أسماء لامعة

من علامات زمن جميل
إعداد: تريز منصور

نصري شمس الدين
الصوت الجامع نبرة الفولكلور ومدى الأغنية

صاحب صوت نادر الايقاعات والايحاءات والتموجات، يصدح في أعماق الروح، ليصل الى مسافات بعيدة، ليس أقلها مسافة البهجة والإحساس.
علامة من علامات الأغنية الشعبية الفولكلورية اللبنانية البارزة.
إنه الفنان الراحل نصري شمس الدين، الذي ترك بصمة وحضوراً حفرا في الذاكرة اللبنانية الفنية الحديثة، تمثيلاً وغناءً مع السيدة فيروز ومع صباح وغيرهما، فارتبط اسمه بمدرسة الرحابنة لمدة عقدين من الزمن.


«عين حيرون» والعتابا
في جون، البلدة الشوفية الساحرة بطبيعتها وجمالها وإطلالتها، ولد نصري شمس الدين في 27 أيار 1927. والده السيد مصطفى شمس الدين ووالدته السيدة ألماظة عيد.
منذ نشأته الأولى، كان يحفظ بشغف الأغاني والأناشيد ويلقيها بصوته الصدّاح في المناسبات المدرسية والقروية، حتى أنه عُرف بمطرب الضيعة.
كان والده يملك أرضاً في محلة «عين حيرون»، هناك كان يشرّع صوته لأبيات «العتابا» و«الميجانا» وقد حفظها عن جدته (صاحبة الصوت الجميل)، معدلاً بعض الشيء في كلماتها وألحانها.
في الثامنة من عمره، تلقن على يد جده قراءة القرآن الكريم ورفع الآذان في المآذن.

 

من الدراسة الى الأغاني
حينما أصبح في التاسعة من عمره، غنّى أمام جمهور حاشد، في نهاية السنة الدراسية، بحضور رئيس مجلس الوزراء آنذاك المرحوم عمر الداعوق، الذي أعجب بصوته وقدّم له ساعة يد ذهبية.
تلقّى نصري شمس الدين علومه التعليمية الأولى في جون، ثم انتقل الى كلية المقاصد في صيدا، فحصل على الشهادة المتوسطة (البريڤيه) بتفوّق.
العام 1943 مارس مهنة التعليم في المدرسة العاملية - شبعا، ولمدة سنة واحدة. ومن ثم انتقل للتدريس في الكلية الجعفرية في صور لمدة سنتين. وفجأة ترك هذه المهنة بسبب خلافه مع إدارة المدرسة، فقد كان يغني للطلاب في الصف، إثر نهاية حصته التعليمية، الأمر الذي كان ممنوعاً وفق قانون المدرسة.
عيّن العام 1947 موظفاً في مصلحة الهاتف، فعمل لمدة سنة، بعدها وبناءً على طلب من ستديو «نحاس فيلم» سافر الى مصر (العام 1949) لدراسة الموسيقى العربية وأصول الغناء ولمدة ثلاث سنوات في معهد فؤاد الأول. عاد الى لبنان، وإذ لم يوفّق بعمل فني يليق بصوته وموهبته، التحق مجدداً بمصلحة الهاتف.
 

بداية المشوار الفني
العام 1952 سافر الى باريس لدراسة الموسيقى والغناء في المعهد الجامعي للموسيقى، ومن ثم عاد الى لبنان وبعدها انتقل الى مصر للعمل في شركة إنتاج «نحاس فيلم» مع الممثل المصري الراحل إسماعيل ياسين.
بعد كل هذه الجولات بين فرنسا ومصر ولبنان، شاءت الصدف أن يقرأ في إحدى الصحف اللبنانية، إعلاناً حول حاجة إذاعة الشرق الأدنى الى أصوات جديدة جيدة. كان ذلك العام 1954، حمل المجلة واتجه الى مسؤول الإذاعة حينذاك صبري الشريف، وهناك تعرّف الى لجنة الاستماع للأصوات وكان الأخوان عاصي ومنصور الرحباني في عدادها. فور الانتهاء من وصلته الغنائية، عانقه الجميع لنجاحه الباهر. ومنذ ذلك اليوم بدأ مع الرحابنة مشوار الحياة الفنية المديدة بالعطاء والإبداع الفني، والذي استمر زهاء سبعة وعشرين عاماً متواصلاً.
تألّق نصري شمس الدين مطرباً، صاحب صوت نادر الإيقاعات والإيحاءات والتموجات. فهو لم يغنِّ أغنية من تلك الأغاني الخفيفة التي تملأ آذاننا كل يوم، ولم يروّج لمعنى من المعاني المتناقضة مع سمو الرسالة الفنية السامية، التي اضطلع بها طوال حياته، ولم يشارك في مهرجان، ممثلاً مطرباً، إلا ليستنقذ كرامة الإنسان والوطن، وليشبع النفس الإنسانية، بمعاني الحنين والحنان والسحر.

 

نصري والفولكلور
«اضطلع نصري شمس الدين بدور هام في تجدّد الذاكرة الغنائية الفولكلورية وبلورة أغنيتها التي طغت على قسم كبير من أعمال الرحابنة، وشكّلت علاقة معمّقة في نصوص الأغنية اللبنانية في ستينيات لبنان وسبعينياته، بالاضافة الى إعادة الإفادة من الألحان الفولكلورية المحلية وتقديمها بصيغ مهذبة ومصقولة تحمل في ملامحها العامة الرشاقة والسهولة في لغة جمالية خاصة. كانت هذه الأغنية الشعبية الفولكلورية نموذجاً في أكثر من بلد عربي» (هاشم قاسم، «النهار» 12/8/1997).

 

إرث نصري الغنائي
ترك نصري شمس الدين مئات الأغاني، وهي أغانٍ ارتبطت بالأرض وبحياة الريف وعاداته وتقاليده، من الشال الى المعاصر والكروم والبيادر... هذه العناصر قُدِّمت غناءً من خلال «الموّال» و«الدلعونا» و«الغزيّل» و«القرادي» و«الميجانا»، وتمثيلاً من خلال أدوار مسرحية كالمختار ورئيس البلدية والقبضاي ورئيس الحي وغيرها.
وفي سمات هذه الأغنية العامة تترادف البساطة والحيوية والإيقاعات الخفيفة المتحركة والنابضة، وكذلك الجملة الموسيقية الشعبية ذات الطبيعة الإيقاعية البسيطة والأداء المتدفق.
هذه الأغنية، استساغتها الأذن الشعبية وتلقفتها الذائقة العامة، وأعادت الذاكرة احتضانها بحلّتها الجديدة، بكثير من الاهتمام والقبول والتذوّق.
وقد ارتبط هذا الأمر بطبيعة النمط المُغنى، أي النمط الشعبي، وبعملية الصقل الفني والتوضيب الجديد والمبتكر الذي حققه الرحبانيان لأغنية نصري شمس الدين، ولأغاني كثيرين وكثيرات ممن كانت لهم أغانٍ تقع في هذا الإطار.
وتقول الحكاية إن نصري كان مغرماً بالصيد، وكان يشاركه في هذه الهواية الفنان الراحل فليمون وهبي، وايلي شويري وملحم بركات... وفي إحدى رحلات الصيد في جون، أطلت أغنية «طلّوا طلّوا الصيادي» التي لحّنها الفنان الراحل فليمون وهبي.
وكما برز نصري شمس الدين في الأغنية الفولكلورية الشعبية، نجح في تأدية الأغنية التي تنتمي الى الجديد بلونها ونكهتها، وفي سياق ولادة الأغنية التي ارتطبت من حيث الولادة بالمسرح الغنائي، وبالتالي بولادة النص الغنائي الذي يحمل في ثناياه بعداً درامياً واضحاً. وعلى سبيل المثال نذكر أغنية «اشهدي يا بيوت» من مسرحية «جبال الصوان» التي قامت على الصوت والنص الكلامي، والكورس والإيقاع. وكذلك نذكر «ناطر ناطر» من مسرحية «ناطورة المفاتيح» التي كان أداء نصري شمس الدين فيها من أعلى درجاته، بالاضافة الى «جايين من بلاد الغربة» لفليمون وهبي.

 

... والمسرحي
كان دوره الغنائي المسرحي جزءاً من الأعمال المسرحية التي شارك فيها متألقاً الى جانب السيدة فيروز وغيرها، مساعداً على إبراز أدوار مشاركين فيها.
بقيت علاقته بالمتلقي بسيطة وجميلة ووديعة، لا سيما أن العبارة الموسيقية التي أداها بصوته، كانت ترتكز وترتاح في منطقة وسطى بين العالي والمنخفض، وهذا لا يعني أنه لا يغنّي، أو لا يستطيع أن يغنّي على الطبقتين العليا والمنخفضة.
من أبرز المسرحيات التي شارك فيها نصري شمس الدين: «فخر الدين»، «دواليب الهوا»، «هالة والملك»، «ميس الريم»، «الوهم»، «جبال الصوان»، «موسم العز»، «الليل والقنديل»، «بترا» وغيرها الكثير...
والجدير بالذكر أنه كان لنصري شمس الدين تجربة في مجال التأليف والتلحين، في أغنيتين «بحلفك يا طير بالفرقة»، و«ليلى دخل عيونا».
كان بطلاً من دون منازع في ثلاثة أفلام سينمائية هي: «بياع الخواتم»، «سفر برلك» و«بنت الحارس».
عمل جاهداً على تأليف «فرقة جون للفولكلور الشعبي»، من أجل إحياء مهرجانات بيت الدين الشعبية. وزار بلاد الإغتراب اللبناني مع فرقته الفولكلورية والموسيقية في غرب أفريقيا وأوروبا وأميركا وأوستراليا والدول العربية حيث أقام العديد من المهرجانات، إضافة الى المهرجانات التي كانت تقام في لبنان (بعلبك، بيت الدين، جبيل...).
من أحب الحفلات الى قلب نصري تلك التي كان يحييها في مناسبة عيد الجيش، كان يلغي جميع ارتباطاته كي لا يفوّت هذه المناسبة.

 

وفاته
أمنيته كانت أن يفارق الحياة وهو على خشبة المسرح. وهذا ما حصل فقد وافته المنية وهو على مسرح «نادي الشرق» في سوريا، خلال إحدى الحفلات، وذلك في 18 آذار 1983.
تتجلّى شخصية الفنان الراحل نصري شمس الدين في احترامه لذاته واحترامه لفنه ورفاقه. فقد كان مثالاً يحتذى في الخلقية المهنية والانضباط والتواضع واحترام الوقت والتمارين والحفلات.
غاب نصري شمس الدين في عزّ العطاء، نفتقده في عزّ هذا القحط الذي يجتاح أيامنا من كل الجوانب.
غاب وغابت معه واحدة من علامات ذلك الزمن المتدفق جمالاً وعطاءً.


ميداليات وأوسمة
حاز الفنان الراحل نصري شمس الدين العديد من الأوسمة والميداليات تقديراً لموهبته الفنية العالية ومنها:
- وسام من جمعية فرنسية برتبة فارس العام 1965.
- وسام الإستحقاق اللبناني العام 1970.
- ميدالية ذهبية من دولة الكويت العام 1977، وأخرى من ليبيا العام 1980.
- ثلاثة أوسمة برتبة فارس.
- مفتاح مدينة العرب.
- وسام العيد الوطني البلجيكي.