خارج الحدود

نسور الجو يحلقون "خارج السرب"
إعداد: كرستينا عباس
الرقيب أول

معروفون بلقب ”نسور الجو“، شعارهم ”لبّيك سماء لبنان“، لكن هذه المرّة ناداهم الواجب الإنساني من اليونان ثم من قبرص حيث كانت السلطات تكافح موجة حرائق هائلة. عادوا فخورين بنجاحهم في مهمة تكتنفها مخاطر كبيرة، لكنّ القدر كان بالمرصاد لفرحهم  فما هي إلا أيام حتى حلّت كارثة الطوافة التي  أودت بشهيدين من رفاقهم وأدّت إلى إصابة ثالث قبل أن يغدر بهم القدر كانت لنا مع مهمتهم

وقفة تختصرها هذه السطور.

 

كان يوم الجمعة صباحًا حين اتصل قائد الجيش العماد جوزاف عون بقائد القوات الجوية العميد الركن الطيار ميشال الصيفي ليسأله عن إمكان وصول طاقم من القوات الجوية إلى اليونان بمهمة مؤازرة السلطات فيها للمساهمة في إخماد الحرائق. وبعد التأكد من إمكانية تنفيذ المهمة واجتياز نحو 700 كيلومتر فوق البحر للوصول إلى اليونان، بدأ كل من الجناحَين الجوي والفني للسرب التاسع في القوات الجوية التحضيرات والتجهيزات اللازمة للرحلة بطوافتَين من نوع Puma. وبعد أقل من 24 ساعة انتهت التحضيرات ومُنـِحت كل الأذونات الدبلوماسية اللازمة وانطلقوا في تنفيذ المهمة.

 

ثقافة الاندفاع

"بدأت المهمة أولًا بأمر تحضيري شمل إجراء الاتصالات وبدء التحضيرات للرحلة. فقد حضّر الجناح الجوي مخطط طيران من لبنان إلى اليونان من ناحية المسافة وكمية المحروقات وقدرة الطوافة والخط الجوي الذي يمكن اعتماده"، يقول قائد قاعدة حامات الجوية المقدم الركن الطيار ميشال عموري. وأضاف أنّ الجناح الفني قام أيضًا بتحضير عدة أمور لوجستية خاصة بالرحلة قبل الانطلاق وخصوصًا الكشوفات الفنية التي لا يمكن أن تحصل بعد السفر. وبعد انتهاء المرحلة الأولى من التحضير، أتى الأمر بالتنفيذ بعد أن كان ليل حامات أشبه بخلية نحل، وكان الانطلاق يوم السبت.

استغرقت الرحلة إلى اليونان 4 ساعات بالطوافة، وعندما وصل الفريق اللبناني إلى الجزر اليونانية لقيَ ترحيبًا حارًا من السلطات التي كانت ممتنّة للجيش اللبناني والقوات الجوية خصوصًا، على الرغم من الأزمة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها العسكريون في لبنان. هناك بدأ العمل من دون تلكؤ أو تعب. "أحيانًا كنا ننام بلا عشاء ولكن لا يهم ما دمنا نقوم بواجبنا كاملًا" يُجمع أفراد الطاقم المشارك في المهمة الذين لا يوجد في ثقافتهم كلمة تردد بل فقط اندفاع وإقدام.

 

طبيعة الأرض

لا تختلف طبيعة الأرض في اليونان عن تلك اللبنانية، بل هي نفسها بتضاريسها، شكلها وألوانها. الأمر الوحيد الذي يختلف هو كونها عبارة عن جزُر متفرقة. لذلك، أجمع طاقم الفريق المشارك في مهمة إطفاء الحريق على أنّهم لم يواجهوا صعوبات في التأقلم مع طبيعة الأرض لأنّهم أصلًا اعتادوا على هكذا مهمات في لبنان. "الفرق الوحيد هو المسافات بين الجزر ولأننا من بلدٍ آخر، كنا نضطر أحيانًا إلى نقل العتاد والمعدات كاملة في الطوافة، بينما في لبنان هذه الأمور تبقى في القاعدة الجوية التابعة لنا" يقول قائد الجناح الفني المقدم كابي رحمه. وذكر مثلًا حين اضطروا لإطفاء حريق في جزيرة "كيوس" التي تبعد نحو ساعة طيران عن أثينا حيث كانوا، فحينها نقلوا كل شيء بالطوافة حتى وصلوا إلى الجزيرة وحطّوا في مدرج لا تتعدى مساحته الكيلومتر المربع الواحد قبل توجّههم إلى موقع الحريق.

كل هذه الطاقات والقدرات التي وضعها الطاقم اللبناني في المهمة، كانت موضع شكر وتقدير من السلطات اليونانية، بحيث اتصل قائد القوات الجوية اليونانية بنظيره اللبناني مهنّئًا إياه وفريقه على الانضباط والاحتراف اللذين تحلى بهما العناصر المشاركون بالمهمة.

 

إلى قبرص...

عاد الفريق المنفّذ للمهمة في اليونان إلى قاعدته سليمًا محصّنًا بخبرات جديدة وفخورًا بما أنجزه لنفسه وجيشه ولبلده. في هذا الوقت، كانت قد اندلعت الحرائق في قبرص أيضًا، لم يكن لدى الفريق أي مانع ليذهب هو أيضًا إلى قبرص لتنفيذ المهمة. ولكنّ القوات الجوية أرادت تجاوز تحدٍ جديد آخر. هذه المرة حان وقت الامتحان الأكبر للطوافة المعاد إحياؤها AB212، بطيرانها للمرة الأولى بعد إعادة تأهيلها مسافة بعيدة أكثر من المسافات التي اعتادت اجتيازها ضمن لبنان.

لماذا اختيرت الطوافتان؟ يشرح قائد قاعدة حامات أنّ طوافة الـpuma مزودة بمحركَين ولها 3 خزانات وقود: أساسي وثانوي وإضافي، ومزودة بأنظمة متقدمة للملاحة الرادياوية وتحتوي نظام تحكم أتوماتيكي auto-pilot ولذلك يمكنها الطيران مسافة فوق البحر مع حماية إضافية للطاقم الذي يستقلها. فهي إن تعطّل أحد المحركَين يمكن أن يصل الطاقم بمساعدة المحرك الآخر بالطوافة إلى البر. من جهته، يؤكد قائد القوات الجوية أنّ الـAB212 تشبه في تكوينها ومن حيث تزودها بمحركَين طوافة الـpuma ولذلك أرادت القوات الجوية الاستعانة بها في قبرص. ولأنها أقدم من الـpuma لا تستطيع الطيران بشكل متواصل إلى اليونان، أرسلت لتنفيذ المهمة في قبرص.

 

فخر لبنان

كما تحضّر طاقم اليونان، بالطريقة نفسها تحضّر الطاقم الذي توجه إلى قبرص لتنفيذ المهمة. تلقّوا المهمة وأصبحوا جاهزين خلال ساعات قليلة قبل الانطلاق. فبجهوز عالي المستوى وبكفاءة فنية عالية للطيارين والفنيين، استطاعت طوافتَا AB212 التوجه إلى قبرص من أجل إطفاء الحرائق فيها لتنفّذا أول مهمة خارج البلاد، بحسب قائد قاعدة بيروت الجوية المقدم الركن الطيار محمد لوباني. وبعد الموافقات المطلوبة والتي لم تستغرق وقتًا طويلًا والتأكد من صحة العتاد والتجهيزات والطوافات، انطلق الفريق ليجتاز مسافة ساعتَي طيران في الجو حتى قبرص.

في قبرص، لم تكن التضاريس صعبة مثل لبنان، بل كانت سهلة وكانت الطوافة تقف على ارتفاع 2000 قدم من الحريق لتُنفّذ مهمتها. "كانت الطوافة تنطلق من لارنكا إلى ليماسول على بعد 25 دقيقة منها حيث كان الحريق"، يؤكد قائد الجناح الجوي الرائد الطيار ماريو علم. وأيضًا في قبرص أبدع الفريق اللبناني في إنجاز مهمته وتلقى أسمى عبارات الشكر التي تمثّلت بتكريم رسمي من السلطات القبرصية له، فامتلأوا فخرًا بما أنجزوه خارج الحدود وأصبحوا بدورهم فخر كل لبنان. "لم يتم اختيار الطاقم بشكل عشوائي للمشاركة في هذه المهمة الصعبة، بل هم من العناصر المتفوقين في الدورات اللازمة التي تابعوها، وكذلك من مختلف الاختصاصات الفنية التي تحتاجها الطوافة لتفادي أي أمر طارئ"، ينوّه قائد الجناح الفني الرائد غسان الصوري.

لم يتردّد أي عنصر من الطاقمَين اللذين توجها إلى اليونان وقبرص في الذهاب وتنفيذ المهمة غير مهتمين للمخاطر التي قد تواجههم. تسلّحوا بالاندفاع ووضعوا خبراتهم وقدراتهم في سبيل إنجاح مهمتهم.

إنجازان تاريخيان جديدان سطّرتهما القوات الجوية هذه المرة، الأول في السفر مسافة طويلة فوق البحر، والثاني في السفر للمرة الأولى بالطوافة المعاد إحياؤها AB212 لمسافة أبعد من حدود لبنان. نسور الجو، لا أجواء تحدّهم ولا نداء يتجاهلون!