ضيف العدد

من نافذة مكتبـي
إعداد: د.الهام كلاب البساط
المديرة- المساعدة في المركز الدولي للاونيسكو لعلوم الانسان - جبيل

من نافذة مكتبي التي أفتح مصراعيها كل صباح على قلعة جبيل وآثارها, تنفتح لي صفحات من التاريخ السحيق ومن الحضارات القديمة, صاغتها الشعوب المتتالية على هذه الأرض الرحبة والعريقة.
من نافـذة مكتبي, أجـول على منظر متواصل يجمع بانسياب وبساطـة ما بـين معابد آلهة بعلة جبيل, وكـنيسة مار يوحـنا الصليبية ومسجـد أثري قديم, تشاركـوا معاً في الحجـر الرملي الذي يضفي على المنـظر بهـاء القـدم وحـوّلوا معاً المـكان الى موقـع قداسة متآلفة, تـتناغـم فـي أسرارهـا وتتبادل طـقوس خشوعها وتهزأ مـن كـل العصبـيـات.
من نافذة مكتبي حيث تتوالى أوابد ستة آلاف سنة تختلط أحجارها وبقايا موتاها وآنية عيشها وحلي نسائها, ويتغذى تراب كل منها من تراب الآخرين. من هذه النافذة تنفتح لي صفحات من نقاشات هذا العصر وصراعاته.
وإذا بي أستعيد, وتستعيد حواسي الملتصقة بهذا المنظر, معنى حوار الحضارات وخصب التفاعل بين الثقافات, والتواضع حيال كل عطاء لم تحتكره حضارة, وإلحاح أمثولات التاريخ.
من نافذة مكتبي الذي يستعير حجارته الرملية من حجارة سور القرون الوسطى ويتكئ بارتياح على أساساته, ويجاور بإلفة حضارة العصر الحجري وعصر البرونز وميناء فينيقيا الذي حمل الى العالم أبجدية وحضارة وتجارة ومعابد الإغريق وقصور أشور وأعمدة روما, وأستطيع أن أمد يدي لأتبرك بغبار تاريخ يُقرأ كمستقبل.
كان يعني لي الكثير أن يضم هذاالمكان مركز عملي, وأن يكون شباك مكتبي, شباك هذا البيت الترابي الذي كنت ألعب حوله مع رفاقي في صغرنا, وفي اعتقادنا الطفولي إن قناطره الأخيرة, أبواب قصر غريب.
فأنا بنت هذه المدينة, تنشقت هواء بحرها وتعمدت في مائه, لملمت حصى أمواجها وأحصيت غيومها وبعثرت شعري عواصفها البحرية الرائعة البهاء.
أنا بنت هذه المدينة, التي منحتني نعمة التجول الطبيعي بين أنصاب هياكلها ومدافن ملوكها, ووجل مقاربة عظام الأقدمين وأدواتهم اليومية, برفق وتؤدة.
ثم أخذتني الحياة من هذه المدينة الى آفاقها البعيدة, تلك الآفاق التي كنت أرصدها بشوق كبير عند ملاحقتي الدؤوبة لسياح المدينة. سياح يقصدون الماضي, فيشكلون لي نـافذة الى حاضري في مدينـة تسكن أحجـار تاريخـها العريق.
أخذتني الحياة الى آفاق بعيدة, تعلمت وعملت وتزوجت وعشت بعيدة عنها وأنا في عشق دائم لمدينتي التي سكنتني ولم تبارح قولي وتوقي.
الآن عـدت إليها بفرح عميـق, يـتكرر كـل صباح عنـدما أقصـد مكتـبي سيـراً علـى ذات الطريـق التي سلكتها كثيراً كـل يـوم وأنـا طفـلة الى مدرسـة الراهبـات المجـاورة.
أتفيأ ظل الأشجار نفسها والجدران نفسها التي كانت تظلّل خطى طفولتي الملتجئة من قساوة شمس أعرف طعم حرارتها في كل فصل.
اليوم أحس بواجبي العميق, ككاهنة في هياكلها, ليس فقط تجاه الفكر والعلم, وليس فقط في التزام رسالة هذا المركز في إشاعة روح التسامح والسلام والحوار, وليس فقط لتطابق رسالة عملي هنا مع خيارات حياتي الفكرية والخاصة, بل أيضاً تجاه مدينتي التي لا تزال بالرغم من إمكانات التحقق الضئيلة, تستثير فيّ الأحلام الكبيرة.
إن محاورة التاريخ العريق والعيش في كنفه تتطلب جرأة التعليم والتخطي, جرأة التخلص من عبء التاريخ كي لا تتحول المدينة الى متحف ويتحول سكانها الى حراسه, جرأة إعتماد التاريخ كحافز لمواجهة المستقبل, في دينامية تفاعل الأفكار والإنجازات.
لا أريد أن أعتـبر عـودتي عودة مسافر, أظنها إستعادة طـرف قـوس القزح الى أرضه الأولـى. أظنـها موجة من أمواج هـذا الشاطئ الذي اعتاد مسامرة الأزل والتحول في آن, منـذ أساطـير إيزيـس وأدونيـس.
أظنها موجة قديمة تلتف وتعود موجة متجددة, ثابتة ومختلفة, تغمر بتواصل طرف هذا الشاطئ, يهدهدها توق حارق لإرتياد بلاد غريبة, وحنين جارف الى جذور الإنتماء!