نظرة تحليلية للعلاقات الفرنسية - الاميركية

نظرة تحليلية للعلاقات الفرنسية - الاميركية
إعداد: د. وليد رامز عربيد
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، أستاذ في معهد الدراسات الديبلوماسية والاستراتيجية في باريس سابقاً، محام بالاستئناف ومحاضر في كلية القيادة والاركان- الجيش اللبناني.

مجموعة من القضايا الساخنة طرحت نفسها مؤخراً على الساحة الدولية،خصوصاً العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا. فإلى أي مدى باستطاعتنا  القول أنّ  أزمة العلاقات الفرنسية - الأميركية  انتهت  بعد الزيارة التي قام بها جورج بوش الى أوروبا و تبنّي الدولتين قرار مجلس الأمن 1559 بشأن لبنان؟ يبدو أنّ جوهر الأزمة هذه ما  هو إلاّ نتيجة للمشاعر الفرنسية  المستاءة والمتصاعدة  من محاولة  الهيمنة الأميركية على العالم خصوصاً، في ميادين الثقافة والسياسة والإقتصاد.

من البديهي أن تكون  أزمة الشرق الأوسط وملفها العراقي الشائك  في قلب هذه القضايا، مضافاً إليها موقف فرنسا من الصراع العربي­ الإسرائيلي، قد فتحت الأزمة على مصراعيها بين الدولتين الحليفتين. و في نظرة واقعية للعلاقة  بينهما يبدو أنّه لا توجد حالة من العدائية،  بل بعض الخلافات النظرية التي يمكن اعتبارها مؤقتة  في المرحلة المستقبلية لكلٍ منهما لإدارة النفوذ والمصالح في العالم، المتمركزة حول الأهداف الجيو­ ستراتيجية . إنّ ما نشهده اليوم من المحاولات المتكررة لواشنطن لإبراز دورها أكثر فأكثر بأنّها القوة العظمى الوحيدة بعد انتهاء الحرب الباردة في ما يسمى أحادية النظام، جعلت فرنسا و شعبها  في حذر شديد من الإستراتيجية الأميركية.

فهذه السياسة التي رسمتها واشنطن للسيطرة على مرافق وثروات الكرة الأرضية،  جاءت  واستمرت دون التشاور مع حلفائها التاريخيين، وبالتحديد دول أوروبا  وبعض الدول الكبرى.

إنطلاقاً من هذا الواقع فإنّ، مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها حول جذور تلك الأزمة لاسيما وأنّ تاريخ العلاقات الفرنسية - الأميركية يتمتع بقاعدة ثابتة و صلبة، كون العلاقة مبنية على الصداقة الحميمة والعمق التاريخي الذي يعود لمساهمة فرنسا في حرب الإستقلال الأميركية. وقد قامت الولايات المتحدة بالمقابل بتقديم  المساعدة لفرنسا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، بالإضافة إلى دعمها لها في إعادة إعمارها من خلال "مشروع ماريشال"، بالإضافة إلى المحافظة على مصالحها الإستراتيجية خصوصاً مع بدء توسّع دور الأحزاب الشيوعية و الحركات اليسارية في دول أوروبا مما يهدد الموقع الإستراتيجي الأميركي نفسه.

كل ذلك يقودنا للتساؤل مرة أخرى: هل هناك بالفعل أزمة بين الدولتين، أم خلاف في الرؤية الإستراتيجية فقط حيث  تتقاطع فيها المصالح والنفوذ؟ اللافت في الأمر أنّ التباعد الحاصل بين الرؤيتين الفرنسية والأميركية ناتج برأينا عن التباين بين الثقافتين الفرنسية من جهة والأنكلو­ ساكسونية من جهة ثانية. فالأولى تنطلق من قوة الحركات الفكرية الفرنسية المتجذّرة في شخصية فرنسا، والثانية  تنطلق من عنصر التفوق التكنولوجي واستخدام مفهوم  القوة الذي تنتهجه واشنطن الساعية للإمساك بكل شي على مختلف الأصعدة  السياسية العسكرية والإقتصادية في القرن الحادي والعشرين. هذه الرؤية الجديدة  لواشنطن دفعت باريس إلى انتهاج استراتيجية  تمحورت حول ثلاث نقاط :

­ تجربة غنية في مجال السياسة الخارجية  إرتكزت على ثبات في فهم  العلاقات  الدولية الواضحة التي تترجمها الديبلوماسية الفرنسية بحيوية وقدرة كبيرة  في المجتمع الدولي.

­ تكوين منظومة قاعدتها ثقافة الفرنكوفونية، جامعة بذلك  الدول الناطقة كلياً او جزئياً باللغة الفرنسية.

­ بناء الإتحاد الأوروبي و رسم إستراتيجيته السياسية والعسكرية و تقوية قوة الردع النووي الفرنسي .

في التاسع عشر من تشرين الأول عام 1891 بعث الرئيس الفرنسي  فرنسوا ميتران برسالة إلى الرئيس الأميركي  رونالد ريغان بمناسبة ذكرى مرور مائتي سنة على النصر المشترك الذي حققته واشنطن وباريس في معركة "يورك تاون" ضد البريطانيين، و فيها  يؤكّد على صلابة العلاقات الودّية بين البلدين.

وجاء في الرسالة أنّ العواطف والمشاعر المشتركة بين الشعبين المرتكزة على قاعدة الدفاع عن الحرية وقيمها كرّسته عمادة الدم المشترك في هذه المعركة.  إنّ تواجد الولايات المتحدة و فرنسا على شواطىء المحيط الأطلسي قد شكّل  عاملاً  إستراتيجياً  للدفاع عن هوية كل من البلدين في خضمّ المتغيرات منذ أواخر القرن التاسع عشر . و إذا لم يكن الدعم متبادلاً بينهما فقد تقع الخسارة وذلك بفقدان السيادة والحرية. من ناحية ثانية وفي السياق ذاته يتم الحفاظ على القيم الإنسانية ضمن نطاق المنافسة وتضارب المصالح. إذاً، إنّ التضامن الفرنسي ­ الأميركي يجب أن  يكون متوازناً غير مهزوز.

 تاريخياً، وفي القرن الثامن عشر بالتحديد،  لم يكن هناك من أعداء حقيقيين للشعب الأميركي سوى المستعمرين البريطانيين والفرنسيين على السواء. وإذا كانت الدولتان قد تحالفتا عام  1778  ضد الجيوش  الإنكليزية، فقد تم ذلك تحت عنوان "الواقع السياسي" حيث أنّ التناقض أدّى الى إلتقاء الثوار الأميركيين مع جنود فرنسا الملكية . وبالتالي فقد مال الوضع أكثر فأكثر نحو شعور التضامن بين الدولتين  الحليفتين، وهذا ما يفسر عدم الاكتراث في ما بعد وزوال هذا الشعور. إلاّ أنّه في نهاية القرن التاسع عشر عملت الأقدار على أن يلتقيا مجدداً  برغم اختلاف وجهات النظر الجيو­  سياسية.

في بداية القرن العشرين ظهرت على ساحة الأمر الواقع الدولية  "الجمهورية الأميركية الغنية"، وأصبحت القوة الاقتصادية الأولى. فمنذ عام 1898 جاء الإنتصار العسكري الذي حققته واشنطن في الحرب الأميركية - الإسبانية([1])  ليؤكد على ما أشار إليه عدد من كبار الديبلوماسيين على أنّ الولايات المتحدة قد أصبحت في النظام العالمي لاعباً  ومحاوراً  أساسياً  يمكن الاعتماد عليه.  هنا، تجدر الإشارة  إلى أنّ هذه الحقبة من التاريخ بدا فيها النظام العالمي أقل عالمية، بل أصبح نظاماً أوروبياً بامتياز، وأنّ فرنسا، عبر إشارات عديدة، حاولت دائماً أن تذكّر بأنّها هي التي ساعدت الأميركيين على نيل استقلالهم، و تحاول بالتالي  عبر إشارات معينة إبراز  تفوّقها  بوجه القوة الجديدة الآتية من وراء المحيط الأطلسي وذلك  بالرغم من التوجّه العالمي  بالاقتناع التام بمكانة الولايات المتحدة الأميركية على الساحة الدولية، إذ إن  الفكرة الراسخة لدى فرنسا وبعض دول أوروبا كانت إنها قوة فتيّة بدون تاريخ و ماضٍ حضاري، وهي بالنتيجة ليست لديها الخبرة  الواسعة في العلاقات الدولية. لذلك بدأ القلق يظهر على مواقف فرنسا السياسية  منذ بداية القرن العشرين حين أدركت أنّ العلاقات القديمة مع الولايات المتحدة قد تغيرت وانقلبت رأساً  على عقب.

 

لقد فهمت باريس أنّها ليست قادرة وحدها على منافسة واشنطن، وأنّ دولاً أخرى أيضاً  ليس باستطاعتها مواجهة "القوة الأميركية العظمى". فالحرب العالمية الثانية جاءت بنتائج أثبتت القدرات الأميركية في التفوّق العسكري والإقتصادي والسياسي و ذلك من خلال حسمها للحربين العالميتين. يشير الباحث الفرنسي أنطوان ديرام الذي ذكّر بصعود قوة حليفة فرنسا القديمة، أنّ الدهشة من التجربة الأميركية بدأت  تظهر على المواقف السياسية  الفرنسية منذ نهاية القرن التاسع عشر. فالديبلوماسية الفرنسية العاملة في كوبا و بورتوريكو والفيليبين كانت تعكس الإعجاب الكبير و الحذر والشك في الوقت نفسه على قيام الولايات المتحدة بتأسيس و بناء نظام إمبريالي،  وهذا ما حصل في وقت لاحق حين أصبح  الإقتصاد العالمي بزعامة واشنطن، خصوصاً حين تمّ  دمج  كل الأساليب التقنية الاقتصادية في إستراتيجية واحدة متراصة. لعلّ  الديبلوماسية الفرنسية اكتشفت أيضاً أنّ الخطاب "الإنساني"  الأميركي يحتوي على نوع من الخبث و المراوغة     أخفته واشنطن تحت عناوين عديدة، منها الحفاظ على القيم و الأخلاق وحقوق الإنسان.

 

 و هذا ما قد يخفي إستراتيجيتها الإمبريالية و عطشها للعب الدور الإستعماري.

إلاّ أنّ الديبلوماسية الفرنسية التي لم يكن يعجبها على الأقل المزج الخيالي لواشنطن بين "المرونة والسلطة" نظرت باتجاه حلفاء لها في واشنطن. فحثّها هؤلاء على ترطيب الأمور عن طريق انتهاج خطاب بمضمون ودي، خصوصاً و أنّ الولايات المتحدة تقوم بعمل حضاري كرسالةٍ منزلة من السماء. ويضاف إلى ذلك أنّ الإستعمار الإسباني مثلاً،  وبعد خسارته الحرب،  قام بجردة حسابات متفهماً فيها الرؤية المستقبلية للشعب الأميركي ودور الدولة الفتية، أكثر بكثير  من الفرنسيين، وهذا ما عكس بدون أدنى شك شعوراً أكثر هجومية من قبل باريس تجاه الأميركيين . و إذا كان القادة الفرنسيون قد لعبوا دوراً أكثر واقعية في العام 1898 في مباحثات باريس التي وضعت نهاية للحرب الإسبانية - الأميركية فقد بدأت الأوساط السياسية ذاتها تتساءل عن معنى ذلك .

و رأى البعض فيه خطراً متزايداً  على دول أوروبا من قبل الولايات المتحدة، و نصح بروكس أدامز الفرنسيين بالإستكانة والرضوخ  في وجه الأنكلو­ سكسونية. في تلك الحقبة الزمنية شهد العالم ثورة في الإتصالات تزامنت مع صعود القوة البحرية الألمانية واليابانية ، بينما كانت إنكلترا تواجه صعوبات في المحافظة على توازن القوة في القارة العجوز، مما دفع واشنطن الى التخلي عن سياستها القديمة المعروفة (بالعزلة الزائفة) بحيث دعت الرئيس ثيودور روزفلت إلى الاهتمام  بتطوير موازين القوة في أوروبا وفي الشرق الأقصى ومراقبتها عن كثب، ولقد أشار في رسالته التي وجهها إلى الكونغرس عام  1902 بقوله: "يتعيّن على القوى المتحضرة و المتّسمة بالنظام أن تصرّ على توجيه سليم لهذا العالم حيال تعقّد العلاقات الإقتصادية و السياسية الدولية" ([2]. (

وفي عام 1906 وبعد سنة فقط على فرضه الوساطة بين اليابان وروسيا،  لعب الرئيس الأميركي أيضاً دوراً  مؤثراً  في تسوية النزاع بين باريس وبرلين في المغرب، رغم أنّ مجلس الشيوخ الأميركي صاحب الفكرة  الإنعزالية في الابتعاد عن  الساحة الدولية قد  نظر الى هذا الأمر بعين الريبة لاعتقاده أنّ تسوية الأمور في العلاقات الدولية قد تحتاج في النزاعات العالمية إلى  مزيد من الوقت و بأكثر مما هو متوقع. إلاّ أنّ هذا التدخل الجديد لواشنطن  في حل النزاعات من أجل خدمة السلام  العالمي، كشف للرأي العام الدولي عن رجل متميز وملهم له نظرة جيو ­ سياسية متيقظة فأدخل الولايات المتحدة إلى المسرح الدولي لتتحمّل بذلك مسؤوليات ضخمة قد تكون بداية مرحلة جديدة للدولة الفتية كان هو أحد رجالها النادرين للمساهمة في بناء نهج جديد في العلاقات الدولية .

ولابدّ من الإشارة إلى أنّه كان قد اقترح عام 1910    تأسيس "عصبة الأمم" و إنشاء قوة من البوليس الدولي . فالوساطة الأميركية ودور الولايات المتحدة في مباحثات "الجزيرة" جاءت بمثابة نموذج فريد من نوعه كمبادرة برغماتية وتجددية، وهذا ما سمح بتدويل المسألة الإستعمارية بالمفهوم التوسعي الأوروبي، والذي نجح فيه ثيودور روزفلت تجنب الخطر، على أن يبقى الباب مفتوحاً أمام المغرب وخياراته من دون المساس بالدور الحضاري  الذي تلعبه فرنسا فيها. وفي الحرب العالمية الأولى، مع وصول الجنود الأميركيين وهم يهتفون بصوت عالٍ : "لافاييت، ها نحن هنا" ظهرت دلالات قوية غاية في الأهميةبيّنت  إلى أي مدى عمق الصداقة الفرنسية ­ الأميركية.

لكن هذه الصداقة عكّرتها مجموعة من الخلافات في وجهات النظر حول السلام الأوروبي وذلك بعد ما رفضت الولايات المتحدة تعديل  بعض بنود المعاهدة بينهما و بروز المعارضة حيث بدا  لهم أنّ فرنسا تتجه أكثر فأكثر نحو نوع من  العسكرة  للنظام من الممكن أن تكون له أبعاد خطيرة على الإستقرار في أوروبا. في الواقع ، كما يشير دينيز أرتو فإنّ انهيار الصداقة وتسمم العلاقات وتوترها بين الحليفين القديمين([3]) كان بسبب "ديون الحرب الفرنسية".

إنطلاقاً من ذلك، جاءت الحرب العالمية الثانية لتشكّل مفصلاً  أساسياً في الإستراتيجية  الأميركية . فالخلافات والتناقضات في وجهات النظر بدأت تتمحور حول تضارب فعلي يتجه أكثر فأكثر نحو الصراع على المصالح و النفوذ . واعتبرت الولايات المتحدة الأميركية  معركة "بيرل هاربر"  جرحاً  عميقاً لفكرها الجيو - سياسي فلم يعد باستطاعتها انتهاج ما يسمى  "بالعزلة الزائفة" عن المسرح الدولي . لذلك نرى أنّه بينما كانت واشنطن تعمل بجهد على تثبيت ذاتها ببناء قوة لا يستهان بها، وتسعى في الوقت نفسه لتكون القوة العظمى العالمية. التي باستطاعتها حسم الأمور لصالحها، كانت فرنسا تحصد ثمار أخطائها خلال الثلاثين سنة، حيث بدأت تفقد مصداقيتها على الساحة الدولية.

في نهاية القول قد يكون الاستنتاج هو أنّ الولايات المتحدة  قد أصبحت تهديداً  مباشراً لمصالح فرنسا ونفوذها بانتهاجها إستراتيجية واضحة ومباشرة إزاء الفرنسيين، إعتبرها الخبراء بأنّها نوع جديد من السياسة الإنتقامية وتتمثّل بالإختصار والتحجيم. و قد يكون ذلك أحد الدلالات الواضحة على الكراهية التي بدأت واشنطن تتبادلها مع باريس. ومنذ بداية القرن العشرين أصبحت الخلافات واضحة وبارزة من الخطاب السياسي الأميركي كما يشير الى ذلك المؤرخ الفرنسي جان باتيست ديروزل([4](

 

 وبدأت الولايات المتحدة بتضييق الخناق على فرنسا، وقام الرئيس فرانكلين روزفلت بمحاولات سياسية حول نقطتين :

أولاً : الرهان الأميركي على حكومة فيشي،  وذلك بعد توقيع "صفقة" مع أحد مسؤولي فيشي. هذه السياسة جوبهت بمعارضة قوية داخل الولايات المتحدة نفسها .

ثانياً : رفض روزفلت الإعتراف بشرعية شارل ديغول كممثل شرعي لفرنسا، و جاء الاعتراف الشرعي في عام 1944 بدعم مباشر من وينستون تشرشل رئيس الحكومة البريطانية ([5] (

إنّ التحليل الدقيق لعدد من الوثائق في أرشيف المحفوظات الفرنسية، كما يشير المؤرخ جان باتيست ديروزل يؤدي الى نتيجة واضحة يقول: "يتبيّن لنا أنّ الأقوياء في الدول الأوروبية باتوا في حالة انقسام ، بينما خرجت الولايات المتحدة منتصرة وكبيرة من هذا النزاع ، أما فرنسا فكادت أن تخسر ذاتها نتيجة الاحتلال الألماني". ويتابع المؤرخ الفرنسي "أن الذي سيسيطر، هو الفرق الشاسع بين الدولتين في قياس القوة السياسية" ([6]). إنّ هذا التباعد والفارق الكبير الناتج عن الحرب العالمية الثانية سيكون أساساً للصراعات المستقبلية. في هذه المرحلة من العلاقات الفرنسية - الأميركية نجد أنّ الرؤية الفرنسية قد تطورت، ويعود ذلك للفكر الإستراتيجي الواضح الذي تبناه الجنرال شارل ديغول  الذي أعلن من لندن عن قيام جمهورية فرنسا الحرة و دعم بريطانيا غير المحدود له. فالفرنسيون، ولو جزئياً، سيحاولون العضّ على الجراح و العمل بقوة لإزالة آثار الإحتلال الألماني، والإستراتيجية الفرنسية إتجهت لأن  يكون لها موقع في المهمات العسكرية لإدارة شؤون الدولة الألمانية والعمل إلى احتلال مقعد دائم في مجلس الأمن.

 

أما الشعور الأميركي في تلك المرحلة تجاه فرنسا فقد يترجم بالتالي: إنّ فرصة التحرير للشعب الفرنسي قد تكون تاريخية، تؤسس  لقيام جيل جديد من  السياسيين والقياديين، وتدعو إلى عودة التفاهم التام مع واشنطن، لا سيما وأنّ الولايات المتحدة ساعدت على تثبيت ضمانة الشرعية الدولية  للمقاومة ولقيادة فرنسا الحرّة في استعادة نفوذها السياسي والعسكري.

يلاحظ أنّه في عام 1945، عبّرت فرنسا عن إعجاب حقيقي بالدولة الأميركية وفكرة القوة التي تتبناها. لكن هذا الإعجاب لم يمنع بروز  قلق ساور عدداً من المسؤولين الفرنسيين من صعود نموذج إقتصدي ­ إجتماعي يعتبر بعيداً  كل البعد عن النموذج المعمول به في أوروبا، لا سيما في فترة ما بين الحربين العالميتين، فبدأ الشك والخوف يتصاعد عند الفرنسيين من النهج الثقافي الأميركي "المادي". وبعيداً  عن التهدئة نجد أنّ هناك تنافساً  حاداً  واضحاً ضمن المجموعة الإيديولوجية الغربية حول مشروعين ثقافيين للمستقبل  يطمحان إلى "العولمة".

السؤال، هل إن توسيع نموذج العولمة يهدد الهوية القومية الوطنية لفرنسا، وهل إن فرنسا ستتبع إستراتيجية دفاعية من أجل الحفاظ على  "خصوصيتها" الثقافية من دون أن تتردد في اعتماد الطرق الفكرية الجديدة المرتكزة  على الحداثة والتحديث في نظامها السياسي و الاجتماعي؟ ففي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية،  كان إصرار فرنسا مشهوداً له بإبراز قدرتها على الدفاع عن مصالحها و إسماع صوتها عالياً عبر المنابر الدولية بانتهاجها إستراتيجية طويلة المدى. كما أنّه في عام 1945، إنتظر القادة الفرنسيون "المصالحة" بين الروس والأميركيين في مؤتمر يالطا. إلاّ أنّ الأحداث المتسارعة التي عرفتها تلك السنة كرّست  ما يعتبره الفرنسيون "إرث يالطا": عالم مزدوج القطبية حيث أنّ الكبار اقتسموا "العالم القديم"، و لم يبق لدول هذا الأخير إلاّ أن تلتحق بواحد من المعسكرين .

ولابد من الإشارة إلى أن "الجمهورية الرابعة في فرنسا" شهدت نوعاً جديداً من العلاقات من الممكن اعتبارها ساخنة.

 ربما كان التحالف مع الولايات المتحدة في العام 1947  يشكل الاستمرارية الصحيحة في سياسة فرنسا الخارجية، لكن بدا أن عدداً لابأس به من القادة الفرنسيين، بالإضافة  لشريحة كبيرة من أبناء المجتمع، لم تساهم  إلاّ  بالانزعاج أو عدم تقدير دور الولايات المتحدة الأميركية. وشرح هذا الموقف ليس معقداً؛  فهذا الإنزعاج الفرنسي ليس إلاّ  لأنّ الدور الذي لعبته باريس في ذلك الحين كان التزامها بالموافقة والخضوع أحياناً لسياسة واشنطن الدولية، وهذا ما أكدته رسالة سرية بعث بها رئيس الجمهورية فانسان أوريول إلى سفير فرنسا في واشنطن هنري بونسيه جاء فيها: "إنّ الفرنسيين يتساءلون إذا ما كنا حقاً في الحلف الأطلسي كي لا نتلقّى الإذلال والتبعية على الساحة الدولية".  في الواقع إنّ فرنسا في الجمهورية الرابعة، وبرغم من أنّها دولة كبرى، إلاّ أنّ اقتصادها كان مدعوماً من خلال خطة ماريشال الأميركية، ومن الناحية العسكرية اعتبرت "محمية" من قبل المظلة العسكرية الأميركية.

برغم التحالف الأيديولوجي والإستراتيجي بين البلدين، فإنّ الفرنسيين  في أغلب الأحيان حددوا مصالحهم في صفوف معارضة هذا الحليف،  خصوصاً  وأنّ المصطلحات السياسية  المستعملة لديهم كانت من نوع "الهيمنة المزدوجة"  و"التهديد المزدوج"  والمساواة بين الهيمنة السوفياتية والهيمنة الأميركية. هذا الانزعاج الفرنسي لاحظته واشنطن،  فبدأت  الدوائر السياسية والإجتماعية الأميركية العمل  على التعرّف على كل ما من شأنه أن يعيق السياسة الأميركية التي مصدرها فرنسا، وما  تسعى إلى تكوينه، والذي يسمّى اليوم الفرنكوفونية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل التراجع الأوروبي جاء نتيجة  إرادة القوة الأميركية؟ وتتساءل باريس بأنّ القوة الأميركية تطمح إلى إنهاء إمبراطورية فرنسا الإستعمارية، فواشنطن  بدأت تكثر من انتقاداتها ومعارضتها لهذا الإستعمار. وليس صدفةً، في أواخر الجمهورية الرابعة وإبّان أزمة قناة السويس وحرب الجزائر، أن نرى الأزمة السياسية بين البلدين قد وصلت   إلى أعلى حالات  التوتر، وذلك إالى درجة  الكراهية في الشارع الفرنسي ضد الولايات المتحدة.

في أواخر الجمهورية الرابعة ومع بداية الجمهورية الخامسة، لم يتوقف الفرنسيون عن اتهام حلفائهم في الحلف الأطلسي بعدم تقديم المساعدة لهم رغم  المعارك الشرسة التي خاضتها باريس في شبه جزيرة الهند­ الصينية أو في أفريقيا (فيتنام والجزائر) حيث كان تهديد الإتحاد السوفياتي مباشراً  لفرنسا . في المقابل كانت  الولايات المتحدة تأسف وتشكو دائماً من غياب الدعم الأوروبي   لتورطها الفيتنامي .

    

  كذلك فإنّ الزعيم الفرنسي شارل ديغول الذي تسلّم زمام السلطة عام 1958 رسم استراتيجية جديدة لفرنسا، فوقّع اتفاقية  السلام مع الجزائريين وأصبحت الجزائر بذلك مستقلّة، كما اتجه نحو سياسة التخلّص من الفكر الإستعماري لفرنسا بإعطاء عدد من الدول الأفريقية استقلالها وربطها بالتالي بمجموعة من معاهدات التعاون والصداقة. وربط الرئيس الفرنسي، كل ذلك، بحركة ديبلوماسية مركزة مع الدول النامية في العالم الثالث، لاسيما وأنّ التضامن الإيديولوجي و التحالف مع الولايات المتحدة أخذ منحى آخر، هو حالة من الشك،  ولّدته المواجهات الناجمة على أثر إنهاء إزالة الإستعمار في أفريقيا.

فالدولتان شهدتا نوعاً من الحرب الباردة، خصوصاً عام 1964 في  دولة الغابون حيث حصل الإنقلاب العسكري الذي أخاف واشنطن من عدم قدرة فرنسا الفرنكوفونية على مواجهة المد الشيوعي في القارة السمراء، بينما رأت باريس أنّ الخطر القادم هو محاولة واشنطن المتكررة  للحل محلها في هذه الدولة الغنية بالثروات النفطية و المعادن. فالرئيس شارل ديغول لم يكن إلاّ ليؤمن بالأسوأ منذ أن كان الأمر يتعلّق بتصرفات واشنطن تجاه الإمبراطورية الفرنسية القديمة،  ومن محاولة تطويقها و عزلها على الساحة الدولية، وهو يشير إلى ذلك قائلاً: "حيث يذهب الأميركيون في العالم"، إلى الغابون مثلاً، تأتي الصعوبات: "أنظروا ما حدث في منطقة  الهند ­ الصينية" ويتابع بقوله: "هناك صدمة أصيب بها  المواطن الفرنسي بعد سماعه من حلفائه بأنّ ساعة خروج فرنسا من الهند­ الصينية  قد دقّت، وهؤلاء بالذات  استعجلوا خروجنا لنراهم في ما بعد يتصرفون كقوة استعمارية في مدينة سايغون".

في الحقيقة، إنّ العلاقات المتوترة والمعقدة بين واشنطن وباريس لم تكن سوى انعكاس لواقع الحال بينهما. وقد اقترب التضامن  بين الطرفين إلى حالة من السخونة وعدم التلاقي في المصالح،  لا سيما في مسألة البحث عن السلام في فيتنام التي كان الجنرال ديغول يوليها اهتمامه، ويتابع عن كثب وبدقة تامة متابعة مراحلها، وعمل بنفسه على اختيار باريس مركزاً  للمفاوضات الفيتنامية­الأميركية. 

مما لا شك فيه أنّ واشنطن لم تخفِ يوماً عدم قدرة فرنسا  عسكرياً على حسم معركة "ديان بيان فو" في فيتنام كونها أول حرب عسكرية تخوضها باريس بعد الحرب العالمية الثانية، كما أنّ فرنسا، بالمقابل،  شككت مراراً  بقدرة واشنطن على نجاحها في المباحثات الفيتنامية . إنّ أهمية الرئيس شارل ديغول تكمن في عمله  لاستعادة فرنسا، تحت قيادته، الثقة بالنفس حين تخلّى الشعب الفرنسي عن  عقدة  مؤتمر يالطا لتقاسم العالم الإرث التاريخي للقطبين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فواشنطن قامت باستغلال حلفائها الأوروبيين الذين انشغلوا ببعض الملفات الشائكة والمعقدة ضمن آلية رسم إطار العلاقات الإستراتيجية معها. ومع بداية الستينات لم تعد للقمة الرباعية لهذا الإرث اليالطي أهمية، لا سيما بعد حصول أزمة الصواريخ الكوبية. هنا نرى بداية فعلية للحوار السوفياتي ­ الأميركي. ومع  ان الأزمة الفيتنامية  ساهمت في التقّيد بالحوار قبل وصول الرئيس نيكسون الى السلطة و انعقاد قمة غلاسبورو عام  1967، فإنّ الاتجاه كان قد بدأ يميل نحو التهدئة بين الجبارين .

 

غير أنّ الجنرال ديغول لم يفقد الشجاعة في مواجهة الأحداث التي عرفها وتعامل معها بهدوء ومرونة، حيث أنّ الوهم الاستعماري والنظرة إليه  قد تبددا، وكان بالإمكان تجسيد سياسة غربية أخرى تكون  أكثر تحسساً  لطموحات و آمال الشعب الفيتنامي القومية وللدول النامية معاً . ومن أجل طرد شبح فرنسا تابعة وغير قادرة على الحفاظ على مصالحها و نفوذها مثل أوروبا العاجزة عن الخروج من تحت الهيمنة الأميركية، تبيّن أنّه يمكن  استخدام مقومات جديدة تمتعت بها الجمهورية الرابعة، وهي الفعالية. كان لا بدّ لديغول من الأخذ بالاعتبار هذه الفعالية في عملية بناء الجمهورية الخامسة دستورياً، الأمر الذي أدى إلى تحقيق صعود و تطّور فرنسا وبناء قوتها الاقتصادية و العسكرية، فانضمت إلى النادي النووي بتجربتها التي قامت بها عام 1960.

الملاحظ، هنا،  أنّ إدارة الرئيس جون كينيدي الديمقراطية كانت تعارض كل قوة نووية أوروبية مستقلة. واستطاع الجنرال ديغول أيضاً في هذه الحقبة الزمنية من عهد كينيدي أن يؤكد على استقلالية القرار السياسي الفرنسي و على الكثير من المصالح الإقتصادية والإستراتيجية في وجه الأميركيين، حتى إبّان الأزمات في كوبا وبرلين التي تذكر بحدّة التهديد السوفياتي،  لتعود القواعد الأساسية للعلاقات الأطلسية. فقد يكون الرئيس الفرنسي قد حقق نجاحاً من الناحية الإستراتيجية بفهمه لكيفية العمل على  هذه العلاقات المعدّلة بين طرفي المحيط الأطلسي، والذي  هو عبارة عن فكرة كانت قد برزت في الجمهورية الرابعة حين طرح على بساط البحث بناء أوروبا القوية.

 هذه الفكرة بحثت منذ عام 1950.

 ويشرح الجنرال ديغول للوزير الأسبق الآن بيرفييت في 22 آب 1962، ثم يسأله: لماذا هذا؟ ويجيبه ديغول بنفسه: "حتى لا تحكمنا الولايات المتحدة أو روسيا"... ويتابع: "اذا أعدت فرنسا نفسها لتكون بين الدول النووية الست، وهذا أمر سهل وفي متناول يدنا، يمكنها بالتالي أن تحرّك بنفسها رافعة أرخميديس وتديرها كما تشاء، كما يمكنها أن تجلب الآخرين. إنّ أوروبا هي الوسيلة الأولى لفرنسا لأن تصبح من جديد ما كانت توقفت عنده في واترلو: أي الأولى في العالم"([7](

لقد تعرضت فرنسا منذ عام 1954 لعرقلة لسياستها الداخلية والخارجية بسبب دعمها مشروع الوحدة الأوروبية الدفاعية.

والفكرة رأت النور بعد سنة، ونجحت في إنشاء وحدة إقتصادية  كان ديغول ينوي إعطاءها بعداً عسكرياً وإقتصادياً وذلك من خلال العمل على بناء أوروبا أوروبية ذات سيادة في مواجهة أميركا.

ولقد اصطدم المشروع بتباطؤ وتردد شركاء فرنسا الذين رفضوا دعم الولايات المتحدة لهم وحمايتها النووية، عندئذ عهد الجنرال ديغول لفرنسا بمهمة ضمان المستقبل وذلك بتجسيد أوروبا كقطبٍ عالمي في منافسة  الولايات المتحدة.

 لعّل القرار الذي أتخذه الجنرال ديغول بالانسحاب من الحلف الأطلسي  أزعج واشنطن، فقد استقبلته الدوائر الرسمية بنوع من الإشمئزاز ولاقى اعتراضاً في البداية­ وتحفّظات من قبل  الرئيس ليندون جونسون نفسه­ محللاً أبعاده الإستراتيجية لمعنى إنسحاب فرنسا من الحلف الأطلسي عسكرياً، ومدى آثاره في الحرب الباردة والمجابهة الأميركية ­ السوفياتية.

 في الواقع، لقد أراد الجنرال ديغول باتخاذه هذا القرار، خوض المعركة السياسية لفرنسا ضد الهيمنة المزدوجة، متخذاً لنفسه مسافات عن الولايات المتحدة، على أمل العمل على اقناع الإتحاد السوفياتي بأن يخفف من ممارساته المتشددة على الدول الدائرة في فلكه.

 هنا، قد يكون الحلم الديغولي في قيام قوة عالمية ثالثة بين الجبارين لتلعب فرنسا دوراً إستراتيجياً فيه، والذي شهد انهياراً تاماً له في عام 1968 تحت تأثيرات أحداث هذا العام  المزدوجة:

­ الأحداث الداخلية الفرنسية المعروفة بثورة أيار الطلاّبية.

­ التدخل العسكري السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا وما عرف بـ "ربيع براغ".

 

الملاحظ في هذه اللحظة التاريخية أنّ الإستراتيجية الفرنسية فشلت بمنع قيام حوار مباشر بين الجبارين اللذين أكدا للعالم أجمع أنّ العالم القديم قد بدأ العد العكسي نحو الإندثار التدريجي، خصوصاً  وإنّ فرنسا لم تكن خائفة أبداً من أن ترى نفسها غارقة في نظام اقتصادي­ثقافي ترسم عناوينه العريضة الولايات المتحدة.

 بهذا الخصوص يشير الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو في كانون الثاني من عام 1968،  إلى أنّ الجنرال ديغول تأكّد له أنّ الإتحاد السوفياتي هو بحالة الدفاع الدائمة عن النفس في المواجهة مع الولايات المتحدة، إذ أنّ  الثقل الكبير في العالم للقوة الأميركية العظمى  ظهر فعلياً، وبدت  المسافات بينهما شاسعة تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة.

 نحن، في أوروبا و تحديداً في فرنسا، هل يفترض بنا الانتظار لتبلعنا واشنطن؟ في الحقيقة و على ما أعتقد شيئاً فشيئاً سيحصل ذلك ولكن أنتم تعلمون ما نفعله...

وإذا كان المفهوم الخاص بالمسائل الجيو­ سياسية في الشرق الأوسط له أبعاده في الصراع القائم في المنطقة، فإنّ هامش المناورة لانتزاع دور لفرنسا بقي ضعيفاً نوعاً ما في مواجهة الولايات المتحدة.

وهنا يلاحظ، أنّ الإتحاد السوفياتي هو الذي ساعد باريس على انتزاع موقع لها في مباحثات اللجنة الرباعية عام 1970 من الولايات المتحدة، ومن الواضح أيضاً أنّ التنازل هذا كان يراد به ان يكون رمزياً فقط.

إنّ وزير الخارجية الأميركي الأسبق وليم روجرز تحدث عن خدعة هادئة يمكن تصديقها من قبل الكثيرين، حيث أنّ واجهة المباحثات المتعددة الإتجاهات  لاقت صعوبات مع الفرقاء المتصارعين في المنطقة، وهذا ما أكد اختلاف وجهات النظر بين الدولتين حول التسوية في الشرق الأوسط.

 فالمعارضة الإسرائيلية كانت واضحة و لديها دلالات جيو­سياسية لأية مساهمة فرنسية في عملية السلام بدعم مباشر من الولايات المتحدة.

 إنّ السياسة الأوروبية لفرنسا، من دون شك، كانت نجاحاً كبيراً لبناء القوة الفرنسية من الناحية الاقتصادية.

 فهي أدّت إلى إنشاء هوية إقتصادية للدول الأوروبية واستطاعت باريس أن تكون الناطقة الرسمية لهذه الكتلة الجديدة على نفس المستوى مع واشنطن.

و فرضت اللجنة الأوروبية نفسها على الساحة الدولية على أنها شريك عالمي  للمفاوضين الأميركيين من خلال المباحثات التي أسست لقيام منظمة التجارة العالمية "الغات" حيث أصبحت اللجنة الأوروبية أحد أعمدتها و جزءاً منها.

إذا كانت أوروبا الإقتصادية قد أصبحت عملاقاً لا يستهان به وركيزة أساسية في العلاقات الدولية تدافع عن مصالحها و تفرض استراتيجية جديدة، فقد  نتجت صعوبة من جرّاء استفراد فرنسا وعزلها.

في الواقع، إنّ مباحثات الأورغواي قد برهنت عن مدى الترابط الحاصل للسياسة و للعلاقات الأوروبية­ الأميركية.

 فمن جهة، يمكن لباريس أن تعتمد على أوروبا كحاجز جزئي رادع للهجومات الإقتصادية التجارية المدعومة مباشرة من الديبلوماسية الأميركية.

ومن جهة ثانية، كان ينبغي على فرنسا أن تكثف مفاوضاتها مع شركائها الأوروبيين وتحدد معهم اتفاقاً يكون أقرب إلى وجهات النظر الأميركية.

ولعلّ المنافسة الجديدة للجنة الأوروبية والولايات المتحدة دعت أوروبا إلى أن تقترب أيضاً من دول أميركا  اللاتينية ودول جنوب شرقي أسيا، حيث كان الأميركيون قد أسسوا فعلياً  دوراً لهم هناك، جعلهم يتمتعون بقوة نسبية ويتقدمون بذلك عن دول العالم القديم.

وبالنسبة لفرنسا فهذه الإستراتيجية الأوروبية أعطتها دفعاً جديداً لتصبح بالتالي هي الأخرى صاحبة قوة ونفوذ بانضمامها إلى اتفاقية التجارة العالمية.

 في نهاية المطاف، وباختصارٍ تام فإنّ المعضلة أمام فرنسا باتت واضحة. فمن دون أوروبا فرنسا هي دولة حرة في حركتها، ولكن أقل تأثيراً على الساحة الدولية، بينما مع أوروبا، هي أقوى بنفوذها، ولكن حرية حركتها  محدودة.

وهكذا بدأت الأمور، تتجه أكثر فأكثر للتراجع تجارياً بين فرنسا والولايات المتحدة لحساب ومصلحة حداثة العلاقات الأوروبية­ الأميركية. أما على الصعيدين السياسي والعسكري فالأمور بقيت على حالها حيث تمسك واشنطن بخيوط اللعبة فيها.

 ومن الناحية الإستراتيجية برهنت أزمة البلقان اليوغسلافية على أنّ أوروبا من الناحية العسكرية ليس باستطاعتها حل هذه الأزمة من دون العودة إلى حليفتها الولايات المتحدة التي استطاعت واشنطن خلال أسابيع أن تضع حداً للصراع الدائر هناك حين أخفقت الدول الأوروبية القديمة في إطفاء نارها.

 

وأثار التدخّل الأميركي في البلقان  ردة فعل أوروبية كونه حمل رسائل استراتيجية موجّهة إلى الدول القديمة و بالتحديد لفرنسا و ألمانيا وبريطانيا. هذه الأزمة دفعت أوروبا الى التعاون أكثر  من الناحيتين العسكرية و السياسية تحت ضغط الرأي العام.

 يجب الإشارة، هنا، إلى أنّ فرنسا وألمانيا قد قامتا بتأسيس الفرقة الفرنسية­الألمانية كنواة للجيش الأوروبي الموحد.

وفي مؤتمر رامبوييه في فرنسا إتخذت أوروبا قرارها بتشكيل قوة التدخل السريع، وقوامها 63000 جندي أوروبي، ولترجمة هذه الرؤية الجديدة من الناحية السياسية إلتقى الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الحكومة البريطانية طوني بلير في مدينة سان مالو الفرنسية في كانون الأول من عام 1998.

السؤال الذي يطرح نفسه هو هل إنّ أحداث 11 أيلول  عام 2001  خلطت من جديد الأوراق الجيو­سياسية؟ فبعد أيام قليلة على هذه الأحداث لم يستطع الأوروبيون إبراز وحدتهم السياسية، فقد بدأت بعض الدول الأوروبية منافسة بعضها البعض من أجل التقرّب السريع من الأميركيين، خصوصاً وأنّ الولايات المتحدة قد عملت على فتح حوارات متعددة و قامت بتحالفات جانبية مع عدد من الدول الأوروبية مما خفّف من قوة صعود الإتحاد السياسي و العسكري ([8](

لكن نجاح السعي إلى توحيد أوروبا من طرف واحد، سترد عليه الولايات المتحدة بالمثل.

فالتوتر مع الإتحاد الأوروبي وفي داخله  سيصبح حاداً، إذ من دون الولايات المتحدة ستكون أوروبا ضعيفة، وستكون أميركا مجبرة على اعتماد إستراتيجية توازن القوى باتجاهها لطالما رفضتها، وهو ما ينبغي انتهاجه كحلٍ أخير. ويتعين على الذين يسعون إلى الوحدة عبر مواجهة مع أميركا، التفكير بأنّها لن تبقى سلبية عندما تتعرض سياساتها للتحدّي، وسيرفض بعض الأعضاء الرئيسيين في الاتحاد الأوروبي مخاطر الابتعاد عن الولايات المتحدة.

إنّ الولايات المتحدة تعتبر نفسها، في حربها على الإرهاب، القطب العالمي الوحيد القادر على إدارة شؤون الكرة الأرضية في مفهوم  العولمة، بينما فرنسا وألمانيا وبعض الدول الحليفة رفعت رايات المعارضة لهذه الإستراتيجية الأميركية، مطالبة بتفعيل دور المنظمات الدولية ضمن مفهوم التشاور في نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ([9](

إنطلاقاً من ذلك تجسّدت الخلافات من جديد لتتخذ منحى جديداً في العلاقات الفرنسية­ الأميركية في الأشهر الأولى من عام 2003 وذلك تحت ضغط تداعيات الحرب على العراق. وقد أثار النقاش في أروقة الأمم المتحدة توتراً وأدّى  إلى بروز خلافات عميقة لم تعرفها الدولتين في الماضي، وذلك حول تفسير القرار رقم 1441 الصادر عن مجلس الأمن،  والذي  اعتمد بالإجماع  نتيجة الاتفاق بين باريس و واشنطن.

ففرنسا ترتكز بمفهومها للعولمة الجديدة على الرؤية المستقبلية للإتحاد الأوروبي للقرن الحادي والعشرين والتي تعتبر بأنّ النظام الدولي الجديد يجب أن يكون متعدد الأقطاب، وهذا ما يناقض وجهة نظر الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها راعية للنظام العالمي الجديد بعد انتصارها في الحرب الباردة.

 و لعّل المنافسة هذه سمحت لباريس أن تؤكد مرة جديدة على استقلالية قرارها في العلاقات الدولية كونها قائدة للمعارضة العالمية ضد الولايات المتحدة بحيث أصبحت المدافعة عن الشرعية الدولية.

 في المقابل، إنتهجت واشنطن سياسة إستراتيجية لتطويق وعزل فرنسا في المجتمع الدولي، وقامت بالإستفراد بها على الساحة الدولية والأوروبية، فتدخلت لعرقلة التقارب الذي حصل بين روسيا وألمانيا و فرنسا ودعمت المحور الأوروبي الآخر بزعامة بريطانيا وإسبانيا.

هذه الإستراتيجية، إن دلّت على شيء، فهي تدلّ على أن مستقبل الإتحاد الأوروبي أصبح فعلياً تحت المجهر الأميركي، كونه أضحى في قلب الصراع القديم بين دوله ما وضع الفرنسيين و الأوروبيين وجهاً لوجه، كما كان المشهد الأوروبي قبيل الحرب العالمية الثانية.

 

في نهاية المطاف، فإنّ الاستنتاجات كثيرة ومعقدة وترتبط بالنهاية ببسط النفوذ و الهيمنة، حيث  تتقاطع  فيها المصالح. فالزيارة التي قام بها الرئيس جورج دبليو بوش إلى أوروبا، ولقاءه زعماء أوروبا، وبالتحديد جاك شيراك، حملت معانٍ عديدة تصبّ جميعها في مصلحة تبريد العلاقات مع فرنسا وحلفائها ضمن نوع من التفاهم والمشاورات حول بعض الملفات الساخنة في العالم، وبالتحديد في الشرق الأوسط.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ الرئيس الفرنسي شيراك قد عانى من صعوبات سياسية داخلية وخارجية مؤخراً، منها :

­ خسارة حزبه السياسي([10]) الانتخابات الإقليمية والأوروبية عام 2004 وخسارة الاستفتاء حول الدستور الأوروبي عام 2005  مما خفف من سلطته، هذا بالإضافة إلى صعود تيار منافس له داخل الحزب بزعامة وزير الداخلية نيقولا ساركوزي.

­ فشل إستراتيجيته في لبنان وسوريا بعدم تطبيق دمشق لمقترحاته في تطوير نظامها وعدم تطبيق لبنان لمقررات مؤتمرات باريس.

­ عرقلة إسرائيل الدائمة للمقترحات الفرنسية في الشرق الأوسط لا سيما إيجاد  تسوية للصراع الإسرائيلي­الفلسطيني  وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بالإضافة لاتهام فرنسا من قبل تل أبيب بأنها ساعدت على تصاعد انتشار معاداة السامية في أوروبا.

هذه العوامل كلها تزامنت مع تغيير في تكتيك  الإستراتيجية الأميركية في المنطقة نظراً للضغط اليومي للمقاومة في العراق والدور البارز  لإيران عبر ملفها النووي. لذلك، تبنّت واشنطن بقوة مشروع القرار رقم 1559 وكلّفت دول أوروبا القديمة فتح الحوار مع إيران حول ملفها النووي. إنّ الجهود الفرنسية في تثبيت قدراتها أمام القوة الأميركية العظمى على أنّها دولة كبرى وضعت باريس أمام معضلة معقدة وهي: إما أن تستمر بإستراتيجيتها من دون أن تتاح لها الفرصة لتكوين نظام عالمي جديد  تعرف كيف تتكامل فيه لتقاوم الهجمة الأميركية، أو  تتابع جهودها التي بدأتها منذ عقود  لبناء أوروبا قوية و متجانسة، خصوصاً بعد توسيع الإتحاد، آملة بذلك الاعتماد عليه.

 فهل أصبح المشروع الأوروبي خطراً بعد المتغيرات الحاصلة جرّاء حرب العراق؟ وهل ترى باريس فيه توجّهاً مختلفاً لشركائها الأوروبيين عمّا كانت تعتبره حائزاً على أهمية تاريخية؟ وهل سيبقى الإتحاد الأوروبي عملاقاً اقتصادياً و قزماً سياسياً و عسكرياً كما تتمنى له الولايات المتحدة؟ أسئلة بحاجة إلى ردود سريعة من جانب فرنسا و حلفائها في أوروبا.

 

[1] منذ منتصف القرن التاسع عشر مالت الولايات المتحدة الأميركية إلى العزلة ولم تتوسع في علاقاتها خارج القارة ،ولكنها أدخلت نفسهافي حرب مع إسبانيا حول القضية الكوبية عام 1895 وانتصرت عليها إنتصاراً سريعاً في البرّ والبحر وخضعت كوبا للإحتلال المؤقت إلى حين الإستقلال. و تنازلت إسبانيا لأميركا عن بورتوريكو وغوام كتعويض حرب، و كذلك عن جزر الفيليبين مقابل عشرين مليون دولار. و بعد ثلاث سنوات أي سنة 1898 أدخلت نفسها مع بريطانيا حول حدود فنزويلا، و أعادت ترسيم حدود شبه جزيرة ألاسكا رغم الإحتجاجات الكندية. أبدت واشنطن الإستعداد للتدخّل في شوؤن أميركا اللاتينية مثل نيكاراغوا و هايتي و المكسيك و جمهورية الدومينيكان، عندما لا تتفق مصالح هذه الدول مع مصالح الولايات المتحدة.

[2] هنري كيسنجر، الديبلوماسية من القرن الثامن عشر حتى الحرب الباردة، دار الأهلية للنشر، طبعة أولى عام 5991، ص .43

[3] دنيس أرتو، مسألة الديون بين الحلفاء وإعادة بناء أوروبا، منشورات شامبيون، باريس 1976­بالفرنسية.

[4] جان باتيست دوروزيل، الإنحطاط 1932­1939، المطبعة الوطنية، باريس .1979

[5] المرجع نفسه بالفرنسية.

[6] المرجع نفسه بالفرنسية.

[7] سلسلة كتب بيار رونوفان حول تاريخ العلاقات الدولية باللغة الفرنسية.

[8] تباينت المواقف في الإتحاد الأوروبي، منها الداعم بدون شروط للحملة الأميركية بكافة أشكالها العسكرية و المالية و الديبلوماسية مثل بريطانيا، و منها مؤيد مع بعض التحفظات و الشروط و يفضل تحديداً أدق لأهداف الحملة في المساحة و المكان والزمان، مثل فرنسا.

[9]  يشير وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر بأنّ ظهور أطراف جديدة تمثل خطراً على المصالح الإقتصادية الأميركية على المدى المتوسط و البعيد، مثل فرنسا و بعض الدول الأوروبية و اليابان و الصين، لذلك يجب السيطرة على منابع النفط لصون المصالح الأميركية.

[10] التجمع من أجل الحركة الشعبية.

The French-American relations:A Galilean vision

The research worker raises the issue of the relation between the United States and France under the evolution and the succession of the events on the international scene, starting from the history of this relation to the present stage. Noticing the new vision of Washington, based on the concept of strength, he sees that this fact incited Paris to change its traditional strategy towards the United States, and made France less hegemonic and more independent.

After showing the major historical stages in the course of the relation between the two powerful states, he considers that the main disagreement is due to the United States preferring the politic of strength to the politic of understanding, especially after the events of September 11, 2001, and their continuous allegations.   

The researcher saves a large and essential part of his study to follow the influence of the events on the Iraqi-American front, on the French-American relations, notably that the French politic became an essential component of the European politic quasi independent from the American one, in the world.

Les relations franco-américaines: Une vision Galiléienne
 
Le chercheur pose la question de la relation entre les Etats-Unis et la France au moment de l’évolution et de la succession des événements sur la scène internationale, tout en partant de l’histoire de cette relation pour arriver à l’étape actuelle. Alors qu’il note la nouvelle vision de Washington basée sur le concept de la puissance, il voit que cette réalité a incité Paris à changer sa stratégie traditionelle envers les Etats-Unis, ce qui a allégé de son hégémonie et augmenter son indépendance.

Après avoir passé en revue les principales étapes historiques dans le cheminement de la relation entre les deux grandes puissances, le chercheur avance que la discorde entre elles est due au fait que les Etats-Unis ont préféré la politique de la force à celle de l’entente, notamment à la suite des événements du 11 septembre 2001, et à leurs allégations successives.

 Le chercheur consacre une grande partie de son étude à suivre l’influence des événements sur le front américano-irakien, sur les relations franco-américaines, notamment après que la politique française soit devenue une composante essentielle pour une politique européenne quasi-indépendante de la politique américaine dans le monde.

Le chercheur se demande ainsi si le projet européen pèse lourd sur la politique américaine plongée dans ses difficultés en Irak? Par la suite l’Union Européenne restera-t-elle un géant économique et un nain politique et militaire face à Washington?