نزع السلاح والتجاذب الأميركي الروسي

نزع السلاح والتجاذب الأميركي الروسي
إعداد: ميشال يمين
كاتب في الشؤون الدولية

في مجال السياسة العسكرية، تستطيع الدول أن تخفي عن بعضها إخفاء جيداً عناصر أو أوجهاً ما في برامجها العسكرية أو اختراعات وابتكارات معينة، رغم أن هذا الأمر يصبح يوما بعد يوم أكثر عسراً وصعوبةً. غير أن الإخفاء يكاد يكون غير ممكن اليوم على صعيد المذاهب العسكرية الستراتيجية، وبالأخص على صعيد السياسات البعيدة المدى للدول. ومع ذلك، يمكن هنا أيضاً أن نشهد سعياً للحفاظ على السر من خلال جعلـه لا يَسهل حكره وإدراكه في سياق “البيّنات”. فحين لا يصل بلد ما إلى إخفاء المنحى السياسي الرئيسي لسياسته، فإنه يخفيه عادة بين جملة من المناحي الأخرى الوهمية والكاذبة، أو ما يشبه ذلك، تماماً كمن يخفي وريقة شجر في غابة .

وفي صدد توقيع يفغيني بريماكوف ومادلين أولبرايت معاهدة الفصل ما بين منظومتي الدفاع المضاد للصواريخ، الستراتيجية وغير الستراتيجية، في 27 أيلول الماضي في نيويورك، راح المحللون الروس يبحثون عن مغزى ما خفي في غابة من متاهات السياسة النووية الأميركية، التي بدت لهم، منذ الوهلة الأولى، غير منطقية وفوضوية. فرجال الكونغرس الأميركي يبدون لهم وكأنهم يتسابقون على كره السلاح النووي، عارضين إتلافه أو...البدء فورا بإنشاء منظومة قومية للدفاع المضاد للصواريخ، أي أنهم يسعون إلى أمرين متناقضين تمام التناقض : نزع السلاح النووي والتسابق على التسلح به.

ومن هنا، يرى هؤلاء المحللون أن هذه الغابة من “البيِّنات غير البيِّنة” هي التي تخفي “الورقة” التي تحمل في طياتها مغزى السياسة النووية الأميركية، وأن المهمة التي يتوخى الأميركيون تنفيذها يُمكن صياغتها كالتالي: كيف تعمل الولايات المتحدة على دك القدرة النووية الروسية، ولأي غرض تفعل هذا، وما هي الستراتيجية الأميركية الشاملة للقرن الحادي والعشرين؟

ويعتقد هؤلاء أن موافقة روسيا على الفصل بين المنظومتين الستراتيجية وغير الستراتيجية للدفاع المضاد للصواريخ، ستُمكِّن الولايات المتحدة من بناء دفاع مضاد للصواريخ يُسمَّى تكتيكياً، وهو، في واقع الأمر، ستراتيجي. ذلك أن سرعة مضادات الصواريخ التكتيكية الحديثة قريبة جداً من سرعة الصواريخ الستراتيجية لدى إقلاعها ولدى هبوطها. وهذا الواقع الجديد الناجم عن معاهدة الفصل الأخيرة، والذي كانت تمنع وقوعـه سابقاً منعاً مبدئياً معاهدة عام 1972، يُعتقد أنه أوجد وضعاً جغراسياسياً خطراً غاية الخطر على روسيا، لا سيما أنه تزامن مع بدء ممارسة السلطة التنفيذية الروسية نفسها، ومن ضمنها وزير الدفاع إيغور سرغييف، ضغوطات شديدة على الدوما لكي تبرم على جناح السرعة معاهدة ستارت - 2 . فما يربط بين هذين الأمرين هو أن معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ المذكورة احتلت مركزاً أساسياً في سلسلة المعاهدات التي تحد من الأسلحـة الهجومية الستراتيجية النووية (ستارت-1، ستارت-2 غير المبرمة، وستارت-3 التي تسعى الولايات المتحدة إلى عقدها مع روسيا). فمنطق معاهدة عام 1972 كان مفهوماً، والسنوات الـ25 من تطبيقها برهنت فاعليتها، فالحد من الأسلحة الهجومية الستراتيجية (بواسطة سلسلة معاهدات ستارت) ليس معقولاً إلا عندما لا تنشأ لدى أي من الطرفين الرغبـة في حماية أراضيه بدرع صاروخي منيع (وهذا الدرع هو منظومات الدفاع المضاد للصواريخ).

 

معاهدة 1972 نتيجة التكافؤ

مع حلول السبعينات، نشأ تعادل أميركي-سوفياتي تقريبي في مجال الأسلحة النووية الهجومية، مما أتاح تقليص الأسلحة تدريجاً، ولكن مع احترام المعاهدة المركزية، معاهدة عام 1972، حول الدفـاع المضاد للصواريخ. بعد ذلك، أفضت ظروف تاريخية إلى أن صارت روسيا مثابة الكتلة الأكبر بين أنقاض الاتحاد السوفياتي. وقد اختل التوازن في مجال التسلح النووي، لأن جزءاً من الأسلحة والقدرات الإنتاجية التصنيعية السوفياتية فقدته روسيا في أراضي الدول المستقلة حديثاً. لكن القدرات المتبقية (غير القليلة، والحق يقال، وإن لم تعد مساوية للقدرات الأميركية)، لم يتوقف تدميرها حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن هذه المرة بفعل الأزمة الاقتصادية.

والوضع اليوم يبدو كارثياً أكثر من ذي قبل. فممثل وزارة الدفاع صرح في الدوما قائلاً : “إن الإنتاج عندنـا سيتوقف عملياً مع حلول أعوام 2005-2007، إذا بقينا على موقفنا الحالي من مسألـة إعادة إنتاج الذخائر النووية”. فقد بقيت لدى روسيا صواريخ يمكن مقارنتها إلى حد ما كمًّا وقدرةً بالترسانة النووية الأميركية، إلا أن القاعدة اللازمة لإعادة إنتاجها لم تعد موجودة أو تكاد تكون غير موجودة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عمر الصواريخ قصير بخلاف فن ومهارة صانعيها، وأن الإرث الصاروخي السوفياتي لا يفتأ يهرم بسرعة. وهنا، يبدو عام 2007 حداً أقصى لـ“موت” القدرة النووية الروسية “ميتة ربها”، بعد أن تكون قد ماتت “معنوياً”، ودون أمل بالبعث القريب.

 

عامل السنوات العشر

وهكذا بدأ، بالنسبة لإعادة إنتاج الأسلحة النووية الهجومية وللقدرة الصاروخية الحالية لروسيا، سريان فعل عامل يمكن أن نسميه بـ“عامل السنوات العشر”. ويبدو للمراقبين الروس أن العسكريين والساسة الأميركيين قد حسبوه خير حساب . فهم يرون أن هؤلاء إن وافقوا في البروتوكول الذي وقعوه نهاية أيلول المنصرم حول معاهدة ستارت-2 على تمديد أجل تصفية الصواريخ حتى عام 2007، فربما ليكونوا واثقين -حسب قول بارداختشييف في جريدة “زافترا” ( “زافترا”، العدد 40(201)، 7/10/1997)- من أن “مخالب السبع المحتضر التي كان يُخرمش بها، قد اهترأت كلياً”.

لكن هؤلاء المراقبين يرون أن هذا لا يعني البتة أن الأميركيين سينتظرون - وهم مكتوفو الأيدي - زوال القدرة النووية الروسية. فهم، بدون شك، سيعملون جهدهم لتسريع ذلك. فما لم يتسنَّ لهم فعله زمن وجود الاتحاد السوفياتي، يأملون تحقيقه الآن مـن خلال ضم صواريخ “إس.إس - 18” ذات الرؤوس المنشطرة، الأقدر بين مثيلاتها في العالم، والتي لا قدرة لأي دفاع مضاد للصواريخ يمكن تصوره أن يُجابهها، إلى لائحة الصواريخ الخاضعة للتصفية بموجب معاهدة “ستارت - 2”. والكونغرس الأميركي يُبدي استعداداً مطلقاً، عملياً، بناءً على خطة نان - لوغار، لإعطاء أي مال لازم لأية تصفية للصواريخ الروسية مهما بلغ حجمها. وفي الوقت نفسه، يرفع الصوت عالياً في العالم حول عدم تمكن الروس من السيطرة على سلاحهم النووي، بهدف وضع هذا السلاح “السائب” تحت إشراف وكالة الطاقة الذرية الدولية أو أية بنية دولية أخرى، وهذا يعني عملياً إنهاء روسيا كدولة نووية.

وبالمقابل، يعتبر المراقبون الروس أن الوضع المستجد، يتيح للولايات المتحدة إنشاء شبكة دفاع مضاد للصواريخ ذات أنساق تتكامل مع الدفاع الستراتيجي المضاد للصواريخ عبر كل محيط أراضيها القومية، وهو ما سيستطيعون فعله حتى حلول عام 2007. أما روسيا، فلن تعود تملك حتى ذاك الحين تلك الصواريخ البالستية العابرة القارات، “ساتانا” (“الشيطان”)، الأشد خطراً على الولايات المتحدة من حيث قدرتها على خرق الدفاع الأميركي المضاد، كما لن تعود لديها لا تلك القاعدة التصنيعية ولا الكوادر المؤهلة ولا حتى تلك الموارد المادية اللازمة لإعادة إنتاج هذه العناصر. وهيهات أن تكون لدى روسيا آنذاك الإمكانية لإنشاء دفاع مضاد للصواريخ أسوة بالولايات المتحدة.

 

نزع السلاح والتفوق الأميركي

يعتقد معلق جريدة "زافترا"(المصدر السابق) أن كل هذا لا يستنفد نوايا الشريك الغربي لروسيا. فقضية نزع السلاح النووي، بالنسبة لساسة الغرب وعسكرييه، لا تقتصر وحسب على الثنائي الولايات المتحدة - روسيا. فكمـا أن الولايات المتحدة، إنطلاقاً من المفهوم الجغراسياسي، تنشر مجال مصالحها الحيوية الهامة على كل المعمورة، فإنها تشمل بمفهومها حول نزع السلاح كافة الدول النووية. إلا أن الولايات المتحدة تدخل هي الأخرى ضمن مفهوم “الدول النووية”. فهل يمكن القول إنها تتحايل وتراوغ حين تتحدث عن نزع السلاح النووي الشامل، فتستبقي لنفسها “وديعة” نووية تخبئها لتهدد بها مستقبلاً كافـة البلدان التي نزعت سلاحها النووي؟ ثمة من يؤيد هذه الفرضية، معتقداً أن الأميركيين سيُبقون لهم “ذخراً” نووياً وإن في صيغة معدَّلة . إلا أنهم، في المطلق، يسعون فعلاً إلى نزع كامل للسلاح النووي بما فيه سلاحهم هم. وهناك وقائع دالّة على ذلك. ففي أواخر الثمانينات، ردَّ زبيغنيف بريزينسكي على اقتراحات غورباتشوف بشأن تصفية السلاح النووي مع حلول العام 2000 بالقول: “إنها خطة لإقامة عالم يسهل فيه خوض حرب عادية”. لكن الصحف الأميركية أخذت تنشر أكثر فأكثر مقالات يُعلن فيها أصحابها أن السلاح النووي “استنفد ذاتـه”، وأنه بات يشكل خطراً حتى في زمن السلم. تلك الأفكار تأتَّت أيضاً، دون ريب، من الهلع من الإرهاب النووي المحتمل وخاصـة من احتمال تفجير محطات كهر ذرية. ومؤخراً، كانت ثمة مداولات في مجلس الشيوخ الأميركي حول خفض شديد لجهوزية الأسلحة الهجومية الستراتيجية، وصولاً إلى نزع الرؤوس النووية القتالية. وقد صرح الرئيس السابق للجنة الموحدة لرؤساء الأركان شاليكاشفيلي أن ليس في العالم تحديات لم تستطع القوات المسلحة الأميركيـة مجابهتها بدون استخدام السلاح النووي. ويبدو أن الولايات المتحدة بدأت تراهن على سلاح مطلق جديد مخبّأ في “غابة” الأسلحة التقليدية. وتؤكد هذا الزعم دراسة أجرتها لجنة رؤساء الأركان الأميركية عنوانها “رؤية مشتركة للعام 2010”، وتقترح نموذجاً مبدئياً لتطوير القوات المسلحة الأميركية. وتعتمد “الرؤية المشتركة للعام 2010” على ثلاثة مواقف أساسية:

أولاً، على أن الولايات المتحدة تملك تفوقاً معلوماتياً، وهذا يعني أن بوسعها الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات الإستخباريـة عبر العالم وإرسالها بسرعة إلى قادة الوحدات على شتى المستويات.

ثانياً، على أن الولايات المتحدة ستحافظ على ريادة في ميدان التكنولوجيا تؤمن لها تفوقاً حاسماً على أية تكنولوجيا يمتلكها أي معتدٍ مُفتَرض.

ثالثاً، على أن تفوق بنية القوات المسلحة الأميركية سوف يتيح لها التحرك بسرعة تفوق سرعة تحرك أي عدو.

وهكذا سيُشكل الجمع بين سلاح المعلوماتية والاستخبارات والسلاح الصاروخي المتناهي الدقة ( بدون الحاجة إلى الرؤوس النووية القتالية ) وقوات رد الفعل السريع الفائقة القدرة على الحركة والمجهزة بأحدث التقنيات العسكرية، ذاك السلاحَ المطلق إياه الذي سيحل، حسب تفكير الستراتيجيين الأميركيين، محل السلاح النووي الفظّ. أما "الوديعة" النووية المخبأة، فيُفترض أن تبقى في شكل ما يُسمَّى “ترسانات نووية بالكُمون” (أو موجودة بالقوة، حسب التعبير الفلسفي “virtual nuclear arsenals”)، وتتيح في حال الضرورة (في ظل الحفاظ على البنية التحتية النووية واستناداً إلى القدرة العلمية والتقنية الجبارة) استئناف إنتاج السلاح النووي في خلال اقصر الآجال.

إذاً فإن مغزى السياسة النووية الأميركية يكمن في أنها، إذ تملك سلاحاً مغايراً أقدر من ذاك الذي تملكه روسيا، قد فتحت “العدّاد" للسنوات العشر المقبلة كي يبدأ العد العكسي بالنسبة لسلاح هذه الأخيرة، الذي يُمكن قياسه بالسلاح الأميركي على كونه أقل منه قدرة. كذلك يرى العديد من المعلقين الروس أن إزالة آخر عقبة من خلال الفصل بين منظومتي الدفاع المضاد للصواريخ، الستراتيجية وغير الستراتيجية، تُمكِّن الولايات المتحدة من امتلاك دفاع مضاد للصواريخ شديد الفعالية، على صعيد وسائط الدفاع، وسلاح مطلقٍ مختبَرٍ خير اختبار في العديد من عمليات “حفظ السلام”، على صعيد وسائط الهجوم.

 

روسيا في خضم الإصلاح العسكري

أما روسيا، فإنها تستعد لإجراء إصلاحات في الميدان العسكري يُفترض بها أن تجعل القوات المسلحة وكل منظومة الدفاع، قادرة على ردع أية أخطار قائمة وكامنة على أمن روسيا. وهنا نرى العديد من القادة الروس، سياسيين وعسكريين، ينطلقون من أن ما من أخطار غير موجودة حالياً وغير متوقعة مستقبلاً. فالرئيس الروسي بوريس يلتسين قال، إبان تهنئته رئيس أركان القوات المسلحة بمنصبه الجديد، مؤخراً: "لن تنشب حرب شاملة، ويجب أن نكون مستعدين فقط لحروب محلية". كما صرح وزير الدفاع الروسي إيغور سرغييف :”إننا لا نرى أية أخطار على الأمن العسكري لدولتنا خلال السنوات العشر المقبلة”. حتى أن جريدة ديمقراطية راديكالية مثل "الإزفستيا"، قالت إن الكونغرس الأميركي صفق طويلاً في صيف عام 1992 للرئيس بوريس يلتسين على "تخليه عن أيديولوجية التكافؤ في مجال الأسلحة الستراتيجية"("إزفستيا"، 18/6/92).

وبناء عليه، تُطرح حالياً في الأوساط القيادية الروسية، مسألة تقليص القوات المسلحة عدة وعدداً كأهم بند في مهمة إصلاحها، استرشاداً بمعيار تقليص الإنفاق إلى أقصى الحدود، وهو ما يرفضه المحافظون من القوميين والشيوعيين وأنصار الدولة الروسية القوية. فالقيادة الروسية تعتزم تقليص تمويل القوات المسلحة والإنفاق على حاجات الدفاع، بحيث لا يتجاوز خلال السنوات القادمة نسبة 3- 5،3  بالمئة من الناتج القومي الإجمالي. وتعني هذه النسبـة، في الظروف الاقتصادية الحالية، أن الإنفاق على الجيش لن يتجاوز سنوياً مبلغ 17 مليار دولار، أي أقل من الإنفاق الأميركي بـ17 مرة، ومن الإنفاق البريطاني بـ3 مرات. وهي النسبة التي يصر عليها منذ أكثر من 3 سنوات صندوق النقد الدولي، بحسب تصريح لرئيس لجنة الدفاع النيابية سابقاً، الجنرال ليف روخلين، (من مقابلة مع ليف روخلين. جريدة "سوفيتسايا راسيا"، 14/8/97). ويقضي الإصلاح العسكري، بناء على ما نشرته الصحف الروسية حول الموضوع، بتقليص عديد القوات المسلحة والجهاز المركزي لوزارة الدفاع، وبتوحيد بعض الأسلحة في سلاح واحد، كضم قوات الدفاع الصاروخي إلى سلاح الجو، وبتعديل هيكلية القوات البرية لجهة إلغاء قيادتها العامة. وقد نشرت جريدة "أرغومنطي إي فاكطي" الأسبوعية الروسية ("أرغومنطي إي فاكطي" ("براهين وحقائق")، أواسط عام 1997)، عرضاً موجزاً، على لسان سكرتير مجلس الدفاع يوري باتورين، عن مغزى الإصلاح العسكري، ألحقته بجدول، يُستفاد منه أن تعداد الجيش في روسيا هو حالياً مليون و700 ألف جندي (أي نسبة 1،14 بالمئة من عدد سكان روسيا البالغ حالياً 6،149 مليون نسمة). علماً أن في الولايات المتحدة مليون و482 ألف جندي (نسبة 56،0 بالمئـة من عدد سكان الولايات المتحدة البالغ 7،260 مليون نسمة)، وهذا يعني، برأي الجريدة، ضرورة خفض عديد الجيش الروسي حتى نسبة 56،0 بالمئة، أي حتى 840 ألف جندي. من جهة أخرى، أوردت جريدة "زافترا" ("زافترا"في 23/9/97) أن تعداد الجيش الروسي، حسبما جاء في التوجيه الوارد إلى الوحدات العسكرية، يُفترض أن يُقلَّص مع حلول عام 1999 حتى 560 ألف رجل. وهذا يعني، حسب رأي الجريدة، أنه لن يبقى لدى روسيا، مع حلول نهايـة القرن العشرين، سوى 6 فرق و17 لواء وأسطول الشمال دون غيره، أي بدون أساطيل المحيط الهادي والبحر الأسود والبلطيق، وسيختفي من الوجود سلاح الدفاع الجوي، فيما سينحسر تعداد قوات البر، وهي قوات أساسية بالنسبة لدولة عظمى قارية، حتى 150 ألف رجل (تورد رقماً قريباً منه أيضاً صحيفة "The Moscow News" بتاريخ 11/6/97)، مع أن القوات البرية للولايات المتحدة وحدها تتألف من مليون و88 ألف رجل.

في هذا السياق، يتحدث البروفسور في الحقوق يوري كتشانوفسكي في جريدة "سوفيتسكايا راسيّا" ("سوفيتسكايـا راسيّا"،10/7/97)، عن "الاختلاف الهائل في الوضع الجغراسياسي لكل من الولايات المتحدة وروسيا. فالولايات المتحدة ليس لها كيلومتر واحد من الحدود البريـة المهدَّدة (المكسيك في الجنوب وكندا في الشمال)، بينما لروسيا أطول حدود برية بين دول العالم، وهي مهددة اليوم على امتدادها كله تقريباً.

وإزاء رغبة الرئيس الروسي دمج قوات الدفاع الجوي بسلاح الجو وإخضاعها له، والذي يتم وفقاً له تصفية الدفاع الجوي كسلاح مستقل، يرى بعض المحللين العسكريين، ومن بينهم أندريه جوكوف ("برافدا" في 15/7/97)، أن تصفية هذا السلاح "ستُعرِّض للخطر حياة أكثر من 30 مليون روسي إذا ما نشب نزاع عسكري شامل"، خاصة أن "القوات النوويـة المناوبة" لحلف الناتو دون غيرها، تعد ما يزيد على 100 طائرة حاملة للسلاح النووي. وبمقدور هذه الطائرات أن توجه ضربة نووية للأراضي الروسية بعد ربع ساعة فقط من إعطائها الأوامر اللازمة".

ومعلوم أن قوات الدفاع الجوي مؤلفة من مجموعات صواريخ أرض-جو "إس-300"، تفوق بقدرتها الدفاعية، بحسب الخبراء، صواريخ "باتريوت" الأميركية. فبوسع هذه المنظومات الصاروخيـة أن تُطلق 12 صاروخاً على 6 أهداف مختلفة في آن واحد وهي محلقة على ارتفاع يتراوح بين 25و30 كيلومتراً. ويقول الجنرال في الطيران لاكاتوش ("سوفيتسكايا راسيّا" في 24/7/97)، إن بمقدور منظومة الدفاع الجوي لمنطقة موسكو أن تُسقط 1500 طائرة و500 صاروخ من فئات مختلفة بطلقة واحدة فقط، وإن الأميركيين يشترون حالياً هذه المنظومات لكشف أسرارها، إذ هي تستطيع أن تكتشف طائراتهم "غير المرئية" من طراز "ستلز".

 

تفاؤل مفرط

إلا أن التحليل الموضوعي لنوايا جملـة من الدول حيال روسيا، يُناقض التفاؤل الذي يُبديه القادة السياسيون والعسكريون الروس. فالرئيس الأميركي بيل كلينتون، مثلاً، صرَّح أنَّ هدف سياسته هو “انتزاع "العقُّوص" النووي من روسيا". وفي معرض مقاومة الأميركيين لمحاولات روسيا الحفاظ على مجالها الجغراسياسي، عبَّرت وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، عن رفضها مطالبة روسيا الجمهوريات السوفياتية سابقاً دفع المترتب عليها لقاء ما تزودها به من وقود، بالقول “إن الولايات المتحدة لن تسمح بابتزاز روسيا اقتصادياً للدول الجديدة، ومن ضمنها أوكرانيا وبلدان البلطيق”. ويُفضِّل هنري كيسنجر “الفوضى والحرب الأهلية في روسيا على ميل شعوبها إلى التوحد في دولة مركزية قوية منيعة”. أما بريزينسكي الذي ينظر إلى روسيا أصلاً كـ "بلد زائد عن اللزوم"، فقال، في محادثة مع رئيس لجنة الدفاع في الدوما الروسية : "لقد دمرنا الاتحاد السوفياتي، ولسوف ندمر روسيا أيضاً. فالفرص أمامكم معدومة".

في ضوء تصريحات كهذه، مردوفة بأعمال في شتى مناطق العالم تهدف إلى منع روسيا من ممارسة نفوذها السابق، وفرض الهيمنة الأميركية المطلقة، يشعر الروس أن الأخطار الخارجية، ومن ضمنها الأخطار العسكرية، على دولتهم، لا تزال قائمة، وأن مصدرها الأساسي هو الولايات المتحدة. ويفسر بارداختشييف (“زافترا”، العدد 40(201)، 7/10/1997) طبيعـة التناحر الروسي-الأميركي بأن الأميركيين انتصر فيهم نهائياً على أعتاب العام 1994 الرأي القائل إن روسيا لا يمكن، ولا ينبغي من حيث المبدأ، أن تنضم إلى الأسرة الغربية. فهي، حسب رأيهم هذا، سوف تنهج، عاجلاً أم آجلاً، سياسة مستقلة، تتناقض مع النهج الغربي، وليس واضحاً بعد مدى ما ستكون عليـه حدة هذا التناقض: هل سيُشبه علاقات التنازع الشديد الحالية بين الولايات المتحدة وإيران، أو أنه، بعكس ذلك، سيميل أكثر إلى مماثلة حالة الخلافات المعروفة اليوم بين أميركا والصين، غير الحاجبة للتعاون في بعض المسائل؟ أما الأميركيون، فتوصلوا إلى أن على الغرب أن يعود مجدداً إلى سياسة ردع روسيا والضغط عليها عسكرياً. ولأجل هذا، سيكون على الولايات المتحدة أن تستفيد من استمرار نفوذ تشوبايص وأنصاره في الكرملين، لتؤمن لها أفضل ما يُمكن من المواقع الستراتيجية.

ويُعتقد أن الأميركيين سوف تنصب جهودهم في المدى الطويـل، أي خلال السنوات الثماني عشرة المقبلـة، على معالجة مهمتين رئيستين: الأولى بلوغ تفوق حاسم في ميدان التسلح الستراتيجي، والثانية إنشاء قدرة عسكرية تمكنهم مستقبلاً من توجيه ضربات إلى منشآت في عمق الأراضي الروسية، على شاكلة تلك التي وُجِّهت غير مرة إلى العراق منذ عام 1991، أو إلى صرب البوسنة عام 1995. وقد عبَّر عن هذه المخاوف الزعيم الروسي المعارض غينادي زوغانوف، خلال الأزمة الأميركية الأخيرة مع العراق، حين صرَّح أن السيناريو الأميركي في العراق سيكون مثابـة بروفة لضربة مماثلة تُوجَّه لاحقا إلى روسيا.

 

اتفاقية الفصل تنقض معاهدة 1972

تعتقد الأوساط الروسية المعارضة أن المفتاح الأساس لتنفيذ المهمة الأولى، كان توقيع اتفاقية الفصل بين منظومتي الدفاع المضاد للصواريخ الستراتيجية وغير الستراتيجية، في نيويورك يوم 25 أيلول الماضي، ومحاولة تمرير إبرام معاهدة ستارت-2 في الدوما الروسية ثم ستارت-3 لاحقاً. فاتفاقية نيويورك تفترض توسيع مفهوم “الدفاع التكتيكي المضاد للصواريخ”، بحيث يتيح إجراء تجارب على أوسع نطاق تشمل اعتراض أهداف تطير بسرعة تصل إلى 5 كلم بالثانية. وهنا يمكن لمضادات الصواريخ أن تكون كذلك ذات قواعد برية وبحرية وجوية وسرعة تتراوح بين 4,5 و5,5 كلم بالثانية ومدى يزيد على 3000 كلم. هكذا تحصل الولايات المتحدة، كما يرى مراقبون روس، على الحق في صنع شبكات اقتناص للصواريخ الروسية التي تُطلَق من الغواصات وهي بعد في الطور الأول من تحليقها، بدون أن يُعتبر هذا، من حيث الشكل، إخلالاً بالمعاهدة السوفياتية - الأميركية لعام 1972. ذلك أن اكتساب السرعـة الثابتة (مرحلة العجلة أو التسارع)عند الصواريخ البالستية، يتطلب 3-5 دقائق تكون خلالها الصواريخ أكثر تعرضاً للإصابة منها في المرحلة التي تلي تحليقها. أما الغواصات الستراتيجية الروسية، فهي اليوم نادراً ما تخرج في دوريات قتالية. وتلك القلائـل منها التي تبرح مكانها، تُبحر أكثر ما تُبحر بمحاذاة الشواطئ الروسية إياها في بحري بارنتسيفو وأخوتسك حيث استقر منذ زمن بعيد أسطول الولايات المتحدة البحري والجوي. وهكذا حصل الأميركيون على فرصة واقعية لكبح وعرقلة أي رد للقوات النووية الستراتيجية البحرية الروسية، وهي التي يجب أن تكوِّن، طبقاً لاتفاقية ستارت-2، أكثر من نصف القدرة النووية الستراتيجية الروسية.

وتعطي اتفاقية نيويورك أيضاً “الضوء الأخضر” لاختبار ونشر كاملَين لشبكة اعتراض الرؤوس القتالية الستراتيجية، في القطاع النهائي من تحليقها ضمن مجال الارتفاعات المتراوحة بين 15 و30 كلم. فالرؤوس القتالية التي تحلق في الفضاء الكوني بسرعة 7 كلم بالثانية، تنخفض سرعتها مرات حين تحلق في جو الأرض. وأخيراً، يسري في الولايات المتحدة مفعول قرار على الإدارة والكونغرس أن يقولا بموجبه في عام 2003 كلمتهما: هل يتوجب على أميركا الخروج من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ المعقودة عام 1972؟. فإذا تقرر الخروج، ستُنشر شبكة دفاع ستراتيجي مضاد للصواريخ ذات أنساق مع حلول عامي 2007-2008. ومن سينفِّذ آنئذٍ، يا ترى، الوعد الذي أعطاه كلينتون ليلتسين في هلسنكي بعدم الإخلال بالمعاهدة في ما يخص هذا الموضوع، ما دام أي منهما لن يبقى في السلطة في بلاده حتى ذلك الحين؟

أما بشأن التقليصات التي ستُفرض على روسيا في إطار معاهدتي ستارت-2 وستارت-3، فإن المعاهدتين يُفترض بهما أن تُؤمِّنا، مع قدوم عام 2007، أفضل الشروط لاستخدام منظومـة الدفاع المضاد للصواريخ الأميركية في القتال، لصد أي رد من قبل القوات النووية الستراتيجية الروسية، لأنه، من المعلوم، أن الشبكات الدفاعية تكون فاعليتها أكبر كلما قلَّ عدد ضربات مجموعة الأسلحة الهجومية (الكسي بودبيريوزكين وأنطون سوريكوف. “زافترا” العدد 38(199)،23/9/1997).

وهنا، يقول الخبراء الروس إن تنفيذ الأفكار الأميركية الطارحة في آن قضايا التوسع في تفسير مفهوم " الدفاع التكتيكي المضاد للصواريخ"، وتمرير معاهدتي ستارت-2 و-3 اللتين تُحظِّران إنتاج صواريخ إر-36إم2، سيجعلان القدرة الروسية على الردع الستراتيجي دون أية قيمة تُذكر مع اقتراب عام 2007، وسيخلقان ظروفاً يصبح فيها بإمكان الولايات المتحدة ابتزاز روسيا نووياً.

 

ضمور القدرات بفعل الأزمة

على أية حال، تتدهور بسرعة حالة القوات النووية الستراتيجية الروسية من دون الحاجة إلى معاهدة ستارت-2. فلم يعد ثمة طيران ستراتيجي، والعديد البحري لهذه القوات، المؤلف اليوم من26 غواصة صاروخية تحمل أكثر من 2000 رأس نووي قتالي، سيضمر حتى عام 2007 إلى نصفه أو إلى ثلثه. ونظام إدارة القتال، باعتراف وزير الدفاع السابق إيغور رديونوف، لا يمكن أن يُركَن إليـه في ظروف القتال. كما أن نظام الإنذار بهجوم صاروخي، على صعيد النسقين البري والفضائي، لا يجري تحديثه ولا يعمل إلا في جزء منه فقط. وتتوقف كلياً الأبحاث العسكرية في الفضاء الكوني. أما المكوِّن الوحيد للقوات النووية الستراتيجية القادر على القتال اليوم، فيبقى فقط وحدة الصواريخ البالستية العابرة للقارات ذات القواعد الأرضية. ولكن لا يخلو الأمر هنا أيضاً من مشاكل. فالعمل على إنشاء المنظومة الجديدة "توبول-إم"، يجري في ظل تخلف شديد عن المواعيد الأصلية. ولسوف تُحرم روسيا، قبل انقضاء عام 2007، صواريخها البالستية العابرة للقارات "إر-36 إم2" (R-36M2)"الثقيلة" التي تشكل اليوم أقدر اسلحتها. فهذه الصواريخ بالذات، والتي بمستطاع كل منها أن يحمل إلى جانب عشر رؤوس نووية أكثر من طن من وسائل الدفاع المضاد للصواريخ، هي الوسيلة الأفعل لاختراق شبكة الدفاع الأميركية المستقبلية.

إن أي عمل لا يجري حالياً لإعادة تصنيع مثل هذه الصواريخ في روسيا، بعد أن كانت تُنتج في الماضي في مكتب التصميم "يوجني" في دنيبروبتروفسك (أوكرانيا)، على الرغم من أن الصاروخ "الثقيل" تم تصنيعه من زمان ووضعه في الخدمة، وأن كافة الخرائط والتصاميم الفنية العائدة إليه إما موجودة وإما يمكن الحصول عليها من أوكرانيا بسهولة، ناهيك بأن الكثير من رؤساء مكتب التصميم "يوجني" السابقين يعيشون اليوم في روسيا ويعملون فيها.

وتقول التقديرات الأميركية أن إعداد العدة للبدء بإنتاج صواريخ "إر-36إم2"       (R-36M2) في مصانع السلاح التابعة للمجمع الحربي الروسي والمتوقفة حاليا عن العمل تقريباً بسبب عدم توفر الطلبيات، سيستغرق قرابة 4 سنوات، يُنفق خلالها على الأبحاث وغيرها 150-200 مليون دولار سنوياً، أي ما يقل عن 1 بالمئة من الميزانية العسكرية. وهذا مبلغ ليس بالضخامة حتى في ظل الأزمة الراهنة، ويعني، بتعبير آخر، أن روسيا إذا ما بدأت تعد العدة لإنتاج الصواريخ البالستية العابرة القارات بين عامي 1999-2000، فستستطيع وحدها، دون مشاركة أوكرانيا، مع حلول عام 2004 أو 2005، المباشرة بإنتاج 50 -70 صاروخا سنوياً، ونصبها مكان تلك الموضوعة حالياً في الخدمة. إذاً سيُمكن، إذا ما توفرت الرغبة، ردف الترسانة الحربية الروسية، إلى أجل غير مسمى، بصواريخ "إر-36إم2". وربما لأجل درء تطور كهذا، كما تقول مصادر صحافية روسية، برزت فكرة معاهدتي "ستارت-2" و"ستارت-3" النابذتين لفكرة الإبقاء على الصواريخ "الثقيلة". فالخصوم الجغراسياسيون الحريصون، حسب جريدة "برافدا" (أنطون سوريكوف."برافدا"، 6/9/97)، على نـزع سلاح موسكو النووي من جانب واحد، لا يُعجبهم هذا الأمر. فالأميركيون و"أصدقاؤهم" في موسكو المتمسكون بمواقع قوية في الكرملين، تقول الجريدة، يُطلقون حملة شعواء لتضليل برلمانييِّنا، في محاولة لخلق انطباع لديهم وكأننا لن نستطيع، لأسباب اقتصادية، تجديد سلاح "الصواريخ الثقيلة". فهم يزعمون أن إجراء الأبحاث وحسب، لأجل إعادة تصنيعها في روسيا، سيستغرق 7 سنوات وسيكلف 10 تريليونات من الروبلات (قبل إعادة تقييم الروبل مؤخراً).

فماذا تعني، يا ترى، 7 سنوات و10 تريليونات روبل؟ لقد صرحت وزارة الدفاع الروسية أن الفترة الممتدة بين عامي 1988 و2005 (7سنوات بالتَّمام) ستُخصَّص، في إطار الإصلاح العسكري بالدرجة الأولى، لتنظيم الأبحاث العلمية في الميدان العسكري. وحين يبدأ النمو الاقتصادي، كما يؤكد الليبراليون الإصلاحيون، وتمتلئ الخزينة بالمال، حينئذ يمكن البدء بإعادة تجهيز القوات.

أما بالنسبة للـ10 تريليونات، فهي تساوي أقل من ملياري دولار. ومعلوم أن مبلغاً كهذا ينزف من البلاد شهرياً إلى الخارج ليصب في حسابات "الروس الجدد". كما أن الجهاز البيروقراطي الملحق بالكرملين، يكلف البلاد سنوياً أكثر من 10 تريليونات روبل. في هذا السياق، كتب أنطون سوريكوف في جريدة "برافدا" (المصدر السابق): "يمكن أن تضطلع بمهمة إعادة إنتاج صواريخ "R-36M2"، على الأقل، 3 مؤسسات روسية بينها الكثير من المصانع الدفاعية المتوقفة عن العمل في مناطق الفولغا والأورال وسيبيريا. إنطلاقاً من هذه المبادئ، يُصبح ممكناً، حسب رأي خبراء مجمع الصناعة العسكرية الروسي، اختصار فترة الدراسات التحضيرية لإعادة إنتاج "الصواريخ الثقيلة" إلى 3-4 سنوات بدلاً من 7، وخفض المبلغ اللازم لذلك إلى 4-5 تريليونات روبل بدلاً من 10. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الإبقاء في الترسانات الروسية على "الصواريخ الثقيلة" أطول مدة ممكنة، والحفاظ بالتالي على الاستقرار الستراتيجي في العالم خلال القرن الحادي والعشرين، مهمة واقعية تماماً حتى في ظل الأزمة الحالية، والأمر يتعلق فقط بالإرادة السياسية ".

 

تمدد حلف الناتو شرقاً

إلى جانب هذا، تُراهن واشنطن على الأوجه العسكرية لتمدّدُ حلف الناتو شرقاً. فعقب قبول بولندا وتشيكيا والمجر في هذا الحلف، ستُفتح أبوابه، في عام 1999 على الأرجح، أمام بلدان البلطيق السوفياتية سابقاً. وسيتم هذا على الرغم من اعتراضات القيادة الروسية التي لا يُقيم لها الغرب وزناً عادة، إذ ليست تدعمها أعمال ملموسة أو رصيد عسكري وسياسي، كما كان الأمر في العهد السوفياتي. وسيتم خلال 3-5 سنوات استيعاب البلدان المنضمة حديثاً إلى الحلف في منظمته العسكرية، عبر استيعاب البنية التحتية، واستخدامها في جمهوريات البلطيق لنشر قواعد فيها لسلاح الطيران الأميركي المزود بأدق الوسائل لإصابة الأهداف. ونظراً لانهيار السلاح الروسي المضاد للصواريخ عملياً، سيكون بوسع الأميركيين أن يتصرفوا طبقاً للسيناريو "العراقي" أو "البوسني"، وأن يهاجموا بالطائرات، بدون أي رادع، أية منشآت في الشطر الأوروبي من روسيا، ومن ضمنها منشآت القوات النووية الستراتيجية. أي أن الطيران التكتيكي لحلف الناتو يكتسب حيال روسيا خاصية السلاح الستراتيجي.

 

حماس أميركي ومعارضة برلمانية وشعبية روسية

صرح الرئيس الأميركي كلينتون، في أواخر العام الماضي، أنه "لن يأتي إلى روسيا ما دامت الدوما لم تبرم بعد معاهدة ستارت-2". علماً أنها المرة الأولى في تاريخ مباحثات نزع السلاح بين البلدين يكون فيها مجلس الشيوخ الأميركي أول من يبرم اتفاقية كهذه، بعد أن كان يبرمها بعد الروس. فلماذا هذا الحماس الأميركي، يا ترى؟ يعتقد غنريخ تروفيمنكو ("زافترا"، العدد 3 (216)، 20/1/98) أن "روسيا بعد إبرامها ستارت-2 لن تعود دولة نووية عظمى. وهي، في كل المعاني الأخرى، تحولت أصلاً، بمشيئة جماعـة البيريستروكا والإصلاحات، إلى دولة من دول العالم الثالث". ويقول "إن معاهدة ستارت-2 قد فُرضَت علينا فرضاً في فترة النشوة العارمة، حين آمن كثيرون في روسيا بالنبل والغيرة الصادقين لدى أميركا التي عانقت روسيا لتأخذها معها إلى مملكة الحرية والديمقراطية. لكن الحياة أظهرت المغزى الحقيقي لذلك". إلا أن أنصار الحفاظ على القدرة النووية الروسية يرفضون في الوقت نفسه تسابقاً على التسلح تفرضه عليهم الولايات المتحدة، لأن مثل هذا السباق لن يتحمله الاقتصاد الروسي المتعثر. وهم يعتقدون أن هدف الولايات المتحدة، إن لم يكن حرمان روسيا كلياً من السلاح النووي، فهو، على الأقل، تحويلها إلى دولة نووية ثانوية على شاكلة بريطانيا أو إسرائيل أو باكستان. وقد صرح بروس بلير، الإختصاصي في القضايا النووية من معهد بروكلين بواشنطن، على شاشة التلفزيون الأميركي بداية كانون الثاني من هذا العام: "علينا أن نحاول إخراج السلاح الستراتيجي في روسيا من اللعبـة في أقرب وقت ممكن".

كذلك نشر "الاستعراض العسكري المستقل" ("الاستعراض العسكري المستقل" العدد 1(75)، 9-15 ك2 1998) مقالة للجنرال ميجر بيلوؤسوف تحت عنوان "المصير العسير لمعاهدة الدفاع المضاد للصواريخ"، يعترف فيها بأن عدداً من القرارات الأخيرة المشتركة التي أقرتها روسيا والولايات المتحدة، خاصة في قمة هلسنكي في آذار 1997 وفي نيويورك في 26ايلول 1997، "لا يحل... كافة المشاكل المرتبطة بمنع إنشاء شبكة دفاع مضاد للصواريخ الستراتيجية في الولايات المتحدة". ويخشى الروس أن تُطلق هذه القرارات كلياً يد أميركا في ما يتعلق بإنشاء الشبكة المذكورة، التي قد تكون فعالة جداً في التصدي للصواريخ الستراتيجية الروسية الباقيـة في الخدمة بعد تنفيذ معاهدتي ستارت-2 و-3.

لقد انكب الدبلوماسيون الأميركيون والروس طويلاً على درس مشكلة الفصل بين الدفاع الستراتيجي وغير الستراتيجي (التكتيكي) المضاد للصواريخ. ونجمت هذه المشكلة عن إنشاء ما سُمِّي بمنظومات مسرح العمليات الحربية المضادة للصواريخ. إلى هذا النوع من المنظومات ينتمي، مثلاً، صاروخ "باتريوت" الأميركي الذي اشتهر إبان استخدامه في حرب الخليج (وكان ذا مفعول ضئيل جداً، حسب رأي الخبراء وتجربة الحرب نفسها)، ومجموعة الصواريخ الروسية المضادة للجو S-300V التي اجتذبت إليها الأنظار، خاصة بعد أن بيعت دفعة منها إلى قبرص.

إن الحفاظ على معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ، ممكن فقط بالتمييز الدقيق بين بارامترات مضادات الصواريخ المخصصة للمنظومات التكتيكية والستراتيجية. ومن بين هذه البارامترات سرعة الصاروخ المعترِض وسرعة الصاروخ المستهدَف. وقد أشار غ. ترفيمنكو ("زافترا"، العدد 3 (216)، 20/1/98) إلى أن الطرفين قبلا ضمناً بالتمييز الذي دعا إليه في حينه دجون فوستر رئيس هيئة التصاميم والدراسات في الكونغرس. قال فوستر :"إذا أطلقت صاروخاً مضاداً على هدف يحلق بسرعة تفوق الـ2 كلم بالثانية، أو صوبت صاروخك المضاد باتجاه هدف يحلق على ارتفاع يزيد عن 40 كلم، فإن منظومتك هذه ستراتيجية وتخضع لمفاعيل معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ لعام 1972". وهنا يرى تروفيمنكو أن الدول الخمس، الولايات المتحدة وروسيا وبيلوروسيا  وأوكرانيا وكازاخستان، حين وقعت في نيويورك البيانين المتوافق عليهما، وقعت في الوقت نفسه حكم الإعدام بحق هذه المعاهدة. ذلك أن البيان الثاني المتعلق بالمعترضات الفائقة السرعة، نصَّ على أن سرعة الصاروخ المستهدف ينبغي ألا تزيد خلال التجارب على 5 كلم بالثانيـة (قارن هذا الرقم بما أورده فوستر)، فيما لم يُحدِّد البتة سرعة الصاروخ المعترِض! إن غياب هذا التحديد هو بالذات ما أوقع معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ في التهلكة. طبعاً أعربت الأطراف عن عدم وجود أية نوايا لديها لإجراء تجارب على المعترضات ذات القواعد الأرضيـة والجوية التي تفوق سرعتها 5,5 كلم بالثانيـة، والمعترضات ذات القواعد البحرية التي تفوق سرعتها 4,5 كلم بالثانيـة، إلا أن الناطق باسم الخارجية الأميركية ما لبث أن صرَّح أن "أي شيء في البيان المذكور" لا يحد من حق موقِّعه في أن يُعدِّل خططه. أضف إلى ذلك أن الموقعين اتفقوا على أن أي تعديل في خطط هذا المشارك أو ذاك، لا يُقوِّض لا الوضع الشرعي للبيان الثاني المتفق عليه بشأن منظومات الدفاع المضاد للصواريخ على مسرح العمليات الحربية، ولا أجَل سريان مفعوله. يكفي فقط أن يُخطِر المزمع على التعديل الأطراف الأخرى، مرة في السنة، بخططه اللاحقة.

هكذا يُصبح بإمكان أي من البلدان المذكورة أن ينكب على إنشاء أي نظام مضاد للصواريخ، وله هو أن يقرر ما إذا كان هذا النظام ستراتيجيـاً أم تكتيكياً. فهل ستستطيع روسيا، الغائصـة في مشاكلها والمدمَّر اقتصادها، أن تستفيد من هذا الحق إذا ما استفادت منه الولايات المتحدة؟

في عودة إلى مقالة بيلوؤسوف فإن أهم بند في المذهب الأميركي بشأن الدفاع الستراتيجي المضاد للصواريخ، يُمكن إيراده كالتالي: الدور الحاسم في مقاومة صواريخ العدو، يجب أن يُعطى للنسق الأول الذي يقوم بتدمير صواريخ العدو في الجزء النَّشِط من مسارهـا، أي في مرحلة تسارعها الأولي، وهي آنئذ تكون الأكثر تعرضاً للإصابة. ويضيف بيلوؤسوف: ولكن إذا ما عالجنا الأمر نظرياً، رأينا أن التوزع الجغرافي للصواريخ البالستية الروسية وابتعادها عن المكان المحتمل لتواجد المعترضات الأميركية ذات القواعد البرية أو الجوية، يجعلان إمكانية تدميرها في القطاع النشط من مسارها أمراً ضئيل الاحتمال". هذا طبعاً من الناحية النظرية. أما عملياً، فالاتفاق الذي وقعته فقط 4 جمهوريات سوفياتية سابقة تخضع حالياً لموجبات معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ الموقعة عام 1972، لا يشمل أراضي 11 جمهورية سوفياتيـة سابقة أخرى. وهذا يعني أن وضعاً قد ينشأ مثلاً، تُقدِّم فيه جمهوريات البلطيق أراضيها للأميركيين على سبيل "حسن النية" كي ينصبوا فيها بصورة شرعية تماماً منظومات الدفاع المضاد للصواريخ على مسرح العمليات الحربية ذات المعترِضات الفائقة السرعة. ثم إن مجيء ليتواني أميركي الجنسية إلى رئاسة ليتوانيا مؤخراً، قد يجعل "بُعد الصواريخ البالستية الروسية عن مرمى منظومات الدفاع المضاد الأميركية أمراً غير ذي أهمية". فالمسافات هنا قريبة ولن يكون ثمة داعٍ لتبرير الموقف بالقول إنها منظومات تكتيكية. فالمعترضات الستراتيجية هنا غير لازمة أصلاً. إلا أن شروط معاهدة ستارت-2، بالمقارنة مع نصها الأصلي الذي وقعه الرئيسان بوش ويلتسين في 3 ك2 عام 1993، أُعيد النظر فيـه أيضاً لصالح ...الولايات المتحدة. ففي هلسنكي، اتفق يلتسين وكلينتون على تمديد أجل تنفيذ بنود معاهدة ستارت - 2، بحيث يصبح موعـد إنجاز التقليصات 31 ك1 عام 2007 بدلاً من 31 ك1 عام 2003. إلا أن "كافة منظومات التسلح الخاضعة للإتلاف بموجب معاهدة ستارت-2، سوف تفكك حتى 31 ك1 عام 2003، عبر نزع الرؤوس النووية منها أو عبر استخدام طرائق تفكيك أخرى يتفق عليها".

هكذا تُمدَّد المهلة الممنوحة لإتلاف حاملات الرؤوس النووية، فيما لا يمس التغيير مهلة تصفية الرؤوس نفسها . إلا أن الاتفاقيات الموقعة في نيويورك، في 26 أيلول 1997 حول الأسلحة الستراتيجية، من قبل وزراء خارجية الدول الخمس المذكورة أعلاه، تحصر الالتزام بتفكيك الرؤوس حتى نهايـة عام 2003 في وسائط نقل الرؤوس الروسية دون غيرها. أما تقليص الرؤوس المتعددة الشحنات المنصوبة على الصواريخ البالستية الستراتيجية الأميركية "مينيتمنت-3"، فيمكن أن يتم في أي وقت حتى عام 2007.

لقد جاء في كتاب صدر مؤخراً حول الإصلاح العسكري تحت إشراف الزعيم الشيوعي المعـارض غينادي زوغانوف ("الإصلاح العسكري: تقويم الأخطار على الأمن القومي الروسي". موسكو 1997. نشرت جريدة "نداء الوطن" اللبنانية عرضا له)، أن معاهدة ستارت-2 التي وقَّعها الرئيس يلتسين عام 1993 ولم يُبرمها لا السوفيات الأعلى في حينه ولا دوما الدولة حتى اللحظة، "لا تقبلها بلادنا وسترفضها السلطة التشريعية". ويعتقد زوغانوف أنه "ينبغي عموماً فرض موراتوريوم لفترة 5-10 سنوات على أية اتفاقات جديدة في ميدان الأسلحة الستراتيجية، على أن يتم خلالها تطوير القوات النووية الستراتيجية،عماد أمن بلادنا، في إطار معاهدة ستارت-1 الموقعة في العهد السوفياتي".

فالشرط الأساسي، حسبما جاء في الكتاب المذكور، للحفاظ على التوازن الستراتيجي مع الولايات المتحدة في إطار معاهدة "ستارت-1"، لا يزال الإبقاء في الترسانة الروسية على "الصواريخ الثقيلة" R-36M2. وهذه المهمة ممكنة التنفيذ خلال السنوات العشر المقبلة، من خلال مجرد تمديد خدمة بضع عشرات منها.

 

مفاجآت الرئيس الروسي

لقد فاجأ الرئيس يلتسين المراقبين والقادة الغربيين، في قمة "الثمانية الكبار" في باريس في أيار 97، بإعلانه نزع كافة الرؤوس النووية من الصواريخ غير الموجهة صوب بلدان الناتو. وقد تبعت ذلك التصريح "شروحات" من قبل الناطق الرئاسي يسترجمبسكي ووزير الدفاع سرغييف وغيرهما من المسؤولين. وخلال زيارته الرسمية للسويد بين 2و4 ت2 الماضي، فاجأ الرئيس الروسي مرة أخرى العالم كله بإعلانه عزم روسيا تقليص سلاحها النووي بنسبة الثلث من جانب واحد، مع أن معاهدة ستارت-2 ومعاهدة ستارت-3 التي هي قيد الإعداد، "تفترضان تقليصات من قبل الطرفين الأميركي والروسي" (برافدا، 6/9/1997). ولكن الناطق الرئاسي اضطر مرة أخرى إلى إيضاح أن الأمر لا يتعلق بتقليصات جديدة بل باقتراح تجاوز مستوى التقليصات الجارية مناقشتها مع الولايات المتحدة، في إطار معاهدة ستارت-3 المقبلة، تجاوزاً معيناً . وأعاد يسترجمبسكي إلى الأذهان أن الرئيسين يلتسين وكلينتون اتفقا في هلسنكي على المزيد من تقليص الأسلحة حتى مستوى 2000-2500 شحنة قتالية لكل طرف، رغم أن معاهدة ستارت-2 لم تبرمها الدوما بعد. وقد أوردت جريدة "موسكو تايمز" ("موسكو تايمز" في 4/12/97 ") تعليقاً على قمة ستوكهولم جاء فيه :"إن الروس يعرفون أنه (أي يلتسين) يثرثر كثيراً، ولكنه كلما "نكَّت" مع الغرب بصدد الصواريخ أخاف الناس أكثر". وفيما عدا نزع السلاح الروسي من جانب واحد، أعلن الرئيس الروسي أمام البرلمان السويدي في 3 ك1، العزم على تقليص القوات الروسية في الشمال الغربي الروسي. فقال إن روسيا سوف تقلص وحداتها البرية والبحرية خاصة في الشمال الغربي الروسي، حتى الأول من ك2 عام 1999، بأكثر من 40 بالمئة و،"أقولها لأول مرة: من جانب واحد". وحول هذه التقليصات، قال وزير الدفاع الروسي، إيغور سرغييف، الموجود آنذاك في بروكسل كمشارك في جلسة مجلس "روسيا-الناتو": إن تقليصاً شديداً سيطال منطقتي كالينينغراد ولينينغراد العسكريتين واسطولي الشمال والبلطيق البحريين. أما وزير الخارجية الروسي، يفغيني بريماكوف، فأعاد إلى الأذهان معاهدة عام 1990 بشأن القوات المسلحة التقليديـة في أوروبا التي وقعها آنذاك 20 بلداً أوروبياً، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا، والتي انطلقت من متطلبات تأمين تساوٍ في أمن البلدان التي وقعتها، والحفاظ على التوازن العسكري بعد أن اختل إثر انهيار معاهدة وارسو والاتحاد السوفياتي، وتبدل الوضع العسكري الستراتيجي في أوروبا تبدلاً جذريـاً، واختلال توازن القوى لصالح حلف الناتو. وسيختل هذا التوازن اكثر الآن بعد قبول بولندا والمجر وتشيكيـا في حلف شمال الأطلسي. وإذا ما قُبلت في الناتو أيضاً دول البلطيق، لاتفيا ولتوانيا وأستونيا، وهو أمر شديد الاحتمال، فإن الوضع سيضحي كارثياً بالنسبة لروسيا من الناحية الستراتيجية، لأن الناتو سيحظى آنذاك بتفوق حاسم في القوى على روسيا. وكان مسؤولون روس قد صرَّحوا في ربيع وصيف العام الفائت، أن تمدد حلف الناتو شرقاً سيُجبر روسيا، في خاتمة المطاف، على التحلل من التزاماتها تلك، حتى أن محادثات بوشرت بغية إعادة النظر في ذلك.

حتى الصحف الديمقراطية الروسية أبدت استياء من "المفاجآت" التي صدرت عن يلتسين في السويد، "من جانب واحد"، بشأن قضايا خطيرة مثل قضية نزع السلاح،. فصحيفة "موسكوفسكي كمسومولتس"، قارنت "المسلك غير الطبيعي" ليلتسين هناك  بـ"تعطل طارئ في الكمبيوتر حين تبدأ تظهر على شاشته أشياء غير مفهومة وغير منطقية بسبب فيروس أُدخل في برنامجه".

ويعتقد محللون غربيون أن الرئيس الروسي يتمادى في تصريحاته حول تقليص القوات التقليدية والأسلحة النووية، ليس كرمى لأحد بل لأن روسيا يعوزها المال اللازم لإبقائها على المستوى الذي يضمن أمن البلد. وهم يقولون إن روسيا سوف تضطر عاجلاً أم آجلاً لتقليص قواتها وترسانتها النووية لهذا السبب بالذات. ويشير مراقبون آخرون إلى أن "مبادرات" يلتسين لا تعدو كونها التزامات روسية بموجب المعاهدة الخاصة بالقوات المسلحة التقليدية في أوروبا.

 

خاتمة

إن روسيا تعاني اليوم، في سياستها تجاه عملية نزع السلاح، حالاً من "انفصام الشخصية"، إذ يتصارع فيها اتجاهان:

أولاً، إتجاه السير قدماً في عملية نزع السلاح التي بدأت في العهد السوفياتي، وضرورة تسريعها بعد انتهاء "الحرب الباردة" وانهيار الاتحاد السوفياتي، على أساس أن هذين العاملين يُساعدان على إكمال المسيرة ولا يعرقلانها البتة، وأن أية أخطار خارجية جدية لم تعد تُحدِق بروسيا. وهذا الاتجاه هو الغالب في الكرملين وأوساط السلطة التنفيذية والأحزاب السياسية الديمقراطية المتطلعة أبداً إلى التجربة الغربية، والتي لا ترى في الغرب خصماً حتى من الناحية الجغراسياسية. ولقد بدأ هذا الاتجاه ينحسر شيئاً فشيئاً مع مجيء يفغيني بريماكوف إلى وزارة الخارجيـة الروسية، وشروع روسيا في محاولة استعادة المواقع السابقة في المجال السوفياتي وخارجه.

ثانياً، إتجاه معارضة أية خطوات لاحقة بمسيرة نزع السلاح، وتجميد العملية مؤقتاً إلى أن تستطيع موسكو "لملمة الجراح"، إثر الانهيار الكبير الذي أدى إلى خسارة الروس مواقعهم السابقة كدولة عظمى كان يُحسب لمواقفها ألف حساب، فباتت دولة عادية يكاد جيشها لا يقوى على حل نزاع داخلي لصالح وحدتها الإقليمية، كما حدث في الشيشان. ويترأس هذا الاتجاه مجلس دوما الدولة، أي السلطة التشريعية حيث الهيمنة للشيوعيين وأنصارهم القوميين، بدعم من  الأحزاب اليسارية والقومية وأنصار بعث الدولة العظمى.

ولقد أظهرت المتغيرات السياسية الأخيرة : من جهة،إقالة حكومة تشرنوميردين الذي كان يمثل في السلطة التنفيذية تياراً يقاوم نوعاً ما هيمنة "المصلحين الشباب"، أمثال تشوبايص ونمتسوف، واللوبي اليهودي، على القرار السياسي والاقتصادي للبلد، والمجيء بكيريينكو، ابن الخامسة والثلاثين، رئيساً للحكومة، بعد ابتزاز الدوما وتهديدها بالحل إذا لم تقبل تعيينـه في منصبه الرفيع هذا؛ ومن جهة أخرى، إجماع رؤساء رابطة الدول المستقلة في قمتهم الأخيرة على تعيين المتمول اليهودي، صاحب الاحتكارات النفطية والإعلامية الضخمة، ونائب سكرتير مجلس الأمن الروسي سابقاً، بوريس أبراموفيتش بيريزوفسكي الذي يحمل الجنسيتين الروسية والإسرائيلية، أميناً مسؤولاً للرابطة؛ ويسعى الغرب إلى تغليب الاتجاه الأول، وجعل روسيا تقبل بترك مطامحها "العظموية" جانباً، والتزام ما أُفرد لها من مكان في "النظام العالمي الجديد".