ملحق خاص: خليك مستعد لعدوك المستجد

مهمة عاجلة

طوافتان لبنانيتان على خط بيروت - القاهرة


لم يكن ببال أحد أن يحمل العام ٢٠٢٠ معه هذه الكارثة الجماعية التي طالت كل دول العالم المتقدم منها قبل المتخلف، رامية بثقل حمل كورونا  على البشرية، الشاهدة على وباءات كثيرة عبر تاريخها، مظهرة في كل مرة عجز الإنسان والعلم، أمام كائن ميكروسكوبي يكاد لا يُرى في علم المقاييس.... فيروس هدد الحياة الإنسانية، شلّ النشاطات المختلفة، عزل الدول، استنزف الاقتصاد العالمي والمحلي، فارضًا قانونه وقواعده... فحاصرت الدول نفسها بقرارٍ ذاتي....

 

وكما هو انتشار اللبنانيين في الاغتراب، كذلك عسكريو الجيش من مختلف الرتب يتابعون دورات عسكرية في عدد كبير من البلدان، لعل أقربها جمهورية مصر العربية. وفي الوقت الذي كان الجدل الداخلي يستعر على جبهة عودة اللبنانيين الموجودين في الخارج وآليته، كانت قيادة الجيش تدرس أوضاع عسكرييها المنتدبين للخارج في مهمات تدريبية، وسبل إعادتهم إلى لبنان، خصوصًا أنّ معظم المعاهد العسكرية أوقفت نشاطاتها، تزامنًا مع توقف حركة الطيران حول العالم.
فالمعاهد العسكرية لم تشذّ عن قاعدة الإقفال في ظل الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الدول، والتي بغالبها يتابع فيها عسكريون لبنانيون من مختلف الرتب دورات في مختلف الاختصاصات، ما وضع اليرزة أمام امتحان صعب ومعادلة أصعب. ضباط، رتباء وأفراد معرّضون لخطر الإصابة بالفيروس في الخارج من جهة، وكلفة مادية تعجز مالية الجيش عن تأمينها لهؤلاء في ظل الظروف الحالية من جهة أخرى. من هنا كان البحث عن حلول تبدو مستعصية، مع إقفال المطارات حول العالم، ورقعة انتشار عسكريينا على مساحة العالم.
عليه، كُلفت القوات الجوية بالإعداد لخطة «الإجلاء» من مصر، حيث اجتمع فريق القوات الجوية، وقُسّمت المهمات. الفريق الأول لبحث خط السير الأنسب وإجراء الاتصالات الدولية، إذ كان القرار باعتماد مسار الطائرات المدنية، من حامات فوق البحر باتجاه قبرص ومنها بحرًا مجددًا وصولًا إلى السواحل المصرية، ومن ثم مطار القاهرة.
أما الفريق الثاني فمهمته إعداد الطوافتَين لإنجاز المهمة، مع الأخذ بعين الاعتبار ساعات الطيران المطلوبة للوصول إلى الهدف. بالتأكيد البوما قادرة على التحليق لساعتَين ونصف كأقصى حد نظرًا إلى حجم الحمولة، فيما يستلزم الوصول إلى القاهرة ساعات ثلاث. هنا كان الحل بالابتكار، تجهيز الطوافتَين بخزانات وقود إضافية، واحد خارجي وآخر داخل الطوافة، ما يمنحهما القدرة على الطيران لأكثر من ثلاث ساعات ويعطيهما هامش مناورة كاف في حال حصول أي مستجدات.
هكذا اكتملت التحضيرات وبات التنفيذ رهن تحديد الساعة الصفر في تمام الثامنة من صباح اليوم التالي. اتكل نسور سلاح الجو على ربهم وعلى كفاءة فنييهم، مقلعين في أطول رحلة تنفّذها طوافات البوما، من قاعدة بيروت الجوية. مُنح الطيارون ١٣عشر ساعة وفق البرنامج - الخطة ذهابًا وإيابًا لإنجاز المهمة التي راعت فيها القيادة شروط السلامة والصحة، فقد رافق فريق طبي الطوافتَين، لإجراء الفحوصات السريعة للعسكريين العائدين.
توازيًا كانت عملية «لمّ شمل» العسكريين جارية في القاهرة بمساعدة السفارة اللبنانية، حيث تم تأمين وصول الجميع إلى المطار بلباسهم العسكري، استعدادًا لرحلة العودة مع «كامل عتادهم».
إنّها الساعة الخامسة مساء بتوقيت القاهرة، الفحوصات الطبية أُنجزت، الأوراق القانونية من ختم جوازات وتصاريح خروج اكتملت. العائدون توزعوا على الطوافتَين وفق حسابات الوزن .... لتُقلع «المرقطتان» عند السادسة تقريبًا في رحلة العودة باتجاه بيروت وفق المسار نفسه، في طيران ليلي أثبت خلاله الطيارون مهارة عالية. في التاسعة مساء هبطت المروحيتان في مطار رفيق الحريري الدولي. المهمة أُنجزت. عاد العسكريون الـ١١ (١٠ ضباط ورتيب)، ليتوجهوا فورًا إلى أماكن حجرهم الاحتياطي لمدة ١٤ يومًا استكمالًا لإجراءات السلامة العامة.
تبقى الخلاصة، إثبات طياري سلاح الجو مرة جديدة قدرة ومهارة عاليتَين، كذلك الأمر في ما يتعلق بفنييه الذين بعد نجاحهم بتحويل الطوافات إلى قاذفات قنابل، نجحوا في تجهيزها بخزانات وقود إضافية سمحت لها بقطع كل تلك المسافة، بإمكانات ذاتية.
حمدًا لله على سلامة العائدين، والله يُقوّي طياري القوات الجوية وفنييها ، الذين يثبتون يومًا بعد يوم قدرتهم على تخطي المعقول وتحقيق المعجزات بإمكاناتٍ تلامس الصفر.
هكذا تثبت المؤسسة العسكرية أنّها على قدر الأحداث والآمال المعقودة عليها، جاهزة دومًا بإمكاناتها المتواضعة وبطاقاتها الفردية على تحدي المعقول وإنجاز المستحيل، متمسكة بمبدأ الخطأ ممنوع والاتكال على الله أولًا وأخيرًا، وعلى جهود العسكريين الذين أثبتوا مرة جديدة كفاءة وخبرة ومهنية عالية تعزز بدورها الثقة في حماية الوطن....
هكذا يكتمل الشعار: «الواحد للكل والكل للواحد...»
فلبيك سماء لبنان ولبيك جيش لبنان.....

ميشال نصر