسمي في سنتي 1974 ­ 1975, على طلاقته في التعبير عن قرب المباشرة في تلزيم العمل في مشروع الليطاني, فقد قرر مجلس الوزراء في 13 آذار 1974 تخصيص مبلغ 191 مليون ل.ل. للمرحلة الأولى من هذا المشروع. وكان ذلك كما ترى جريدة “النهار” استباقاً لمهرجان الإمام الصدر (”النهار”, 14/3/1974). وفي 9 آب 1974, حثّ رئيس الوزراء المسؤولين المعنيين في مصلحة الليطاني على إنجاز الدراسات اللازمة وتسليمها له قبل 20 آب 1974, على أساس أن يكون التنفيذ بداية 1975 (”السفير”, 10/8/1974). ثم انتقل الوعد الرسمي ليرجح ضربة المعول الأولى في بداية سنة 1976 “ويرجح أن يتم التلزيم لشركة روسية أو أميركية, وإسرائيل لا يمكنها قصف المنشآت لأسباب سياسية معروفة”. راجع: “السفير”, 10/2/1975.[62] شرف الدين, جعفر, “الليطاني والنهر المكسور: قراءة سياسية لواقع تجهيزي”, “السفير”, 18/7/1994.

[63] راجع: “النهار”, 2/6/1994.

[64] راجع حول هذه المداولات, خليفة, عصام, لبنان, المياه والحدود 1916 ­ 1975, بيروت, 1996, ص 28.