سياحة في الوطن

موطن الشحرورة وشحـاريـر أُخَر
إعداد: باسكال معوض بو مارون
تصوير: فادي البيطار

نغمات «الأوف» الجارحة تتردد في انحاء الوادي، وزقزقات الشحارير الشادية تصدح في جنبات غابات السنديان والصنوبر، ونقرة دف الزجّال تشدو فتعلن افتتاح موسم الغزل...
وادي شحرور بلدة الموّال والعتابا، وبلدة الامراء «الأوادم» فتحت لنا ذراعيها مرحّبة, وفيها كان لنا حديث مع اثنين من ابنائها: عضو البلدية الصحافي حبيب شلوق وكاهن رعية مار يوحنا للروم الارثوذكس الاب انطوان سعادة (مدير تكميلية وادي شحرور الرسمية), وقد وضعا بتصرفنا معلومات قيّمة عن تاريخ بلدتهما وحاضرها.


اسمها وحدودها
في الكتب، تعود تسمية وادي شحرور الى جذر سامي مشترك وهو «شحر», ويعني السواد والظلمة والعتمة. وثمة من يقول إنه يعود الى «مشحرر» المشتقة من حرّر ومعناها اعتق.
أمّا على لسان اهالي البلدة، فيقال ان الاسم يعود الى كثرة عصافير الشحرور في الوادي. ويقال ايضاً انها وادي «الشحر» أي الوادي الاسود حيث كان يتم تصنيع الفحم فيها بكثرة.
تحدّ وادي شحرور من الشرق بلدات بدادون، حومال، وبليبل، ومن الغرب كفرشيما والمرداشة، ومن الشمال بسوس، وحارة الست، أما من الجنوب فتحدها بليبل وبسابا.
وترتفع الوادي عن سطح البحر بين 140 و240م وتبلغ مساحتها حوالى 3 ملايين متر مربع. وهي رغم قربها من الساحل ومساحتها الكبيرة، ما تزال محافظة على طابعها القروي نظراً الى تمسّك اهلها بعاداتهم وتقاليدهم العريقة.

 

الوادي في الجغرافيا
في كتابه «تسريح الابصار في ما يحتوي لبنان من الآثار»، يقول الاب هنري لامنس: «تكوّنت المثلثات الساحلية عند مصب الانهار في جوار البحر، وساحل بيروت هو ثمرة الانهار والسيول التي تجتاز اوديته كوادي الشويفات، ووادي شحرور، ووادي نهر الموت».
ويضيف: «يقول علماء الجيولوجيا بأن بيروت كانت في العصور الغابرة جزيرة تحيط بها المياه، بحيث كانت هذه المياه تصل خليج الخضر (الكرنتينا) بوادي شحرور».
وتدلّ هذه الوثائق على ان وادي شحرور كانت في ما مضى تقع على شاطئ البحر، قبل ان يتكدس الطمي فتتشكّل اراضٍ جديدة، أبعدت المنطقة عن الساحل.

 

تاريخها الشمالي
كانت وادي شحرور في الماضي القريب، ملكاً للامراء الشهابيين كغيرها من البلدات المحيطة، وقد قام هؤلاء الامراء بتقسيم البلدة الى احياء بحسب موقع قصر كل منهم، وفي البلدة بيوت عائدة لهم يبلغ عمرها حوالى 400 سنة.
آخر الامراء الشهابيين الذين سكنوا في البلدة هو الامير شفيق محمود شهاب، وقد آل منزله الى ابنته جلنار التي تعيش فيه حالياً، فيما تعرف احياء ومنازل كثيرة في البلدة بأسماء الامراء الشهابيين الذين سكنوا في وادي شحرور: فهذه دار المير قيس، وتلك دار المير سليم، والمير علي، وهناك دار المير كميل، وأخرى تعرف بدار حليما.
ومن حارات الوادي واحيائها حارة التين، حارة الفغالية، حارة الروم، حي النبع، حي الشختور، حي الحمي، وحي مار تقلا. والجدير بالذكر ان دير مار تقلا بناه الامراء منذ حوالى 400 سنة وهو تابع اليوم للرهبانية اللبنانية المارونية.

 

المير والست
يروى انه منذ حوالى 250 سنة تزوج امير شهابي من وادي شحرور من «الست شمس» وهي سيدة تسكن في الناحية الاخرى من النهر. وبعد فترة مرض هذا الامير، فلم تدع الست شمس احداً من اقاربه يدخل لزيارته، بل راحت تستقبل اهلها وعشيرتها، وتفاخر امامه بمدى حب اهلها له، وعدم مبالاة اهله به. فلم يسع هذا المير الا ان كتب بإسمها كل ارزاقه وحرم اهله منها، فعرفت هذه المنطقة منذ ذلك الوقت بـ «حارة الست».

 

الأمراء
في كتاب «تاريخ الامير حيدر الشهابي»، ورد ذكر الامير حسن الساكن في قصر في وادي شحرور، والذي تولى الامارة في لبنان بدلاً من الامير بشير الشهابي في 2 آذار من العام 1820.
وفي كتابه «تاريخ لبنان» يقول فيليب حتّي: «حصلت ثورة في انطلياس دعيت بالعامية (العام 1820)، لأن الناس لم يعد بإمكانهم دفع الضرائب لتغطية مطالب الجزار، فتخلّوا عن الامير بشير، وراحوا ينادون بحَسَن الشهابي اميراً للبنان».
وفي «تاريخ لبنان الحديث» لكمال الصليبي، ورد انه عندما عجز الامير بشير الثاني عن جمع الضرائب لصالح الجزار، والقضاء على العصيان الذي عمّ البلاد، تنازل عن الامارة، وغادر البلاد الى حوران فصدر امر الوالي عبد الله باشا بتعيين حسن شهاب (القاطن في وادي شحرور) خلفاً له.
وعرفت وادي شحرور نمواً سكانياً ملحوظاً في عهد الامير فخر الدين حين حصلت موجة من الالتحام بين اهل جبل لبنان، وحصل اختلاط شعبي بين مختلف المناطق، وراح اهل الوادي الذين كانوا يعملون لدى الامراء يشترون الاراضي شيئاً فشيئاً فاستملكوا البلدة، وازدهرت واصبحت نسيجاً شعبياً متجانساً.

 

كنائس البلدة
تنتشر في انحاء وادي شحرور عدة كنائس، منها القديم ككنيسة دير مار تقلا للرهبانية اللبنانية المارونية، ومنها الاحدث ككنيسة مار يوحنا المعمدان للموارنة، واخرى على اسم القديس نفسه للروم الارثوذكس، وقد بنيت كلتاهما على انقاض كنيستين قديمتين جداً. ويقال ان ابو عسكر الجبيلي (يونس نقولا) وهو متسلّم ديوان بيروت من احمد باشا الجزّار (1784) كان مسؤولاً عن هذه المنطقة، وقد بنى الكنيستين المذكورتين (الى ثالثة في بدادون).
الكنيستان تصدعتا بفعل الزلزال وعوامل اخرى فبنيت على انقاضهما الكنيستان الكائنتان حالياً. وقد حافظت كل من الرعيتين على الايقونات واللوحات القديمة الموجودة في الكنيستين قديماً، حيث تملك كنيسة مار يوحنا للروم اليوم اربع ايقونات تعتبر الاقدم في المنطقة بحسب احد الخبراء الاجانب.
كما ترتفع في البلدة كنيسة على اسم الملاك ميخائيل، واخرى على اسم مار انطونيوس الكبير، و«كابيلاّ» خاصة صغيرة على اسم النبي ايليا.

 

طاقات فكرية وادبية وفنية
تتميز وادي شحرور بالطاقات الفكرية والحقوقية والعلمية والفنية والدينية وايضاً الحرفية. وفي هذا الاطار نذكر ان وادي شحرور كانت مشهورة بـ «المعمرجيي» الماهرين الذين كان يستقدمهم علية القوم من مختلف المناطق اللبنانية لبناء بيوتهم من الحجر المقصوب المتين.
كما ان ابناء الوادي برعوا بالزجل اللبناني والشعر وذاع صيتهم فراحوا يحيون الحفـلات في ربوع الوطـن كلها.
ومن وادي شحرور يبرز في عالم الصحافة والادب سليمة ابي راشد وهي اول اديبة من الشرق في المهجر، وقد اسست جريدة «النصر»، والمطران عبدو خليفة النائب البطريركي العام، اديب وله عدة مؤلفات، والصحافي حبيب شلوق، والصحافي بطرس الخوري الفغالي.
وفي عالم المحاماة والقضاء القاضي انطوان خير (رئيس مجلس القضاء الاعلى)، وسليم الاسطا (نقيب المحامين سابقاً)، وفي السياسة الدكتور الياس الخوري (نائب ووزير سابق).
أما في الشعر والفن، فنذكر شحرور الوادي الشاعر اسعد الخوري الفغالي، وكروان الوادي كميل خليفة، والفنانة صباح، والممثلة لمياء الفغالي، والمبدعين انطوان ولطيفة ملتقى.

 

الينابيع والزراعة
يقولون في وادي شحرور انه حيثما تحفر الارض من باطنها بسخاء تتدفق المياه، وهذا ما جعل الوادي زاخراً بالينابيع: نبع الزيكان، نبع الداوكيه، نبع الحديقة، نبع النهر، نبع النجمة، ونبع الشومرية وللأخير قصة طريفة.
ومن هذه المياه الغزيرة اعطت الارض في الوادي خيرات كثيرة. فالبلدة اشتهرت وما تزال بالجنارك والخوخ واللوز والحمضيات والزيتون والخضار على انواعها.
هذه الثروة المائية اتاحت لوادي شحرور انتاج مزروعات وفواكه استوائية كالبن والكستناء والكيوي والبابايا.
في موازاة ذلك تحافظ البلدة على ثروتها الطبيعية من غابات السنديان والصنوبر والاشجار الحرجية.

 

الصناعة في الوادي
عرفت وادي شحرور منذ زمن بعيد عدداً من الحرف اليدوية ابرزها التطريز على القماش وصناعة جهاز العرائس. وتعتبر سيدات البلدة من اوائل مموّني محلات الارتيزانا اللبنانية. وفي البلدة معاصر قديمة للزيت ودبس الخروب ما تزال تعمل. كما توجد فيها معامل لتصنيع العرق والنبيذ والمشروبات الروحية وماء الزهر والورد، ومعمل للكرتون ومصانع لدباغة الجلود على انواعها، واخرى للستائر الحريرية والجوخية تصدّر انتاجها الى الخارج.
ومنذ وقت ليس ببعيد بدأت تنمو في وادي شحرور صناعة اسلحة وذخائر الصيد.

 

بلديتان لبلدة
تقسم وادي شحرور الى قسمين: وادي شحرور العليا، ووادي شحرور السفلى، ولكل قسم بلدية مسؤولة عنه، وهذا النظام قديم منذ ايام الرئيس بشارة الخوري. يرأس بلدية وادي شحرور العليا رجل الاعمال عاطف ابو مراد، اما في السفلى فيرأس البلدية المهندس جان باتيست الاسطا.
وعلى الرغم من انقسام بلديتها الظاهر، فإن وادي شحرور تبقى موحّدة بأهلها لتتربع في قلب لبنان، شاهدة على اصالة ارضه وشعبه وتاريخه.

 

«يا حيف يا مير»
في عهد المير بشير الشهابي الثاني، قام امير شهابي يسكن في وادي شحرور العليا يدعى محمود شهاب بحفر نبع ماء في البلدة (عين الشومرية)، ودعا المير بشير لتدشينها. وهذه العين غزيرة جداً شتاءً وصيفاً وقد بنيت على ضفاف بركتها طاحونتان كانتا تؤمنان متطلبات البلدة والجوار من الطحين.
ويقال انه عندما دشّن المير بشير هذه العين الغزيرة التفت الى الامير محمود الشهابي قائلاً: «يا حيف عليك يا مير. كان يمكن تخرّ المي بدارك، وبعدين تتوزع عالناس».
والسبب في ذلك يعود الى ان هذه العين ما تزال حتى اليوم غزيرة، حتى انها تسقي بلدات تقع بعيداً جنوبي البلدة، لكن من دون ان تستفيد منها وادي شحرور العليا حيث كان قصر الامير محمود.


عائلات وادي شحرور

يبلغ عدد سكان وادي شحرور حوالى 12 ألف نسمة ويتوزعون على العائلات الآتية: الأسطا، ابو مراد، ابي راشد، ابو نحول، ابي رميا، ابو واكد، اغناطيوس، باروكي، بدران، الجاموس، حبيب، الحلو، خليفة، الخير، الخوري، الديب، زيدان، سعادة، سالم، شكّور، شلوق، شدياق، الشمّاس، طبيجي، طقشي، عسّاف، عازار، غزال، الغاوي، فغالي، كامل، ملتقى، منصور، مقبل، نمر، نصر، الهليّل، الهبر، يارد.

 

شهداء من الوادي
كرّمـت وادي شحرور اثنين مـن ابنائهــا استشهـدا دفاعاً عن الوطن في ظروف مختلفة خلال خدمتهما في المؤسسة العسكرية، فأقامت لكل منهما نصباً تكريمياً في ساحة البلدة:
- الملازم الاول يوسف الهليّل من مواليد العام 1935، سقط شهيداً في اثناء قيامه بملاحقة احد المطلوبين للعدالة في منطقة الشمال العام 1960.
- الملازم الاول الطيّار اميـن الاسطا من مواليد العام 1947، اختفـت طيارته في اثناء تحليقهـا فوق البحـر، العام 1978.
وقريباً سيقام في البلدة نصب تذكاري لشهيد ثالث في الجيش هو يوسف الاسطا الذي استشهد في منطقة شرق صيدا مع بداية الحرب اللبنانية العام 1975.