مبادرات

نحو مجتمع عادل...
إعداد: ريما سليم

كانوا صغارًا يلعبون أو يافعين يساعدون أهلهم في العمل في أراضيهم، فجأة انطلق من بطن الأرض لغم بتر أحد أطرافهم أو أكثر، صحيح أنّهم نجوا من الموت لكن الإصابة ألقت بهم في بحر من المعاناة. وحين امتدت لمساعدتهم أيادي الخير، نهضوا من جديد، وباتوا اليوم مثالًا لقوة الإرادة والنجاح... هؤلاء وسواهم كثيرون لقوا الدعم اللازم لكن ثمة آخرون أيضًا من فئة الذين أقعدتهم إعاقة معينة ما زالوا بانتظار أن ينصفهم المجتمع ويؤمن لهم حقوقهم في العلم والعمل والحياة الكريمة. وفي هذا السياق قدّم الجيش اللبناني مبادرة جديدة تندرج في إطار الجهود التي يقوم بها منذ سنوات طويلة لدعم ضحايا الألغام وأسرهم.

 

في مناسبة اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، أقام المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام في أوتيل لانكستر الحازمية حفل إطلاق نشاطات ضمن برنامج دعم مصابي الألغام وعائلاتهم بالتعاون مع اللجنة الوطنية لمساعدة ضحايا الألغام والقنابل العنقودية، وذلك بدعم من السفارة الهولندية في لبنان وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).

 

نحترمهم كثيرًا...

افتُتح النشاط بكلمة للسفير الهولندي في لبنان هانز بيتر فان در وود الذي رحب خلالها بمصابي الألغام المشاركين في الحفل وعائلاتهم مبديًا احترامه الكبير لهؤلاء الأشخاص الذين تحدوا الظروف الصعبة وقرروا شق طريق لهم في المجتمع على الرغم من الوضع الاقتصادي السيّئ الذي تعانيه البلاد. وتطرق في كلمته إلى التمييز الذي يعانيه ذوو الاحتياجات الخاصة في لبنان لا سيما لجهة التوظيف والاندماج في المجتمع مؤكدًا ضرورة العمل بالقانون ٢٢٠/٢٠٠٠ الذي يحمي حقوق المعوقين... في المقابل، تطرّق السفير الهولندي الى الدعم الذي تقدمه بلاده لضحايا الألغام في لبنان إن على صعيد حملات التوعية ضد مخاطر الألغام أو لجهة تقديم الدعم العملي للمصابين من خلال تقديم أطراف اصطناعية ودمجهم في برامج تدريب. وختم مبديًا تفاؤله بالتوصل إلى لبنان خالٍ من الألغام بفضل التعاون بين الأطراف المحلية والعالمية.

 

كوريا ترد الجميل للبنان

من جهته، أكد سفير جمهورية كوريا الجنوبية في لبنان السيد ايل بارك أهمية الحدث كفرصةٍ لتقييم التقدم المحرز نحو تحقيق الهدف المشترك لجميع المشاركين، ألا وهو النهوض بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، مشيرًا إلى أنّ عنوان برنامج الدعم لهذا العام هو «الحلول التحويلية للتنمية الشاملة: دور الابتكار في تغذية عالمٍ منصفٍ ويسهلُ الوصولُ إليه».

وتطرق إلى تجربة كوريا في التعاطي مع الأشخاص المعوقين مشيرًا إلى دعوة الرئيس الكوري في نيسان الماضي إلى إزالة الحواجز المجتمعية التي تقلل من الفرص المتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة وأسرهم.

ولفت السفير الكوري إلى المساعدة التي قدمها لبنان لكوريا إبان الحرب الكورية في حزيران ١٩٥٠، حيث تبرعت حكومته بمبلغ مالي قيمته ٥٠.٠٠٠ دولار، مشيرًا إلى أنّ كوريا في المقابل تساعد اليوم الدول في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك لبنان، اقتصاديًا وعسكريًا. وتطرق إلى طرق دعم ضحايا الألغام وأسرهم في لبنان ومن بينها توفير الأدوية للأمراض المزمنة وتنظيم التدريب على الأنشطة المُدرّة للدخل مثل تربية النحل. وقد أكد أنّ كوريا الجنوبية مستمرة في دعم ضحايا الألغام والمجتمعات المتضررة من مخاطر المتفجرات والنزاعات المسلحة وغيرها من الأزمات للتغلب على الصدمة النفسية للانفجار وتعزيز الرفاهية الاجتماعية.

 

العمل لتحقيق المساواة

نائب الممثل المقيم للبرنامج الإنمائي في لبنان محمد صالح، أكد في كلمته أنّ هذا هو اليوم الذي تحتفل به الأمم المتحدة والعالم، ليس فقط لتعزيز فهم قضايا الإعاقة أو دعم كرامة الأشخاص ذوي الإعاقة وحقوقهم ورفاههم، ولكن أيضًا لتحفيز أنفسنا على بذل المزيد من أجل تحقيق المساواة، مجتمع عادل ومتاح للجميع. وأشار في هذا الإطار إلى الجهود المشتركة للمركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي على مر السنين للقيام بذلك بالضبط، على الرغم من التقدم المحدود في تطبيق القانون رقم ٢٢/٢٠٠٠ الذي تمت صياغته لتأمين أبسط الحقوق الأساسية للأشخاص ذوي الإعاقة، مثل الحق في التعليم والصحة والعمل.

وأعلن السيد صالح عن إطلاق ثلاثة مشاريع قادمة لمساعدة ضحايا الألغام تهدف إلى دعم الضحايا وأفراد أسرهم، وتشمل توفير تركيبات الأطراف الاصطناعية وسلسلة من التدريبات لأنشطة مدرة للدخل لضمان الاستقلال المالي.

وختم مؤكدًا نية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مواصلة تقديم الدعم اللازم للمركز اللبناني لمكافحة الألغام لضمان التنمية الشاملة وتأمين مستقبل أكثر أمانًا للجميع.

 

العلم والعمل والحياة الكريمة

رئيسة اللجنة الوطنية لنزع الألغام الدكتورة حبوبة عون تطرقت في كلمتها إلى القانون ٢٢٠/٢٠٠٠ أو قانون المعوقين الذي من المفترض أن يؤمن حقوق ذوي الإعاقة ويضمن لهم الحق بالحصول على الخدمات الصحية وإعادة التأهيل وخدمات الدعم، ويضمن الحق بالعلم والعمل، وبالحياة الكريمة. وأشارت إلى ضرورة تطوير هذا القانون وتفعيله لمواكبة التطورات العالمية ومجاراة الجهد المبذول لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. كما تناولت الدكتورة عون موضوع خدمات تأهيل المصاب لا سيما لجهة الدعم النفسي الاجتماعي مشيرةً إلى أهداف عملية التأهيل، ومن بينها شفاء الآثار الصحية والنفسية الناتجة عن الإصابة وتعويض الوظائف الحركية والعملية المفقودة، بالإضافة إلى إعادة الاندماج الاجتماعي والاقتصادي على أساس الكرامة والحقوق.

 

نافذة أمل

استهل ممثل قائد الجيش العميد الركن جهاد البشعلاني كلمته بالتأكيد أنّ المناسبة تفتح نافذة أمل وحياة متجددة للذين عانوا وما زالوا يعانون صعوبات نفسية وجسدية جمّة من جرّاء الألغام، مشيرًا إلى أنّ هدف هذا اللقاء، ليس التذكير باللحظات الأليمة التي أدت إلى إصابات بليغة، بل التأمل في تضحياتهم وإرادتهم الصلبة وعزمهم على تخطي صعوبة العيش وتحديات الحياة.

كما لفت إلى أنّ التضامن الوطني والإنساني والتكافل الدولي الذي جسدته الجهود المتضافرة بين الإدارات الرسمية والجمعيات المحلية والمنظمات غير الحكومية من جهة، والدعم الآتي من الدول الصديقة طوال السنوات الفائتة، أعطى ثماره المرجوة على صعيد تأمين الخدمات التأهيلية والتعليمية والتنظيمية لمختلف فئات ذوي الاحتياجات الخاصة ولا سيما ضحايا الألغام والقنابل العنقودية، سعياً إلى تذليل الكثير من المصاعب والأعباء التي يعانونها، وبالتالي تمكينهم من الاندماج في المجتمع بصورة أفضل. وأكد أنّ قيادة الجيش تولي هذا الشأن اهتمامًا بالغًا، من خلال المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام بالتعاون الوثيق مع اللجنة الوطنية لمساعدة ضحايا الألغام، لناحية متابعة أوضاع المصابين منذ لحظة إصابتهم، ومن ثم تأمين المساعدات الممكنة من أطراف اصطناعية، وإعادة تأهيل وإقامة مشاريع إنتاجية تضمن لهم العيش الكريم والحياة المستقرة. وما هذا اللقاء إلا استكمالٌ للأعمال المذكورة التي نؤمن بها ونقدسها.

 

المشاريع الإنتاجية

عرض رئيس قسم مساعدة ضحايا الألغام العقيد بيار فضول المشاريع الخمس التي يشملها برنامج النشاطات الخاص بدعم المعوقين وهي: دورة تربية نحل، دعم نفسي واجتماعي، تدريب على صناعة مواد التنظيف، تأمين أطراف اصطناعية، ودورة خبراء تجميل.

 

بتُّ أمشي...

 

يشكر محمد جمال عبد العال من حلتا - حاصبيا (٢٢ سنة) والذي فقد رجله اليسرى في ٢٩/٣/٢٠٠٩ وهو في التاسعة من عمره، قيادة الجيش التي وقفت إلى جانب مصابي الألغام ودعمتهم في مختلف المجالات، كما ينوه بجمعية الرؤيا للتنمية والتأهيل والرعاية التي ساهمت بتركيب الرجل الاصطناعية ومزاولة الحياة الطبيعية، ما رفع معنوياته وساعده في القيام بأعماله وانخراطه في بيئته، وتفاعله مع عائلته ومحيطه. ويضيف محمد عبد العال أنّه «يعمل اليوم في تربية الماشية ويمشي حوالى ١٣ كيلومترًا في اليوم... كما يدعو الحضور إلى زيارة بلدته الجميلة والتي خسرت عشرة شهداء بسبب الألغام، بالإضافة إلى العديد من المصابين، وذلك للاطلاع على أوضاعها المختلفة والوقوف إلى جانب مواطنيها لا سيّما في الظروف الصعبة التي يمرّ بها الوطن.

 

...وأمارس الرياضة

بدوره، يروي حسين غندور (٤١ سنة) الذي أصيب بلغم أرضي في العام ١٩٨٨ وهو في السابعة من عمره، ما سبب بفقدانه الجزء السفلي من رجله والجزء العلوي من يده معًا، بالإضافة إلى فقدان جزء من السمع، أنّه خضع إلى عدة عمليات جراحية استمرت نحو سبعة أشهر، لتبدأ بعدها رحلة العلاجات في الجمعية اللبنانية لرعاية المعوقين بعد أن استقرّ وضع البتر، والتي شملت العلاجات الفيزيائية والتأهيلية والنفسية... وصولًا إلى التدريبات التأهيلية لتركيب الأطراف الاصطناعية. ويتابع حسين غندور المتأهل وله أربعة أولاد، «بعد مواجهة الأزمة وتبنّي الجمعية لي، بدأت أشارك في رياضات المسافات القصيرة وألعاب القوى، كما انضممت إلى فريق كرة القدم للمصابين بالألغام في الجمعية، وخضنا عدة لقاءات وبطولات عربية وعالمية وأحرزنا عدة جوائز رفعت اسم بلدنا عاليًا». كذلك، يردف حسين غندور قائلًا: «بالإضافة إلى كوني فردًا من الجمعية اللبنانية لرعاية المعوقين منذ ٢٢ عامًا، انضممت إلى اللجنة الوطنية لمتابعة ضحايا الألغام في الجيش اللبناني، بهدف التدريب مع المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام ونشر الوعي من مخاطرها ضمن برامج توعية ومسرحيات وزيارات لعدة مدارس وإقامة مباريات وغيرها.... وإذ أشاد بدور الجيش اللبناني والجمعية، دعا الحضور إلى «تحسس أوجاع المصابين ومآسيهم والتطلع إليهم، وهم كادوا أن يكونوا منسيين من قبل دولتهم التي لا تكترث في الأزمات إلى هذه الشريحة التي يجب ان تكون محظية بالرعاية والاهتمام والمتابعة الدائمة».

 

وتابعت حياتي

يشكر مجيد حسن العلي من الشوف كلًا من الجيش اللبناني والصليب الأحمر اللبناني وجمعية الرؤيا للتنمية والتأهيل والرعاية واللجنة الوطنية للأعمال المتعلقة بالألغام والجهات المانحة وجامعة البلمند على الدعم الذي تلقاه بعد إصابته في ١٤ شباط من العام ١٩٨٣ بلغم أرضي ما أدى إلى بتر ساقه اليسرى إلى جانب عدة إصابات في كامل جسده، وذلك بعمر السابعة عشرة وفي أحد بساتين المنطقة.

ويضيف: «منعتني الإصابة من إكمال دراستي، ومع حيازتي الطرف الاصطناعي الذي تأمن بفضل الصليب الأحمر ووزارة الصحة، قررت نفض الغبار عنّي ومتابعة حياتي، فخضعت لعدة دورات مكثفة في اللغة الإنكليزية والكمبيوتر والمحاسبة، وذلك بالتعاون مع جمعية الرؤيا للتنمية والتأهيل والرعاية. وبعد حصولي على أول قرض ميسر من الجمعية الشعبية النروجية، بدأت مشروعي الزراعي الصغير كما تمكنت لاحقًا من تسديده. وبعد حصولي في العام ٢٠٠٨على طرف إصطناعي حديث من المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام وبالتعاون مع اللجنة الوطنية للأعمال المتعلقة بالألغام، تمكنت من إكمال مسيرتي الزراعية وتطويرها.

 

المزارع الطليعي الأول

أما في العام ٢٠١١ فحصلت على جائزة قيمتها ٣ آلاف دولار أميركي كأفضل مشروع عبر دورة تدريبية نظّمتها اللجنة الوطنية لمساعدة ضحايا الألغام والقنابل العنقودية، وتابعت مسيرتي إيمانًا بقدراتي وطوّرت نفسي عبر دورات وندوات زراعية قمت بتطبيقها على الأرض. كما حصلت على قروض لإنشاء بساتين حديثة بمواصفات عالمية (تفاح، إجاص، كرز، أفوكا وغيرها...) ورفعنا نسبة الإنتاج إلى ستة أضعاف».

مجيد العلي الذي غدا المزارع الطليعي الأول في شهادات منظمات دولية ومحلية، ومدربًا لمزارعين في تنورين والقبيات ومناطق أخرى، أنشأ مؤسسة تجارية زراعية تحمل اسم EARTH GOLDEN. وهو توجّه إلى رفاقه ضحايا الألغام داعيًا إلى عدم الوقوف عند إعاقتهم بل الاستمرار في الحياة...

وأشار في الإطار نفسه إلى سعي قيادة الجيش لمتابعة هذا البرنامج بهدف تحقيق الهدف السامي المتمثل في خدمة الإنسانية وجعل لبنان خاليًا من أثر الألغام وبقايا الحروب المتفجرة...

 

أريد العيش بكرامة

تروي نهلا الباشا قصتها مع الإعاقة مشيرةً إلى أنّها كانت تسير مع شقيقتها في حقلٍ مجاورٍ لمنزلهما حين انفجر بهما لغم أرضي أدى إلى بتر يديها ووفاة شقيقتها. وتقول نهلا: كنت أتمنى أن يكون لدي عائلة وأولاد لكن الحظ شاء أن أبقى لوحدي بعد وفاة والديّ. وتتابع: أنا لا أخبركم معاناتي كي تشفقوا علي وإنما أريد دعمكم ومساعدتكم كي أجد عملًا يؤمّن لي العيش بكرامةٍ، فنحن مصابو الألغام لنا الحق بالعيش الكريم أسوةً بباقي البشر.

 

إرادة صلبة وعدم استسلام

بدوره، يخبر شوكت حمد الصايغ عن تجربته بعد إصابته بلغمٍ أرضي في منطقة شوريت - الشوف أدّت إلى بتر ساقه. ويؤكد أنّه على الرغم من الصعوبات التي عاناها إثر الحادثة فإنّه لم يفقد إيمانه وقرر عدم الاستسلام حتى بعد أن تم الاستغناء عن خدماته في عدد من المؤسسات التي عمل فيها. ويشير في هذا الإطار إلى الدور الذي لعبه الدعم النفسي في رفع معنوياته ودفعه إلى التقدم الى الأمام. ويضيف أنّه في العام ٢٠١٧، أتت الفرصة التي غيّرت حياته من خلال مشاركته بدورة تدريب على تربية النحل أقامها المركز اللبناني لنزع الألغام في حمانا. وقد حصل حينها على مساعدة عينية مكنته من تأليف ثمانية قفار للنحل، واليوم وبفضل جهوده ونشاطه بات يملك ٣٥ قفيرًا ما أمّن له مصدرًا للدخل والعيش الكريم.

بانتظار تطوير القانون ٢٢٠/٢٠٠٠ وتطبيقه وبالتالي منح ضحايا الألغام والأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة حقوقهم الاجتماعية بالكامل، تبقى الآمال معقودة على الجهود التي تبذلها الجهات المحلية بما فيها المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام واللجنة الوطنية لنزع الألغام والجهات العالمية من منظمات دولية ودول مانحة بهدف مساعدة ضحايا الألغام إن من خلال تأمين الأطراف الاصطناعية أو من خلال الدورات التدريبية التي تؤهّلهم لممارسة عمل منتج يشكّل لهم مصدر دخل ثابت وعيش كريم.