نافذة

نحو كفر وطن
إعداد: بِقَلَم روني ألفا

وأنا على طريق العودة إلى بيتي الصغير رفعتُ ناظِرَيَّ صوب المرآة الوسطى المعلّقة على زجاج سيارتي. شاحنة عسكرية للجيش ورائي. شادر أخضر يحمي الجنود من هطول المطر إذا تمادى ومن ضربات الشمس إذا ضربت.

أفكار تزاحمت في رأسي في هذه اللحظة. كيف يجلس الجنود على متن هذه الشاحنة؟ مقعدان مستطيلان معدنيان متواجهان مركّزان بسياخٍ حديدية مبشَّمَة في أرضية الشاحنة. يجلس العسكري على صفيحة من المعدن البارد شتاء والحارق صيفًا ويتلقّى كل تبعات وعورة الطريق. لا بأس. من واجبات الجندي تحمّل مشاقّ الطريق.

وأنا غارق في هذه التأملات رصدت صوتًا على يمين رفراف سيارتي. عرفتُ مصدره من نوعية الصوت. طقطقةٌ وتكتكةٌ عند الالتفاف يُمنةً أو يُسرةً. يجبُ أن أتصل فورًا بالميكانيكي. وجع ظهري المزمن سيتفاقم إذا تفاقم وضع التربيعة. شاحنة الجيش ما زالت ورائي. ألو. «في صوت تربيعة مش عاجبني». «غدًا صباحًا شرّف وخذها من أمام البيت». تتجاوزني شاحنة العسكر.

أشبال من عمر ابني البكر يحتضنون بنادقهم واضعين كعوبها ملصقة بأرضية الشاحنة. فوهات مرتفعة وأصابع محتضنة. صرت وراء الشاحنة. في المساحة الخلفية التي يجلس فيها الجنود متقابلين رزمة ربطات خبز. ليس أقل من مئة ربطة. خبز أبيض قياس كبير. غريب. أنا أشتري خبزًا خصوصيًّا. يستهويني الفرنسي منه أسمرًا كان أو أبيضًا أو محشوًا بالزيتون ومقرمشًا. لم أعد أتذكر إذا كان متوفرًا في براد البيت. العسكر يأكل خبزه حاف. في بيتنا يتم تقطيعه ووضعه في صينية فضة صغيرة بمسكةٍ.

وأنا غارق في هذه الزحمة الخانقة من الصور والأفكار حدّقتُ أكثر بشيءٍ موضوعٍ قرب ربطات الخبز في الشاحنة لافت بحجمه. طنجرة ضخمة أشبه بِدِست. ضربني الجوع لدى رؤيتي لهذا الوحش النحاسي يتوسط الجنود. ألو إلى أهل البيت من جديد. شو في أكِل؟ وَلَو؟ سنأكل وجبة نهار أمس اليوم أيضًا؟ مِن عَقلكُن؟ مش طابخين اليوم؟ الجنود يأكلون الأرز المسلوق والخبز الحاف.

لا بد لي أن أقلل ولو نِذرًا يسيرًا من منسوب الدلع لأحب وطني كما يحبه الجيش. الدلع يجعلك فيلسوف عصرك لكنه يمنعك من تناول وجبة ناشفة من أجل بلدك. نطلبُ من الجنود أن يأخذوا بالنيابة عنا كل شظف العيش ونطلب منهم أن يعطونا من دون تردد شعورنا بالغنج.

يتفاقم صوت التربيعة. سأسكته بالراديو. «بلوتوث» و«نظام سرّاوند». الشحروة صباح على إحدى محطات «الأولديز». «تسلم يا عسكر لبنان يا حامي استقلالنا». تلقائيًا تحولت إلى عضو في الكورس أتمتم مكملًا: «عالي جبينك بالميدان وعالي أرز جبالنا».

شعرتُ بشكلٍ لا يقاوم أنه يتوجب علي إلقاء التحية على جنود الشاحنة. رفعتُ إشارة النصر بيدي اليمنى ورسمت بسمة رضى. تلقيتُ عددًا كبيرًا من البسمات المتبادلة وإشارات النصر من داخل الشاحنة. جنودُ الخبز الحاف ودست الأرزّ المسلوق يلوحون لي. لا أعرف أين تتجه الشاحنة. لست بحاجةٍ لأن أعرف. إنها تتجه نحو قرية كفر وطن. من دون «بلوتوث» ولا «نظام سرّاوند». هدير محركها نظام كرامة سرّاوند متكامل.

الليلة سأنام على أغنية الصبوحة. تِسلَمْ يا عسكر لبنان يا حامي استقلالنا. على أمل أن ألتقي بشاحنةٍ شبيهة في صباحِ اليوم التالي. شاحنات الجيش تشحنني كلما صادفتها ذهابًا وإيابًا بشحنةٍ من القوة. قوة تعطيني كما تعطي ملايين الناس مثلي القدرة على مواصلة حب لبنان. ألو. إنسَ التربيعة يا صديقي. لم أعد أسمع صوت طقطقة ولا تكتكة. لا يسحرني هذه المدة إلا «تسلم يا عسكر لبنان».