سياحة في الوطن

موقع تل عرقة الأثري يختزن ثمانية آلاف عام من تاريخ البشرية
إعداد: باسكال معوض

 فريد من نوعه في لبنان والشرق الأوسط
أعمـــال التنقيب الحديثة تتيح رســم صورة دقيقة لما كان على مر العصور

ثمانية آلاف عام في أرض عرقة العريقة, تختزن تاريخ الإنسان... طبقات تشكّل صفحات أثرية تخبّر عن حكايا وأساطير وآلهة وجيوش وشعوب وديانات وتقاليد, رسمت عمر مدينة تختزن الكثير من أسرار الزمن.

موقع التل ومساحته

يقع تل عرقة الأثري في محافظة لبنان الشمالي على الطرف الجنوبي الشرقي لسهل عكّار الخصب, وهو يشرف عليه. تفصل هذا السهل عن جبل العنصرية الواقع شمالاً في سوريا, سلسلة جبال لبنان الغربية جنوباً.
يقوم التل على مسافة نحو 22 كيلومتراً شمال شرقي مدينة طرابلس وما يقارب الـ4 كيلومترات جنوب غربي بلدة حلبا, التي تعتبر مركزاً مهماً في اقتصاد المنطقة.
بدأت أعمال التنقيب في تل عرقة منذ سنوات طويلة وهو يحظى اليوم بمزيد من اهتمام الباحثين, ما دعا الكثير من الأثريين ورؤساء البعثات الأثرية المنقبة في عدد من بلدان الشرق الأوسط, ومن الجهات المعنية لا سيما وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار لعقد مؤتمر علمي على أرض الموقع.
وفي المؤتمر الذي انعقد في مقر البعثة الأثرية الفرنسية في تل عرقة والتي يرأسها العالم الأثري جان بول تالمان, قال وزير الثقافة الأستاذ غسّان سلامة ان العمل جار على تسريع الحفريات وأعمال التنقيب في الموقع لكشفه كلياً, وبناء متحف تابع له يخصص الجانب الرئيسي منه للمكتشفات التي تعود الى العصر البرونزي الوسيط الذي كانت فيه عرقة مدينة في غاية الأهمية, على أن يكون المتحف المنوي إقامته بمواصفات عالمية منجزاً في شهر حزيران 2004.
ويعتبر موقع عرقة مميزاً للعديد من الأسباب, فهو فريد من نوعه في لبنان والشرق الأوسط. وأهمية تل عرقة تنبع اولاً من اختزاله تاريخاً يمتد لثمانية آلاف عام من تاريخ العالم في مختلف الشرائح المتراكمة فيه. وثانياً من كون عملية التنقيب التي تمت فيه جاءت متأخرة, ما أتاح الإفادة من الأساليب الحديثة في التنقيب والرصد وإبراز المعالم, وما جعل العمل الأثري في تل عرقة نموذجياً في حداثته. وبالتالي فإنه لدينا من الناحية العلمية, صورة دقيقة وواضحة عن تاريخ العالم من خلال تاريخ عرقة, لا نجدها في أي موقع آخر في لبنان.. ما أتاح كتابة تاريخ كل شريحة من هذه الشرائح الأثرية بدقة متناهية, وجعل آثار تل عرقة أهم خزان لقراءة المعطيات التاريخية لعلماء الآثار في العالم.

 

بين التاريخ والجغرافيا

تعود أهمية مدينة عرقة التاريخية الى الموقع الجغرافي الذي تحتله على منفذ الممر الطبيعي الذي يصل مدينة حمص والداخل بساحل البحر الأبيض المتوسط. ويمر نهر عرقة الموسمي بالقرب من التل الأثري, حيث ينبع من جبال لبنان على علو يناهز الـ850 متراً فوق سطح البحر.
وقد ورد ذكر تل عرقة في كتاب “بعثة الى فينيقيا Mission de Phénicie” للرحّالة الفرنسي “ارنست رينان” الذي زار المنطقة حوالى سنة 1840. كذلك ورد ذكر المنطقة في رسائل ومخطوطات كل من ر. دوسو وك. شايفر والأب جان ستاركي.
والدلالـة الأثرية التي تشهــد عن أقدم سكن للإنسان لم يتم إكتشـافها في الموقع وإنمــا في السهل بالقرب من التل وهـي تعود الى الألف السادس قبل الميلاد.
وصلت الحفريات في الموقع حالياً الى 12 متر عمقاً, وقد سمحت بالكشف في الجناح الجنوبي عن تخطيط لسور فينيقي؛ أما في الشرق فهنالك آثار مهمة لتحصينات من القرون الوسطى. والجدير ذكره أنه إذا كانت المستويات المكشوفة حالياً تعود الى المرحلة الثانية من القرن الثالث, فثمة بعد مستودعات أثرية مطمورة لا بد من إكتشافها للوصول الى سبر أغوار هذا الموقع القيّم.

 

العصر البرونزي

إن أقدم الأدلة الأثرية على التل نفسه ظهرت في قعر إسبار أثري, وهي تعود الى العصر البرونزي القديم الثالث, أي حوالى سنة 2500 ق. م. وقد ساعدت البقايا الأثرية من العصر البرونزي القديم الرابع في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد على وضع مخطط تفصيلي لمساكن تلك الحقبة ومجموعة من الطرق. وتشير الأدلة الأثرية في هذه المستويات الى ديناميكية كبيرة في التطور الإجتماعي للسكان.
أما في الألف الثاني قبل الميلاد, فقد ذكرت عرقة لأول مرة بين القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد في بعض النصوص الفرعونية الدينية التي كتبت كنذورات على تماثيل صغيرة وصحون قديمة. وفي الآثار التي تعود الى حقبة نهاية القرن الثامن عشر قبل الميلاد تقريباً, تظهر تحصينات وأبراج على محيط التل. وإن لم يتمّ إكتشاف أي من المساكن العائدة لهــذه الحقبـة, فقـد اكتشف عدد من المدافن الفرديــة ومنها توابيت من الخزف كانت تستخدم لدفن الأطفال, وحُفر لدفن البالغين, كما وجدت بعض أدوات الحياة اليومية.
ويرى علماء الآثار, أنه بين نهاية العصر البرونزي الوسيط وبداية العصر البرونزي الحديثة, أعيد تأهيل التحصينات وأقيم بناء كبير قرب أسوار المدينة.

 

عرقة في رسائل تل العمارنة

على أحد أعمدة معبد الإله آمون في الكرنك, ورد ذكر عرقة, حين توجّه الفرعون “تحوتمس الثالث” لاحتلالها وقام بترحيل أهلها, واختفى ذكرها لفترة طويلة امتدت حتى العهد الروماني.
وتظهر الشواهد على هذه الحملة العسكرية جلية في طبقة من الدمار والحريق الذي أتى على الموقع بكامله وهي تعود الى هذه الفترة. وبعد دمار المدينة هذا, تشير كل المكتشفات الأثرية الى فقدان عرقة لأهميتها, والى تضاؤل نسبة السكن فيها.
وتجدر الإشارة الى وجود ذكر في القرن الرابع عشر لإسم مدينة عرقة وملكها “أدونا” مرات عدة في مراسلات ملوك جبيل والفرعون “اخناتون”, مع ورود خبر لمقتل الملك أدونا, وقد وجدت هذه المراسلات في عاصمة الفرعون أخناتون, وعرفت برسائل تل العمارنة.

 


العصر الحديدي

لقد ترك الفينيقيون بصمات ساطعة ما تزال حية في مواقع عديدة في لبنان, وإليهم تنسب تسمية عكّار سابقاً بعرقة. وفي الألف الأول قبل الميلاد ورد ذكر عرقة في سفر التكوين كإحدى مدن بلاد كنعان.
وفي القرن التاسع عشر قبل الميلاد ظهر اسم المدينة في عداد عصبة المدن التي واجهت الملك الأشوري “شلمنصر الثالث” في واقعة “كركر” في حوالى سنة 851 ق. م. حيث أدّت هذه المعركة الى إنتصار “شلمنصر الثالث” وفرض الجزية على المدن المهزومة.
بعد نحو قرن من ذلك, أتت حملة أشورية أخرى بقيادة “تعلت فلصّر الثالث” الذي قام بحرق المدينة وتدميرها وبسبي سكانها. وفي العام 701 ق. م. تقريباً, ظهرت المدينة كحليف للملك الأشوري “سنا شريب” في حملته لمحاربة وقمع ثورة مدينة صور وملكها “ايلو لاي”.
وقد وجد على المستوى الأثري العائد لهذه الحقبة التاريخية عدد كبير من المساكن مع معبد أثري وتحصينات وإنشاءات مائية ومقاعد حجرية, إضافة الى عدد من المدافن والمقابر والمحارق المدفنية التي استخدمت في تلك الفترة.
كانت الفترة الهللينستية فترة غياب لمدينة عرقة, فيما سطع نجم مدينتي طرابلس وارواد في حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد أظهرت المكتشفات الأثرية العائدة لهذه الحقبة, أن مدينة عرقة على غرار المدن الثانوية في ذلك الوقت, تأثرت بالحضارة الإغريقية في أكثر من مجال.

 

إمارة أيطورية

في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد, استفادت بعض المدن والقبائل المحلية من نوع من الإستقلال والحرية. وفي هذه الفترة أصبحت عرقة إحدى إمارات الأيطوريين وهم قبائل من سلالة “ياطور بن إسماعيل”, وقد أقاموا دولتهم في سهل البقاع متخذين من كلشيس (ربما تسمية قديمة لعنجر) عاصمة لحكمهم. ويرى الأب جان ستاركي أن “إمارة عرقة الأيطورية, ربما امتدت في حينه, على المنطقة الجبلية حتى رأس شكا, لأن هذه الحدود الجنوبية لإقليم المدينة كما عينها أحد النقوش العائدة للقرن الثاني... وفي تلك المرحلة, كانت عرقة متجهة نحو الجبل, ومن هناك نحو بعلبك (هليوبوليس ­ مدينة الشمس) وقد تبنّت آلهتها...”. ويضيف ستاركي: “ثمة ضريح, لطالما حيّر العلماء والسواح, نقصد النصب الهرمي في الهرمل شمالي بعلبك, قد يكون ضريحاً لتخليد ذكرى أحد أمراء عرقة”.
أما حول علاقة إمارة عرقة الأيطورية ببعلبك, فإن عالم الآثار هنري سيريغ يوضحها إستناداً الى تحليله للعبادة الأيطورية وللنقود التي صكّها الأيطوريون وصكتها إمارة عرقة؛ فبعلبك كانت قد لعبت دوراً هاماً في إمارة عنجر الأيطورية, ثم تحوّلت الى مستعمرة رومانية عند إحتلال الرومان للمنطق. وفي ذلك الحين إهتم الرومان بتنظيم أمور العبادة في المنطقة ولا سيما في بعلبك, وذلك بهدف توحيد سكان المنطقة والمعمرين الرومان الذي أدخلتهم الأمبراطورية لأول مرة في البلاد, عبر عبادة موحدة. هذه العبادة للثالوث البعلبكي (Triade Heliopolitaine) امتدت الى الساحل اللبناني.
وهذا ما عالجه الأب رونزافال من خلال النقوش الواردة على العملات التي أصدرتها جبيل وعرقة وارطوسية, حيث كانت غالبية المدن تمجد الثالوث البعلبكي وتعطيه خصائص تتوافق مع آلهتها المحلية.

 

قيصرية لبنان

ابتداءً من سنة 63 ق. م. دخل كامل الساحل الفينيقي تحت حكم الرومان, وقد أطلق على مدينة عرقة في العهد الروماني إسم جديد هو “قيصرية لبنان” (Césarée du Liban) عندما قسّمت روما الإمارة الأيطورية العربية الى إمارات: إمارة عنجر وإمارة وادي بردى وإمارة عرقة, واستمرت هذه الإمارات مستقلة إستقلالاً إدارياً حتى نهاية القرن الأول.
حصلت عرقة في عهد عدد من الأباطرة الرومان على حقوق وإمتيازات قيمة؛ ففي عهد الأمبراطور “أنطونينو التقي” (138­161 م), أعطيت المدينة صلاحية صك النقود البرونزية. وقام الأمبراطور كركلا بخلع صفة مدينة رومانية عليها معطياً حق “المواطنية الرومانية” لسكانها.
وقد صكّت مدينة عرقة الرومانية النقود في عهد كل من الأباطرة إيلا غابالا واسكندر ساويروس. وتشاء الصدف أن يولد الأمبراطور اسكندر سامويروس في المدينة وذلك يوم عيد الإسكندر الكبير في المعهد المكرس على إسمه في مدينة عرقة.
مع ظهور المسيحية, يرد إسم عرقة سنة 363 في مجمع أنطاكية كمركز أسقفي. ففي هذه الفترة كانت عرقة تتبع كنسياً أسقفية أنطاكية وفي ما بعد بطريركيتها.
وقد وجدت طبقة كثيفة من البقايا الأثرية التي تغطي المباني القديمة تعود الى تلك الحقبة البيزنطية. وتظهر أسماء أساقفة مدينة عرقة في عدد من المجامع الكنسية: القسطنطينية الأولى سنة 381, أفسس سنة 431, أنطاكية سنة 445, وخلقيدونيا سنة 458.

 

من الفتح العربي حتى عهد المماليك

من المرجح أن العرب دخلوا عرقة مع فتح مدينة طرابلس سنة 635م على يد سفيان بن مجيب الأزدري.
وحوالى سنة 1070 م, استقل حكام طرابلس, بنو عمّار, عن سلطة الفاطميين في مصر, باسطين نفوذهم من مدينة جبيل جنوباً حتى مدينة طرطوس شمالاً بما في ذلك كامل منطقة عكّار. وفي هذه الفترة ستكون عرقة جزءاً من التحصينات الشمالية لمدينة طرابلس. وهي قد بقيت قلعة حصينة قيل فيها أنها: “مميزة بموقعها, وجدرانها وأبراجها العالية”.
سنة 1099 وصلت الجيوش الصليبية الى الساحل اللبناني. وقام الكونت ريمون دو سان جيل بعد إحتلاله لحصن الأكراد بحصار فاشل لمدينة عرقة. ولم يحتل الصليبيون المدينة إلا سنة 1108 وهي كانت حينها تحت حكم أتابكة دمشق. وهم كلّفوا إحدى رهبانيات الفرسان بالإعتناء بقلعتها. ويذكر حصول عدد من الزلازل على الساحل اللبناني حوالى سنة 1170, أدى الى خراب ودمار عرقة مرتين.
وبقيت عرقة من أعمال كونتية طرابلس الصليبية من سنة 1108 وحتى سنة 1267 تاريخ إحتلالها من قبل المماليك على يد السلطان بيبرس. والأدلة الأثرية العائدة لنهاية الحقبة الصليبية المملوكة في عرقة, أظهرت تدميراً وهدماً منظمين, مع فقدان كامل لحجارة الأبنية والجدران. ويعتبر ذلك دليلاً حسياً على ما قام به المماليك من تحويل كامل مدينة عرقة الى مقلع للحجارة ومصدر للمواد الأولية.
بعد هذا الدمار, دخلت مدينة عرقة عالم النسيان, الذي بقي يلفّها حتى وصول علماء الآثار لينفضوا الغبار عن تاريخ المدينة المجيد.

"استفاد هذا التحقيق بشكل أساسي من دراسة للأستاذ أنيس شعي المسؤول سابقاً عن قسم الآثار في محافظة لبنان الشمالي وعضو في البعثة الفرنسية في تل عرقة, وعضو في المجلس الدولي للمتاحف, وعضو في جمعية “أصدقاء عرقة” وعكار للتراث والثقافة".