ثقافة و فنون

ميشال طراد شاعر المرأة بامتياز

وفيق غريزي

اللغة المحكية اللبنانية، مثل أي لغة حية، تطبّق عليها نظرية النمو والتطوّر. من هنا، نعتبر أن لغتنا العامية، تمر، في هذه المرحلة من الزمن، بطور الفتوة، مما يعني أنها ما زالت صبيّة تتهادى في وعر الحياة، تبحث عن مكامن جمالها. وما من شك في أن عامل الزمن، أساس كل تطوّر، هو الذي يقف وراء نضج شخصيتها وإرساء قواعدها النحوية. والكلام "عن فتوة اللغة المحكية اللبنانية، لا يعني أبداً أنها متقوقعة على نفسها، لا تتطلع الى مسافتها أبعد من حدود جغرافية مرسومة... فاللغة اللبنانية تعبير عن شخصية اللبناني وذاتيته. إنها صاحبة شخصية متميزة، ووسيلة كشف حسي، تخلق جسداً حياً لشعراء إختاروها لغة الإنتماء الى الأرض والكون، ومعبراً الى الحياة". ومن هؤلاء الشعراء الشاعر ميشال طراد.

 
المرأة والشعر

في غمرة الأسرار التي تملأ الكونية، لجأ ميشال طراد الى المرأة، يتأمل فيها، باحثاً عن المعنى الشامل والعميق للحياة والكون، ومتسائلاً عن سر العواطف المتضاربة في داخل الإنسان والتي تؤثر على دوره وعلاقاته مع الآخر. فأقبل عليها في ديوانه "جلنار" الحبيبة الأبدية. جلنار إمرأة من لحم ودم كانت روحها تلعب بالسحر والألوان. كان عمرها 23 سنة، حلوة، تسحر العقول البشرية، لقد فضّلها على حبيبة دانتي "بياتريس الشمس، وجلنار ضوؤها، بياتريس العصفور، وجلنار زغردته، بياتريس الوردة، وجلنار عطرها، بياتريس دانتي ليست أجمل من جلنار ميشال طراد".

هذا الحب الأسطوري، فرّقها وميّزها عن سائر النساء في شعره، فهي الحبيبة الأبدية التي التقاها في الطبيعة، حيث كوّنا فردوسهما المرتجى، جلنار بالنسبة الى ميشال طراد، كما كانت "غلواء" بالنسبة الى الياس أبو شبكة، و"إلسا" بالنسبة الى أراغون.

قال ميشال طراد، أصدق قصائده في المرأة. لقد أحسّ، أن المرأة (جلنار) في عمره وحياته ومصيره. وإذا كان "سعيد عقل يقول أنه لا يوجد سوى خطيئة واحدة، في حياته، وهي حبه للمرأة، فإن هذه المرأة، في حياة ميشال طراد، لم تحمل قانون الديانات، بل كانت بالأحرى علاقة إنسانية كونية، تعطي ما لا يعطيه وهم الأديان. وكانت المرأة ذلك الحلم الذي يكبر ويتسع على حساب الوهم. يقول الأديب طوني طراد، إن المدنية ­ الآلية الوافدة إلينا من الغرب زعزعت عالم ميشال طراد الحالم، وبدت كأنها تفرض عليه حياة لم يخترها. وكان تأثيرها المزعج يزداد يوماً بعد يوم، مما جعله يعي فداحة خسارته، محاولاً تدمير هذه المدنية عن طريق دعوته للعودة الى الجذور، الى الطبيعة حيث الحياة الحقيقية، فكان أن طوّر مذهباً في العيش وسط جمالاتها، غاص في رومانسيته، وآمن به، إيمانه بحبيبته. بدأت جماليته الخلاّبة مع حبيبته المستيقظة مع العطر، والضائعة بين الندى:

"يا ضِحكة العَسَّوسني       بين العطر أُوعي

 وبين الندي تضيعي وأُبرُم عليكي ها الدني".

 

حال الواقع بينه وبين الوصول الى حبيبته، فلجأ الى الحلم. وتجاوز الزمن بواسطة الخيال، "وكان من الذين يحلمون بالتخطي والإجتياز" إن الشاعر يتحدث عن أشياء يعيشها يومياً، وهو متلاحم معها لأنه يشاهد لوحات الطبيعة بكل دقائقها، ويراقب حركة مظاهرها في جميع الفصول وعلى مدار الوقت".

لقد سما شاعرنا بحبه الكبير بغية القرب من حبيبته، هي التي سكنته وسيطرت على كيانه:

"جلنار يا ربي شو هـ النغمي   هالإسم يا ربي

 نقّيه من جسمي                    صفّيه من دمي

 ودبّرو بحلمك                      كل ما إجي وناديك شي كلمي

 بينتفض قلبي                      بيشر على تمّي

 ومن غير علمي                   إسما قبل إسمك".

 جلنار تتحد في خلايا شاعرنا اتحاداً جسدياً وروحياً، فذروة العشق ومنتهى الحب أن تكون في دمه؛ ولذلك عندما يهم بمناجاة ربه، يناجيها، ونحن لا نجد إلا روحانية تشبه روحانية المتصوّفة تنبعث في هدوء واستكانة. ففي هذا النص إنكار للذات، وفناء للجسد، وتيقّظ للروح.

 
 التمازج مع الطبيعة

 تمازجت جمالات الطبيعة مع الحبيبة، فأصبحت شفتاها وردة مجروحة:

"لمن حبيبي شمّ  زرّ الورد شمّي،

وما زكّرو بتمّي،  تمّي أنا جلنار

جروَحو الشوك وصار  هالعطر يقطر دمّ".

 

لقد بانت الحلولية بين جلنار والطبيعة وكائناتها، فكان إسقاطها، بما فيها من جسد وروح، على الزهر الذي يحمل المادية الطبيعية، لقد أسقط ميشال طراد طبيعة الحبيبة البشرية على الطبيعة المادية، فتمازجت الذات الكبرى (جلنار)

مع الذات الصغرى (الزنبق).

هذه الحلولية فرضت "التطابق الشكلي بين الإثنين. فالزنبق هو محطة لجمال الطبيعة التي تختصر الشفافية، وهناك تقارب شكلي ومعنوي بينه وبين الحبيبة:

"عَ كتر ما هـَ الزنبق شلوحو علو  وتمايلو، صار يغلط بعَدّن

جلنار أوعي توقفي حدّن  بلكي سكر ويفتكر إنك إلو".

"هذا الوله جعل شاعرنا يسخّر جمالات الطبيعة لإرضاء حبيبته، وللتعبير عن مدى شغفه بها، فهو لا يتشوّق الى جمال في الدنيا إلا جمالها، لدرجة أن عماه وعدم رؤيته حبيبته أمران متساويان".

 
الحب والجسد

من جسد المرأة وروحها، تنبعث الإثارة والشهوة، والحب والحنان، والعاطفة الخاطئة المشتعلة، والمودة الهادئة. فالمرأة تقف وراء نظرة الشاعر الى الحب، وهو ما يتناهى إلينا بلغة متحركة أضافت الرعشة الى نغمة الجمال التي يثيرها الغزل.

"جسمي نهر أسود من نبيد المعتّق

بلكي مش معوّد تتسبّح بتغرق".

 

ولقد برّر ميشال طراد شهوته الجامحة عن طريق تعميمها على الجميع، ومن خلال تصويره هذا برز جسد السمراء خطيئة حمراء، أوجبت التمعّن في دقائقه وتحميله صوراً مستعرة مثيرة، أراد الشاعر من خلالها مغفرة خطيئته.

 

 جلنار في حياة الشاعر

جلنار، هذه المرأة التي سحرت شاعرنا، وامتلكت كيانه، كانت تربطها به قرابة لجهة الأم، وعاشت العائلتان في أجواء الألفة والمحبة. ومنذ ذلك الحين أصبحت جلنار حبيبة شاعرنا، لكنها لم ترَ هذا الحب منطقياً، وخاصة بعد زواجها الثاني، فكانت تحاول إفهامه دقة ظروفها وأوضاعها. ويقول الكاتب جورج طراد أن الشاعر أربكها اندفاعه، ودعاها الى نصحه بالكفّ عن تغنّيه بحبها، فهي تدرك أنها تكبره بأربع أو خمس سنوات، وتدرك أنه هائم بجمالها ولطافتها. غير أنها تكتفي بالحب الزوجي، وبرعاية أولادها.

وحين توقفت عن لقائه، أخذ يبث ذكرياتهما في كل ديوان من دواوينه، ووصل الأمر الى ابتداع حياة جديدة لجلناره، فهو أحب أن تكون معه في الطبيعة، حيث البساطة والمحبة، وكان يتخيلها بجانبه عندما كان تلميذاً يدرس أمثولته:

 

"هونيك بالأيام كان يلعب ولد ويغيّب متيلي

يخرتش شعار شعار  شو فيهن غناج

لهك الجلنار هـ القاعدي تغزل على ضو السراج".

 

ورأى البعض أن ميشال طراد لم يخترع إسم جلنار كما اخترع سعيد عقل أسماء ملهماته، لأنها حقيقة واضحة وواقعية في حياته، ولقد بقيت حبيبته الأبدية في حياته وشعره، وكانت ملهمته الحقيقية في قصائد الحب، وهو إن أحب غيرها، جهد أن يحظى بمثالها أو بجزء منه. وكما صوّر شاعرنا جلنار في شعره، فقد صوّر أيضاً المرأة -­ الأم والمرأة -­ الإبنة والمرأة إبان الحرب. عالـم ميـشال طـراد الشـعري، مزيـج من المـرأة والطبيعة، تشـترك في قصائده الرمـزية والجـمالية والرومانسية وأحياناً الـسوريالية والـبرناسيّة، وقد تجلى إبداعه في الصورة الشعرية الظلالية التي تصل، في أحيان كثيرة، الى الإيحائية فالرؤيوية.

إعداد: وفيق غريزي