بلى فلسفة

من زميل متقاعد

وصلتني رسالتك، وأنا ممتنّ لك لأنّك، أولاً، لم تنسَني، ولأنّك، ثانياً، لم تحسب نفسك بعيداً عن مضمونها كما يفعل الكثيرون، بل بدَوت أول المعنيّين بها وكأنّها تصيبك قبل أن تصيبني، وتعنيك قبل أن تعني غيرك، وتصبّ في أذنك قبل جميع الآذان. لَكَم أسمع هنا وهناك كلاماً من مثل. نحن وأنتم... فكأنّ المتكلم ثابت حيث هو في المكان وفي الزمان. يراك بعد عشر سنين فيلفتك إلى أن العمر قد تقدّم بك، أما هو فقد ثبت به حيث كان، أو رجع به الى الوراء، فلعلّه نسي شيئاً في جنّة ماضيه عاد يلهو به، أو يلتقط صورة تذكارية على مقربة منه بعد أن تقدم به العلم، وليس العمر، في صنع آلات تصوير لم تكن متوافرة في تلك السّنحات المخطوفة العابرة... العائدة.
إنّك متقاعد قريب من دون شك، وكل منتسب، قديم أو حديث، إلى أي مؤسّسة أو وظيفة أو عمل، ما هو إلاّ "مشروع" متقاعد قادم... بأيّ حال ما لنا ولهذه المقدّمة، فنحن لو استسلمنا لمنطقها أكثر من اللّزوم لرأينا كلّ مولود مهيّأ في وقت قريب للرّحيل، ولحرمناه وحرمنا أمه وأباه بهجة طفولته ورونق دلاله ونعمة نسيانه التي تنفع في كلّ ظرف، اللّهم إلاّ في الامتحانات المدرسية الثقيلة.
أعود إلى رسالتك مؤيّداً فكرة كتابتها، مغالطاً معارضاً رافضاً مضمونها. أبدأ بموضوع الوقت الذي حسبت أنني استرجعت حصتي فيه لحظة عودتي إلى بيتي مودّعاً مكتبي. هل ترى أننا، أنا وأنت على الأقل، مفترضاً أن الباقين انصرفوا الى عملهم معرضين عن اي لهو او استراحة، كنا نمضي كامل وقتنا في العمل؟ أما تكلّمنا عن الحيوان والانسان، وعن الطقس والتراب والحجر، وعن سياسات الدول وأسعار القماش وأنواع الطعام لدى كل تاجر وفي كل دكان؟ هل ترى أنّنا، أنا وأنت على الأقل، سلّمنا جهودنا لمقتضيات العمل كما يسلّم التقيّ الورع نفسه لغيبيّات ايمانه، فيصلّي ويتعبّد وينسى ما يدور حوله، ويعرض عن أطماع الدنيا وألاعيبها؟
ثم، هل تعتقد اننا فور خروجنا من باب العمل الضيّق نسلّم أقدامنا للرّيح، ونروح عدّائين في كل مكان، قاطفين الزهر ساحبين الأريج منافسين الفراشات، محدّقين في الماء الصّافي؟ أنسيت أنّ قيوداً من خشب ومن رصاص، ومن عظم ولحم، تنتظر أن نسلّم أيدينا لأصحابها، فتقفل على ما تبقّى من حرّيتنا، وتستنفد ما تبقّى من جهدنا ومن قدرتنا على الجهاد باعتبار ان الحياة جهاد لا ينتهي إلاّ بها.
... أما عن الأقارب والجيران الذين ذكرتهم في رسالتك فلا لوم يأتيني منهم، ولا نقاش يدور معهم. لقد عتبوا عليّ في الماضي، كما عتب عليك أقاربك وجيرانك، عندما تكاثرت طلباتهم أمامي ولم أفلح في تلبية أكثرها، أما اليوم، فلا همْ مهتمون بتهنئتي على تلبية حصلت، ولا هم ميّالون إلى لومي على تقصير جرى. إنّ موكبهم قد تحوّل الى آخرين قد تكون أنت بينهم حتى تاريخ "ترجّلك" من الوظيفة. أتظن أنّ هؤلاء مستعدون لصرف وقت أو بذل عناية في الوقوف لحظة والاهتمام بتلك الأمور؟ أيفوتك أنهم سوّاقون مسوقون في الآني والزائل والعابر عبور الكرام وغير الكرام؟
... وما راح من رسالتك هدراً هو شطرها الأخير، إذ أنك حدثتني عن مسألة لا علاقة لي بها، فأنا عازب خالد ربطت مصير بعض مشاعري بالأشباح والأطياف والاحلام والارواح الهائمة والصّور المحلّقة القابلة لأي تعديل أو تجميل بحيث أشعر بالجمال يحيط بي ويدور حولي فيروي الظمأ ويجلو الصّدأ، واستمرُّ مردّداً "أنا هيمان ويا طول هيامي، صور الماضي ورائي وأمامي"...
لست خائفاً ممّا أنا فيه، كما أنني لست نادماً على ما لست فيه، والقضية عندي ليست قضية عقد تعاون فاتني زمانه، إنما حالة حلم يغني الخيال ويثريه، ويرويه ويسقيه، لكنّه يضنيه ويشبعه انتظاراً وانكساراً، ونحن، أنا وخيالي، في رضى واقتناع.
لكنني لا أرى المسألة التي تحدثت عنها، والتي لا تعنيني مباشرة كما أسلفت لك، لا أراها في الاضطراب الذي لـمّحت اليه، وها أنا أراقب، منذ أن قرأت رسالتك، جـارين لي زوجين يقطعان الخيط معاً منذ عقدين، ويسهــران معاً ويغفوان، ويجوعان ويشبعان، ويعمـلان، حتى الآن، في ذات المكان، بحيث لا يلمس إلاّ رداءه وجلده، ويسمع منه صوت صوته منطلقاً من حنجرته عائداً الى أذنه عبر ثغره. لا يرى واحدهما الاّ الآخر، يراه فيندهش لرؤيته لأنه متجـدد دوماً في نظـــره، فهو لصيق به، ولم يعد في حسابه من الغير. اثنان اصبحا واحداً وهذا غريب في البشر لأنـه ينقص عديدهم في الظاهر ويزيده في الخفاء، من هنا اقتضاء التصويب والتصحيح، ومن هنا اقتضاء التوقيع بالحبر رطيباً بليلاً خضيباً. هذا على الأرض، واعتقـد انك لم تطّلع عليه، ولعلك قصدت في رسالتك حالات تقيم اعشاشهـا في الفضـاء. لكن، من أين "تسرّبت" أخبارها إليك؟

* رداً على الرسّالة التي نشرها العميد أسعد مخول في العدد السابق من المجلة.