قصة قصيرة

مَـزار الحبيب
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

أراح ساعدَيه على الحافة الإسمنتية التي تزنّر سطح المبنى، وراح يتأمّل الشمس وهي تسقط خلف البحر. منظر بديع كان يراه للمرّة الأولى من هذا المكان، إذ لم يكن قد مضى أكثر من أيّام ثلاثة على انتقاله وأفراد أسرته إلى هذا المبنى بعدما استأجر والده غرفتين ومتمّماتهما على سطحه.
وإذ حانت منه التفاتة إلى شرفة الطبقة الثانية المطلّة على جزء صغير من البحر عند الأفق، رأى فتاة بدت له في الخامسة عشرة من عمرها. مشرقة الوجه، ذهبية الشعر؛ فعجب كيف تغيب الشمس وتشرق في الوقت نفسه.
ظلّ ابن السبعة عشر ربيعًا يرنو إلى الصبيّة حتى التفتت إليه؛ فرفع يده بالتحية من دون ساعده؛ فما كان منها إلا أن رفعت يدها بثقل، ثم أسرعت إلى الدخول وخدّاها مصبوغان بدم الخجل.
ومرّ أصيل بعد أصيل، والشابّ يعود من عمله مع أبيه ليستحمّ ويبدّل ملابسه، ثم يخرج، قبل أن يتناول طعامه، ليقف عند الحافة، وينظر إلى شرفة الطبقة الثانية. حتى إذا غابت الشمس وهبط الظلام والصبيّة لم تخرج، دخل حزينًا، وقضى هزيعًا من الليل ساهرًا وحده مفكّرًا. حتى كان مساء صادف فيه فتاته عند المصعد؛ فخفق قلبه، وعادت إلى الحياة روحه. كيف لا وقد رأى مَن ملكت روحه واستوطنت قلبه! لكن هذه المرّة رآها عن قرب. الآن هي أجمل. عيناها اللوزيّتان لا يُصَدّ لهما سهم. وتفّاحتا خدّيها أشهى من تلك التي طُرد جدّنا آدم بسببها من الجنّة.
- مساء الخير. قال ونظر إلى الأرض مخافة إصابته بسحر لا رُقْيَة له.
- مساء الخير. أنا ميرا.
- هل تسمحين بأن أزيد ألِفًا قبل ميم اسمك؟
عندئذٍ ضحكت. وإذا طنين أجراس يختلط بزقزقة عصافير. وإذا بين الشفتين القرمزيّتين صفّان من اللؤلؤ الناصع.
- أنا أنور.
- أتسمح بأن أمحو ألِف اسمك؟
- يا لك من ذكية!! أترين أني أستحقّ اسمي الجديد؟
هزّت رأسها أنْ نعم وهي تبتسم. لا. لم تكن تكذب. عينا الفتى كانتا تبرقان، تشعّان، ووجهه الأبيض المستدير يحيطه شعره الأسود الأملس، بدر يسطع في ظلام الليل.
صعدت ميرا إلى بيتها وقد أحسّت بأنها كبرت خمس سنوات في دقائق معدودات. لقد تغيّر فيها شيء. بل كلّ شيء. دخلت غرفتها للتوّ. وقفت أمام المرآة تنظر إلى وجهها. إلى نهديها المشرئبَّين. إلى كلّ تفاصيل جسدها الذي يمور صحّة ونضارة. ثم ما عتّمت أن خرجت إلى الشرفة. أضاءت المصباح. نظرت إلى فوق؛ فإذا أنور ينظر إليها. حيّاها فحيّته. ابتسم لها فابتسمت له. دخلت غرفتها سعيدة. رفع رأسه إلى العلاء. أغمض عينيه. دار في مكانه مبتسمًا فاتحًا ذراعيه.
كما في هذا المساء كان في مساء اليوم الثاني، وكلّ يوم بعده: تحيّات وابتسامات من شرفة إلى شرفة. ولَكَم كان أنور سعيدًا يوم جاء أهل ميرا يزورون أهله، ويتعرّفون إليهم، ويرحّبون بهم! كانت ميرا ترتدي فستانًا أزرق بلون عينيها، وعلى شفتيها صباغ أحمر تضعه للمرّة الأولى، وتحمل هاتفًا خلويًا رآه أنور فابتاع في اليوم الثاني جهازًا مستعملًا بما يقدر عليه من ثمن. ولما لامس قرص الشمس خطّ الأفق، وهو موعد اللقاء الذي أصبح مقدّسًا، أطلّ أنور على ميرا في شرفتها والقمر بدر، وأظهر لها هاتفه. فهمت الرسالة. دخلت وعادت بهاتفها. دخل على صفحتها في Facebook. كتب لها: «كلّ الناس ينظرون إلى فوق ليبصروا القمر. أما أنا فأنظر إلى تحت». ابتسمت، وكتبت له: «لكلّ الناس قمر واحد. أما أنا فلي قمران اثنان. وأغلاهما عندي أقربهما إلى شرفتي». أعطاها رقم هاتفه؛ فأعطته رقمها. طلبها، وقال لها: أحبّك يا قمر لياليّ، أحبّك. ما كنتُ أحسب أنّ يومًا سيأتي حاملًا إليّ كلّ هذه السعادة. لكنّ ميرا لم تقل سوى: «تصبح على خير». لقد كانت جرأتها في الكتابة أكبر منها في الكلام.
هكذا أصبحت الدنيا في عينَي ميرا أجمل. لا تصعد في باص الثانوية صباحًا إلا بعد أن تلقي نظرة على بيت أنور. ولا تعود إلا لترسل عينيها إلى حيث اعتادت أن ترى حبيبها عند كلّ غروب. وجهه تراه في كلّ صفحة من صفحات كتبها. واسمه كتبته على كلّ ورقة من دفاترها. حتى على مريولها كتبته.
وهكذا أصبح للحياة في عينَي أنور معنى. في ما مضى كان يغدو مع أبيه للعمل في رفع مداميك البنيان ثم طليها. حتى إذا ما انقضى من النهار معظمه، عاد إلى البيت، وتناول الطعام، وخرج برفقة بعض الأصدقاء للتسلية. أما اليوم فقد هجر أصدقاءه. ميرا أصبحت الصديقة والحبيبة وكلّ شيء في حياته. فيا لفراغ الحياة التي تخلو من حبيب!!
ذات يوم اتّصل بها، وقال لها: اصعدي تفرّجي على الخيمة التي بنيتها لك.
- لي أنا!!
- لي ولك.
- لا أستطيع. لديّ غدًا امتحان في مادّة الرياضيات. إني خائفة.
- الخوف أوّل طريق النجاح.
- ثمّة مسألة استعصى عليّ حلّها.
- هاتيها. قد أستطيع مساعدتك فيها.
- أتستطيع!!... إني صاعدة.
أنور كان قد ترك الثانوية الرسمية العام الفائت بالرغم من أنه كان بارزًا في الموادّ العلمية والأدبية على السواء. يومذاك قال في نفسه: «أنا أكبر أبناء أسرتنا الفقيرة. أبي يكدّ من بزوغ الفجر حتى مغيب الشمس ليؤمّن ما يقيتنا ويستر عُرْيَنا. لن أتركه وحده. ليتعلّم أخوتي. وأنا يكفيني من العلم ما حصّلته». ومنذ ذلك اليوم هجر مدرسته، والتحق بأبيه.
وصلت ميرا متأبّطة كتابها. دخلت الخيمة. وإذا وجهها أكثر إشعاعًا من المصباح المعلّق في السقف. «جميلة جدًّا». قالت وهي تجيل الطرف في جدرانها الخشبية. لكن سرعان ما استرعى انتباهها ورقة بيضاء مطويّة يُظهر لوح الخشب زاوية منها صغيرة. سألت: «ما هذه؟». ولمّا بدا على أنور الارتباك، قالت بصوت ينضح أسىً: «لعلّها رسالة غرامية لإحدى المتيّمات أو منها».
- إني أعتذر منك. قال ولوى رأسه فوق صدره.
- تعتذر!!
- إفتحيها.
- لا شأن لي بها ولا بك. أنا ذاهبة. لا تكلّمني بعد اليوم.
قالت، وهمّت بالخروج؛ فالتقط أنور ذراعها: «قلت افتحيها»؛ فمدّت يدها ببطء، وأخذت الورقة وفتحتها، ثم رفعت بصرها إلى أنور، وبقيت تنظر إليه حتى سالت دمعتان على خدّيها.
- أنا التي عليها أن تعتذر. قالت، واقتربت من أنور أكثر، وأراحت ساعديها على كتفيه.
- نسختها أمس عن صفحتك في Facebook، وكبّرتها. وفي نيّتي أن أعلّقها في صدر الجدار لأسهر معها وأنت نائمة في سريرك.
- حبيبي.
- أنت حبيبتي. قال، وأحاط خاصرتيها بذراعيه، وطبع قبلة على رأسها. ثم رفع ساعديها عن كتفيه: «هاتي مسألتك لننظر فيها». فجلست، ووضعت كتابها على ركبتيها العاريتين، وفتحته. فأخذ أنور قلمًا وورقة، ورسم مثلّثًا جعل فيه دائرة تلامس أضلاعه. وبعد تفكير قصير، وجد الحلّ السليم، وأطلع ميرا عليه.
- آه! لكَم هو بسيط!
- غدًا فكّري جيّدًا، ولا تدعي الوقت يغدر بك. أريدك أن تجيبي عن كلّ أسئلة الامتحان.
- قد لا أستطيع.
- وإن استطعتِ أتعدينني بجائزة؟
- ماذا تريد؟
- أن أراك. أمسك يدك. أضمّك. أقبّلك.
- هذا كثير.
- حسنًا. سأكتفي بواحدة فقط: أقبّلك.
عندئذٍ ضحكت، ونهضت: «شكرًا على المساعدة». ومضت.
بعد أيّام قليلة صعدت إلى الخيمة من غير أن تتّصل به. كانت تعرف أنه فوق. لقد سمعته يدندن أغنية ويُعمل المنشار في بعض ألواح الخشب لتحسين الخيمة. دخلت مرتدية مريولها. يداها خلف ظهرها، وعيناها تبرقان فرحًا.
- ما تخبئين خلف ظهرك؟
- إحزرْ.
- مسابقة الرياضيات.
- لقد أجبت عن كلّ الأسئلة، ونلت علامة عشرين على عشرين. قالت، وراحت تقفز في مكانها، وتضحك. فما كان من أنور إلا أن احتجز يديها خلف ظهرها، وقبّل شفتيها.
- ماذا فعلت يا مجنون!!
- أخذت حقّي. جائزتي.
- أما خشيت أن يرانا أحد!!
- ما من أحد هنا. كلّهم خارج البيت.
عندئذٍ طوّقت ميرا خاصرتَي أنور. وأراحت خدّها الأيسر على كتفه اليسرى؛ فقبّل رأسها، وراح يمشّط شعرها بأصابعه. لكنها ما عتّمت أن أدارت وجهها. وجعلت شفتيها تلامسان عنقه. قبّلتها. ثم أخذت توزّع قبلاتها بين شفتيه وعينيه وأنفه وأذنيه.
- أتعرف؟ أشتاق إليك بين القبلة والقبلة.
- إذًا اجعلي قبلتك متواصلة.
كالنائم مغناطيسيًا انصاعت ميرا لطلب أنور. ولما أحسّ بسخونة شفتيها وغليان دمها، وضع يديه على كتفيها، ودفعها عنه برفق، واستدار في مكانه: «اذهبي أرجوك. انزلي إلى بيتك قبل أن يستيقظ شيطاني». فنزلت ميرا وهي تستر شفتيها بيديها.
* * *
مرّت على العاشقَين ثلاث سنوات أمضياها في جنّة السعادة من غير استجابة لهمس الشياطين ومحاولاتهم، حتى جاء يوم توقّفت فيه ميرا عن لقاء حبيبها أو المبادرة إلى الاتّصال به عبر الهاتف؛ فأصبح هو المتّصل دائمًا وهي المجيبة. وكانت، كلما أطال، تختصر. هذا التحوّل أقلق أنور. بل أحزنه حتى الموت. سألها عمّا غيّرها؛ فلم يلقَ جوابًا شافيًا. راح يراجع تصرّفاته معها وكلامه لها مفتّشًا عن فعل مسيئ  أتاه أو كلمة جارحة قالها، لكنه لم يجد. أخيرًا توصّل إلى استنتاج وحيد: ميرا لم تعد تحبّه. ولكن هل تحبّ غيره؟ هذا الاعتقاد حوّله عصفورًا ماتت أمّه ولمّا يزل في العشّ بعدما كان صقرًا يلعب مع الريح.
صار عصفورًا يبكي كلّ يوم عصفورته متأمّلًا صورتها المعلّقة في جدار الخيمة. لكنّ دموعه كانت حمرًا بلون قرص الشمس وهو يسقط خلف البحر لحظة الغروب. واستمرّ على هذه الحال أسبوعين ذاق فيهما الأمرّين، حتى كان يوم أتت فيه ميرا خيمته، ووقفت في الباب زهرةَ أقحوان قصفت الريح ساقها.
- لماذا جئتِ!! ألتبصري دمعة قلبي وتسمعي أنين روحي!
- جئت أودّعك. قالت، واغرورقت بالدمع عيناها.
- تودّعينني!!
- أجل. ثمّة شابّ دخل بيتنا، وطلب يدي من أمّي وأبي.
- ستتزوّجين إذًا... هل يستحقّك؟
- إنه ثريّ جدًّا. أمّي وأبي رحّبا، وشجّعاني على القبول به.
- وأنتِ؟
- حيرى بين عقل يريد وقلب لا يرفض.
- يبدو الأمر محسومًا... مبروك.
- أبهذه السهولة تتخلّى عني، وتقول مبروك!!
- ماذا تنتظرين مني غير ذلك! أنا لا أصلح لك. شابّ فقير ليس له من حطام الدنيا سوى خيمة حقيرة لا يملك حتى موضعها. إن كنتُ حقًّا أحبّك فلا يجدر بي أن أقف في دربك... اذهبي يا ميرا. ارحلي يا أميرة، ولا تلتفتي خلفك. لا تقلقي فلن أكون وحدي. كلّ ليلة سأسهر مع صورتك وشمعتي ودمعتي.
- لن يمضي أسبوع إلا أكون قد رحلت بعيدًا. وقد لا أراك بعد ذاك ولا تراني. قالت وتركت دمعتيها تنزلقان فوق خدّيها.
- لا. لن تكون رحلتك بعيدة. ستكون مجرّد مشوار قصير من عيني إلى قلبي.
- وداعًا يا... حبيبي.
- ألا أستحقّ أن تودّعيني بقبلة! قال ودنا منها، وأراح كفّيه على كتفيها.
- على مهلك. على مهلك.
- ألا... أستحقّ... أن... تودّعيني... بقبلة!
- كيف تقول ذلك!
- على مهل كما طلبتِ.
عندئذٍ انفجرت بالضحك. ثم أخذت رأسه بين يديها ولوته فوق صدرها، وبكت بكاء يتيمة أخذوا منها لعبتها الجميلة.
* * *
كان لميرا عرس كأعراس أميرات الأساطير، انتقلت بعده إلى بيتها الزوجيّ أو قُلْ سجنها الذهبيّ. الذهب والخدم والسيّارة الجديدة لم يجعلها سعيدة. زوجها كان كثير السفر. يأتي أسبوع ويسافر شهرين. هداياه الكثيرة كانت في البدء تسرّها. لكن في ما بعد لم تعد تنتظرها.
- دعني أسافر معك. قالت له مرّة.
- وتربّين طفلنا في الأدغال بين الزنوج!! أجاب ضاحكًا وهو يمسح بطنها المنتفخ برفق.
- خير له أن يربى بين الزنوج من أن يربى بلا أب.
- لا تزعلي يا حبيبتي. غدًا أصفّي أعمالي هناك، وأعود لأبقى إلى جانبك.
لكن لا الزوج صفّى أعماله ولا الغد الموعود أتى. ميرا أنجبت له بنتًا وهو غائب. انتظرت شهرًا حتى عاد وسمّاها «مها».
على بُعد بضعة عشر ميلًا من هذا المكان كان أنور يحيا حياة بائسة. حياته عادت بلا معنى لأنها خلت من أيّ هدف. انتظر طويلًا أن تتّصل به ميرا لتطمئنّ عليه، لكنها لم تفعل. مزّق صورتها لعلّ البعيد عن العين يصبح بعيدًا عن القلب أيضًا. لكنه اكتشف أن الصورة مطبوعة في ذاكرته، بل محفورة داخل أضلاع صدره. قال: «لن أفكّر فيها بعد اليوم. إن كانت ما زالت تذكرني، فستسأل عني. وإن لم تسأل فهذا يعني أنها ما عادت تذكرني. وفي هذه الحال لماذا أفكّر فيها!!». لكنّ أنور كان ينسى دائمًا أنه قرّر نسيانها.
قرّر نسيانها لظنّه أنها نسيته. لكن كيف لميرا أن تنسى ذاك الذي علّم قلبها الحبّ وجناحيها كيف يطيران! اسمه لم يغب يومًا عن بالها. وصورته لم تبرح خيالها. حبّها له عذّبها. لكنّ أخلاقها منعتها من رؤيته أو الاتّصال به اثني عشر عامًا.
قبيل عيد ميلادها الثلاثين أتى زوجها حاملًا لها هدية ثمينة: خاتمًا ماسيًّا وضعه في إصبعها، وقبّل يدها: «عسى أن تحمليه مئة عام يا حبيبتي».
- لعلّك تريد أن يبقى في إصبعي مدفونًا في القبر معي!
- بل أتمنّى أن تحيي مئة عام وأنت تلبسينه.
- مئة! ألا يكفي اثنا عشر عامًا من العذاب!
- ما هذا الكلام الذي أسمعه منك! أتتعذّبين وكلّ ما تحلم امرأة به هو في متناول يديك وتحت قدميك!
- لا أريد قصرًا ولا ذهبًا. أريد زوجي. أريد أن أكون أمًّا فقط، لا أمًّا وأبًا. ابنتنا أتمّت عامها الحادي عشر وتكاد لا تعرف أباها.
- لا أستطيع أن أتخلّى عن مصدر رزق، بل منجم أغرف منه ذهبًا. أظنّ بحثنا هذا الموضوع من قبل.
- أنا لم أعد أستطيع أن أتحمّل هذه الحياة. ولم أعد أريدها.
- إذًا؟
- طلّقني. أعد لي حرّيّتي.
- ماذا!! أنت حمـ...
- قلها. أجل أنا امرأة حمقاء. حمقاء لأني ظننت المال جالبًا للسعادة. ولأني تبعت عقلي وصممت أذنيّ عن نداء قلبي.
- هل أفهم أنّ لك حبيبًا تركتِه لتتزوّجي بي!
- لكنني أخلصت لك دائمًا.
- حسنًا. سأعيد لك حرّيّتك. أنا أيضًا لا أريد هذه الحياة. هذه المرّة سأسافر ولن أعود. سأرسل إليك أوراق طلاقك من هناك. ويصلك مني كلّ شهر ما يكفيكِ ويكفي ابنتنا وأزْوَد.
هكذا عادت ميرا إلى الحرّيّة منقادة هذه المرّة لقلبها. ولم يمضِ أيّام قليلة حتى وجدت نفسها في بيت حبيبها تزور أمّه وتسأل عنه.هذا البيت كانت العائلة قد انتقلت إليه منذ عشر سنوات.
- إبني هذا سيقرّب أجلي. قالت الأمّ. أقرع رأسه كلّ يوم ليتزوّج فأرى أحفادي قبل أن أموت. لكن الجواب هو هو في كلّ مرّة: لم أصادف الصبيّة التي أحبّها بعد.
- ألله كريم يا «أمّي». ألله كريم.
- أجل. إن رحمة الله لعظيمة.
كان بودّ ميرا أن ترى أنور. ولما لم يكن في البيت، سألت أمّه عن مكان عمله؛ فدلّتها. قالت إن طريقها من هناك، وقد تعرّج على ورشته للسلام عليه. لكنّ ميرا لم تقل الحقيقة. طريقها طريق آخر. والمكان لم تطأه قدماها من قبل. لذلك سألت كثيرًا قبل أن تصل. وعندما وصلت، تسمّرت على بُعد بضع عشرة خطوة تنظر إلى رجل واقف على لوح خشبيّ معلّق في الهواء، يرصّ حجارة المدماك إلى بعضها بالإسمنت. وإذ رآها أنور، ضحك قلبه. نزل عن اللوح قفزًا. نفض الغبار عن ثيابه. وحثّ الخطى نحوها؛ فطوّقت عنقه، وقبّلت جبينه، ولم تفه بكلمة لأن دموعها إلى عينيها كانت أسبق من الكلمات إلى شفتيها. أما أنور فأحاط كتفيها بذراعيه من غير أن يدع يديه تمسّانها كي لا يتلطّخ فستانها.
- كيف حالك؟ عساك بخير. قالت.
- جسدي لم يمت بعد كما ترين. أما روحي فقد ماتت يوم رحيلك.
- ها أنا قد عدت لأكون معك. لك.
- لي!!
- لقد طلبت الطلاق من زوجي، وسأحصل عليه. لم أستطع أن أحبّه لأنني نسيت قلبي معك.
- ميرا!!
- حبيبي!!
- هل تستطيعين أن تسامحيني لأني تخلّيت عنك وكان عليّ أن أناضل من أجلك؟
- أنا التي عليها أن تطلب السماح لأنني ظلمتك إرضاءً لأنانيّتي.
- لا تتركيني بعد اليوم يا حبيبتي.
- عليّ أن أعود من أجل ابنتي.
- أستطيع أن أحبّها لأنني أحبّك.
- سأعود يوم أحصل على طلاقي.
- ستجدينني أنتظرك على أحرّ من الجمر.
عصر ذلك اليوم عاد أنور إلى البيت سعيدًا. حمل أمّه ودار بها راقصًا. كلّ الدنيا كانت ترقص معه.
- سأتزوّج يا أمّي. لقد التقيت فتاة أحلامي.
- أصدقًا تقول!!
- أقسم بعينيك الغاليتين.
- مَن تكون؟
- غدًا تعرفين.
لكنّ الغد لناظره لم يكن قريبًا. ميرا منعت نفسها من رؤية حبيبها حتى حصلت على وثيقة طلاقها بعد شهرين. حينئذٍ أتت الورشة لتقول لأنور إنها أصبحت حرّة. لكنّ الورشة كانت قد أُنجزت، ولم يعد من أحد هناك. قصدت بيته. وما كان أشدّ صدمتها حين فتحت أمّه ورأتها ترتدي الأسود ومسحة من الحزن العميق تغشى وجهها.
- ادخلي يا ابنتي، ادخلي. قالت الأمّ وأخذت يد ميرا، وردّت الباب خلفها.
- ما الأمر!! سألت والخوف يقفز بين قلبها وعينيها.
- إنه أنور... ولدي. فلذة كبدي.
- أنور!! قالت بصوت كاد ألا يكون مسموعًا. ولما وقع بصرها على صورته فوق المنضدة موشّحة بشريط أسود، وضعت يدها على شفتيها، وارتمت على أقرب مقعد تمسح دموعها.
- منذ ما يقرب الشهرين قال لي، والفرحة تغمر قلبه، إنه سيتزوّج لأنه وجد الفتاة التي يحبّها. ومنذ ذلك اليوم راح يعمل في الورش الخطرة حيث الأجر أكبر. كان يريد أن يجمع مبلغًا يشتري به بيتًا ولو صغيرًا يأويه وزوجته. لكن مَن ليس له في هذه الحياة نصيب من الفرح، فمن أين يشتريه!! لقد مات أنور. سقط من علوّ شاهق، وأخذ روحي إلى القبر معه.
لم تمكث ميرا هناك طويلًا. مَن جاءت من أجله مات من أجلها. بسببها. نهضت من مقعدها مهزومة. وجرّت قدميها خارجة. عند الباب ودّعتها المرأة قائلة لها: «أنتِ ابنة أصل. لا تطيلي غيابك عني يا ابنتي».
«أنا ابنة أصل!!». سألت ميرا نفسها وهي تبتعد. «لا. أنا امرأة قاتلة. طعنتُ حبيبي مرّة يوم تركته. وبعد اثني عشر عامًا عُدتُ لأُجهز عليه... أنا التي قتلتك يا أنور. أنا قتلتك». هكذا راحت تردّد بصوت مسموع، وتضرب خدّيها بيديها.
وعادت إلى القصر. بل إلى القبر تدفن نفسها فيه. حبيبها في قبر تحت التراب، وهي في آخر فوقه. ستّ سنوات مضت لم تخرج فيها إلا للضرورة وزيارة مثوى الحبيب. أما لباسها فكان فستانًا أقلّ سوادًا من روحها المتفحّمة.
وكبرت مها. وبلغت من العمر ثمانية عشر ربيعًا. فتاة أخذت من أبيها طول قامته، ومن أمّها سحر وجهها. وشاءت الأقدار أن تتعرّف إلى شابّ أقبلت الدنيا عليه فأثرى. ولم يمضِ عام وبعض العام حتى أعرب للفتاة عن نيّته في الزواج بها.
- سيأتي ذووه عمّا قريب لطلب يدي يا أمّي. قالت ذات يوم بعد عودتها من الثانوية، وراحت ترقص حول أمّها كالفراشة.
- أتحبّينه يا بنت؟
- كيف لا أحبّه!! أرأيت سيّارته الجديدة! ثمنها يشتري بيتًا.
- دعيني أطرح السؤال بصيغة أخرى. لو لم يكن ثريًّا، فهل كنتِ لتقبلي به؟
- بالطبع لا.
- إذًا تحبّينه لغناه. أظنّك تعرفين المثَل.
- السعادة في هذه الدنيا لا تتحقّق إلا بثلاثة: المال والمال والمال. ومَن يعتقد غير ذلك فهو واهم.
- تروّي يا ابنتي؛ فقد تندمين.
- أندم إذا تروّيت وتردّدت واختطفته إحدى الحسودات مني.
- حسنًا. ما رأيك في أن نقوم معًا بنزهة قصيرة؟
- إلى أين؟
- هيّا بنا.
وركبت مها السيّارة إلى جانب أمّها. وبعد مضيّ وقت قصير، سألتها: إلى أين نحن ذاهبتان؟ أجابت: إلى حيث أجيء، كلما استبدّ الشوق بي، لأبكي حتى تجفّ دموعي، ثم أعود لأحتبس خلف قضبان الذهب. أسمعتِ؟ خلف قضبان الذهب.
بعد مسير نصف ساعة، انحرفت ميرا بالسيّارة نحو حقل واسع مزروع بالأضرحة؛ فنظرت مها إلى أمّها والدهشة ملء عينيها: «إنها مدافن. أإلى هذا المكان أنتِ تأتين!». فهزّت الأمّ رأسها أن نعم. وترجّلت. ومشت تتبعها ابنتها. حتى إذا ما بلغت ضريحًا متواضعًا يظلّله غصن شربينة عتيقة، جلست إزاءه. سألتها ابنتها: مَن يرقد هنا يا أمّي؟ أجابت وهي تمسح الغبار عن رخام الضريح بيد وتمسح دموعها باليد الأخرى: منذ إحدى وعشرين سنة جاء إلى المبنى، الذي كنا نسكنه، زوجان فقيران. وكان لهما ابــن في السابعــة عشــرة من عمــره اسمــه أنور...