من واقع الحياة

من واقع الحياة
إعداد: العقيد الركن اميل منذر

افكاري وتأملاتي

دخلَت إلى الغرفة بثياب العمل حاملة سلة بلاستيكية وعلى ساعدها المنبسط امامها شراشف واغطية بيضاء نظيفة ومطوية بعناية. صباح الخير، قالت بلطف وبلهجة ألفناها في لبنان كثيراً حتى اصبحنا نستطيع ان نعرف جنسية صاحبها من غير ان نبصر وجهه.
فتاة متوسطة القامة، سوداء البشرة، نحيلة الجسم وقفت بعيدة عن السرير تنظر إلى الممرضات وهن يأخذن بيدي زوجتي وينهضنها ويساعدنها على التمدد فوق العربة لنقلها الى غرفة العمليات.
وعندما خرجن جميعاً وخرجت مرافقاً زوجتي حتى باب المصعد الكهربائي، أكبّت الخادمة على عملها تقوم به بنشاط واتقان، ثم دخلتُ وجلست على مقعدي ارافقها بنظراتي وهي تنزع غطاء السرير وتلقي به في السلة وتضع آخر نظيفاً مكانه، ثم تمسح الغبار عن طاولة الهاتف والمقاعد الجلدية وتدنو من النافذة فتفتحها بعض الشيء ليدخل الهواء النقي ثم تجر الستارة القماشية لتحجب اشعة الشمس عن ارض الغرفة والجدار.
في تلك الأثناء قدمت سيدة شقراء الشعر، قبيحة الوجه، بدينة الجسم ووقفت بردائها الابيض في باب غرفتي والقت عليّ تحية الصباح من غير ان تنظر إليّ، وراحت تراقب الفتاة السوداء من خلال نظارتيها العريضتين.
حملت الفتاة سلّتها وهمّت خارجة، لكن السيدة الشقراء بقيت واقفة في الباب تسدّه وقد بدا الغضب على قسمات وجهها المطلي بالمساحيق، فوضعت يديها على خاصرتيها وسألت الخادمة بلهجة تنضح سمّاً ولؤماً: هل أنهيت عملك في هذه الغرفة؟
- آجل سيدتي. أجابت بلطف وبراءة.
- انتِ غبية يا هذه.
- لماذا تقولين عني ذلك سيدتي؟
- ووقحة ايضاً.
خفضت الخادمة رأسها ومسحت دمعتين علقتا بأهداب عينيها ولبثت صامتة، وبقيت أنا جالساً على مقعدي انقل نظري بينهما صامتاً، فالمسألة لا شأن لي بها.
- هيا أخرجي ايتها الحمقاء وعودي بكيس من النايلون تضعينه في سلة المهملات هناك، قالت السيدة بصوت يكاد يكون صراخاً، ثم أضافت: ربما عليّ ان اكلم المدير المسؤول فيحسم بعضاً من مرتّبك.
- حاضر سيدتي. سأقوم بهذا في الحال.
وتنحّت السيدة فخرجت الخادمة مسرعة، فيما استدارت السيدة الشقراء وغادرت لتكمل جولتها. إنها من غير شك رئيسة العاملات في المستشفى.
مكثت في الغرفة وحيداً أفكر ببساطة كلية في مجتمع الانسان الكلي التعقيد، فلم أرَ بعين خيالي إلاّ أسياداً فوقهم أسياد وعبيداً دونهم عبيد. ولم اسمع بأذن نفسي غير أوامر وتعنيف تنطق بها افواه اولئك، وكلمات خضوع واسترحام تنزلق عن شفاه هؤلاء.
لم أجهد نفسي كثيراً في محاولة اكتشاف حكمة الخالق في جعله البشر مراتب ودرجات. تركت له شؤونه يتدبرها كما يشاء فأنا لي ما أقلق بشأنه.  هناك زوجتي التي لم تخرج من غرفة العمليات بعد.
لم يطل الوقت كثيراً حتى عادت الخادمة وبيدها كيس صغير وضعته في السلة قرب السرير ثم استدارت نحوي وقالت بصوت يكاد يكون بكاء: أعتذر لك يا سيدي على هذا الإزعاج الذي عرفته اليوم بسببي.
- لا عليك. لم يحصل ما يستدعي الاعتذار.
عندئذٍ خفضت الخادمة رأسها وراحت تنظر إلى الارض بعينين غارقتين بالدمع: «أنا لست... غبية ووقحة يا سيدي. لكن هناك ما يشغل بالي ويقلق فكري فجعلني أنسى كياني ووجودي. كانت يداي تتحركان عاملتين وقدماي تحملانني من غرفة إلى غرفة، أما فكري ففي مكان آخر يا سيدي.
- ما الأمر!؟ سألت مستغرباً.
- بلغني أنّ ولديّ مريضان جداً وأنا هنا في هذه الارض البعيدة لا استطيع من أجلهما إلا الصلاة.
- انت متزوجة إذاً.
- أجل يا سيدي. وأنا هنا اعمل وادخر أجري على امل ان اعود الى وطني يوماً وأساعد زوجي على توفير حياة كريمة لعائلتنا الصغيرة. أرأيت يا سيدي؟ أنا لست امرأة سيئة.
ابتسمتُ لمجرد فكرة خطرت ببالي، فنظرت إليّ الخادمة وقالت ودمعتان صغيرتان عالقتان عند شفتيها المبتسمتين: أعرب عما يجول في فكرك يا سيدي. لا، لن آتي يومئذ بخادمة تساعدني لأني انا سأكون سيدة بيتي وخادمة عائلتي.
في تلك اللحظة احسست بشعور غريب يدفعني إلى ان اقف واعمل من اجلها شيئاً، لكنني لم أقف واكتفيت بأن قلت لها: هوّني عليك واصبري فإن الله مع الصابرين.
استأذنتني وانصرفت، فيما انا بقيت جالساً انظر ناحية الباب واصغي إلى صدى صوت مخنوق يصعد من اعماق وجداني ويضجّ في أذن نفسي: بوركت ايتها المرأة التي تقاسي مرارة الغربة وتكابد مشقة العمل منصاعة انصياع عبد لأوامر من اجل ان تكون في بلادها سيدة تعاون زوجها على تذليل صعوبات الحياة.
أما انت ايتها الفتاة اللبنانية التي احترم وأجلّ، اراك تشترطين على من يتقدم بطلب يدك، بيتاً مجهزاً بكل شيء، حتى إذا ما وفّره لك قبلت به زوجاً لتصبحي عليه في ما بعد سيدة تقرعين كل يوم رأسه بطلباتك التي لا تنتهي: سيارة جديدة لأن جارتك او صديقتك ليست احسن منك كما تقولين، فيأتي لك بسيارة لتطلبي منه بعد ذلك خادمة تمسح البيت وتغسل وتكوي الثياب وتعد الطعام، لتجدي انت لنفسك وقتاً لشرب القهوة مع صديقاتك وقراءة الحظ في الفنجان وتسريح شعرك وتقليم أظافرك ووضع المساحيق على وجهك.
إن كنت تظنين يا سيدتي ان المظهر الحسن والثوب الثمين الذي تخرجين به إلى السهرة والسيارة الجديدة التي تأتين بها وتروحين والخادمة التي «تجرّينها» وراءك في السوق وإلى دور العبادة لكي يراها الناس ويروكِ، يجعل منك إمرأة فاضلة، فأنت مخطئة وواهمة كل الوهم والخطأ.
هل تعلمون ايها القراء الاعزاء ان في لبنان ما يناهز سبعين ألف خادمة تعملن في البيوت؟ إنه لرقم مذهل، في حين أني لم أسمع بأن سيدة أميركية او اوروبية او استرالية لديها خادمة في بيتها مع ان معظم نساء تلك البلدان يعملن مثل الرجال طيلة النهار ثم يعدن إلى منازلهن للقيام بواجباتهن فيها.
غريب حقاً ان نأخذ عن الغرب غرائب الموضة وسيء العادات فيما المزايا الجيدة نرفضها ونعرض عنها.
وفيما أنا أكتب هذه الكلمات غارقاً في بحر افكاري وتأملاتي، دخلت عليّ الخادمة من جديد تسألني إن كنت احتاج شيئاً. نظرت إليها نظرة إكبار وهممت بالوقوف لأضع يدي على كتفها وامسح آثار الدموع عن خديّها وأباركها وأثني عليها، لكنني ما تجرأت مخافة ان يراني الناس ويستصغرون ضابطاً يكلم خادمة ويحنو عليها.
شكرت الخادمة، وأنا جالس وبعدما انصرفت، رحت اعنّف نفسي لترددها واحتقرها لجبنها، وبقيت نفسي صامتة لأنها لم تجد ما تدافع به عن نفسها.