ضيف العدد

ناطور المرجة
إعداد: عاطف ياغي

فتحتُ عينيّ في بيتٍ أبويَّ الترابيّ على مجموعةٍ بشرية من الجنسين، هي أسرتي، وكان ترتيبي الثامن من تسعة> وبدأتُ اتعرفُ على حيّنا في رأس العين وهو بيوتٌ لأعمامي وأخوالي وأصدقاء أهلي، وما كان يميّز الحي هو ان كل بيت كانت له حديقة لا تخلو من شجرة مشمش وياسمينة وزنبقة وقرنفلة وجورية. وصرتُ كلما كبرت اتعرّفُ إلى أحياء وأماكن ابعد، فكنت اذهب بصحبة أهلي إلى بيت جدي لأمي، فبعد ان نقطع حيّنا ذا الشارع العريض، وكان ترابياً، ندخل في أزقةٍ تضيقُ شيئاً فشيئاً حتى نصل الى بيت جدي الواسع نسبياً والذي كانت تُزينه شجرة سرو باسقة لم يكن لها مثيل في بعلبك الا شجرة السرو التي ما تزالُ قائمةً حتى اليوم في منتصف شارع الشيخ بشارة الخوري.
ثم تعرفتُ إلى مرجة رأس العين وما أجملها من متنزه يجري من جنوبيّه نهر صغير صافٍ على ضفتيه أشجار صفصاف ودُلب باسقة، وتجري وسطه ساقية ماءٍ على ضفتيها أشجار دُلب، وفي الطرف الشمالي من المرجة اوتيل خوام ومقهى الجوهري، ومن طرفها الشرقي بحيرةٌ صغيرة حولها أشجار الصفصاف، بينها وبين المرجة طريقٌ صغير ومن طرفها الغربي بساتينٌ غنّاء يفصلها عن المرجة طريقٌ غير معبّد.
هذه المرجة كانت ملتقى أهل بعلبك والوافدين إليها من شتى أنحاء العالم، يقضون فيها أمتع الأوقات بين ماءٍ وخضراء ووجه حسن، وكانت أيام الجمعة بعد الظهر تنقسم عفوياً إلى قسمين: مرجة الرجال ومرجة النساء، ففي القسم الخاص للرجال تشهد الدبكات والرقص والموسيقى وبعض الألعاب الرياضية، وفي القسم الخاص بالنساء تشهد حلقاتٍ مجتمعة على مأكولات خفيفة ومكسرات وإبريق شاي يجلسون جميعاً على المرج مباشرة او على بُسُطٍ وحُصرٍ وغيرها، والنساء ينظرن من حلقاتها إلى الرجال وما يقومون به من نشاطات.
أما في باقي الأيام فالجلوس في المرجة مشترك وحلقات الرقص للوافدين مشتركة والعزف والإيقاع ملء الأجواء، وكان للمرجة ناطور من قبل البلدية يقيها من أذى الأطفال ويحافظ على خضرتها، ونشأت بينه وبين المرجة صلاتٌ وجدانية وتعرّف إلى أناس كثيرين من الزائرين لأنه كان لطيف الحديث انيس المعشر يُصاب بكآبة عندما ينتهي فصل الصيف وتخلو المرجة من الناس في شهر تشرين الأول وصاعداً. ولا أنسى إنني كنت أمرُّ يوماً على الطريق بين مقهى الجوهري والمرجة وكنت مرتدياً ثياباً حمراء وكانت على الطريق بقرة، فلما شاهدتني لحقت بي فركضت بسرعة وركضت بسرعة فعرفت الرعب لاول مرة انا الطفل الصغير وهي البقرة الكبيرة، وقاربتني فحرت ماذا افعل وتصورت انها ستحملني بقرونها او ستدوسني بأرجلها، واذا بالناطور السيد نزار يقول لي بملء صوته: اقفز الى المرجة اقفز الى المرجة. وكانت المرجة عميقة بالنسبة اليّ بعيدة المدى فحرت كيف اقفز ولكن للخوف مبرراته فقفزت ولم يصبني اذى فأقبل عليّ السيد نزار مطمئناً.
اسمعني ذات تشرين قصيدة كتبها هو، حسب معلوماته في الشعر، اذكر منها هذا الشطر "يا صيفُ ما لكَ ذاهباً متسرعاً".
مرجة رأس العين لم تكن تُروى في فصل الصيف لبدائية الريّ ولكبر مساحتها، ففي بعض الأماكن منها تُصاب بظمأٍ شديد لدرجة اليباس ولكن ما ان يأتي فصل الخريف حتى تعود إليها الحياة وتصبح نضرة.
في الحرب اللبنانية استُبيحت حرمتها وانتهكت مكانتها فداستها الخيل والحمير والدراجات النارية والهوائية وفي بعض المرات السيارات، وأقيمت فيها المهرجانات الشعبية الحاشدة وزرعت فيها أعمدة الحديد الكثيرة لتكون مظلة للمحتشدين؛ وبعد عشرين عاماً تقريباً أعيدت العناية بها من قبل الدولة فسورتها وزرعتها ببذور المرج وأمنت لها شبكة ريّ حديثة، ولكنّ مرجة الطفولة أجمل من مرجة الكهولة.