أسماء لامعة

مها بيرقدار الخال: أوجعني الوطن والإنسان والحب والفقدان
إعداد: تريز منصور

تسافر داخل نفسها حتى طلوع الفجر

شاعرة الصمت، تكتب بوحها صلاة غياب.
همسها ابتهال الحالمات ينشدن الفرح في ظلال ألوان ريشتها وأضواء قلمها. امرأة ما زالت تبحث عن الأسئلة، عن النور، عن الطفولة النائمة في منتصف العمر، وتسافر داخل نفسها حتى طلوع الفجر.
إنها مها بيرقدار الخال الشاعرة المستوحدة في صومعتها الغزيرية، والرسامة الجميلة التي تقول الشعر بوحًا وقلبًا ووجدًا.


فنانة بالفطرة
في مدينة دمشق الغراء ولدت الشاعرة والرسامة مها  بيرقدار العام 1947. والدها المقدم محمد خير بيرقدار صاحب شخصية صلبة (كان ضابطًا في الشرطة السورية، مثقفاً، يهوى الرسم ويمارسه، ووالدتها السيدة نظميّة الأمين (ربّة منزل تملك موهبة الرسم أيضًا).
 ترعرعت مها (الابنة الثانية) في عائلة مؤلفة من أربعة أولاد، يفيض من حنايا بيتها الدفء، السعادة، الفرح والحب. وكانت مها طفلة هادئة، ميّزها هدوؤها عن إخوتها، وربحت عاطفة الوالد الجارفة والدلال اللامتناهي.  
الطفولة السعيدة التي عاشتها ساهمت في إطلاق مواهبها. في سن الرابعة عشرة وضعت باكورة أشعارها وبدأت ريشتها ترسم الملامح والخطوط على دفترها الأبيض الذي ضمّ مجموعة كبيرة من رسوم بطاقات المعايدة. موهبة الرسم ورثتها خصوصًا من والدها الذي بحكم عمله، تنقّلت العائلة في معظم القرى والمدن السورية، ليتاح للصغيرة مها الترحال وسط سهول القمح والطبيعة الخلاّبة. ترحال أغنى مخيّلتها الجمالية، بينما كانت المطالعة تراكم في ذاكرتها مخزونًا إبداعيًا وثقافيّاً.


 
التحصيل العلمي
تلقّت مها بيرقدار علومها الابتدائية في مدرسة «خديجة الكبرى» ونالت الشهادة الابتدائية «السيرتيفيكا» بتفوّق، ونشر الخبر  في الجريدة مع صورتها. ثم تابعت تحصيلها العلمي في «الثانوية السادسة» في دمشق، ونالت شهادتي «البروفيه» و«البكالوريا» بدرجة جيد جدًا. وفي هذه الأثناء  تبلورت موهبة التمثيل والرسم لديها، ورغبت في دراسة المسرح، ولكن هذه الرغبة اصطدمت بمعارضة شديدة من الأهل، باعتبار أنها من عائلة سورية عريقة ومحافظة،  مما يعني أنه لا يمكن  للفتيات البقاء خارج المنزل ليلاً.
انتسبت العام 1964 إلى معهد الفنون الجميلة في دمشق، ودرست  الرسم والنحت ونالت العام 1967 دبلومًا في الرسم بدرجة جيد جدًا. غادرت إلى ألمانيا لمتابعة دروسها في الرسم ، ولكن وصولها إلى ألمانيا  كان متأخًرا عن بدء العام الجامعي في معهد الفنون، ما أجبرها على استبدال الاختصاص ودراسة إدارة الأعمال لتحصل على الإجازة من المعهد العالي للترجمة والأعمال في مدينة ميونيخ  العام 1969.
 العام نفسه، وإثر سكتة قلبية، توفي والدها الشخص الأحب إلى قلبها، ما أجبرها على العودة إلى سوريا، والبقاء فيها.
ومن ثم دخلت ميدان العمل الإعلامي حيث أعدّت وقدمت برنامجًا شعريًا عبر أثير الإذاعة السورية. هذه التجربة أعقبتها أخرى، إنما بعد سنوات، حيث شاركت في تحرير مجلة «فيروز» الصادرة عن دار الصياد إلى جانب الأديبة إميلي نصرالله والإعلامية سونيا بيروتي ومجموعة من الأقلام.

 

يوسف الخال: إحضري...
أو غيبي إلى الأبد

غيـاب الوالـد أثّر على مشـاعر مها، وكـان سعيـها إلى إصدار أول ديوان شعري لها، نوعًا من التعويض ومحاولة لمواجهـة الشعور بالخسارة.
قصائد متفرقة كتبتها في أوقات مختلفة جمعتها، وقصدت بيروت برفقة صديق والدها (الذي يعرف الكثير في مجال الطباعة)، متوجهين إلى «دار النهار للنشر»، وهناك التقت بالشاعر يوسف الخال (مدير الدار آنذاك)، وبدلاً من أن تطبع ديوانها الأول، طبعت مسيرة حياتها ومستقبلها مع الشاعر الكبير الذي أحبها من النظرة الأولى، وأغرم بشعرها. وبعد ثلاثة أشهر من المراسلة التي جرت بين الشام وبيروت بغية التنسيق لطباعة الديوان، لم يستطع العاشق الولهان الصبر على الفراق، فكتب لها في رسالته الأخيرة:
«إحضري حين ينتصف تموز أو غيبي إلى الأبد».
وحضرت الصبية الجميلة الحالمة، لأنها لم تستطع مقاومة مشاعرها تجاه الإنسان الكبير المثقف والشاعر العظيم الذي كانت تقرأ شعره عبر أثير الإذاعة السورية بشغف وإعجاب من دون أن تعرفه.
كان اللقاء هذه المرة حميميًا، ونار الحب بحاجة لمن يطفئها. تزوّجا مدنيًا في قبرص العام 1970، متخطين غضب الأهل وكل العادات والتقاليد والأعراف واختلاف الدين وفارق السن (31 عامًا)...
وأثمر زواجهما ولدين هما نجمين متألقين اليوم في عالم الفن والتمثيل: ورد ويوسف الخال.  

 

حياة الشعراء
عاشت الشاعرة والرسامة مها بيرقدار مع زوجها يوسف الخال سبعة عشر عامًا من السعادة والنجاح والـتـألّق، وحاولت أن تطوّع التناقضات التي جمعتهما لتأسيس عائلة منسجمة مع نفسها ومع الأديان والمجتمع على حدٍ سواء، عائلة تستظل إبداعًا شعريًا وفنيًا مميزًا. يوسف الخال رائد الحداثة الشعرية ومها الشاعرة والرسامة الحالمة، سارا معًا على طريق الشعر والإبداع والنجاح.
تمحورت أعمالها الشعرية حول الحب والإنسان والوطن والخوف، وباكورة دواوينها الشعرية «عشبة الملح»، تبعه «جيل العناصر» ومن ثم «الصمت»، وتقوم حاليًا بطباعة ديوانها الجديد «دواة الروح» بعد أن نالت جائزة أفضل أديبة عربية من مهرجان الأديبات العربيات في سوريا، الذي قدّم طباعة الديوان.

 

الرسم
للرسم حصة متوازية مع الشعر في حياة مها بيرقدار، هي لا تنتمي إلى مدرسة فنية محددة، لها أسلوبها الخاص، لوحتها نظيفة، تتميّز باللمسة الروحانية. حين ترسم تبدأ من الواقع وتنتهي بالحلم، وبالتالي أبطالها ليسوا من هذا الزمان ولا من هذا المكان. وتعتبر أن «الشعر يحتاج إلى قلم وورقة، بينما اللوحة تحتاج إلى صفاء ذهن، فهي مثلث أضلاعه القلب والفكر واليد».
 باكورة معارضها، كان في صالة «غاليري1» في زقاق البلاط التي كانت تديره، ويملكه زوجها يوسف الخال. وتتالت بعده المعارض (الـ 15) الخاصة في لبنان وسوريا والخليج العربي، إضافة إلى المعارض الجماعية (الـ37). وآخر معارضها الفنية كان منذ ست سنوات في صالة ناصير شورى (أستاذها) في سوريا.

 

الأعمال الدرامية
تستمر الشاعرة والرسامة والأديبة مها بيرقدار الخال في استثمار ما وهبها الله من وزنات، وهذه المرة في كتابة الأعمال الدرامية وكتابة السيناريو، وهي التي رغبت أن تسند خابية حبها وحنانها لأولادها بـ«بحصة»، فقدمت هدية لشركة الإنتاج التي أسساها (خال للإنتاج) عملين دراميين: «الطائر المكسور» و«نقطة حب»، وهي اليوم بصدد كتابة عملين دراميين آخرين.

 

الصمت والوجع والخوف
تقول مها بيرقدار: «بكى كالريح على ضحكي المتلاشي، علقت نفسي ثوبًا  باليًا، جمعت كل أرواحي في وجهي لم يعرفني أحد».
في «الصمت» حملت الشاعرة حنينها إلى مطارح الوجود، جعلت العناق بريقًا واليد حريرًا، وحين أيقنت العين، طفرت دمعة الروح ووقفت الشاعرة في الدهشة.
كل كلام تختزنه أعماق بيرقدار تحّول إلى فكرة وألوان، إلى عطاء جميل يبهج الآخرين كما يبهجها. تسأل: «هل أعظم من الصمت كي نسمع كل شيء، كي نبوح بما في الأعماق؟
أما عن وجعها فتقول إن كل إنسان يتمتع بقدر من الحس لا بد وأنه توأم والوجع. فالإنسان عندها محكوم بالحياة والموت وبين الحياة والموت رحلة محفوفة بالوجع والحروب والانفعالات والمجابهات. فكيف إذا كان هذا الإنسان فنانًا حسه مضاعف مئات المرات؟ «لقد أوجعني الوطن والإنسان، الحب والفقدان، الانتماء، الخوف والاشمئزاز، الكذب والحسد. لقد خافت مها الخال كثيراً حتى لم تعد تخاف».
الواقع قاسٍ في ذاكرتها وجاف إذا لم تقل بأنه بائس. عالم الحلم عندها نظيف وهادئ جميل ورقراق. فكيف لها أن لا تفضله؟ عالم أحلامها هو نصف الطريق نحو الفردوس بينما الأرض كوكب مشتعل تعمه الفوضى ويملأه الضجيج. إنها إنسانة حالمة إنما فقط ضمن نطاق الرسم والشعر. أما في حياتها العادية فهي إنسانة واقعية تلتزم بدقة مسؤولياتها كافة. مفارقات وتناقضات تجتمع في هذه المرأة، و«تؤلفها» وتصنع مفردات لغتها حروفًا وألوانًا وسلوكًا.
لا تحب تلك الانتماءات الرومانسية لأمكنة محددة حسبت على البشر أوطانًا. يشدها الحنين إلى بعض الأمكنة في دمشق- مسقط رأسها- مثلما يربطها الحب ببلدات الجنوب اللبناني وببيتها في بلدة غزير. عندها شغف بجمالية العمارة في بعض البلدان وروعتها، في  فلورنسا - إيطاليا بكت أمام شدة جمال المدينة وتمنّت لو أنها ماتت في تلك اللحظة من نشوة الجمال...
تولد مها مع كل كلمة تقرأها أو تكتبها، مع كل لوحة تنجزها، مع كل قطرة ماء تشربها، مع كل صمت تعيشه، مع كل لحظة تأمل. حتى من قلب الرماد، تولد شاعرة ومع كل فرح تولد وتموت لتعود فتولد.
إنها تعيش الأشياء، الأفكار، الأحلام، أمّا الواقع فتتعايش مع إيجابياته وسلبياته، العيش الحقيقي بالنسبة اليها عملية حميمة وشخصانية تعيشها مع ذاتها. تتعايش مع قريب، شريك، جار إلى ما هنالك. لكن عندما تصير المسألة مسألة عيش تختلف.
تقول: «العيش حالة تختارنا مثلما نختارها، نعيش الحب، الشعر، الفن، الحلم، القهر. بينما التعايش أمر يفرضه منطق الأشياء وضرورتها».

 

الملاك المغتسل بالمطر والضياء
عن يوسف الخال تقول مها الزوجة والشاعرة أنه ككل مبدع قيمة لا تموت. لقد كان ثائراً رافضًا مجددًا ككل كبار التاريخ. في البال هو ماثل دائمًا وهو حاضر بولدَي «ورد» و«يوسف» كما  في كل نتاجه من شعر ونثر ونقد، وترجمات (يذكر أن اعمال يوسف الخال أعيدت طباعتها منذ سنوات وأرشيفه في تصرف طلاب الجامعات للإستفاده منه).
قصيدة مها الخال تتبع أعماقها لا بل هي ترجمة حقيقية لتلك الأعماق. لذلك تأتي أحياناً حزينة داكنة ككل ما تعيشه. عندما يغلبها النوم تصلي قبله خشية أن تكون تلك نومتها الأخيرة أو أن تستيقظ على قتل هنا وعلى استباحة هناك، «الحياة صارت موتاً والموت صار الحياة».
 طالما هناك إنسان على هذا الكوكب طالما الشعر موجود تقول مها بيرقدار. الشعر عندها لا يمتلك زمنًا ولا مكانًا لأنه هو الزمان والمكان، قد تشوبه أحيانًا بعض الشوائب من هنا أو هناك، لكنه يبقى أبدًا ذاك الملاك المغتسل بالمطر والضياء.


تكريم
كرّمت الرسامة والشاعرة مها بيرقدار الخال في لبنان والعالم العربي ونالت العديد من الجوائز والأوسمة، ومنها وسام الاستحقاق الذي منحها إياه الرئيس العماد إميل لحود العام 2004، ودرعًا تقديريًا من قيادة الجيش.