"نطرية الفوضى" وأخواتها

"نطرية الفوضى" وأخواتها
إعداد: د. فردريك معتوق
عميد معهد العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية

تروج على الدوام، في سوق الكتابة السياسية في العالم العربي، نظريات شبه إطلاقيّة يلجأ إليها الكاتب لتبرير هذه المجموعة من الأحداث المشتبكة أو تلك، ظنّاً منه أنه يلقي الضوء عليها، علماً أنّها تقوم، في غالب الأحيان، على استعارات.
فالنظرية الإمبريالية جاءت ذات يوم لمحاولة تفسير تمدّد الزحف الأميركي السياسي، في منظور ماركسي. والذين كانوا يكتبون على هذه الموجة، انتقلوا بعدها إلى موجة أخرى، يرونها قريبة من الأولى، هي العولمة. وكذلك هي الحال بالنسبة إلى النظرية القومية التي حاولت أن تفسّر ما يجري في تاريخ العرب، قافزة فوق العصبيّات التي عادت والتفَّت بعدها كالأفعى عليها.
أما اليوم فالرائج لتفسير البؤس السياسي العام الذي ضرب في أكثر من موقع في العالم العربي، يقوم على اللجوء إلى "نظرية الفوضى" التي تُعتبر  سبب كل علّة، إستسهالاً في تفسير الأمور، مع الإشارة إلى أن التفسير، منهجياً، لا يتقدّم على التحليل بل يعقبه. فكيف الأمر وقد غُيِّبَ هنا التحليل واستُبدل بحكم مطلق، تفسيري، يدّعي امتلاك الأجوبة كلها حتى قبل طرح الأسئلة؟
لذلك كله، علينا أن نضع الأمور ببساطة في مواقعها الفعلية، وأن ندرس الموضوع من دون أحكام مسبقة، ببرودة فكرية. فما هي "نظرية الفوضى" التي يُحكى عنها في جميع وسائل الإعلام، وبخاصة المكتوبة منها، ترجمةً لما يُعرف بـ La théorie du chaos؟ سنبدأ أولاً بالتوقف عند ما تعنيه هذه النظرية المشتقة من مجموعة أساليب استخدمتها أخيراً الإستراتيجية الأميركية عبر العالم، بعد سقوط الإتحاد السوفياتي الأسبق عام 1990.

 

1-­ في تحديد المصطلح ومعناه
بادئ الأمر لِنُشر إلى أن الترجمة المتسرّعة لهذه النظرية قد أفضت بالكتّاب إلى اعتبار أن كلمة chaos،  بالإنكليزية والفرنسية، تعني الفوضى، وهذا بالفعل أحد معانيها. لكنه ليس الأنسب للتعبير عن جوهر المصطلح الغربي الذي نحن بصدده. بل إن كلمة البلبلة هي أقرب بكثير، هنا، مما تعنيه كلمة chaos على المستوى السياسي والعسكري. ذلك أن الفوضى لا تؤدي إلى شيء، وهي لا تقوم على فكرة، بل تعيدنا إلى المخاض الكوني الأول.
في حين أن ما يعنيه هنا مصطلح chaos هو البلبلة. تلك البلبلة التي ترافقها اضطرابات من كل نوع بغية الوصول إلى حالة من الخِواء السياسي العام.  
إذاً فإن الـ théorie du chaos، التي سارعنا إلى ترجمتها ترجمة فلسفية، هي نظرية تقع في العلوم الجيو­سياسية، ولا تعني الفوضى بمعنى الإختلال المطلق، بل تعني نظرية محدَّدة لجأ إليها علماء الإستراتيجيا في الولايات المتحدة الأميركية، بعد إنهيار العملاق السوفياتي، لإطالة أمد هذا الانهيار أطول وقت ممكن، رغبة في الانتقال من البلبلة إلى الخِواء. هذا الخِواء السياسي العام الذي يسمح بإعادة تركيب الأمور على نحو يتناسب والمصالح الإستراتيجية الأميركية.
ما يهمّنا من هذه المسألة برمّتها أن نظرية البلبلة المفضية إلى الخواء قد استخدمت بنجاح نسبي في روسيا، بيد أنّها لم تعد صالحة بعد عدد من السنوات، إذ أدرك الروس حاجتهم إلى إعادة بناء دولتهم على أسس جديدة، لا مجرّد الإكتفاء بتدميرها.
وهذا يعني أن هذه النظرية ليست لعنة سماوية دائمة، بل مجرد إجراء جيو­سياسي يفتك بالبلدان الضعيفة طالما هي ضعيفة وغير راغبة في اعتماد الوعي سبيلاً لها.
كما ينبغي ألاّ يختلط علينا الأمر من ناحية أخرى، بعدما غلّبنا المنحى الفلسفي على هذه النظرية الخارجة من رحم التجارب الجيو­سياسية الأميركية عبر العالم، بينها وبين نظرية الفوضويّة (l'anarchie) التي سادت في إيطاليا وفي بعض أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، والتي كانت تدعو إلى تعاون الأفراد والجماعات كأساس للحياة السياسية وإلى إزالة الدولة إزالة تامة.
فما نحن في صدده عندما يؤتى على ذكر "نظرية الفوضى" لا يهدف إلى إزالة الدولة إزالة تامة، بل إلى ثنائية أساسية تقوم على الهدم والبناء. من هنا فإن البلبلة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية - التي تتجلّى كلها في الإنهيار السياسي لمؤسسات الدولة - تفضي بالناس إلى خِواء كبير يضيعون فيه، في وقت يقوم سواهم بإعادة تركيب الأمور على نحو جديد.فالدولة هنا في قلب هذه النظرية لا في نقيضها، حيث أن المطلوب هو إعادة تأهيلها على نحو يخدم مصالح الإستراتيجية الأميركية، لا تدميرها عن بكرة أبيها. وما يحصل حالياً في العراق يُشير بوضوح إلى هذا المنحى الواقعي، إذ أنّ "نظرية الفوضى" ليست نظرية فوضويّة حديثة تهدف، كما جحافل هولاكو، إلى محو الأخضر واليابس، وإلى تدمير الدول والأمم والممالك دون أفق سوى التدمير الأعمى.
فالدولة مستهدفة في هذه النظرية، ولكن في سياق خطة هدفها بقاء الدولة لا زوالها، شرط خضوعها لعملية إعادة تأهيل تخدم الغايات البعيدة المطلوبة. فإن كانت غاية غايات السلطة الأميركية وضع يدها بنفسها، لا عبر وسيط تقليدي(ملك أو شاه)، على مخزون النفط في منطقة الشرق الأوسط، فذلك يعني أن هذه الخطّة لا يمكن لها أن تستقيم وأن تتجسّد إلاّ بعد إزالة "الدولة" القائمة واستبدالها بأخرى، فاعلة وحديثة، تستجيب لما هو مطلوب منها بفاعلية وضمن منطق العصر الذي نعيش فيه  والذي أضحت فيه التكنولوجيا والحريات العامة وحقوق الإنسان شديدة الإرتباط.
أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا فهو: لماذا هذا الاستهداف المنهجي للدولة في هذه النظرية، سواء في روسيا أو في العراق؟
والجواب هو أن الفلسفة التي تقوم عليها هذه النظرية هي أن مصادر الطاقة المحلية الموزعة هنا وهناك عبر العالم(والتي سيبقى النفط أبرزها على مدى الخمسين سنة القادمة على الأقل) هي ودائع وطنية ومحلية، لكنَّ ملكيتها تعود للبشرية جمعاء. فما ينطبق على المياه ينطبق أكثر على النفط.
وبما أن مخزون النفط العالمي الأساسي يقع في الشرق الأوسط، فإن دول هذه المنطقة غير المطواعة أو الضعيفة(كما تبيّن للأميركيين بعد أحداث 11 أيلول 2001) مطالبة بإعادة التأهيل الطوعي، كما يحصل في المملكة العربية السعودية حالياً، أو رغماً عنها، كما يحصل في العراق.
فمشكلة الإتحاد السوفياتي السابق وعراق صدّام حسين والمملكة العربية السعودية أنها دول مغلقة قديمة، قائمة على العصبيّة. ودولة العصبيّة، كما يصفها ابن خلدون هي دولة المُلك، حيث يملك مَن هو في رأس السلطة، الأرض والأعناق، ويتصّرف بها كما يشاء.
في حين أن الدولة الحديثة، والتي نشأت في الغرب بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789، دولة الشأن العام، للمواطنين الواعين كلمة الفصل فيها. فكيف التعامل بين دولة عظمى مبنية على هذه الأسس وعلى الاقتصاد الحرّ، كالولايات المتحدة الأميركية، ودول للعصبيّة تقيم على مصادر طاقة تعتبرها أميركا استراتيجية؟
الحلّ الوحيد، في المنطق الأميركي، هو إزالة دولة العصبيّة الحزبية السوفياتية في روسيا، ودولة المُلك العصبية القبلية في العراق، وكذلك دولة الملكُ العصبية القبلية في العربية السعودية، لصالح نظام عالمي جديد لا يقبل بوجود دول غير عصرية في المواقع الاستراتيجية الأساسية في العالم.
ومن هذا المنطلق فإن أول تطبيق لهذه النظرية قد جاء في اليابان، إبّان هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، حيث أعقب الانكسار العسكري تطويع وعزل لصاحب المُلك والقيِّم على العصبيّة، الإمبراطور هيروهيتو، وجرى العمل على صياغة دستور جديد للدولة، ثم تمّ إطلاق الدولة العصرية التي نعرفها اليوم.

 

2-­ نظرية أم أداة عملانية؟
لا تصح في الحقيقة، تسمية النظرية لكوكبة الأفكار والتوجهّات هذه، المجموعة تحت راية "نظرية الفوضى"، تماماً كما هي الحال بالنسبة لما يُعرف بنظرية الدومينو. ذلك أن النظرية، في العلم، هي استنتاج ثابت ومجرّد لمجموعة مبادئ وقوانين تشكّل حقيقة ما.
أمّا في ما يتعلق بالفوضى أو بالّدومينو، فلا حقيقة ثابتة تقف عليها العصارة الذهنية المطروحة. بل على عكس ذلك، فإنّنا أمام خيارات عملانية يتمّ اللجوء إليها في هذه الحالة أو تلك.
وهذا يعني أن تكبير الظاهرة بإعطائها بُعداً نظرياً، إنما يسعى إلى نفخ مصطنع للعملية برمتها، فينبهر من يسمع بها ويظن أنها من ثوابت العلم، وبالتالي فلا مجال لمجابهتها.
وبالعودة إلى الأمثولة الروسية في هذا الخصوص، نلاحظ أن أبرز ما يمكن استخلاصه من تطبيق "نظرية الفوضى" في تلك البلاد، عقب انهيار دولة الاتحاد السوفياتي السابق، هو أن الفوضى خيار عملاني خارجي قد قام على استعدادات داخلية للتغيير لم يسمح لها بالتناغم في اتجاه بنّاء وواحد، بل عُكِسَ مسار كل واحد منها باتجاه متعارض مع الآخر.
فالبلبلة الأمنية التي سادت، إستُغِلَّت في سياق إنتاج خواء سياسي واقتصادي واجتماعي عام في العاصمة موسكو، قلب البلاد، لم يدم إلى ما لا نهاية كحقيقة نظرية سرمدية، بل دام مدّة محدَّدة قبل أن يستقر الوضع على صيغة الرئيس بوتين الحالية، الأمر الذي يعني أن هذا الخيار العملاني قد نجح، ولكن لفترة من الزمن، وقد ذاب وقعه مع نموّ الوعي الوطني في قلوب الروس مجدداً.
من هنا فإن وضع الأمور في نصابها يُشير إلى أن ما يتمّ تصويره على أنه تحوّل فتّاك آتٍ من عمق أعماق الإستراتيجيا الأميركية، لا يعدو كونه مجرّد تكتيك جيو­ - سياسي لا حظوظ كبيرة له في النجاح.

كيف ذلك؟
لو تساءلنا، أين تقع هذه النظرية؟ أفي مجال الإستراتيجيا أم في مجال التكتيك، مع كل ما يعني ذلك من فروقات بنيوية، لأتتنا الإجابة مباشرة بوضعها في الخانة الثانية. فهي، مهما بلغ تدّخلها، تسعى لتحقيق أهداف تمهيدية وآنية وعاجلة. وبمعنى أبسط، فهي ليست المآل الأخير للخطة الإستراتيجية، بل مجرد أداة يتم استخدامها لفترة محددة بغية الوصول إلى الهدف الرئيسي.
فإن كانت الإستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط تهدف إلى السيطرة المباشرة على منابع النفط والمخزون العراقي تحديداً، يتمّ الاعتماد على البلبلة والخِواء لإدخال البلاد في ما يسمّى، في هذه النظرية، بعدم الاستقرار البنّاء. ذلك أنّ عدم الإستقرار(الأمني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي) يسمح بإعادة بناء البلاد على نحو  يناسب المصالح الإستراتيجية الأميركية.
وفي هذا الصدد، يرى رئيس مجلة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية، آلان غريش، أنّ عدم الإستقرار البنّاء هذا يهدف، في الحالة العراقية، إلى الولوج بالبلاد إلى نظام ضعيف. "ذلك أن نظاماً ضعيفاً في العراق يناسب الأميركيين، أكثر من عراق مقسَّم، لأنه سيؤدي في حال التقسيم، إلى مشاكل مع الأتراك والإيرانيين وآخرين. فما يريده الأميركيون في المنطقة هو سلسلة أنظمة ضعيفة لا قدرة لها على مقاومتهم"(1).
إنّ عدم الإستقرار البنّاء الذي هو في قلب ما يُعرف بنظرية الفوضى، إنما ينشد الإنتقال من بنية سياسية­اقتصادية إلى أخرى، بالاعتماد على الإختلال الأمني والسياسي العام، بحيث أنّ ما يقتضيه عدم الإستقرار هذا ليس الهدف الأبعد للإستراتيجية(السيطرة المباشرة على مخزون النفط الأول في العالم) بل هو خطوة تمهيدية تؤدي إلى البلبلة العامة التي تعقبها(كما يحصل اليوم في العراق) وصولاً إلى نظام ضعيف يسهل توجيهه.
من هنا فإن جميع المحللين العرب الذين سارعوا إلى التنديد بالمشروع الأميركي الآيل إلى تقسيم العراق، بعد حرب الخليج الثانية، وجدوا أنفسهم "يغمِّسون خارج الصحن". وهذا الأمر، كالعديد من الشؤون الأخرى التي يتعاطاها المثقفون العرب المؤدلجون، يأتي متسرِّعاً وقائماً على افتراضات مسبقة تنطلق من التفكير القومي المبني على خطة سايكس­بيكو التي كانت، فعلاً، خطة تقسيم. بيد أن ما نشهده اليوم لا يمتّ إلى تقسيم جديد للمنطقة ولا إلى تقسيم لبلدانها المختلفة، بل المطلوب فيها هو إضعاف الأنظمة كافة وجعلها مستكينة للإرادة الأميركية.
فالعراق الموحَّد يناسب الأميركيين لأنه، على علاّته الراهنة، قابل للإمساك به ضمن خطة بلبلة مدروسة وموحَّدة، لا لكي يغدو دولة أميركية قوية في المنطقة، بل ليصبح مجرد نظام عربي ضعيف كباقي الأنظمة الموجودة في المنطقة. وما ينبغي أنّ نفهمه هنا هو أن استراتيجية الإخضاع السياسي والإستغلال النفطي المباشر هما المحرّك الأكبر لكل ما يجري في المنطقة.
فالفوضى المطلوبة بهذا المعنى تحديداً لروسيا في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ليست مطلوبة حالياً لا للعراق ولا لأيّ بلد عربي آخر بالمعنى نفسه. ما هو مطلوب للشرق الأوسط الكبير هو أقل من ذلك، إنه البلبلة المبنية على عدم الإستقرار البنّاء.

لماذا يا تُرى؟
بكل بساطة لأنّ العالم العربي الحالي، بأنظمته الواهنة، لا يحتاج إلى المجهود الضخم والمتواصل والمتنّوع الذي إحتاجه نظام عملاق كنظام الاتحاد السوفياتي السابق، الذي استغرق هدمه تحضيرات وتدّخلات دامت أربعة عقود ونيّف من الزمن. وفي المقابل لم يتطلّب هدم نظام صدّام حسين سوى بضع سنوات من المجهود الإستراتيجي الأميركي، علماً أن الأمر يصحّ أيضاً بالنسبة لأنظمة أخرى في الشرق الأوسط الكبير قد تعاند المحدلة الإستراتيجية الأميركية العملاقة التي تسطّح الأنظمة إعلامياً(مع شعار كبير هو الديموقراطية) بعدما سطّحت هذه الأنظمة شعوبها هي بإيديولوجيات القوميّة والعصبيّة، على حدّ ما كان قد أشار إليه المفكر قسطنطين زريق.

 

3-­  كيف بَنَتْ الولايات المتحدة الأميركية هذه النظرية؟
بَنَتْ الولايات المتحدة الأميركية هذه النظرية في مراكز أبحاثها الإستراتيجية، على شكل الـ Patchwork، أي الثوب المؤلف من قطع قماش من عدّة مصادر، بمعنى أن المعنيين اعتمدوا على مختلف تجارب زعزعة الإستقرار التي حصلت عبر العالم إبّان الحرب الباردة(1945­-1990)، على شكل حروب أهلية أو داخلية كان لأميركا يد فيها بشكل أو بآخر، بالواسطة أو بالمساندة أو بالمشاركة غير المباشرة، فأخضعوها جميعاً للتحليل، مستخلصين من كل واحدة درساً مفيداً وتجربة ناجحة تصحّ للتصدير إلى بلدان أخرى.
بعد ذلك جُمِعَتْ هذه الدروس الإختلالية المختلفة تحت مظلة واحدة فأضحت ما نعرفه اليوم "نظرية الفوضى".
نشير هنا إلى أن عملية الدمج هذه لم تكن سهلة، وقد احتاجت إلى خبرات أخصائيين في مجال التحليل، وهم كثر في الولايات المتحدة. وقد أعطى مجهودهم النوعي المشترك هذا منطلقاً جديداً، في الصياغة والأسلوب، لآلية تدخُّل متنّوع الأشكال تساهم في خدمة المصالح الإستراتيجية الأميركية عبر العالم.
كما تجدر الإشارة إلى أن عملية الدمج المُشار إليها تنسجم تمام الإنسجام مع طرائق التفكير الأميركية، منذ "أيام بيتيريم سوروكين"، الجامعي الأميركي اللامع الذي أطلق في الخمسينات "قانون الدمج" لتفسير الظاهرات الثقافية والاجتماعية المختلفة عند الشعوب والمجتمعات كافة وليس في الولايات المتحدة فقط(2).وهذا يعني أن المجهود النظري المبذول لا يُستهان به، وكان يقوم على تراكم علمي وتوثيقي لا تقدر على تأمينه سوى دولة عظمى، حيث أنه يفترض وجود مساحات من التفكير البارد لا تهتم سوى في تأمين بقاء وسيطرة الأمّة، بأيّ ثمن كان وعلى حساب أيّ كان.

 

أ-­ إطلاق الصراع الإيديولوجي
قطعة القماش الأولى في "باتشوورك" نظرية الفوضى، كانت حمراء اللون. ذلك أنها تقوم على بعث الشرخ الإيديولوجي الحاد في الدول التوافقية القائمة على توازن بسبب تركيبها الإثني.
وقبرص ونزاعها الذي لم ينطفئ بعد هي نموذج معبّر عن هذه الحالة. فالقبرصة قد عنت تقسيم جزيرة قبرص، اعتباراً من صيف سنة 1974 ، على أساس شطرين متعارضين ومتخاصمين، هما الشطر اليوناني(جنوب الجزيرة) والشطر التركي(شمال الجزيرة)، على أساس أن الشطر اليوناني ينادي بالـ Enosis، أي الوحدة مع اليونان، فيما ينادي الشطر التركي بالانضمام إلى تركيا.
 وقد خلَّفت معارك صيف 1974 خسارة بشرية ومادية بالغة في قبرص، حيث بلغ عدد القتلى 3500 قتيلاً(بينهم 3000 قبرصي يوناني و 500 قبرصي تركي)، كما اختفى إذّاك 1691 شخصاً من القبارصة اليونانيين. والمعروف أيضاً أن الجيش التركي الذي اجتاحت فرقه العسكرية شمال الجزيرة لمساندة القبارصة الأتراك في "صدّ الإعتداء اليوناني" كما وصف آنذاك، قد تسبب بأضرار كبيرة في الممتلكات اليونانية لاعتماده الكثيف على القصف المدفعي العشوائي. وقد أُحرقت غابات كثيرة في جنوب-­غرب الجزيرة بفعل هذا القصف الغاضب الأعمى.
كما أشارت منظمة الأمم المتحدة في حينه، وبعد توقف الأعمال العسكرية وتقسيم الجزيرة إلى شطرين، إلى ظهور 201000 مهجّر يوناني، هاربين من المناطق ذات الغالبية التركية، و 45000 مهجّر تركي، هاربين من المناطق ذات الغالبية اليونانية.وامتدّت بعدها جمهورية شمال قبرص على %39  من أراضي الجزيرة، فيما بقيت جمهورية قبرص اليونانية ترفع علمها على %61 من أراضي الجزيرة.
فالصراع الإيديولوجي الدموي قام في هذه الجزيرة المتوسطية التي كان يعتبرها الجميع وادعة وآمنة قبلذاك، على فسخ عقد التوافق السياسي ببعث إيديولوجية تخاصم نضالي توزِّع الأهالي إلى كتلتين متصارعتين متخاصمتين. فالشرط الأول للنزاع الداخلي يكمن في تقسيم نفوس أبناء الدولة الواحدة، بتوزيعهم على جماعتين لا مجال لتقريبهما(من هنا عمليات التفظيع التي تُرهب النفوس وتربط كل قطيع إثني براعيه المستحدث).
وبغية تعميق هذا الشرخ وجعله نهائياً، تلجأ وسائل الإعلام عند كل طرف إلى نبش الماضي الصراعي لكل جماعة وتعظيم أعمال البطولة عند الذات وأعمال الظلم عند الخصم، بحيث يتراءى للرأي العام المطوَّق والمحاصر ضمن كل منطقة أنه يخوض معركة سياسية وتاريخية مع الآخر.
وقد لجأ التدخل الأميركي في العراق إلى هذا الدرس في أعقاب حرب الخليج الثانية، حيث سُلِخ، سياسياً وعسكرياً، الشمال الكردي من البلاد، على أساس خلاف تاريخي وإثني مع الحكام العرب في بغداد. ولا زال سيف هذه المعادلة الخصاميّة مسلّطاً فوق رأس الحكومة العراقية التي يُراد لها أن تبقى ضعيفة ومدركة للأسس الإيديولوجية لضعفها هذا.

 

ب - و/أو إطلاق صراع العصبيّات
قطعة القماش الثاني في "باتشوورك" الفوضى من لون العصبيّات الداكن، ذلك أن الدرس الثاني في تفاقم النزاعات الداخلية، بعد تأجيج الانقسام والتخاصم الإيديولوجي بين أهل البلد الواحد، يقوم على ضرب الدولة، بجميع مؤسساتها، واستبدالها بولاءات حزبية أو عشائرية مجتزأة، قائمة على انتماءات قبلية، كتلك التي شهدتها الصومال عام .1991
فأبرز خصائص الصوملة تمثَّلت بالتدمير المنهجي الذي أصاب الدولة في الصومال، بعد فرار سياد بَرّي ومغادرته العاصمة مقديشو في 27 أيار من عام 1991، إثر دخول مقاتلي حركة مؤتمر الصومال الموحَّد إليها واستيلائهم على السلطة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بعد هذا التاريخ، أصاب الخدمات العامة شلل تام وزالت الدولة عملياً، إذ غادر الديبلوماسيون العاصمة مقديشو، واحتلت العصابات المسلحة السفارات، وغادر الموظفون المؤسسات الرسمية التي كانوا يعملون فيها، قافلين إلى عشائرهم وقبائلهم ... مع أمتعتهم الرسمية السابقة المنهوبة.
ولسوء الحظ فقد تزامن هذا الحدث السياسي الكبير مع سلسلة موجات من الجفاف أصابت البلاد برمتها، وبخاصة المناطق الشمالية منها، الغنيّة بالمنتوجات الزراعية قبلذاك، فانعكس الجفاف المناخي وإزالة الدولة السياسية على يد الميليشيات المسلحة، مجاعة كبيرة أصابت البلاد برمتها، حيث مات جوعاً عشرات الآلاف من الصوماليين، وبخاصة في صفوف الأطفال.
إن تغييب دولة سياد برّي السابقة، الديكتاتورية والقائمة على عصبية قبيلة الماريجان(قبيلة سياد برّي)، أدّى إلى إزالة الشأن العام من قاموس التعامل السياسي بين الصوماليين، واستبداله بعودة كل فرد إلى قطيعه العصبي. فالدولة السابقة، على عورها السياسي وديكتاتوريتها، كانت تؤمّن الحدّ الأدنى من الخدمات العامة ومن اللحمة الوطنية. في حين أن بديلها دمّر المكتسبات الهزيلة التي كان تمّ إنجازها، لإعادة الأمور إلى الصفر عملياً.
وفي العراق، بعد دخول الجيش الأميركي إلى العاصمة بغداد، تمّ استلهام السيناريو الصومالي هذا، بمعنى أنّ إنهيار الدولة لم يجابه، بل تُركت المؤسسات الرسمية(ما عدا وزارة النفط) بدون حماية كي تتعرّض للنهب، فنُهِبَت تحت أعين العسكر الأميركي المبتسم أو اللامبالي، وتبعثرت محتويات متحف بغداد وسائر المؤسسات، وحُلّ الجيش الوطني بأمر من الحاكم الأعلى الأميركي "بول بريمر".

 

ج­- و/أو ضرب الإستقرار الأمني
يقوم الدرس الثالث للحروب الداخلية على إطالة أمد الاختلال الأمني بحيث يشعر الناس أن لا مجال للعودة إلى الحالة التي كانت سائدة قبل الحرب. ومن أبرز الأمثلة على هذه العملية، السيارات المفخّخة التي كانت تضرب لبنان إبّان حربه الداخلية التي عاشها ما بين 1975 و .1989
فخلال عشر سنوات، ما بين 1977 و 1987 استُخدم في لبنان أكثر من ثمانية أطنان ونصف من المواد المتفجرة، لتفخيخ 123 سيارة، بحسب مصادر قوى الأمن الداخلي آنذاك. وقد تراوح وزن كل شحنة بين عشرين كيلو غراماً، في البداية، و 120 كيلوغراماً بعدما بدأ الحذر يلفّ المواطنين.
أمّا معدّل ضحايا السيارات المفخّخة فكان 52 شخصاً للسيارة الواحدة.
كما تجدر الإشارة إلى أن توزيع الضحايا يشير إلى وجود عسكريين اثنين فقط مقابل 50 مدنياً للسيارة الواحدة(3).
وهذا يعني أنّ السيارات المفخّخة كانت تستهدف حينذاك جمهوراً أساسياً من المدنيين، لزرع الذعر في نفوس الناس، من دون المساس فعلياً بالتنظيمات المسلّحة ومقاتليها المتمترسين خلف تحصينات آمنة.
ويُشار هنا أيضاً إلى أنّ العاصمة بيروت كانت الموقع المفضَّل لواضعي السيارات المفخّخة، مع نسبة عامة قوامها ثلثي السيارات المنفجرة، بحيث نلاحظ التوزيع الآتي:
­ بيروت الغربية: 43%.
­ بيروت الشرقية: 20%.
­ المناطق اللبنانية المختلفة: 37% (4).
فالثقل السياسي والإعلامي للحرب اللبنانية كان يقع في بيروت، وهذا ما يفسّر كثرة السيارات المفخّخة فيها في حينه. ويلاحظ هنا تنسيقاً ضمنياً لعمليات التفجير التي كانت تتعاقب، بالتواتر، من هذه الجهة وتلك من العاصمة، لإبقاء الاستنفار دائماً على المستوى الشعبي والإلتصاق بميشيليات الحيّ، المفترض بها - هكذا كان يقال للناس - حماية الحيّ من المعتدين على أمنه.
فهذا اللاأمن الذي كان يسعى لتبرير الأمن الذاتي للميليشيات، المناقض للأمن الوطني والعام، تمكّن في ظل البلبلة السائدة من إقناع الرأي العام لبضع سنوات فقط. إلا أنه انكشف تدريجياً بعدها وبدأت التظاهرات الشعبية المطالبة بـ "الشرعية" - أي بالدولة - بعد العام 1987.
وما نشهده في بغداد والعراق اليوم يشبه السيناريو اللبناني في أكثر من نقطة، مما يعني أنّ استثمار "دروس" الحالة اللبنانية الإقتتالية جار على قدم وساق في البلبلة العراقية. فالطرف الأميركي ينسحب تدريجاً من اللعبة، لكن بعد تأكّده من ثباتها على اختلال دائم سينهك الطرفين في نهاية المطاف، أي الحكومة العراقية الجديدة والفصائل المعترضة عليها.
وقد أشار الدرس اللبناني أيضاً إلى أن المدنيين المقيمين في أحضان هذا الطرف أو ذاك، بدأوا يعيشون، بعد فترة، المشاعر نفسها، ويرون المتقاتلين بعيون واحدة، مما أفقد الطرفين المسلّحين في كلا المنطقتين المصداقية الشعبية، فتجلّى هذا الشعور السياسي بالمطالبة بعودة الدولة.
فما الذي سيطالب به العراقيون بعد خروج الأميركيين(أو انكفائهم إلى قواعد قريبة تزخر بها المنطقة) وبعد تحطّم الطرفين؟ سيطالبون بكل بساطة بـ "الشرعية الدولية" المتمثّلة في الأميركيين.

 

د-­ و/أو خلخلة الوضع الإقتصادي
من الدروس المفيدة التي أُضيفت إلى "باوتشوورك" نظرية الفوضى نذكر أيضاً زعزعة الاستقرار الاقتصادي في العمق، كما حصل في الحرب اللبنانية، بشكل خاص ما بين عاميّ 1983 و 1989 ، ولكن كما حصل أيضاً وقبلذاك إبّان الحرب الأهلية الإسبانية ما بين عاميّ 1936 و1939.
مطلع الحرب الإسبانية كانت العملة الوطنية، البيسيتا(مثلها مثل الليرة اللبنانية قبل الحرب) من أقوى العملات في العالم. وهنا لا بدّ  أن نشير إلى أنّ احتياط الذهب والفضة المخزَّن في أقبية مصرف إسبانيا المركزي كان هائلاً. فالمعروف عن هذا المصرف الوطني أنّه كان يحتل المرتبة الرابعة في العالم، بين المصارف المركزية، إذ أنّه كان يملك 634 طناً من الذهب الصافي، يعود جزء كبير منه إلى عهد الفتوحات واستعمار القارة الأميركية بعد العام 1492.
غير أنّ المجهود الحربي دفع بحكومة الجمهوريين إلى شراء أعتدة عسكرية مختلفة، خفيفة وثقيلة، وطائرات، من فرنسا عام ,1936 بقيمة 174 طناً من الذهب الصافي. وتمكنّ الجمهوريون من اعتماد هذا الإجراء، لوقوع المصرف المركزي في العاصمة مدريد، أي في منطقة نفوذهم.
ثم قامت الحكومة الإسبانية الجمهورية نفسها بإنفاق ما تبقّى من ذلك الاحتياط الذهبي لشراء طائرات ودبابات وأسلحة مختلفة من الإتحاد السوفياتي. فسُفِّر الذهب المتبقي على متن أربع سفن سوفياتية، انطلاقاً من مرفأ قرطجنّة الذي كان يسيطر عليه الجمهوريون أيضاً، فوصل إلى موسكو في آذار 1937(5).                 
وبعد ضياع هذا الإحتياط الذهبي الهائل الذي كانت تستمد منه العملة الوطنية قوّتها، ساد التضخّم وغرقت البلاد بأسرها في فوضى إقتصادية سرعان ما فاقمت من حدّة الأزمة الإجتماعية وعمّقت مشاعر الحقد السياسي والإيديولوجي.
وقد سادت عملية مشابهة في الجوهر، عقب انهيار الإتحاد السوفياتي مطلع التسعينات، حيث انهارت المؤسسات المصرفية الرسمية وساد التضخّم بسبب تهريب معظم الرساميل والودائع العامة، بعد تسييلها، إلى خارج البلاد.
فالناس يتأثرون مباشرة ويصيبهم التزعزع عندما تختلّ العملة الوطنية. وفي ظل عدم قدرة المدبّر الاستراتيجي الأميركي على ضرب الجسم العسكري الروسي في العمق، كان البديل ضرب الجسم الإقتصادي الروسي، وبخاصة في كاهله الضعيف، أيّ العملة الوطنية، الأمر الذي أدّى إلى اختلال عام شبيه بالإختلال الإسباني في الثلاثينات.

 

هـ-­ و/أو التعبئة الإعلامية
أبرز درس يستخلصه المحلّلون من الحرب الأهلية الرواندية، التي نشبت عام 1994 ، إثر مقتل الرئيس هابياريمانا، في 6 نيسان من ذلك العام، في طريق عودته من تنزانيا حيث كان قد شارك في مؤتمر إقليمي، هو حثّ إثنيتي الهوتو( 91 % من السكان في رواندا) والتوتسي ( 8 % من مجموع السكان، ولكن المستأثرين منذ زمن الاستعمار البلجيكي بالإدارات والمؤسسات الرسمية كافة) على إيجاد صيغة سلمية لمشاطرة السلطة.
وبما أنّ الرئيس هابياريمانا كان من الهوتو، فقد عملت "إذاعة الألف هضبة"، المحلّية، على حث الهوتو على قتل التوتسي، انتقاماً لرئيسهم وتعويضاً للغبن اللاحق بالإثنية، فبدأ عرس الدم الذي لم ينقطع له سيل طوال ثلاثة أشهر هناك، على الرغم من بيانات الإستنكار اللاحقة. وقد قضت حركة الهوتو هذه على أكثر من مليون توتسي، على وقع استجاشة لمشاعر الحقد عند الهوتو على مدار ساعات النهار، انطلاقاً من "إذاعة الألف هضبة" ذاتها.
فهذه الإذاعة ذات الاسم الجميل عبّأت وتابعت وواكبت المجزرة الإثنية من ألفها إلى يائها، رافعة الشعار الآتي: "إن لم تقتل واحداً من التوتسي، فأنت لا تستحق أن تكون من الهوتو"، ومكرّرة إياه كل ساعة.
بطبيعة الحال لن يستخدم الأميركيون هذا الأسلوب من التعبئة الإعلامية الرخيصة والنيئة في مشاريعهم الفوضوية، لكنهم سيأخذون منه عبرة المبدأ. فالتعبئة الإعلامية كفيلة، على الأمد الطويل، بالنيل من العدو. فما تمّ تجريبه انطلاقاً من ألمانيا الغربية السابقة باتجاه ألمانيا الشرقية السابقة، بالوسيلة التلفزيونية، ونجح في اختراق المعسكر الإشتراكي برمّته، يتابع اليوم في العراق عبر وسائل الإعلام السمعبصرية والمسموعة والمكتوبة التي تسيطر عليها السلطات الأميركية وتستخدمها في مشروعها الإستراتيجي.

 

4-­ صراع الفوضات
هناك مثال حربي آخر، اصطدم فيه الجبار الأميركي بالجبار الشيوعي، في قلب أميركا الوسطى، بين العامين 1979 و 1989، مستخدمين كلٌ من ناحيته، "نظرية الفوضى" إياها، لبلوغ أهداف استراتيجية متعارضة كل التعارض. وذلك إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أن هذه الكوكبة من أساليب الخلخلة ليست حكراً على الأميركيين فقط،  بل إنّ القوى العظمى كافة قد لجأت إليها حفاظاً على مصالحها على مدى القرن العشرين، في الدول التوافقية الضعيفة في تركيبها السياسي والإجتماعي. وهنا لا بدّ من التذكير بما كانت قد قامت به بريطانيا العظمى في الهند، عام 1947 ، والذي أدّى إلى تقسيم البلاد لاحقاً.
فما حدث في نيكاراغوا جرى على مرحلتين، في سياق ذهاب وإيّاب عسكري-­سياسي واقتصادي وأمني بطبيعة الحال. فبين العام 1979 و 1981 استولى التنظيم السانديني الشيوعي على السلطة، بعدما قام بخلخلة النظام السابق الذي كان يمسك بزمام القرار فيه الإقطاع اليميني، وذلك منذ زمن الفتح الإسباني للقارة الأميركية، فضرب الإستقرار الأمني واستهداف مؤسسات الدولة والتعبئة الإيديولوجية والإعلامية، بتوجيه من الإتحاد السوفياتي وكوبا، شكّلت كلها عناصر كوكبة "الفوضى" التي أدّت إلى إنهيار النظام اليميني وجلوس النظام الشيوعي مكانه في السلطة.
غير أنّ هذه النتيجة أثارت حفيظة الإستراتيجية الأميركية في المنطقة إذ رأت فيها نوعاً من التطويق الجيو­سياسي للولايات المتحدة من قِبَل خصمها الأكبر، الإتحاد السوفياتي السابق، فبادرت بلاد العم سام إلى اعتماد ردّة فعل من المعدن نفسه، عملاً بمبدأ أنّ الألماس لا يقصه سوى الألماس، فحرّضت ونظّمت وسلّحت وموّلت مجموعات من المقاتلين الفقراء، الآتين من الأرياف الطرفية، عُرفوا بالكونتراس (Contras)، أي المضادين للحركة الساندينية الشيوعية. وسرعان ما أطلق الرئيس رونالد ريغن صفة "مقاتلي الحرية" على هؤلاء المسلحين المحليين الجدد.
والجدير بالذكر هنا أن مجموعات الكونتراس، بتوجيه من المستشارين العسكريين الأميركيين، كانت قد استخدمت ضد الشيوعيين الذين أصبحوا في السلطة، الأساليب الفوضوية نفسها التي كان هؤلاء قد استخدموها ضد آل سوموزا الإقطاعيين التقليديين الذين حكموا قبل العام .1979
فبين العامين 1981 و 1989 شنّ الكونتراس حملات عسكرية وسياسية وإعلامية أدّت إلى زعزعة سلطة الساندينيين في كل البلاد وإلى انتزاع قسم منها من تحت سلطتهم.
هكذا عاشت نيكاراغوا، طوال عشر سنوات، ما بين سندّان الكونتراس ومطرقة الساندينيين، في إطار اختلال عام للنظام الاجتماعي والسياسي والمالي والإعلامي في البلاد، توجّهه قوتان عظميان عن بُعد.
فالمستشارون العسكريون الكوبيون كانوا يوجّهون الحركة الساندينية، في وقت كان المستشارون العسكريون الأميركيون يوجهون مقاتلي الكونتراس.
وتجنّباً للتدخل المباشر والصدام النووي، إستقرّ صراع الفوضات هذا، في شباط 1989 على توافق وطني، برعاية أميركية­سوفياتية، أدّت إلى انتخاب الرئيسة فيوليتا شومورّو(من أصل لبناني، من آل الشمّر في كفرحتّا). وقد أعقب هذا الانتخاب نزع عام للسلاح في نيكاراغوا وعودة المقاتلين إلى الحياة العملية.
فباسم الشعب قامت أول حركة، وباسم الشعب رُدّ عليها أيضاً بعد ثلاث سنوات. وقوام العملية برمتها استند إلى منطق واحد في لباسين مرقّطين مختلفين، مع تعادل في النتيجة الجيو­سياسية.
... ولكن أيضاً، مع 35000 قتيل و100,000 جريح، وتضخّم مالي أفقر الجميع دون استثناء.
واليوم تتكرّر في العراق عملية مماثلة، ذلك أننا نلاحظ صراعاً حادّاً بين فوضتين، فوضى الأميركيين الذين قلبوا نظام صدّام حسين، وفوضى الإسلاميين الذين يحاولون الإنقلاب على النظام الأميركي، المتقنّع بقناع الحكومة العراقية الجديدة.
فهل إنّ التشابه ممكن بين ما حصل في نيكاراغوا في الثمانينات وما يحصل اليوم في بلاد الرافدين؟
في نيكاراغوا فرض تعادل ميزان القوى نفسه على الطرفين، بحيث أنّ صيغة "لا غالب ولا مغلوب" اعتُمِدَتْ طوعاً من قِبَل الطرفين عقب عقد كامل من التقاتل والاقتتال، فتعادل مفعول هذه الفوضى مع مفعول تلك. غير أنّ حلاً مماثلاً مستبعد في العراق لأسباب عدة أبرزها عدم تكافؤ الفرص بين الطرفين.
صحيح أن الشحن الإيديولوجي قوي جداً لدى الطرفين، بأعتبار أنّ كلاهما يبني عقيدته على كون الطرف الآخر "شرّ مطلق"، لكنّه يصحّ أيضاً القول  أنّ "الفوضى" الأميركية أشدّ قدرة على الصمود والمناورة والتأثير من "الفوضى" الأصولية. فقد قبلت الولايات المتحدة الخروج من فييتنام مهزومة عسكرياً في السبعينات، لأنّ رهانها الإستراتيجي في تلك البلاد كان إيديولوجياً وسياسياً. أمّا في العراق، فإنّ الرهان الإستراتيجي الأميركي هو عسكري وسياسي واقتصادي في المقام الأول.
فمستقبل الولايات المتحدة لم يكن مهدداً في حينه بخروجها من فييتنام، في حين أنه مهدد اليوم في صلب عصبه الإقتصادي إن خرجت من العراق.
يضاف إلى ذلك أنّ "الفوضى" الأصولية في العراق مستوردة، ولا تجد لنفسها عمقاً بشرياً على امتداد البلاد، ولا تتمتع بقائد تميّزه الكاريزما.
من هنا، وكما نشاهد بأمّ العين، فإنّ تطويق "الفوضى" الأصولية في العراق جار على قدم وساق، بأيدي غير أميركية، ولكن بتخطيط ودعم أميركيين مباشرين ومتنوّعي الأشكال.

 

5-­ صيغة جديدة أم صيغة بديلة؟
ليست "نظرية الفوضى" صيغة بديلة لأي صيغة معالجة تكتيكية معروفة في السابق، بل إنّها ثمرة جميع الصيغ القديمة مسبوكة في قالب جديد.
ففيها من كل واد عصا، على حدّ تعبير المثل الشعبي اللبناني، ذلك أنّها تقوم على تشكيلة من ثوابت ناجحة تمّ اختبارها في حروب أهلية عديدة حصلت في قارات مختلفة خلال القرن العشرين. فالقرن العشرون كان من أكثر القرون اضطراباً وإحداثاً للتغيير في تاريخ البشرية، ليس فقط على المستوى التكنولوجي، بل أيضاً على المستوى المعرفي والسكاني والاجتماعي والإعلامي.
فهذه النظرية، كتلك الأغنيات التي راجت خلال فترة في السبعينات، وتتألف من أجزاء مركبَّة من مقطوعات غنائية مختلفة،(وهو ما يُعرف بتقنية الـ Collage)، يقوم إبداعها على استخلاص إبداعات مختلفة ومتنوّعة. من هنا عدم صلاحية استخدام مصطلح النظرية لتسمية هذه العملية.
علماً أنّ ذلك لا يُنقص من مقدار الذكاء الذي تقوم عليه. فالذكاء، في المجال العلمي كما في المجال العسكري، يقوم على تكييف معطيات العقل مع معطيات الواقع. وهو يفترض بالتالي تعديلاً دائماً للمسالك والمواقف على ضوء التجارب والميدان.
وما قام به محللو مراكز الأبحاث الإستراتيجية الأميركية ذكي جداً في هذا المجال وشرّير في آن، بمعنى أنه سعى لاستخلاص عبر الفاعلية من دون النظر بالضرر الناتج عنها في تجاربها الأصيلة(في قبرص ورواندا ولبنان ونيكاراغوا والهند والصومال والبوسنة الخ) ولا في تجاربها الحالية(روسيا والعراق ولبنان، والحبل على الجرّار). وهذا ما يعرف في لغة العلوم السياسية بالماكيافيلية التي لا تقيم وزناً، لا للأخلاقيات، ولا للعواطف. فقط المصالح هي ما يهمها.
و في لبنان العام 2005، هل تمّ اللجوء إلى هذه النظرية التي لا يعدو كونها مجرد كوكبة من أساليب التدخل السياسي، المتعدّد الأوجه؟
الجواب هو:نعم.
وأداة التدّخل الأولى كانت الإعلام. وكنا قد أشرنا إلى أهمية هذا العنصر في الإستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط قبل سنة(6).                             
فالتغطية المباشرة والمنسّقة والمتواصلة التي حصلت في لبنان، لحادث اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري، على الشاشة الصغيرة وفي الصحف والإذاعات، أشارت إلى بصمات واضحة للتوجيه الخارجي. صحيح أنّ الحدث كان داخلياً ومحلياً، لكّنه أُعطي فوراً بُعداً شرق أوسطياً عبر الحضور المباشر للفضائيات العربية، وعبر التعبئة المنهجيّة العالمية التي رافقته، لدرجة أنه بإمكاننا أن نقول أن هذا الحدث التاريخي استمدّ تاريخيّته من أهمية الشخص الذي تعرَّض للاغتيال دون شك، ولكن أيضاً وبشكل هائل، من التغطية الإعلامية التي حوّلت الشاشة الصغيرة في لبنان وفي العديد من البلدان العربية إلى ما يشبه السينما. فالإقبال على المشاهدة أضحى لا مثيل له يومياً وعلى مدى أكثر من شهرين، وبشغف كبير، وقد ساهمت في ترسيخه الأمكنة المتنّوعة للتغطية(دارة الشهيد، الضريح، مكان الاغتيال والمسيرات إليه، الخ).
لقد عِيش هذا الحدث الجلل، بكل تفاصيله، على المستوى الشعبي في لبنان والعالم العربي وفي بلدان الانتشار، كحدث إعلامي في المقام الأول، أي كمشهد منقول ومدروس وشديد الإتقان المهني، أمّنته وسائل الإعلام اللبنانية والعربية وحتى العالمية(مع تغطية EURONEWS و CNN المباشرة وسواهما)، الأمر الذي سمح بإيجاد الصدى والتعبئة الضروريين لإيفائه حقّه وإدخاله في صلب الحياة العملية واليومية.
أمّا خلخلة الاستقرار الأمني العام، فلم يكن من نتاج "الفوضى الأميركية"، بمعنى أن التعبئة الإعلامية اكتفت بالبناء على خلخلة أمنية أوجدها طرف آخر، بغباء استراتيجي لافت، فاقتصر تدخّل "الفوضى" الوافدة على العنصر الإعلامي والتعبئة الإيديولوجية المرافقة له.
لذلك نقول انه اذا كان صحيحاً أنّ "نظرية الفوضى"، كما يصفها بعض الإعلاميين المعادين لأميركا، قد وجدت طريقها إلى لبنان وفعلت فعلتها فيه، إلا أنّ غير أميركا هو الذي هيّأ لها هذا التدّخل وهذا النجاح الباهر.
إلاّ أنّ أبواب جهنَّم التي فُتِحَتْ في لبنان، سرعان ما أُقفِلَتْ، على يد الطرف الاستراتيجي إياه الذي سارع إلى فتحها. فهو سيّد المفاتيح الأكبر وسيّد الأختام.
وستبقى الأمور في لبنان على هذا النحو المستقر إلى أن تُفتح أبواب جهنّم في بلد عربي آخر، حيث أنه عندها ستنعكس ربّما التفاعلات على الداخل اللبناني، بخاصة إن ارتدت هذه "الفوضى" الجديدة طابعاً طائفياً أو مذهبياً.
بيد أن ضمانة لبنان، في حال حصول هذا السيناريو، تكمن في المؤسسة العسكرية اللبنانية. فالجيش اللبناني، المبني على عقيدة معادية للطائفية ومدافعة عن الوفاق الوطني، هو البديل الذي سيلعب إذّاك دور الحَكَم والعقل والرؤية المستقبلية للبلاد. وسيتبيّن عندها مجدداً أنه العمود الفقري الفعلي للبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه. ذلك أن الجيش اللبناني كان وسيبقى نقيض العصبيّات.
 


المراجع

1- ­ Magazine, 29 Avril 2005, p. 42 (entretien avec Alain Gresh rédacteur en chef du Monde Diplomatique).
2-­ P. SOROKIN, Social and cultural Dynamics, 4 Vol., New York, 1937-41
3-­ فردريك معتوق، جذور الحرب الأهلية، دار الطليعة، بيروت، ,1994 ص 95.
4-­  المصدر نفسه، ص 97.
5-­  Arnaud IMATZ, La guerreصEspagne revisitée, éd. ECONOMICA, Paris, 1993, p.
6-­ فردريك معتوق،"الاستراتيجية الأميركية الجديدة بين إعادة الانتشار العسكري وإعادة التأهيل الإعلامي"، مجلة الدفاع الوطني اللبناني، العدد ,48 نيسان 2004.

The theory of anarchy and its drifts

The researcher concentrates first at elucidate the ambiguity in the common meaning of what is call the theory of political Chaos. It see that the theory does not designate specifically the anarchy which in he nothing,but it is rather the disorder that leads to the Chaos in the political physical sense. This chaos allow s rebuilding and reorganizing things in a way that serves interest of the part that launches and reinforces, this party is the United states. This disorder does not aim to destroy the state, researcher, this is the American policy in Iraq today, the same one which it previously in l’USSR leading to the collapse of the state, the system and “the soviet union and it’s international camp”. In this sense, the disorder mentioned abore, is the same disorder defined by the president of the “the diplomatic world” as “the constructive instability”. The researcher exposes the forms of anarchy that look place in the four corners of the world ,tanks to a clear American planning , while noticing that the link between them all was always ,the work mechanism ;anarchy destroyed all that was established and arose contradictions within every society and every state then created a conflict between different contradictions allowing them to  destroy each  other + there by making possible to Washington to rebuild things in a way that serves its objectives .the researcher evokes Lebanon as being the example thereto ; it finds that the assassination of the president martyr Rafic Hariri “opened the doors of hell” in the country, but the one that opened it is same one that closed it. The researcher pulls the followings conclusion: the guarantee of Lebanon today, within the anarchy eventualities aiming at it, emanates in the military institution, for the Lebanese army, according to him, was and will remain the opposing fort to the destructive sectarianisms.

La théorie de l'anarchie et ses dérivés

Le chercheur se propose d'abord d’élucider l'ambiguïté qu'il voit dans la signification courante de ce qu'on appelle la théorie du Chaos.

Il remarque alors qu'on ne désigne pas spécifiquement l'anarchie qui n'aboutit à rien, mais c'est le désordre qui pourra aboutir au Chaos dans le sens physique-politique.

Ce Chaos permettra de reconstruire et réorganiser les conditions et ce dans l'intérêt du parti qui lance le mécanisme de désordre dans un certain pays et qui œuvre à le renforcer.

Dans la réalité de la politique contemporaine, ce parti n'est autre que les Etats-Unis.

Ce désordre ne vise pas à détruire l'Etat, mais les institutions de ce dernier, de sorte que le parti bénéficiaire puisse réaliser une nouvelle organisation.

Selon le chercheur, c'est ce que la politique américaine est en train d'appliquer en Iraq aujourd'hui, un fait qu'elle a déjà réalisé en ex URSS .Elle a ét_é par la suite la cause de l'effondrement de l'Etat, du régime et de "l'Union Soviétique et son camp international".

C'est dans ce sens que le désordre signalé, est le même désordre défini par le président de la revue "le Monde diplomatique" comme étant "l'instabilité constructive".

Le chercheur expose les formes de l'anarchie qui a eu lieu dans les quatre coins du monde, grâce à une planification américaine claire, en remarquant que le lien entre elles toutes était toujours, le mécanisme de travail; l'anarchie détruisait tout ce qui était établi, et fait naître les contradictions au sein de chaque société et chaque état, afin de mettre ces contradictions l'une en face de l'autre, ce qui garantira le conflit entre elles, afin qu'elles se détruisent; c'est alors que Washington aura l'opportunité de reconstruire tout ce qui est dans l'intérêt de ses objectifs.

Le chercheur évoque le Liban comme étant l'exemple à cela; il trouve que l'assassinat du président martyr Rafic Hariri "a ouvert les portes de l'enfer" dans le pays, mais celui qui les a ouvertes est le même que celui qui les a fermées.

Le chercheur tire la conclusion suivante: la garantie du Liban aujourd'hui, au sein des éventualités d'anarchie qui le visent, émane de l'institution militaire, car l'armée libanaise, selon lui, était et restera l'antagoniste fort aux sectarismes destructifs.