أسماء لامعة

مي زيادة
إعداد: تريز منصور

إمرأة الثورة والنهضة الفكرية والأدبية والحزن الدفين

أطلّت على العالم العربي شعلة من مشاعل النهضة، ونفحت الفكر والأدب بروح جديدة.

تميّزت بتوق خفي إلى الخلق والإبداع. سئمت الموروث ونادت بالحريات والمساواة ودعت إلى اليقظة الإجتماعية وإلى كرامة المرأة.

مي زيادة، أديبة تشبّعت بتراب لبنان والعرب، وامتلكت تحرر الغرب بتحفظ، فمزجت بين شفافية الوجدان وصدق التراث، وبين واقع المتغيرات الجارفة التي كانت رياحها العاصفة بدأت تغيّر وجه الزمن في بدايات القرن العشرين.


حياتها في سطور

ولدت الأديبة «ماري» زيادة (التي عرفت باسم ميّ) في مدينة الناصرة بفلسطين في 11/2/1886. والدها الياس زيادة من شحتول، ووالدتها نزهة خليل معمّر (سورية الأصل فلسطينية المولد). كان أبوها اللبناني الأصل يدرّس في أحد المعاهد الحكومية. وعندما بلغت الرابعة عشرة من عمرها إنتقل ذووها إلى لبنان. وأدخلت مدرسة الراهبات في عينطورة، وقد عرفت حينها بميلها الشديد إلى العزلة وبنزعتها الرومنطقية الحادة.

العام 1904 انتقلت العائلة إلى مصر، حيث تولى والد ميّ إدارة مجلة «المحروسة» التي بدأت تكتب فيها ومن ثم في مجلة «الزهور». إلى ذلك عملت في تدريس اللغتين الفرنسية والإنكليزية وتابعت دراسة الألمانية والإسبانية والإيطالية، وفي الوقت ذاته عكفت على إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها. وفي ما بعد تابعت ميّ دراستها في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة.

وفي القاهرة، خالطت ميّ الكتّاب والصحفيين، وأخذ نجمها يتألق، كاتبة مقال إجتماعي وأدبي ونقدي، وباحثة وخطيبة.

أسست ندوة أسبوعية عرفت باسم «ندوة الثلثاء» جمعت فيها، لعشرين عاماً، أبرز كتّاب العصر وشعرائه وزعمائه، وكان منهم: أحمد لطفي السيد، وليّ الدين يكن، مصطفى عبد الرزاق، عباس العقّاد، طه حسين، شبلي شميل، يعقوب صرّوف، أنطون الجميل، مصطفى صادق الرافعي، خليل مطران، إسماعيل صبري، وأحمد شوقي.

أحبّت «ميّ» هؤلاء الأعلام حبّاً روحياً، ألهم بعضهم روائع من كتاباته. أما قلبها، فقد ظلّ مأخوذاً طوال حياتها بالأديب جبران خليل جبران وحده، على الرغم من انهما لم يلتقيا ولو مرة واحدة! دامت المراسلات بينهما لعشرين عاماً (من 1911 وحتى وفاة جبران في نيويورك العام 1931).

وجود ميّ خارج لبنان لم يصرفها عن تقدير وطنها ووعي تاريخه، وعشق طبيعته، والثقة الراسخة بمستقبله والإهتمام الصادق بمصالحه الإجتماعية وثروته الأدبية، حتى أصبحت هذه الأمور موضوع كتاباتها وتحريضاتها، ووهبت له ما تملك من ذكاء وعاطفة واندفاع صادق. وقد اتسعت تلك العاطفة الوطنية لتشمل الشرق على إختلاف نزعاته الدينية والوطنية، وارتقت إلى العاطفة الإنسانية الشاملة.

 

نتاجها الأدبي

كان نتاج «ميّ» الأدبي غزيراً، فأعطت خمسة عشر مؤلفاً خلال ثلاثين سنة أي بمعدّل كتاب كل سنتين، عدا نشاطها وأسفارها ومناقشاتها وخطبها التي لو قدّر لها الجمع لما اتسعت لها مجلدات.

أصدرت أول كتاب (شعر) لها العام 1910 باللغة الفرنسية باسم «أزهار حلم» تحت إسم مستعار (إيزيس كوبيار). ومن ثم توالت مؤلفاتها:

- «باحثه البادية»: وضعته ميّ سنة 1920، ودرست فيه شخصية ملك حفني ناصف ونظريتها الإجتماعية، وعلقت على تلك النظرية تعليقات جريئة وصريحة، كان لها صدى في دنيا العرب وفي تطوير حالة المرأة العربية.

- «كلمات وإشارات»: مجموعة من الخطب الاجتماعية طبعت سنة 1922، وقد عالجت في بعضها حالة البؤس والشقاء التي يتخبط فيها اليتيم والفقير، ودعت إلى مساعدتهما مساعدة فعّالة.

- «سوانح فتاة»: مجموعة من النظريّات والآراء جمعت بناء على إقتراح من الأديب ولي الدين يكن، ونشرت سنة 1922.

- «المساواة»: معالجة لقضية الطبقية الإجتماعية. كتاب فريد من نوعه في اللغة العربية، بحثت فيه الطبقات الإجتماعية وكيفية نشوئها، ثم عرضت للمشكلة حلولاً من خلال عرض حافل بالدقة وعمق النظر.

- «الصحائف»: ظهر هذا الكتاب سنة 1924، وفيه مقدمة تنطوي على نظرة قيّمة في النقد الأدبي وهو قسمان: قسم لصحائف بعض الأشخاص، وقسم لرحلات السندباد البحري.

- غاية الحق (محاضرة 1921).

- رسائل ميّ: نشرتها مادلين ارقش (1948) وجميل جبر (1951).

- مخطوطات: منها ثلاثون رسالة تراوح الواحد منها بين صفحة واحدة وخمس وعشرين صفحة، وهي موزعة ما بين القصة والرواية والمحاضرة والشعر والأدب.

 

ميّ والمرأة

إنضمت ميّ إلى الحركة النسائية التي كانت ترأسها هدى شعراوي، وكذلك اشتركت في الإجتماعات التي كانت تعقدها في الجامعة المصرية القديمة. وكتبت ميّ عن شهيرات النساء في عصرها وطالبت بإنصاف المرأة. إلى جانب ذلك ألحّت على المرأة أن تتحرر، على أن لا تخرج على حدود المعقول والمقبول، بل أن يكون تحررها على أساس العلم والتحفظ. وهي ترى أن موقف المرأة من الرجل وموقفه منها يجب أن يكونا منسجمين مع الطبيعة من غير تطرف ولا تفريط.

 

على المنابر

لقد اشتهرت ميّ بمقدرتها الخطابية، وقالت عنها جوليا دمشقية: لم أر في حياتي خطيباً اشرأبت اليه الأعناق، وشخصت اليه الأحداق كميّ، فكانت، وهي تخطب، كأن أجفان سامعيها مشدودة إليها بالأهداب، وما ذلك إلا لأنه اجتمع في الخطيبة أهم مقومات الخطابة. وهذه المقومات التي تشير اليها الكاتبة هي: سلامة الذوق، ومراعاة مقتضى الحال، ورخامة الصوت وطاقته الإنسيابية الفريدة وغيرها من المقومات التي تميّزت بها ميّ.

 

غيابها

مات أبوها وبعده أمها. ثم توفي جبران خليل جبران، فكانت الفاجعة كبيرة. شعرت بالوحدة، وغلبها الحزن فاعتزلت الناس، وانقطعت عن الكتابة والتأليف، وتغلّبت عليها «الوساوس»، فمرضت سنة 1936 وظلّت في اضطراب عقلي نحو عامين، تعافت بعدها، إلا أن المرض عاودها، ما أدى إلى وفاتها في مستشفى المعادي، حيث دفنت في القاهرة في 19 تشرين الأول سنة 1941.

عاشت ميّ معظم سني حياتها في مصر، وعرفت بمنتداها الأدبي. وكان لثقافتها المتنوعة، تنوّع أزهار الحدائق الغنّاء، إلى جانب اتقانها عدة لغات، أثر واضح في عذوبة أسلوبها وروعة تصويرها، ودقة وصفها، وتميّز أدبها الوجداني وشفافيته، إضافة إلى شخصيتها الجريئة وطموحها الفكري والفني وفطنتها.

هذه السمات عززت الإبداع والتميّز عند ميّ في مجتمع ندر فيه المتعلمون وخصوصاً من النساء، حتى كان يمكن عدّهن على أصابع اليد الواحدة في كل قطر.

وعلى الرغم من كل هذه الصفات الإيجابية التي كانت تتصف بها، إلا أنها كانت حزينة. ولكنها لا تظهر ألمها إلا لنفسها، وفي ذلك قالت: «احرصي على جرح قلبك أيتها الفتاة.. قلت أخبريني ما بك؟ قالت: يحزنني الربيع، يحزنني أن أرى مواكبه الجميلة تسير في الفضاء، فلا يراها البشر إلا من كوى».

ميّ زيادة هي ابنة هذه الأرض الطيبة، ستظّل روحها تطّل علينا نسمة تعبر صحارى الحياة، تطرق أبواب القلب تحاكي ما تبقى من انسانية، تذكرنا بأن الشمس والمصابيح تنير الأماكن.

وكما كانت تقول دائماً: «اعيدوني الى أرضي السمراء، أعيدوني الى قريتي الصخراء الشجراء».