ضيف العدد

مواطن يعرف جيشه وجيش يعرف شعبه

نبيل عبد الحق

تتجاذب المواطن اللبناني ­ وتالياً الشعب ­ تجاذبات سياسية وحزبية وعقائدية, تتفاوت حركتها وفقاً للتيارات والأوضاع التي تهب على البلاد, إن داخلياً أو إقليمياً أو حتى دولياً. وهكذا تتمايز مواقف المواطن, أو الأحزاب والتكتلات النيابية والفاعليات والنقابات, موالاة أو معارضة للسلطات السياسية, تحت سقف النظام وضمن الدستور وفي إطار ما يعرف باللعبة الديموقراطية.
إلا أن مؤسسة الجيش اللبناني تكاد تكون الوحيدة التي لا تخضع علاقتها بالمواطن ­ أي بالشعب ­ الى تبدل المصالح وتغيّر الأشخاص وتحوّل السياسات وتضاربها, لكأنّ بين المواطن وهذا الجيش حلفاً ثابتاً, راسخاً, لا يتأثر بما تتأثر به علاقات الفئات والأحزاب والأشخاص, معارضة وموالاة بالسلطات السياسية.
فما هي ركائز هذه العلاقة, أو ذاك الحلف, وما هي الأسباب التي تجعلهما ثابتين راسخين في كل حين؟

 

أولاً ­ من جانب المواطن:
أ- ­ ينظر المواطن اللبناني الى الجيش من زاوية ثابتة, وهي أنه الضمانة الدائمة والأكيدة لاستقرار معادلة العيش المشترك التي تحرص عليها الكثرة الساحقة من اللبنانيين, وخصوصاً أن هذا الجيش يجسد في تركيبته مختلف الشرائح والطوائف والمناطق اللبنانية, وفق مبدأ أخوة السلاح الذي يقوم عليه. وعندما تكون مقولة “الواحد للكل والكل للواحد” شريعة بين الجيش وأي من الشعوب ­ كما هي في جيشنا ­ يستقيم الولاء الوطني وتتحقق الوحدة الوطنية, وتسقط كل الفروق والمصالح الشخصية, والأنانيات والحزازات السياسية والطائفية, ما يشكل درعاً صلبة يصعب اختراقها.

ب- ­ يؤمن المواطن اللبناني بأن جيشه يمثل الكرامة الوطنية, والحارس الأمين ­ وربما الوحيد ­ الجاهز دائماً للشهادة دفاعاً عن حدود الوطن وسيادته وأمنه وإستقراره, ومستقبل أجياله الطالعة. ذلك لأن هذا الجيش لم يتأخر أو يتوان أو يتردد أو يبخل يوماً في خوض المعارك في ساحات الشرف دفاعاً عن الوطن في وجه العدو الإسرائيلي, منذ استيلاد هذا الأخير في قلب العالم العربي, وغرسه شوكة مؤذية في خاصرة هذا المشرق المسالم, الذي لم يعرف قبل ذلك إرهاباً أو عنصرية أو عرقية أو طائفية.

ج- ­ يرى المواطن اللبناني في جيشه مدرسة مناقبية وإطاراً مثالياً للإنصهار الوطني, ولتعزيز إيمان المواطنين بمبادئ الحرية والديموقراطية والنظام البرلماني الحر, خصوصاً وأن هذا الجيش, عبر تاريخه, وخلافاً للكثير من الجيوش, لم تغره شهوة السلطة أو إغتصاب الشرعية والإستئثار بها لنفسه, بل غالباً ما صبر على مضض من بعض السياسات في بعض العهود وظل وفياً لقسمه, أميناً على الوديعة, معتصماً بتراثه المؤسساتي الغني والحضاري والمناقبي.

د- ­ نمت في ذاكرة المواطن صورة الجندي اللبناني الذي محا من هذه الذاكرة صورة “العسكري” الأجنبي الذي كانت جداتنا وأمهاتنا تخيف أطفالهن به, وكذلك صورة المليشيوي المتسلّط, لتحـلّ محلهما صورة الجـندي اللبناني الذي يسارع الى مدّ يد المساعدة لكل محتاج أو مستغيث. وقد ترسخت في ذاكرة الشعب اللبناني صورة جيشه المنقذ في الكوارث الطبيعية, كالفيضانات والحرائق, وعزل القرى والبلدات الجبلية النائية بالثلوج. فإذا بهذا الجيش كالعين الساهرة, سرعان ما يأتي بالنجدة والإسعـاف والإنقاذ ويُسارع الى إقامة الجسور التي يدمرها العدو, وكأن مهمته ورسالته حماية المواطن, الى جانـب حمايـة الأرض والكرامـة والسيادة, والمحافظة على سيرورة الحياة اليومية الطبيعية.
وفي ذاكـرة المواطن, أيضـاً, دور الجـيش الإنمائي والإجتمـاعي, فقد كان أول من ساعد المؤسسات اللبنانـية على المكـننة منذ مطـلع السبعينات وقبل أن تصـل الى لبــنان طلائـع الكومبيوتر والأنترنيـت, ووضـع خبراتـه وإمكاناتـه لمساعدة الوزارات والمؤسسـات كلما اعـترتها صعوبات أو عوائق أو مشكـلات, ولمّا يزل يفعل ذلك.

هـ ­ يشعر المواطن بأن الجيش يشكل ضمانة أمنية داخلية له, كونه سنداً لقوى الأمن الداخلي ومؤازراً لها في حفظ الأمن, إذ تسهر أجهزته الأمنية, مع الأجهزة الأمنية الأخرى, على حماية الأمن والسلم الأهلي وقطع دابر شبكات التجسس والتخريب, وملاحقة المجرمين وتسليمهم الى القضاء المختص.

 

ثانياً ­ من جانب الجيش:
إذا كان المواطن يرى في الجيش ضمانة له, فإن الجيش, هو الآخر, ينظر الى الشعب كمصدر يرفده بما يؤمن تجدده وقوته عبر عنصرين أساسيين:

- ­ الأول, إقبال الشباب على التطوع في الجيش كأفراد أو رتباء أو ضباط أو مدنيين في مختلف الإختصاصات والوظائف التي يحتاجها.

­- والثاني, عبر خدمة العلم التي تمدّ هذا الجيش بالعناصر الشابة المثقفة, بحيث تحصل عملية إنصهار وطني في ما بين هؤلاء, من جهة, وتبادل ثقافي بينهم وبين جيشهم, من جهة ثانية.

وهذا التبادل الناجم عن العيش داخل الثكنة العسكرية, ينعكس ما بين الشعب والجـيش خبـرة متبادلـة ومعرفـة للآخر, فلا تعـود الثكنـة لغزاً ولا المدني غريـباً عن الحيـاة العسكريـة, فينـقل الجانـبان أفكارهـما ومشـاهداتهـما الى محيطهـما, ما يعـزز لحمـة الشعـب والجـيش اللذين همـا الثنـائي الأهـم في الركائـز الوطنـية.
لذلك, لا ينظر الجندي الى المواطن من خلال دينه أو طائفته أو منطقته أو إنتمائه الحزبي والعقائدي, ما دام واثقاً بأن الولاء الوطني هو المآل والمرجع الأسمى لولاء كل المواطنين الذين هم سواسية أمام القانون.
في المقابـل, يعرف المواطـن أن الجيـش يأتمـر بالسلطـات السياسية وأن الأشخاص يتغيرون في إطـار النظام الديموقراطي البرلماني الذي يحميه الجيش, لكن المؤسسات تبقى ويبقى الوطن, ويبقى حامي الوطن والمؤسسات والشعب والأرض.