متاحف من بلادي

ميخائيل نعيمه منزله ينبض بفكره وإبداعه
إعداد: جان دارك أبي ياغي

بين أروقة الذكريات وعوالم الإبداع، يقف متحف ميخائيل نعيمه شاهدًا على حياةٍ زخرت بالعطاء الفكري والتأمل. زيارة هذا المتحف في منطقة المطيلب تُعد بمثابة رحلة حجٍ إلى محراب الأديب وعالمه، حيث المكان ما زال ينبض بقلب من أقام فيه يقلِّب الحرف ويخصّب الفكر، فيزهر الأدب وتتعملق الفلسفة في لبنان والعالم.

في هذه الرحلة، ندخل عالم نعيمه الإنساني والفكري عبر مقتنياته ورسائله، لنكتشف ملامح الرجل الذي عاش حياته متأملًا جمال الطبيعة، متفاعلًا مع عمق الروح البشرية، ومخلصًا لرسالته الأدبية. ومن خلال تفاصيل المكان، نعيد قراءة حياته، حيث الحروف تصير جسورًا تربط الماضي بالحاضر.

متحف ميخائيل نعيمه هو ثمرة جهود سهى حداد المعروفة بسهى نعيمه، وهي أستاذة مادة دراسات الحضارات في جامعة هايكازيان. أنشأته تخليدًا لذكرى من كانت تناديه «جدّو» وتعتبره بمنزلة أبيها، هو الذي حضن طفولتها مع والدتها مَيْ، ملاكه الحارس، كما كان يلقّبها، وصمّام الأمان في حياته. فخلال سنواته العشرين الأخيرة (1970 – 1988)، عاش نعيمه ما بين الجديدة والزلقا مع ابنة أخيه مَيْ وابنتها سهى وكان المعيل والسند والأب الروحي للإبنة. وبعد رحيله في 28 شباط 1988، ومن بعده مَيْ في العام 2014، انتقلت سهى إلى شقة تملكها في المطيلب، ما لبثت أن حوّلتها إلى متحف للأديب يحتضن تراثه الأدبي وينقل أدق تفاصيل حياته الغنيّة بالرموز المعبّرة.

 

ميخائيل نعيمه في سطور
هو المفكر والكاتب والشاعر والقاص والناقد اللبناني ميخائيل نعيمه، ولدَ في 17 تشرين الأول 1889 في بسكنتا - جبل صنين في لبنان.
من قادة النهضة الثقافية والفكرية في المنطقة، وله العديد من المؤلفات باللغة العربية والإنكليزية والروسية والتي تُعتبر من أفضل الأعمال في الوطن العربي، وقد حفظت له مكانةً رفيعةً في عالم الأدب.

 

المنزل - المتحف
يفتح المنزل – المتحف أبوابه للزوّار ثلاثة أيام في السنة تُعتبر محطات أساسية: في ذكرى ولادة نعيمه ( 17 تشرين الأول)، في ذكرى رحيله ( 28 شباط)، وفي ذكرى رحيل مَيْ ( 15 كانون الثاني)، من الساعة الحادية عشرة صباحًا ولغاية السادسة مساءً، أو بناءً على موعد مسبق.

 

جولة في عالم الفكر والأدب

تعلو المدخل الرئيسي للمتحف، لوحة تحمل عبارة الـ «ميماسونا»، وهي اختصار لأسماء أفراد العائلة الصغيرة (ميخائيل، مَيْ، سهى، نعيمه)، وتؤكد سهى أنها لا تحمل فقط دلالة اسمية، بل تجسد رابطًا روحيًا يعبّر عن وحدة الكلمة والروح التي جمعتهم.

داخل الأروقة، يُتاح للزائر أن يبحر في تفاصيل حياة ميخائيل نعيمه؛ من أثاثه الشخصي إلى مكتبته التي تضم مؤلفاته بطبعتيها الأولى والثانية. هناك أيضًا كتب أهداها له مفكرون كبار، مثل توفيق يوسف عواد وشارل مالك وكمال جنبلاط ومتري بولس وسواهم... كل قطعة تُعرض هنا هي نافذة تُطل على فكره العميق وإنسانيته البسيطة والنبيلة.

في غرفة الجلوس، التي شهدت لقاءاته الأدبية، تملأ الصور العائلية الجدران وتوثّق، بالأبيض والأسود، حقباتٍ مختلفة من حياة الأديب، ما قبل الهجرة وبعدها: البيت الذي بناه في مسقط رأسه بسكنتا العام 1940 وسكن فيه مع عائلة أخيه نجيب، الكهف الذي كان يلجأ إليه للسكون والتأليف في صنين… من بين الصور الأحب إلى قلبه، صورة تجمعه بابنة أخيه مَيْ نشرها في كتابه «سبعون» (سيرته الذاتية وهو من ثلاثة أجزاء).

إلى جانب مجموعة صورٍ توثّق الأيام الأخيرة للأديب، ما زالت المحارم التي كان يستعملها محفوظة داخل علبة زجاجية. وتشير سهى إلى علبة محارم ورقية كتب عليها نعيمه جملتين قبل وفاته: «دقيقة الألم ساعة، وساعة اللذة دقيقة». و«أجمل الجمال، جمال الإنسان إذا لم تعكره أدران المعيشة». عبارتان تعكسان روحًا تأملية تجمع بين الحكمة والبساطة.

 

الدراسة والنشأة
أنهى ميخائيل نعيمه دراسته الثانوية في مدرسة الجمعية الفلسطينية في بسكنتا، ثُم أكمل دراسته الجامعيّة في مدينة بولتافيا في أوكرانيا وذلك بينَ العامين 1905 و 1911 ، حيث اطّلعَ على اللغة الروسية وأصبحَ متعمقًا في الأدب الروسي. في ما بعد، غادر نعيمه إلى الولايات المتحدة الأميركية؛ حيثُ نال إجازة في الحقوق، كما حصلَ على الجنسية الأميركية. هناك، انضمَّ إلى الرابطة القلميّة التي أسسها مجموعة من الأدباء العرب المقيمون في الخارج.
عاش ميخائيل نعيمه حياة طويلة امتدّت زهاء مئة عام، قضى غالبيتها في قرية الشخروب الجبلية التي تتمتّع بطبيعة ساحرة ومناظر خلابة، والتي تقع بالقرب من بسكنتا، البلدة التي ولدَ فيها. أحبّ نعيمه العزلة والتأمّل، ووجد في هذه القرية ما يبحث عنه، فكان ينعزل قرب الشلال ليفكّر في مؤلّفاته وكتاباته وفي كيفية الانسجام بينَ الإنسان والطبيعة ولله؛ ولذلك لُقبَ ب «ناسك الشخروب .»

 

المؤلفات
يعتبر ميخائيل نعيمه من أكثر الكتّاب إطلاعًا على الثقافات الغربية، بخاصّة الروسيّة والأميركية، وله العديد من المؤلفات في هاتين اللغتين بالإضافة إلى اللغة العربية.
تميّز بأسلوب مختلف عن الأدباء العرب في تلك الفترة، إذ كان يميل إلى وصف الأحداث والسرد بأسلوب يتميز بالإيجابية والتفاؤل والبساطة والوضوح والصراحة،
والقدرة على النقاش والإقناع، بعيدًا عن الزخرفة والكلام الزائد.
تمّ جمع مؤلّفاته الشعريّة والنثرية في ثماني مجلدات، وهي: «كان يا مكان ،» «همس الجفون »،« البيادر » ،« جبران خليل جبران » ،« صوت العالم » ،« هوامش ،»
«اليوم الأخير » ،« الغربال » ،« كرم على درب » ،« الأوثان » ،« زاد الميعاد » ،« في مهب الريح » ،« النور والديجور »، وغيرها الكثير.

 

زوايا تعبق بالذكريات

في كل زاوية من المنزل - المتحف ترتسم ذكريات من حياة الأديب. من عصاه وقبعته إلى نظاراته... ومن علبة سجائره التي كان يدوِّن عليها بعضًا من أفكاره، إلى الآلة الكاتبة التي استخدمها في كتاباته. حتى المطبخ، ما زال يحتفظ بصحنه وشوكته، وقد خُصصت فيه زاوية لصوره وهو يتناول فطوره اليومي. أما في غرفة النوم، فترتاح عباءته بعناية فوق سريره الذي تم نقله من منزله في الزلقا إلى المطيلب، وإلى جانبه حقائب السفر التي رافقته في دراسته بين أوكرانيا ونيويورك. فيما تحتفظ سهى بثيابه على أمل أن توثقها في متحف تطمح له في المستقبل يليق بالأديب ميخائيل نعيمه.

في بعض الزوايا، يتجلّى الارتباط بين الفكر والإنسانية، من خلال مقتنيات تروي الحكاية بلغة الروح، كمثل مجموعة الصور والوثائق مع صديق العُمر جبران خليل جبران الذي رافقه نعيمه على سرير الموت وأغمض له عينيه.

وفي زوايا أخرى، دعوة للانغماس في فكر الأديب وفلسفته، عبر مسوَّدات كُتب منشورة وغير منشورة، ومخطوطات وكُتب شخصية، ولوحات، وقاموس فرنسي-إنكليزي رافق الأديب على جبهة النورماندي حين كان جنديًا في الحرب العالمية الأولى، ورسائل وغيرِها من نسيج تلك الفترة وما يتخطّاها من مادة تؤرّخ لحياة بأكملها.

 

ذاكرة نابضة بالحياة

متحف نعيمه لا يقتصر على كونه معرضًا للذكريات، بل يمثل سردًا متكاملاً لأحد أعلام الفكر اللبناني. في كل زاوية، من الصور العائلية إلى المسودات الأولى لمؤلفاته، نجد صدى للإنسان الذي أحب الأرض والطبيعة ورأى فيها انعكاسًا لعمق روحه.

في يومياته، يظهر ولعه بجبل صنين الذي ألهمه كتابة «مرداد»، تلك الرواية التي تفيض بحكمته وتعابيره الفلسفية العميقة. وقد ضمّنها نعيمه شخصية «شمادم» المكبلة بالطمع والأنانية، تقابلها شخصية «مرداد» الذي ترك ناطحات السحاب في نيويورك من أجل صخور الشخروب.

كان نعيمه يعشق الأرض ورائحة ترابها، وتروي سهى أنّه كان يحضن شقيقه نجيب عند عودته من عمله في الزراعة ليتنشق من ثيابه تلك الرائحة المحببة.

 

من أقواله عن الإنسان والحياة
عندما تصبح المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ، عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قومًا متحضرين.
أدركتُ حلاوة السكوت، ولم يدرك المتكلمون مرارة الكلام، لذا سكتّ والناس يتكلمون.
كثرة الكلام ملهاة للفكر، والبشر يهربون من السكوت والتأمل، فأنّى لهم أن يدركوا لله؟

 

عن الحرية
الحرية أثمن ما في الوجود، لذلك كان ثمنها باهظًا.
ليس من المنطق في شيء أن تتباهى بالحرية وأنت مكبّل بقيود المنطق.
المدينة العظمى هي التي يسود فيها العلم والحرية والإخاء والوفاء.

 

عن المحبة والسلام
السلام لا يولد في المؤتمرات الدولية، بل في قلوب الناس وأفكارهم.
الحرب لو يعلمون لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع، بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضًا.
في قرارة نفسي اليوم إيمان عميق جدًا، إيمان لا يتزعزع بأنَّ المحبة وحدها هي المفتاح.

 

عن الصداقة
متى أصبح صديقك بمنزلة نفسك فقد عرفت الصداقة.
سقيت زهرة في حديقتي كان قد برح بها العطش، فلم تقل لي شكرًا ولكنها انتعشت، فانتعشت أنا.

يا شمسي ويا قمري

كتابات نعيمه تقف أيضًا شاهدًا على مدى تقديره للعائلة كركيزةٍ لحياته. ففي رسالةٍ محفوظة ضمن أوراقه، كتب الأديب لـ مَيْ:

«يا مَيْ، يا شمسي، ويا قمري!

منذ أن قُدِّر لي أن أعيش وإياك وابنتك الحبيبة سهى وأنا أحس أعمق الإحساس أنّ حياتي تقوم على ركيزتين، وهاتان الركيزتان هما المسيح في السماء وأنتِ على الأرض... ولو كان لي أن ألفّكما بشغاف قلبي لما تأخرت لحظة واحدة. ولكنني أصلّي من أجلكما وأرجو أن تكون صلاتي مسموعة»…

باختصار في هذا المنزل- المتحف، شيء من السحر... والكثير من الحب.