تحقيق عسكري

موسيقى الجيش
إعداد: ريما سليم ضوميط

تاريخ مفرداته النوتات والألحان

 

من مجموعة موسيقيين لا يتجاوز عددهم الثلاثين هاوياً، الى فرقة ضخمة تضمّ مئات العازفين المحترفين، وتقدّم أرقى المعزوفات في المؤتمرات الرسمية والمهرجانات الوطنية... مسيرة اجتازتها موسيقى الجيش في عالم اللحن والإبداع منذ عهد المتصرفية حتى يومنا هذا، وتاريخ يزخر «بالنوتة» و«السمفونيات» ويصدح باللحن الجميل.

 

ملك للبنان
موسيقى الجيش، هذه القطعة العسكرية الثقافية الحضارية، لم تعد ملكاً للجيش وحده وإنما أصبحت ملك لبنان بأسره. تراها حاضرة في أفراح الوطن وأحزانه، من مهرجانات وطنية وشعبية ومؤتمرات رسمية، الى حفلات تشييع كبار الوطن وعظمائه، الى تكريم أدبائه وفنّانيه... تارة تحمل ترنيمة شكرٍ وطوراً صلاة رحمة، وفي الحالتين تغزو قلوب السامعين وتمدّهم بالغذاء الروحي الذي نفتقده في زمن التقهقر الفني!
هذه العلاقة المميّزة بين موسيقى الجيش وأبناء الوطن ليست وليدة الصدفة، كما يؤكّد قائد موسيقى الجيش العقيد الموسيقي جورج حرّو، «فالقيادة تشدّد باستمرار على ضرورة التقرّب من المدنيين والتواصل معهم لإظهار الوجه الآخر للجيش، أي الوجه الثقافي والإبداعي، فالمؤسسة العسكرية من الشعب وليست بارودة ومدفعاً فحسب». من هذا المنطلق، يتابع العقيد حرّو، «تلبّي موسيقى الجيش، بعد موافقة القيادة، دعوات البلديات والجمعيات للمشاركة في المؤتمرات والمهرجانات الوطنية والشعبية، كما تشارك المدارس نشاطاتها الفنية، إضافة الى مشاركتها في الأمسيات الشعرية والإحتفالات الثقافية والرياضية».
كذلك يوضح قائد موسيقى الجيش أن المشاركة في الإحتفالات ذات الطابع المدني هي جزء من مهمة موسيقى الجيش. أما الدور الرئيس لهذه القطعة فهو مواكبة النشاطات والتدريب العسكري داخل المراكز العسكرية (رفع العلم، التدريب على النظام المرصوص، تخريج عسكريين، الخ...)، إضافة الى تأدية مراسم التكريم في الإحتفالات الرسمية، وتقديم التشريفات لقائد الجيش، ولرئاسة الجمهورية لدى زيارة رؤساء الدول، وعند تقديم أوراق اعتماد السفراء.

 

قواسم مشتركة بين الوجهين العسكري والمدني
ما بين الوجهين العسكري والمدني لموسيقى الجيش قواسم مشتركة هي الإبداع والتجدّد والعطاء الزاخر. وهي صفات اكتسبها عناصر الموسيقى نتيجة العمل الدؤوب والتدريب المكثّف والإرادة لبلوغ القمة. وفي هذا الإطار يشير العقيد حرّو الى أن التدريب المكثّف عامل أساسي في نجاح موسيقى الجيش، موضحاً أن التمارين اليومية ضرورية جداً ولا سيما أن معظم الجنود المتطوعين لصالح موسيقى الجيش غير متخصّصين في مجال الموسيقى.
ويرد ذلك الى أن الإختصاص في مجال «آلات النفخ» التي ترتكز عليها موسيقى الجيش نادر جداً، لذلك نكتفي بأن يتمتّع المتطوّع بصفة جندي بالموهبة الفنية والأذن الموسيقية.
ولكنه يؤكد في الوقت نفسه أن هذه الشروط تختلف بالنسبة الى المتطوّع بصفة رتيب، إذ يشترط عليه إتقان العزف على آلة موسيقية، إضافة الى التحصيل العلمي لمدة تراوح بين الأربع والست سنوات في المعهد الوطني للموسيقى أو غيره من المعاهد المعترف بها رسمياً قبل التقدّم بطلب التطوّع.
أما في ما خصّ الضباط، فينبغي على الراغبين في الإلتحاق في صفوف موسيقى الجيش أن يحملوا إجازة في الموسيقى من المعهد الوطني أو غيره من المعاهد المعترف بها رسمياً. كما عليهم أن يستوفوا الشروط العامة التي تفرضها القيادة على جميع الضباط المتطوعين في مختلف قطع الجيش.

 

تدريب يومي
ما إن يلتحق العسكريون المتطوعون بموسيقى الجيش، حتى تبدأ مرحلة التدريب المكثّف حيث يخضعون لدروس وتمارين يومية، فيكتسبون بعد سنتين على الأقل الخبرة التي يحتاجونها في عملهم الموسيقي.
يتم التدريب على صعيد المجموعة في غرفة للمراجعات العامة. أما التمارين الفردية، فقد خصّصت لها غرف عازلة كي يتمرّن العازف من دون أن يؤذي أذنيه.
يشرف على التمارين الموسيقية قائد الموسيقى، أما المدرّبون فهم ضباط برتبة آمر سرية، إضافة الى مدرّبين مدنيين متخصّصين في الآلات المعتمدة لدى الجيش.
حول هذا الموضوع يشير العقيد حرّو الى أن موسيقى الجيش هي في الأصل مدرسة. فالموسيقى رياضة فكرية وجسدية، تقضي الأولى بالقراءة والإطلاع على كل جديد في عالم الموسيقى، وتُعنى الثانية بالتقنية التي يستخدم فيها العازف جسده لإصدار الصوت وإخراجه من الفم. ويضيف أن التمرين ضرورة ملحّة وبشكل دائم حتى بالنسبة الى المحترفين، ومن دونها يتراجع العازف الى الوراء.

 

عسكر أولاً وأخيراً
الى جانب التدريب على الآلات الموسيقية، يخضع عسكريو موسيقى الجيش الى تدريب عسكري أسوة بباقي العسكريين في مختلف قطع الجيش. ويوضح العقيد حرّو أن التدريب العسكري والإداري أمر أساسي في موسيقى الجيش، فهي أولاً وأخيراً قطعة عسكرية مؤلفة من سرية قيادة وخدمة وأقسام مختلفة إضافة الى سريتي الموسيقى. وهذا الأمر يستدعي تخصيص عناصر للأعمال العسكرية واللوجستية والإدارية. ويضيف أن العمل الإداري في موسيقى الجيش في تطوّر دائم وهو يواكب التقنيات والأساليب الحديثة لجهة التأليل وتنظيم العمل.
ويوضح أن مواكبة العصر وتطوير الذات عمل متواصل في موسيقى الجيش على مختلف الصعد.
ومن الأمثلة على ذلك، إرسال ضابط ورتيب لمتابعة دورة تقنية في شركة «Yamaha» في اليابان، حيث بات بإمكانهما إصلاح الآلات الموسيقية في المشغل التابع لموسيقى الجيش.
يتناول التطوّر ايضاً التعليم الموسيقي والأعمال الموسيقية، حيث تستعين موسيقى الجيش بين الحين والآخر بأساتذة متخصّصين من جنسيات مختلفة لإعطاء «Master Class» في تقنيات العزف والأداء الحديث. فتقنية العازف اليوم تختلف عمّا كانت عليه من عشرات السنين مما يستدعي الإلتحاق بقطار التطوّر.

 

الفولكلور الموسيقي في نسخته العسكرية
في ما يتعلّق بالتغيير والتطوّر على صعيد الأعمال الموسيقية، يوضح قائد موسيقى الجيش أن أبرز التطورات هو النقلة الى الأعمال الفولكلورية وتقديمها بتوزيع جديد وإطار جديد يتناسب وطبيعة آلات النفخ المستخدمة في الجيش.
ويضيف أن الأصداء الإيجابية لهذا التغيير بدأت تظهر من خلال آراء الحضور في الحفلات التي تشارك فيها موسيقى الجيش. فالمستمع الذي اعتاد في السابق على خشونة اللحن العسكري، تراه اليوم يفاجأ بموسيقى الجيش تعزف «بيقولوا زغيّر بلدي» و«عا إسمك غنّيت» و«راجع يتعمّر لبنان»... وينسجم بشكل كبير عندما ترافق هذه الموسيقى فنانين لبنانيين على المسرح أمثال نقولا الأسطا وغادة شبير وغيرهما. فإذا بالمستمع الذي يأتينا متردداً في الحضور ومتسائلاً عمّا يمكن أن تقدّمه موسيقى الجيش، ينهي الحفلة بتصفيق حاد وطلب المزيد مؤكداً بحماس «هيدي موسيقى حقيقية»!

 

تأليل أرشيف الموسيقى
في إطار سعيها المتواصل لبلوغ القمّة، عملت موسيقى الجيش على تطوير برامجها الموسيقية، إن على صعيد التأليف أو التوزيع أو حفظ المعزوفات. وبحسب الرائد الموسيقي أبولو سكر، فإن موسيقى الجيش قد باشرت منذ العام 2000 كتابة المعزوفات وتسجيلها وحفظها ضمن برامج خاصة على الكمبيوتر. ويؤكد أن أرشيف الموسيقى المؤلّل بات يضمّ كمّاً هائلاً من المعزوفات الموسيقية العسكرية وغيرها بما فيها الأناشيد الوطنية لدول العالم كافة والمعزوفات الوطنية والكلاسيكية.
ويوضح الرائد سكر أن عملية تطوير البرامج الموسيقية في موسيقى الجيش هي مهمة يومية، فهناك أبحاث دائمة على الشبكة العالمية وفي محفوظات المعاهد والمراكز الموسيقية لاختيار البرامج الموسيقية التي من شأّنها تطوير عمل موسيقى الجيش. ويضيف: نسعى دائماً الى اللحاق بمن سبقنا ومنافسة من يوازينا في عالم الموسيقى، وذلك لتحقيق هدفنا بالإرتقاء الى مستوى أفضل الفرق الموسيقية في العالم.

 

قدرات تنمو
لأن القائد يجب أن يكون قدوة، ولأن تطوير العمل يبدأ بتطوير الذات، فإن ضباط موسيقى الجيش الذين يتولّون تعليم العناصر وقيادة الفرقة الموسيقية في أثناء الإحتفالات العسكرية، يسعون باستمرار الى التقدّم في مجال عملهم وذلك من خلال الدراسة والتمارين والإطلاع على كل جديد في عالم الموسيقى.
النقيب الموسيقي جوزف يعقوب الذي التحق بموسيقى الجيش العام 1997 برتبة رتيب وكان ما يزال طالباً في المعهد الوطني العالي للموسيقى، وبعد أن نال الإجازة في مادة السولفيج العام 2000 التحق بالمدرسة الحربية، ونجح في التقدّم على صعيدي الرتبة والأداء.
عن أهمية تطوير الذات يؤكد النقيب يعقوب أن الموسيقى كأي علم تشهد تقدّماً وتطوّراً، لذا ينبغي على الموسيقي الناجح أن يتابع هذا التطوّر ويتعرّف الى التقنيات الحديثة، كما عليه الإستفادة من الخبرة التي يكتسبها من خلال العمل الموسيقي. ويشير في هذا الإطار الى تجربته الشخصية والى الخبرة التي اكتسبها كعازف من خلال التمارين المكثّفة على آلات النفخ في موسيقى الجيش، والى أهمية العلوم التي يكتسبها اليوم بعد عودته الى الكونسرڤاتوار لدراسة ال«شيللو»، موضحاً أنه ينقل خبرته هذه الى عناصره، ويتابع تقدّمهم باستمرار لأن الملاحقة المستمرة لا بد وأن تعطي ثماراً، في حين أن التقاعس يؤدي الى التراجع حتى ولو كان العازف محترفاً.
وعن صعوبات التعليم الموسيقي يوضح النقيب يعقوب أن الموسيقى علم وموهبة ورغبة، وعند توافر العناصر الثلاثة يسهل العمل علينا كمدرّبين. ولكن الأمر ليس كذلك في معظم الأحيان، لذلك نعتمد على التمارين المكثّفة والدروس المتواصلة، واطلاع عناصرنا باستمرار على التقنيات الحديثة. كما نسعى باستمرار الى جعلهم يعيشون اللحن الذي يعزفونه، فلا تبقى النوتة الموسيقية مجرّد نقاط أو أحرف تترجم على الآلة الموسيقية، وإنما تصبح الموسيقى حالة خاصة يعيشها العازف (أو المستمع) تنقله الى عالم من الإستقرار الداخلي، وتمنحه البُعد الروحي والتهذيب الفكري.

 

التناغم الموسيقي والعسكري
ما بين الموسيقى والجيش عدة عوامل مشتركة، من بينها أهمية العمل الجماعي.
حول هذا الموضوع يتحدث الملازم الأول الموسيقي نديم الأسطا، فيؤكد أن الفرقة الموسيقية كما الفرقة العسكرية يجب أن يكون عملها متناغماً، فإذا ما أخطأ فرد واحد، تظهر نتائج الخطأ على العمل بأسره. من هنا ضرورة التمارين الجماعية التي يديرها ضباط الموسيقى بمعدّل ساعتين الى ثلاث ساعات في اليوم، إضافة الى التمرين الفردي، مما يسهّل عملنا في قيادة الفرقة في أثناء الحفلات. ويؤكد أن التمارين على آلات النفخ ليست بالأمر السهل، فالنفخ بحدّ ذاته أمر منهك ويحتاج الى تقنية معينة وتمرين خاص لإخراج الصوت بالشكل الصحيح.
من جهة أخرى يشير الملازم الأول الأسطا الى كيفية التنسيق ما بين العمل الموسيقي والمهمات العسكرية، فيؤكد أن عناصر الموسيقى هم أولاً عسكريون ثم موسيقيون. لذلك هم يبذلون جهداً مشتركاً بغية عدم التقصير في المجالين.
ويضيف: صحيح أن الجهد المضاعف يؤدي الى الإرهاق في بعض الأحيان، إلا أن النتائج التي نحصدها من جرائه تدفعنا الى الأمام. فعلى صعيد العمل العسكري، لا يوجد أي تقصير من قبل عناصرنا، ومن جهة العمل الموسيقي، فإن تجاوب الجمهور وتفاعله مع الموسيقى التي نقدّمها خير شهادة لنا على نجاحنا.

 

تطوير الذات
تطوير العمل يبدأ بتطوير الذات. شعار يؤمن به ضباط موسيقى الجيش قولاً وفعلاً. الملازم الموسيقي أنطون عون الذي تطوّع العام 2000 بصفة جندي، لم يكتفِ بلقب عازف ضمن موسيقى الجيش، بل تابع التحصيل العلمي فأنهى دروسه الثانوية، ثم التحق بجامعة الروح القدس - الكسليك حيث نال إجازة في العلوم الموسيقية. لم يتوقف طموح عون عند هذا الحدّ، فحين طلبت قيادة الجيش ضباط إختصاص - موسيقى العام 2009، تقدّم للإختبارات المحدّدة في ظل منافسة شرسة نظراً الى المستوى المطلوب في موسيقى الجيش، وقد نجح في نيل رتبة ملازم بدءاً من أواخر العام 2009.
عن مهماته كضابط في موسيقى الجيش يقول الملازم عون «أصبحت مدرّباً بعد أن كنت عازفاً، وأعتقد أنني لن أجد صعوبات تُذكر، كوني سأقوم بتدريب رفاق لي ما يجعلني قريباً منهم ومدركاً ظروفهم واحتياجاتهم». ويضيف: مهمتي هذه تفرض عليّ مسؤولية أكبر، لذلك أواصل عملية تطوير الذات حيث أسعى الى متابعة التحصيل العلمي بغية نيل شهادة الدكتوراه في الموسيقى، لأن هدفنا في موسيقى الجيش تقديم الأفضل والتوصّل الى مستوى من الإحتراف يضاهي أرقى المستويات العالمية.


 

موسيقى الجيش في لمحة تاريخية
الملازم الموسيقي المتقاعد لويس المعوشي آمر موسيقى الجيش سابقاً

إنّ قِدَم الموسيقى وتاريخها قِدَم العالم نفسه وتاريخه، فقبل أن يتكلّم، كان الإنسان يردّد الأصوات المنبعثة من الطبيعة بصوته أو بواسطة أشياء للتعبير عن مشاعره ورغباته، ناعمة مرة وصاخبة أخرى. لذا فالموسيقى ليست وليدة مدنية بل ولدت مع الإنسان ونَمَت معه وتطوّرت، لما لها من تأثير على نفسه وأحاسيسه. ولبنان، كغيره من البلدان، عرف الموسيقى منذ أقدم العصور، ولعل تعرُّض هذه الأرض الطيبة لفتوحات الطامعين المتتالية، التي انتهت بالسيطرة العثمانية لنيّف وأربعة قرون، حالت دون إظهار هذا الفن وتطوّره. أما الموسيقى العسكرية، في العالم، والتي نحن بصددها، فقد رافقت إنشاء الجيوش ولازمتها، نستشفّ ذلك من وصف المؤرّخين للمعارك، عندما يقولون: «اصطف العسكر وهجموا هجمة واحدة، ناشرين الأعلام قارعين الطبول نافخين الزمور». فيتبيّن لنا: أن صوت الموسيقى كان أحد عناصر المعركة، لما لها من تأثير على نفوس المحاربين.
وقد لاقت الموسيقى العسكرية على مرّ العصور، اهتمام كبار القادة، فنابليون الأول الكبير (1769 - 1821) كان عندما يزور إحدى القطع العسكرية ولا يرى موسيقى يقول: «من المؤسف أن لا يكون لهذه القطعة فرقتها الموسيقية!».
إن للموسيقيين العسكريين الفضل الأكبر في رفع شأن هذا الفن، ففي فرنسا، مثلاً، جمع النقيب الموسيقي برنار ساريت (1789) سبعين موسيقياً عسكرياً، من مختلف الوحدات في الجيش، فكانت موسيقى الحرس الجمهوري. وفي الثالث من آب سنة 1793 أُنشئ في باريس المعهد الوطني الموسيقي بإدارة النقيب ساريت نفسه، يعاونه أساتذة موسيقيون، معظمهم من العسكريين.
في التاريخ الحديث، كان للبنان في عهد المتصرفية (أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين)، موسيقى عسكرية لا يزيد عددها عن الثلاثين رجلاً، مركزها بعبدا شتاءً وبيت الدين صيفاً، ومهمتها لا تختلف عن المهمة المنوطة بموسيقى الجيش اليوم، فكان لكل من الرؤساء والعَلم معزوفة خاصة وللأوامر كافة نداءات.
أما الطبول فكانت تُقرع إيذاناً بصدور الأوامر، يسبقها نداء التحية: «باديشاهم تشوك يا شاه!» ومعناه: «يعيش كثيراً السلطان!». وكان للموسيقى في التشريفات والحفلات الترفيهية النصيب الأكبر، خصوصاً عندما كان والي بيروت يزور متصرف جبل لبنان، إذ يقام استقبال في فرن الشباك، حيث حدود الولاية، وتكون الموسيقى على رأس الطابور لتؤدي مراسم التكريم الخاصة بهذه المناسبة.
بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت البلاد تحت الإنتداب الفرنسي فلم يعد لموسيقى لبنان من أثر، بسبب الفوضى التي عمّت البلاد في أثناء الحرب، فأسس الفرنسيون موسيقى أطلقوا عليها إسم «موسيقى جيوش الشرق»، معظم أفرادها من الأجانب ومن مختلف الجنسيات وقلة من اللبنانيين والسوريين، كان عددها مئة وأربعين موسيقياً، بإمرة النقيب الموسيقي الفرنسي بريفان وقد تمركزت في مار الياس بطينا، وتحديداً في المكان القائم عليه حالياً ميتم القديس يوسف للراهبات اللعازاريات. أما آلاتها الموسيقية فمن الآلات نفسها المستعملة في موسيقى الجيش حالياً، باستثناء القرَب (Cornemuses) التي أُدخلت الى الموسيقى العام 1951.
العام 1929 تخلّى النقيب بريفان عن قيادة الموسيقى، وعاد الى بلاده، إثر مرض أصابه، فتسلّم الملازم الأول الموسيقي جان فيول إمرة الموسيقى، وذلك العام 1930 يعاونه المعاون الأول الفرنسي لوسيور والرقيب الأول الموسيقي الفرنسي دوتريه رئيس فرقة الأبواق والطبول. ومع تحسّن الأوضاع العامة، عاد المحاربون الى أوطانهم أو الى مراكزهم الأساسية ومن بينهم الموسيقيون الأجانب، فحدث نقص كبير في موسيقى جيوش الشرق، وقد وصلت بعددها الى خمسين موسيقياً، معظمهم من اللبنانيين. أما السوريون فكان عددهم لا يتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة. تنبّه الرؤساء الى ذلك، خصوصاً الجنرال القائد الأعلى لجيوش الشرق، وجاء في مجلة الموسيقى الباريسية (العدد الرقم 196 الصادر بتاريخ 10/12/1937): منذ توليه منصبه أبدى اهتماماً خاصاً بمظهر الموسيقى وتحسين أوضاعها، الى أن أصبحت على مستوى عالٍ، تقدّم المقطوعات العالمية الرفيعة. غير أن هذه الإنطلاقة لم تدم طويلاً، إذ العام 1940 دخلت جيوش الحلفاء لبنان ومنها جيش فرنسا الحرة. ولم يكن النقيب الموسيقي الفرنسي من الديغوليين، فأبحر مع الكثيرين عائدين الى بلادهم. أحدث هذا الأمر نوعاً من الفوضى، وأُلغيت على أثر ذلك الموسيقى وأُرسلت آلاتها الموسيقية الى مدرسة عينطورة لحفظها، أما عناصرها فإلى ذوق مكايل، ثم خُيّر العناصر بين الإلتحاق بفوج القناصة الرابع أو تسريحهم. فالتحق البعض وسُرّح البعض الآخر، ولكن بعد أقل من شهر واحد، سنة 1942، استدعى قائد موقع بيروت المفوض الكولونيل رافيل جميع العسكريين الموسيقيين وأعاد تنظيم الموسيقى، وقد أطلق عليها إسم «موسيقى الموقع» وتمركزت في مدرسة الصنائع، في رأس بيروت، بإمرة الرقيب الفرنسي سيرويل وكان صف الضابط هذا يميل الى الفوضى، بسبب إدمانه على الخمرة، فكثُرت مخالفاته، وحدث أن كُلّفت موسيقى الموقع، صباح عيد الفصح المجيد للطوائف الأرمنية، باستقبال اللواء الفرنسي القائد الأعلى لجيوش الشرق، وبعض الشخصيات الرسمية أمام كنيسة الأرمن في ساحة الدباس، وقد حُدّدت الساعة التاسعة صباحاً موعد التمركز، غير أن آمر الموسيقى سيرويل أمر خطأ بالتمركز الساعة العاشرة، فحضر الرؤساء والشخصيات، ولم تكن الموسيقى قد تمركزت بعد! ثار قائد الموقع لهذا التصرّف، وعند حضور سيرويل نُقل فوراً من المكان وأُبعد عن الموسيقى، ثم أمر قائد الموقع الكولونيل رافيل باستدعاء الرقيب الموسيقي المتقاعد خليل نجم، الذي رُقّي الى رتبة رقيب أول، بعد تسلّم الموسيقى، ثم رُقّي بعد ذلك الى رتبة معاون فملازم، واستمر بعد تسلّم الحكومة اللبنانية الجيش الوطني على رأس الموسيقى التي أطلق عليها إسم: «موسيقى الجيش»، وأصبحت مفرزة من سرية الحرس الجمهوري في لفيف المقر العام؛ وتمركزت قرب ثكنة إميل الحلو، مار الياس - بطينا.
لم تحتفظ موسيقى الجيش بالمستوى المطلوب، بل تقهقرت فنياً تقهقراً ملموساً، في أثناء إمرة النقيب خليل نجم بسبب كثرة تغيّبه، بداعي المرض، وفي آخر أيام النقيب خليل نجم العام 1956 أمر حضرة اللواء فؤاد شهاب القائد الأعلى بالإستعانة بأحد الخبراء الفرنسيين، النقيب الفرنسي كميل هنري بوفور، لإعادة تنظيم الموسيقى. أُحيل النقيب خليل نجم على التقاعد العام 1956، فتسلّم المعاون الأول مهران أرسلانيان إمرة الموسيقى بالوكالة، ريثما يصل الخبير الفرنسي الذي حضر في أيلول العام 1956. وبعد دراسة وافية لأوضاع الموسيقى، وضع لهذه الفرقة نظاماً جديداً يشبه، الى حد بعيد، النظام المعمول به في موسيقى الحرس الجمهوري الفرنسي، وصدر عن القيادة العليا بمذكرة خدمة تحت الرقم 5945/1 بتاريخ 19/11/1959 بإسم: تعليمات تتعلق بموسيقى الجيش.
أُحيل المعاون الأول أرسلانيان على التقاعد، بناءً على طلبه، العام 1958، وبناءً على اقتراح الخبير الفرنسي بوفور، أُسندت إمرة الموسيقى الى الرقيب الأول الموسيقي لويس المعوشي، الذي رقّي لاحقاً الى رتبة معاون فمعاون أول، وأخذت الموسيقى تتقدّم، بفضل الصلاحيات الواسعة التي أعطتها القيادة الى الخبير الفرنسي، ومن هذه الصلاحيات: إعادة التصنيف، بعد أن لحق بعناصرها غُبن لمدة طويلة، وإعادة التصنيف قضت بأن يخضع جميع عناصر الموسيقى لامتحان الكفاءة الفنية، حسب القانون الجديد، وبالتالي تتمّ ترقية المستحق من العناصر الى الرتبة الموازية لكفاءته الفنية، وقد رُقّي الكثيرون الى رتبة أعلى. هذا وقد أُعفي عناصر الموسيقى من الواجبات العسكرية، كالحراسة والكلفة، وأصبح دوام العمل شبيهاً بدوام عمل القيادة في وزارة الدفاع، فتفرّغ عناصر الموسيقى الى العمل الفني من دون سواه.
وبسبب ما لقيت الموسيقى من استحسان لدى القناصل الأجانب المعتمدين في لبنان، والتهاني المتكررة، بعد الحفلات والتشريفات المنوطة بها حظيت بعناية خاصة من الرؤساء، ففي مذكرة الخدمة العدد 269/3 تاريخ 21/11/1966، يقول قائد الجيش العماد إميل بستاني: «تعتبر الموسيقى وجهاً للجيش، ويجب أن يكون وجهاً لائقاً». فبفضل هذا الإهتمام والعناية الخاصة سارت الموسيقى قُدُماً نحو التقدّم والإزدهار وقد سمحت القيادة بإرسال بعض من عناصرها الى المعهد الوطني الموسيقي للتخصّص على يد أساتذة أجانب على آلات معينة بغية إكمال الآلات الضرورية للأوركسترا السمفونية.
أما الخبير الفرنسي بوفور فكان يدرّب العناصر منفردين ومجتمعين داخل الثكنة، وكان المعاون الأول المعوشي يقوم بإمرة وإدارة التشريفات والحفلات خارج الثكنة.
حدّدت مذكرة الخدمة، موضوع تعليمات تتعلق بموسيقى الجيش، عدد عناصر موسيقى الجيش بمئة وأربعة عشر موسيقياً، مقسمين الى:
- فئة الموسيقيين: وهم العازفون على الآلات ذات السلالم الكاملة.
- فئة الأبواق: يعزف كل موسيقي على بوق المشاة، بوق الخيالة، قرن الصيد.
- فئة الطبول: الموسيقيون ناقرو الطبلة، ضارب الطبل، وقارع الصنوج.
- فئة القِرب: الموسيقيون عازفو القِرب (Cornemuse).
- فئة الموسيقى الخفيفة: الموسيقيون (فرقة الجاز).
- المنشدون: كامل عناصر الموسيقى.
في الأول من تموز 1970 رقّي المعاون الأول لويس المعوشي الى رتبة ملازم موسيقي، فأصبح يتمتع بصلاحيات آمر وحدة مستقلة، وقد أصبحت موسيقى الجيش سرية من لفيف المقر العام بقيادة العقيد حسين بو الزين. وفي 1/8/1970، رقّي التلميذ ضابط الموسيقي استفان دونيان الى رتبة ملازم وصار معاوناً لآمر السرية، وأصبحت الموسيقى على مستوى رفيع فنياً، ومكتبتها زاخرة بالمقطوعات السمفونية العالمية، تؤدي المهمات كافة من استقبالات وحفلات ترفيهية، في الحدائق العامة، في المدن وقرى الإصطياف!
غادر الخبير الفرنسي الموسيقي بوفور لبنان، بعد انتهاء مهمته، وموسيقى الجيش متمركزة في ثكنة يوسف الطرابلسي، وهي تسير من حسن الى أحسن حتى اندلاع الحرب العام 1975، فغابت الموسيقى زهاء خمس عشرة سنة لتعود مجدداً بكثير من العناصر الشابة بإمرة النقيب الموسيقي إستفان دونيان يعاونه ضابطان موسيقيان.
وتستمر رحلة موسيقى الجيش بقيادة العقيد الموسيقي جورج حرّو مع الألحان الوطنية والنغمات الموسيقية التي تعبر السمع لتستقر في كيان الوطن والجيش.