ثقافة وفنون

نقولا زياده
إعداد: وفيق غريزي

بين التاريخ وعلم التاريخ

 

من 1907 إلى 2006، قرن من الزمن، من النصف الأول للعقد الأول من القرن العشرين، إلى النصف الأول من العقد الأول من الألفية الثالثة. قرن من الزمن، قضاه بين الدراسة والتعلم والعطاء الفكري والأدبي. رحل مثقلاً بالرصيد المعنوي الذي تركه في الأوساط الثقافية العربية، غاب جسداً، وبقي حياً في الذاكرة وفي الأذهان. إنه المؤرخ والمفكر نقولا زيادة.
مؤرخ واعٍ لموقعه في سياق المرحلة ومواصفاتها الثقافية. إستأثر بالمشهد محولاً ما عداه إلى رواة أو مؤرخين حديثين.

 

السيرة الذاتية

ولد نقولا زيادة في دمشق العام 1907. بعد وفاة والده، عاد مع والدته وإخوته الثلاثة إلى الناصرة - فلسطين العام 1915، بعدما درس في مدرستين بدمشق. تعهده خاله الوحيد بالرعاية، وما لبث أن قُتل خاله في انفجار قنبلة ألقتها طائرة بريطانية العام 1917 على بلدة جنين. راحت والدته تعمل، فيما نقولا بلا مدرسة لانعدامها هناك، فعوّض عن ذلك بالمطالعة والتثقيف الذاتي. العام 1919 فتحت مدرسة جنين أبوابها، فدخلها نقولا لعامين، وتقدم لامتحان دخول دار المعلمين في القدس، ومكث هناك ثلاث سنوات، تخرج حاملاً شهادة العام 1924، فتيسر له العمل براتب شهري زهيد في مدرسة الناصرة لعدة أسابيع، انتقل بعدها إلى مدرسة ترشيحا - قضاء عكا. وفي العام التالي، نقل إلى مدرسة عكا الثانوية (1925 - 1935) مدرّساً للتاريخ والجغرافيا. إهتم بالآثار، ورغب في الإختصاص الجامعي. وخلال عمله مع السير فلندرز بتري في حفريات أثرية، أتيحت له الفرصة للذهاب إلى لندن وميونيخ لمتابعة علومه الجامعية، مستفيداً من مخزونه الثقافي ومعرفته التاريخية. سنة 1939 نال نقولا زيادة شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة لندن، ثم عمل لثماني سنوات أستاذاً في الكلية العربية (القدس) وهو يعمل على أطروحة دكتوراه في التاريخ الإسلامي، فيما الإجازة هي في التاريخ الكلاسيكي. وقد بدأ مؤرخاً العام 1930، عندما إهتم بمعركة مجدو، ونشر عنها مقالاً في مجلة «المقتطف» المصرية.

حين عاد إلى جامعة لندن للعمل للدكتوراه، خصصت له الدائرة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية مشرفاً هو الدكتور رايس، فوجد نفسه يكتب رسالته بإشراف نفسه على نفسه، لأن المشرف لم يجتمع به سوى ثلاث مرات خلال السنتين، ولم يقرأ حرفاً من رسالته. العام 1949، التحق نقولا في دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت واستمر فيها حتى العام 1974.

 

بين العمل والكتابة

بعد بلوغه الخامسة والخمسين تقاعد من الجامعة الأميركية، وأشرف في جامعة القديس يوسف - بيروت، على رسائل الدكتوراه في التاريخ العربي، حتى العام 1992. بالإضافة إلى ذلك درس في الجامعة الأردنية (1976 - 1978) وعاد من عمان إلى بيروت، عاملاً في الجامعة اللبنانية محاضراً ومشرفاً، ومشاركاً في عدة مؤتمرات عالمية. وكتب في الصحف والمجلات، مخالفاً بذلك رأي زملائه في الجامعتين الأميركية والأردنية الذين يعتبرون أن مهنة الأستاذ هي التدريس والبحث العلمي، من دون إبداء الرأي في ما تنشره الصحف من مغالطات أو نواقص في الموضوعات التاريخية؛ فزيادة كان باحثاً عندما يجب أن يكون كذلك، لكنه ساهم أيضاً في تثقيف أولئك الذين لم تتح لهم الفرصة لإتمام دراستهم.

 

حركة التاريخ والحداثة العربية

رأى نقولا زيادة أنّ في اللغة العربية كلمتين هما تأريخ وتاريخ.التأريخ المهموزة تدل على تدوين الأحداث، كأن نقول مثلاً، الدولة الأموية إنتهى أمرها العام 132 ه - 760 م، وقامت الدولة العباسية في السنة نفسها. ولكن كلمة تاريخ لها دلالة أخرى، أكبر وأوسع وأعم. فإذا أخذنا ما أشار إليه، وجدنا أن فيه حركة بدأت قبل وقت  طويل وانتهت - إذا كان يجوز القول - بعد ذلك بوقت طويل أيضاً. والذي أراد زيادة قوله هو أن التاريخ حركة دائمة، وهو يستعمل كلمة حركة عامداً، ولا يقول سير التاريخ أو مسيرة التاريخ. فالسير والمسيرة، في منظوره، كلمتان تدلان على إتجاه في خط واحد على العموم؛ لكن الحركة لا تتقيد باتجاه واحد، فقد تكون إلى الأمام أو اليمين أو اليسار، إلى فوق أو إلى تحت، ونراه لم يقل إلى الخلف، لأنها لا تتجه إلى الخلف، إنها تتطلب شيئاً فيه دفع وليس فيه رجوع.
تساءل زيادة عن معنى التراث، وتساءل أيضاً عن معنى الحداثة (والتحديث) وقد أسقط في يده، فلا المعجم أسعفه، ولا ما قرأه عن الحداثة ينير سبيله.
ويقول زيادة : «قبل أن نطبّق ما نعتبره قواعد الحداثة، يتوجب علينا أن نحلّل هذه القواعد ونفككها، ونعيد تركيبها، ثم نقيس ما عندنا، وما نحتاجه، ونسير على هدى».

 

الشيخ نقولا

الفشل الغريب في حياة نقولا زيادة، هو فشله في أن يقنع الكثيرين في المغرب العربي أنه مسيحي، فحجتهم في ذلك أنه لا يمكن للمسيحي أن يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، بل إن الفقيه التطواني أحد علماء المغرب ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد كان يذكره أمام أصحابه باسم «الشيخ نقولا»!!.

 

مؤلفات زيادة

له أكثر من 51 مؤلفاً مطبوعاً ومنها:
- رواد الشرق العربي في العصور، 1943.
- وثبة العرب، 1945.
- العالم القديم (جزءان)، 1942.
- صور من التاريخ العربي، 1946.
- صور أوروبية، 1947.
- عالم العصور الوسطى في أوروبا، 1947.
- قمم من الفكر العربي الإسلامي، 1987.
- الجغرافيا والرحلات عند العرب، 1987.
- شاميات (دراسات في الحضارة والتاريخ)، 1989.
- أفريقيات (دراسات في المغرب العربي والسودان العربي)، 1991.
- لبنانيات (تاريخ وصور)، 1992.
- أيامي (سيرة ذاتية)، 1992.
- مشرقيات (في حالات التجارة والفكر)، 1998.
- في سبيل البحث عن الله، 2000.
- المسيحية والعرب، 2001.
وصدرت أعماله الكاملة في 23 مجلداً.

 

جدية التحليل وغزارة الانتاج

كان نقولا زيادة مفكراً ومؤرخاً جمع بين جدية التحليل وغزارة الانتاج. «رواد الشرق العربي في العصور» الصادر في القاهرة العام 1943 كان أول مؤلفاته، بعده توالت مؤلفاته القيمة التي قدمت قراءة عادلة لتاريخ العرب والمنطقة.
جُمعت مؤلفاته في 23 مجلداً، وفي رد له على سؤال حول أعماله قال:
«لي أربعون كتاباً باللغة العربية وستة كتب بالانكليزية وتسعة كتب مترجمة من الانكليزية إلى العربية وكتاب مترجم من الألمانية إلى العربية اسمه «تاريخ العرب». أول كتاب كان العام 1943، وكان عن رواد الشرق العربي في العصور الوسطى الشرقيين منهم والغربيين، طبع طبعة ثانية العام 1986 في بيروت، ولكن قبل أن أحصل على عدد من النسخ أصيب صاحب دار النشر بالشلل ولا أملك سوى نسختين منه. ولي الخمسة كتب التي ذكرتها. ولي بالانكليزية كتاب عن السنوسية وكتاب عن جذور الحركة الوطنية في تونس. ولي 125 مقالاً كبيراً أو بحثاً ألقي في المؤتمرات.
أما المقالات الصغيرة فكثيرة ولي ألف وسبعمائة حديث إذاعي بالعربية كتبتها وقدمتها وحوالى خمسمائة بالانكليزية».