من الأرض

من رفع الركام وأعمال الترميم إلى حماية هويتنا الثقافية
إعداد: ندين البلعة خيرالله

خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، عمل فوج الأشغال المستقل على مواجهة الدمار متّبعًا مسارًا مزدوجًا: رفع الأنقاض والركام وفتح الطرقات وترميم بعض المراكز العسكرية، وحماية المعالم الأثرية التي تحمل ذاكرة الوطن وهويته. فالعدو لم يكتفِ باستهداف المباني السكنية والمنشآت العامة والمراكز العسكرية، بل شمل عدوانه عدة مواقع أثرية وتاريخية في محاولة ممنهجة لمحو الإرث الثقافي الذي يجسد روح لبنان عبر العصور.

المسؤولية التي يتحمّلها فوج الأشغال المستقل، دفعته إلى مواجهة تحديات ميدانية جمّة وتحقيق إنجازات استثنائية على صعيد حماية الهوية الوطنية، وفق ما يوضح لنا قائد الفوج العميد الركن يوسف حيدر، وذلك إضافة إلى المسؤوليات الأخرى التي يُعنى بها الفوج بشكلٍ أساسي وعضوي، كإزالة الركام وفتح الممرات والطرقات المؤدية إلى المراكز العسكرية وأحياء البلدات الداخلية، وتمكين وحدات الجيش المنتشرة من التمركز في مواقعها الأمامية بعد تنفيذ أعمال التأهيل اللازمة من قبل سرايا أشغال الفوج لدعم قطاع جنوب الليطاني في تنفيذ مهمته وفق مندرجات القرار 1701.

في هذه السطور، نفتح نافذة على جهود عسكريين لا يحملون السلاح فقط، بل يتسلحون أيضًا بمعداتهم وشجاعتهم لمواجهة الدمار، وللحفاظ على إرث ثقافي عريق.

 

المهمة الأصعب

كما سبق وذكرنا، كانت سرايا الفوج تعمل على الأرض خلال العدوان الإسرائيلي وقد تعرّض بعض عناصرها للإصابة خلال أداء المهمات الموكلة إليهم. أمّا مهمة تعزيز الانتشار التي بدأت فور إعلان وقف إطلاق النار فهي واحدة من أكثر المهمات التي أوكلت إلى فوج الأشغال المستقل تعقيدًا. وبموجب أمر العمليات، قُسّمت هذه المهمة إلى ثلاث مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى: الاستطلاع الميداني في الجنوب، حيث تمّ مسح المناطق المتضررة وتقييم الأضرار وتحديد الاحتياجات الميدانية. كان هذا الاستطلاع أساسًا لوضع خطة الانتشار، مما أتاح للفوج الاستعداد للتعامل مع التحديات المقبلة بشكل منظم.

المرحلة الثانية: فتح الطرقات والانتشار وأعمال الترميم، وقد انتشرت سرايا الأشغال في القطاعات الثلاثة: الشرقي، الغربي، والأوسط. وتمركزت فرق العمل بفعالية من خلال سرايا متخصصة، شملت ثلاث سرايا أشغال وسرية الآليات الهندسية، إضافة إلى سرية القيادة والخدمة وغرفة عمليات متقدمة في ثكنة عصام شمعون- النبطية. وفي ظل الأضرار الواسعة، ركّزت الجهود على ترميم 73 مركزًا عسكريًا نشطًا تعرضت للدمار، بالإضافة إلى فتح الطرقات بين المراكز العسكرية وتأمين الممرات الحيوية باستخدام الآليات الهندسية كالجرافات والحفارات. كانت هذه العمليات بالغة الأهمية لتأمين حركة الوحدات العسكرية المنتشرة وإعادة التموضع في المناطق الأكثر فاعلية، ما عزز وجود الجيش وجهوزيته.

المرحلة الثالثة: إعادة البناء الشاملة، حيث من المقرر أن تبدأ هذه المرحلة بعد انتهاء مهلة الستين يومًا التي نصّ عليها اتفاق وقف إطلاق النار. تتطلب هذه المرحلة مواجهة الدمار الكبير المتبقي، والتركيز على ترميم المراكز المتضررة الأخرى التي لم يتمكن الجيش من العمل عليها خلال المرحلة السابقة.

واجه الفوج صعوبات كبيرة خلال هذه المهمة، وكان التعامل مع الذخائر غير المنفجرة من أبرز التحديات، إذ تطلّب الأمر تدخلًا مباشرًا من فوج الهندسة الذي أثبت كفاءته في إزالة المخاطر وتأمين المواقع للعمل. ورغم تعرض فوج الأشغال لاستهداف مباشر في أثناء نقل المعدات والآليات الهندسية، لم تُثنِ هذه الظروف الصعبة العسكريين عن إكمال مهماتهم. فقد أصيب ثلاثة عسكريين خلال نقل إحدى الجرافات إلى مرجعيون، لكن الفريق استمر في المهمة حتى إنجازها، وفق ما يوضح العميد الركن حيدر بنبرة ملؤها الفخر.

يواجه الفوج أيضًا تحديات لوجستية كبيرة، إذ انتشرت كل آلياته الثقيلة في مختلف المواقع، ولكن عزيمة العسكريين وإصرارهم على إنجاز المهمة يبقى هو العنوان.

 

مهمة بدأت قبل التصعيد

جهود الفوج في أثناء العدوان وبعده لا تُنسينا الإجراءات والخطوات الاستباقية التي قام بها، فمن نقل القطع الأثرية الفريدة من متحفَي موقعَي صيدا وصور الأثريّين إلى أماكن آمنة، إلى تطوير استراتيجيات لحماية القطع الأثرية غير المنقولة لمؤازرة وزارة الثقافة - المديرية العامة للآثار، تتجلّى رؤية واضحة لحماية إرث يمتد لآلاف السنين. وبينما كانت الاعتداءات تتوالى، كان فوج الأشغال حاضرًا ليس فقط لترميم وإعادة بناء ما تدمر، بل لتثبيت مواقع ثقافية لبنانية ضمن لوائح اليونيسكو تحت بند الحماية المعززة الدولية، في إنجاز غير مسبوق عالميًا على صعيد السرعة في رفع مستوى الحماية للمواقع من جهة، والموافقة على كل المواقع الأثرية التي تم طلب الحماية المعززة لها من جهة ثانية، الأمر الذي يعكس أهمية التراث اللبناني كإرث ثقافي عالمي.

تمّت عمليات الإخلاء الدقيقة في ظروف معقدة، واللافت أنّ فوج الأشغال المستقل لم ينتظر بدء الاعتداءات المباشرة على لبنان ليتحرك. فمنذ اللحظة الأولى لتصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، اتخذ الفوج خطوات استباقية لحماية ما لا يمكن تعويضه من التراث اللبناني. وبالتنسيق مع المديرية العامة للآثار، وبناءً على طلبها، انطلقت فرق الفوج نحو متحفَي صيدا وصور، وقامت بعمليات إخلاء دقيقة شملت القطع الأثرية المنقولة. هذه القطع التي لا مثيل لها على مستوى العالم، تم تأمينها ونقلها إلى أماكن آمنة.

 

التصدي للدمار الممنهج

إلى جانب عمليات الحماية الوقائية، وفي ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي واستهدافه العديد من المواقع الأثرية والتاريخية، نجح لبنان في تسجيل إنجاز استثنائي على المستوى الدولي. فقد اختارت وزارة الثقافة - المديرية العامة للآثار 34 موقعًا أثريًا لبنانيًا لإدراجها ضمن لائحة اليونيسكو تحت بند «الحماية المعززة» وعرضها في الأمم المتحدة. ومن جهته، أسهم الجيش اللبناني في هذا الإنجاز من خلال تحضير نموذج يتضمن الإطار القانوني الدولي الذي ينبغي الاستناد إليه (الفقرة 5.2 من اتفاقية لاهاي 1954 والبروتوكول الثاني للعام 1999، والمعتمد في حال الحروب والنزاعات المسلحة) وتوقيعه الملزم إرفاقه بالطلب اللبناني بأنّ المواقع غير مشغولة بقوى عسكرية ولا تُستخدم لأغراض عسكرية. كما عمّم الجيش لائحة No Strike List للمواقع المطلوب لها حماية معززة على جميع وحداته العسكرية بالإضافة إلى المرجعيات الدبلوماسية، وطلب من المديرية العامة للآثار إضافة مواقع أثرية أخرى إذا لزم الأمر. وبذلك وُضعت تحت الحماية المعززة جميع هذه المواقع التي لا تمثّل حضارة لبنان فقط، بل عدة حضارات من العالم، وخسارتها ليست خسارة وطنية فقط، بل خسارة عالمية، كما يقول العميد الركن حيدر.

 

خطوة استثنائية
قام فوج الأشغال المستقل بوضع خطة لحماية القطع الأثرية التي لا يمكن نقلها، إذ تمّ بالتعاون مع جمعية «بلادي » تجهيز المواد اللازمة لذلك، من أحجار Interlock «سريعة التركيب »، وأكياس رمل، وكسوة من الأقمشة الخاصة لعزل القطع الأثرية، وألواح ودعامات خشبية لحماية القطع الأثرية من الأضرار الجانبية Collateral Damage ، ووضعت المواد الأولية في مستودعات المتحف الوطني ومتحف سرسق، جاهزة لأي طارئ. ومع أنّ هذه المواد لم تُستخدم لغاية الآن، فالمهم
أنّها باتت متوافرة، وأنّ هذه الخطوة الاستثنائية قدمت نموذجًا لحماية المواقع والقطع الأثرية.

 

إرث محفوظ للأجيال القادمة

إلى جانب الجهود الميدانية، يعمل الفوج على بناء قدراته بشكل مستمر، سواء عبر تدريب عناصره أو التعاون مع جيوش وجهات دولية متخصصة. يتلقى عناصر الفوج تدريبات على أحدث تقنيات التدعيم، والترميم والحماية داخل مركزه التدريبي لحماية الممتلكات الثقافية والاستجابة للطوارئ CPPER، لضمان الاستعداد المستمر لأي تحدٍّ مستقبلي.

ويختم العميد الركن يوسف حيدر حديثه بالتأكيد على أن حماية التراث ليست خيارًا، بل واجبٌ، و«حين نستثمر في حماية آثارنا، نحن لا نحمي الماضي فقط، بل نحمي مستقبل أجيالنا وهويتنا في وجه أي محاولة لطمسها».

رغم حجم الدمار وتحديات الحرب، يشكّل فوج الأشغال المستقل رمزًا للصمود والتحدي في وجه آلة حرب لا تفرّق بين البشر والحجر، فالحفاظ على هوية لبنان الثقافية مسؤولية تقع على عاتق الجميع، والجيش اللبناني، بكفاءته وإبداعه، قادر على تحويل أصعب الظروف إلى إنجازات تُخلَّد في ذاكرة الوطن.

 

الحماية المعززة

تمكّن لبنان، بفضل جهود الجيش اللبناني- فوج الأشغال المستقل، ووزارة الثقافة -المديرية العامة للآثار، والدبلوماسية اللبنانية، من إدراج 34 موقعًا أثريًا دفعة واحدة على القائمة العالمية «للحماية المعززة». ويُعد هذا الإنجاز غير مسبوق، إذ تضم القائمة 55 موقعًا في العالم فقط، وعادة ما تشمل كل دولة موقعين أو ثلاثة كحد أقصى.

ترتبط موافقة «اليونيسكو» على منح الحماية المعزّزة للمواقع الأثرية بضوابط ومعايير صارمة وفق البروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي، وهي عبارة عن نظام خاص لحماية الممتلكات الثقافية ذات الأهمية الكبرى للبشرية في فترات النزاع المسلح.

يهدف هذا النظام إلى توفير حماية فعالة للممتلكات الثقافية من الأضرار أو التدمير المتعمّد الذي قد يحدث خلال النزاعات المسلحة، ويشمل حماية الممتلكات التي تتّسم بقيمة استثنائية للبشرية. وتستند الشروط اللازمة لإدراج الممتلكات الثقافية تحت نظام الحماية المعززة إلى أهمية المعلم الثقافي، إضافة إلى تمتعه بالحماية القانونية والإدارية على المستوى الوطني، وعدم استخدام الموقع لأغراض عسكرية أو كدرع لحماية أهداف عسكرية.

والمواقع اللبنانية التي أُدرجت على هذه القائمة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير هي: المتحف الوطني في بيروت، متحف سرسق، معبد مجدل عنجر الروماني، معبد حصن نيحا، معبد عين حرشا، موقع عنجر الأثري، جسر جب جنين الروماني، موقع مدينة صور، موقع رأس العين، قلعة شقيف - أرنون، معبد الهبارية - معبد بعل جاد، أم العمد، قلعة شقرا (دويبة)، قلعة دير كيفا، قلعة شمع، قلعة تبنين، قلعة كيفون، موقع الجية - بورفيريون الأثري، قصر بيت الدين، مواقع الخرايب الأثرية، موقع عدلون الأثري، موقع صريتا الأثري، موقع تل البراك الأثري، موقع الدكرمان الأثري، معبد أشمون، مواقع صيدا الأثرية، مواقع بعلبك الأثرية، معبد قصرنبا، معبد تمنين الفوقا، معبد نحلة، موقع أفقا، موقع جبيل، موقع نهر الكلب ومعرض رشيد كرامي الدولي.