قصة قصيرة

هذه أرضنا
إعداد: العقيد الركن إميل منذر

غداة عودته إلى ربوع الوطن في إجازة قصيرة بعد عامين من السفر، قلت له: هذه المرّة لن تسافر قبل أن تصعد معي إلى القرية فتراها وتتعرّف إليها عن كثب.
- لماذا، يا أبي، تطلب مني ذلك بإلحاح في كلّ مرّة أجيء فيها إلى لبنان؟ القرية لا شيء يربطني بها. هي بالنسبة إليّ مثل كلّ قرية سمعتُ باسمها، أو عرفتُ على الخريطة موقعها.
- إنها قريتك يا ابني. القرية التي أبصرتَ فيها النور، وتحمل اسمها على بطاقة هويّتك أينما ذهبت.
- أبصرتُ فيها النور، لكنني لم أعش فيها. أنا لا أعرفها، وهي لا تعرفني... وأيّ شيء فيها لنا بعدُ حتى تصحبني إليها! بيتنا العتيق قلتَ إنه خرِب بعدما نزحنا إلى بيروت. والحديقة يبست في غياب مَن يروي أشجارَها ويعتني بها.
- إن فيها تاريخنا وذكرياتنا وتعبنا. فيها الدروب التي برَتْ حجارتَها أقدامُنا، والحقول التي اقتلعت شوكَها أيادينا وحوّلتها جنائن تَرفُل خضرة ونضارة. فيها الشمس التي لوّحت جباهنا وسواعدنا أيّام الحصاد، والنسائم اللطيفة التي حملت مع الفجر أغانينا البلدية الجميلة، والغدران التي روَتْ عطشنا في قفرها وبراريها، والعصافير التي كانت تلوذ بالبيوت طلباً للقوت والدفء كلما تكدّس الثلج شتاءً في الحقول وعلى السطوح، وسدَّ الأبواب... كلّ هذا في القرية يا ابني. وفيها أيضًا التراب الذي يحضن رفات آبائنا وأجدادنا.
- إسمع يا أبي، قال ابني بعدما أطلق زفرة طويلة. القرية لم تعُد لنا. أنت تحبّها ويشدّك الحنين إليها لأنك وُلدتَ فيها ورَبيتَ فيها. أما أنا فلا القرية تلبّي طموحي، ولا حتى هذا البلد يحقّق أحلامي... صحيح أنه وطننا الذي نحبّه ونشتاق في الغربة إليه، لكن الحياة فيه أصبحت قاسية، بل مُرّة. الحياة في المهجر أسهل، والقرش إلى اليد أقرب. والإنسان هناك يؤدّي واجبه فيحصل على حقّه كاملاً غير منقوص. القانون هو السيّد الذي ينحني أمامه الكبير والصغير، ويخضع له القويّ قبل الضعيف.
وتابع ابني يقول من دون أن أجد هذه المرّة كلمة واحدة أردّ بها: لو ان في هذا البلد أمانًا وراحة بال، لنزعتُ فكرة السفر من رأسي إلى الأبد، وعدتُ لأعمل فيه واصلاً الليل بالنهار سعيًا وراء لقمة العيش التي لن تعزّ مهما قسَت الأيّام وجار الزمان. لكن أين الأمان وراحة البال، يا أبي، أين؟
- غدًا تصطلح الأحوال يا ابني، وتعود المياه إلى مجاريها، لأنه لا يصحّ غير الصحيح، كما يقولون.
- إن «غدًا» هذه في اللغة العربية تعني يومًا ما. وهذا اليوم المجهول انتظرناه طويلاً ولم يأتِ، وقد لا يأتي أبداً.
- ليبقَ إيمانك في قيامة هذا الوطن وخلاصه من محنته قويًّا؛ فبالإيمان نقوى ونثبت في هذه الأرض.
- يوم تخرّجتُ بحثتُ طويلاً عن عمل يناسب شهادتي فلم أجد. وغدًا يتخرّج غيري ويبحث مثلي عن وظيفة تتّفق وشهادته ولن يجد. هذه حالنا في هذا الوطن وحال كلّ شابّ من شبّانه الذين باع أهلهم أرضهم ليعلّموهم، ولم يوفَّقوا إلى عمل يأكلون منه خبزهم. وكنا لنرضى بالقليل شاكرين الربّ لو أن الحال في البلد مستقرّة. أما ألاّ يكون عمل ولا يكون استقرار، فهذا ما ليس يُحتمَل. لذلك هاجرتُ كما هاجر قبلي الكثيرون إلى مشارق الأرض ومغاربها، وسيهاجر من بعدي الكثيرون، وهيهات أن يعودوا. وأنا، إن كنت أعود لفترة وجيزة كلّ عام أو عامين، فلأنني أحبّكم وأشتاق إليكم، وأحنّ إلى هذه البلاد المقهورة. أما أن أبقى هنا وأعمل وأعيش هنا، فهذا آخر شيء أراني مقدمًا عليه... هل أبصرتَ يا أبي يومًا رتلاً من الشبّان أمام أبواب إحدى السفارات طلبًا للهجرة أو لتأشيرة عمل؟ هل تعرف مدى المعاناة التي يعيشها المهاجرون الجدد قبل أن يفتح الله لهم أبواب الرزق؟ ما كان أغناهم عن كلّ هذا لو ان فرص العمل وظروف العيش الكريم متوافرة ههنا!
- كثيرون هم الذين جرّبوا الهجرة وذاقوا مرارتها، ثم عادوا يقبّلون تراب لبنان ويتبرّكون به، لأن لبنان جميل بحربه وسلمه، حلو بهدوئه وجنونه، وعزيز بفقره وعزّه.
- أنا، والحمد لله، ممّن ابتسم لهم الحظّ في الغربة. لذلك لن أرتكب حماقة وأحزم حقائبي وأعود لأعيش في الفقر والمذلّة و«وجع الرأس».
- أنت رجُل، وتعرف مصلحتك أكثر مني. على الأهل أن يرشدوا وينصحوا، وللأبناء أن يقرّروا. لكن ما الذي يمنعك من أن تصعد إلى القرية معي فتمضي في ربوعها يومًا ربيعيًا جميلاً!
- أعُدْنا إلى موضوع الضيعة من جديد يا أبي!
- غدًا، يا ابني، سأموت. و«غدًا» هذه بالأجنبية، ولا تشبه «غدًا» العربية، قلتُ وابتسامة حزينة تعلو شفتيّ؛ فابتسم ابني، ثم تابعت: ويوم أموت وتحملونني إلى فوق، لا يصحّ أن يدلّك الناس إلى القرية التي سيضمّ ترابها جسدي، ويقولوا لك: «هذه قريتكم، وتلك مدافن عائلتكم». عندئذٍ اعتصم ابني بالصمت، ولم يقل كلمة. ولما رآني قد طأطأتُ رأسي حزينًا، دنا مني على مهل، وقال: وحياة عينيك لا تزعل. هذه المرّة سأصعد إلى القرية معك.
وكان يوم غد دافئًا بشمسه تطلّ من خلف الغيوم البيض حينًا وتحتجب بخَفَر أحيانًا؛ فقصدنا القرية سالكين طريقًا متعرّجًا تطاولت فوقه أغصان الشوح والصنوبر تتأرجح على أكفّ النسيم. وما انقضى من الوقت ساعة وبعض الساعة حتى بلغنا القرية؛ فاستقبلتنا بقرميد منازلها الذي نالت من حمرته شمس الصيف وثلوج الشتاء، وبخرير سواقيها تنحدر من سفح الجبل لتنضمّ إلى النهر الهادر في الوادي السحيق، وبغناء فلاّحيها في كروم العنب والتين يحرثونها قانعين راضين، وبضحكات صبيانها وبناتها يلعبون في ساحات أعرف كلّ حصاة فيها وتعرفني، وبوجوه شيبها وقد حفرت السنون فيها أخاديد عميقة وحكايات تعب طويلة.
هذه قريتي التي فتحتُ عينيّ عليها يوم فتحت لي الحياة ذراعيها. هذه ضيعتي التي بقي قلبي فيها عندما انسلختُ يومًا عنها.
هنا كان حانوت بابه من خشب عتيق، وكان فيه الكثير من غزل البنات وفستق العبيد. وهناك كان بيدر يعمَر بأكداس السنابل في شهر الحصاد. وهنالك عين ماء لا ينقطع خريرها حتى في أواخر أيّام الصيف. فإذا الحانوت أصبح اليوم مستودعًا كبيرًا، ولم يعد فيه فستق عبيد وغزل بنات. والبيدر نبتَ فيه العشب والشوك، ولم يبقَ منه غير حجارة مرصوفة بشكل مستدير لتشهد عليه. والعين شحّت مياهها فأصبحت أشبه بدموع خرساء تنساب حزنًا على جرار الفخّار التي كانت تزدحم حولها كلّ صباح.
- ضيعتنا جميلة جدًّا، قال ابني.
- آه لو أستطيع أن أبقى فيها حتى يغمض الموت عينيّ على سحر مروجها وروابيها!
وعرّجنا على البيت في وسط البلدة. وعندما أطللنا عليه من بعيد، سبقني قلبي إليه يحتفّ بحجارة جدرانه وبإبريق الفخّار الذي ما زال معلّقًا في الحائط ينتظر يدًا ترفعه إلى فم عطشان، ويتدحرج حول جرن الحجر وقد افتقد مدقّة الخشب، ويتسلّق جذع الدالية الذي تطاولت عليه الأعشاب البرية.
نزلنا إلى الحديقة نجول بين أشجارها؛ فإذا هي مثلي قد دبّ الهزال في عروقها، وسرى اليباس في أغصانها.
- إنها عطشى يا أبي.
- والبِرْكة ههنا ملأى حتى الشَفَة.
- هذا يذكّرني بقول الشاعر:
كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظما
والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ.
- جميل أنك ما زلتَ تحفظ بعض الشعر العربيّ.
- وهل أستطيع أن أنسى وأنت أبي!
- أنظرْ. هذه الشجرة غرسها جدّك، رحمه الله. وتلك غرستها أنا. وهناك مكان خالٍ كان فيه شجرة يبست فاقتُلعت.
- لا يا أبي. لا تنظر إليّ هكذا. أنا لن أغرس واحدة مكان التي يبست. إني لا أعرف من أعمال الزراعة شيئًا.
- أستطيع أن أعلّمك مثلما علّمني جدّك. لا أحد في هذه الحياة يولد معلِّمًا. الزراعة علم وفنّ ورغبة. مَن امتلكها تحقّق له كلّ النجاح.
- حسنًا قلتَ إذ ذكرتَ الرغبة أيضاً. فأنا لا رغبة لي. لذلك لن يفيدني العلم والفنّ في شيء.
من غير أن أقول كلمة، استعنتُ بساعد ابني على تسلّق الدرجات القليلة. وعدنا إلى البيت؛ فدخلنا وأمضينا بعض الوقت مع الجيران الذين أتوا يسلّمون علينا ويسألون عنا. ثم غادرنا بعدما استحلفتُ أحدهم أن يحرث الحديقة ويروي أشجارها، ودفعتُ أجره سلفًا. ومضينا في طريق آخر أقصر من طريق الإياب، أشد قساوة وأكثر ضيقًا.
كانت الدرب كثيرة المنعطفات شديدة الانحدار، تصل الضيعة بوادٍ يكاد لا يدركه البصر لعمقه، ثم تأخذ بالتعرّج صعودًا في الجبل المقابل. ومَن يقف على جسر النهر الحجريّ في ذلك الوادي السحيق وينظر إلى فوق، يخالُ أن هذين الجبلين الشاهقين عن يمينه ويساره يحملان على هامتيهما قبّة السماء.
قبل أن تصل بنا السيّارة إلى النهر تمنّيتُ على ابني أن نتوقّف ونعرّج لبعض الوقت على نبع ماء قريب فنروي منه ظمأنا، ونأخذ قسطاً من الراحة في ظلّ شجرة الصفصاف الكبيرة التي تقوم إلى جانبه؛ فترجّلنا، وانعطفنا سيرًا على أقدامنا في طريق ضيّق سدّته شلوح الوزّال والقندول المشكوكة بأزهار صفر يفوح منها عطر لا يضاهيه أيّ اختراع بشريّ في دكاكين العطّارين. وفوق رأسينا كانت العصافير تقيم مهرجانها في أعالي أشجار السنديان والشربين. ومن حولنا الفراشات ترقص بأجنحتها الملوّنة بين الأزهار والرياحين.
عند حافّة النبع جثوتُ على ركبتيّ، كما كنت أفعل قبل خمس عشرة سنة مضت، وعببتُ من مياهه الباردة العذبة. ولما نهضتُ قال ابني مستهجنًا: يا أبي كيف تفعل! أليس من هذا الجرن أيضاً تشرب الأفاعي والغربان وبنات آوى!
- ثِقْ بأن هذه المياه هي أنقى وأنظف بكثير من تلك التي يبيعوننا إيّاها معبّأةً في قناني بلاستيكية ويقولون لنا إنها طبيعية معدنية. أما بنات آوى والغربان والأفاعي، فلنا معها في هذه الأرض تاريخ صداقة طويل. معها عشنا فألفناها وألفتْننا. وكم في بني البشر، يا ابني، مَن هم أكثر أذيّة منها!
- إنك في ذلك لعلى حقّ يا أبي.
هكذا قال ابني. وجلس في ظلّ الصفصافة مسندًا ظهره إلى جذعها الضخم العتيق. وما أجال بصره في الحرج من حوله حتى اتّسعت عيناه دهشةً؛ فاستقام في جلوسه فجأة، وقال: أنظر هناك وسط تلك الأشجار البريّة. إنه لمشهد غريب حقًّا.
- وما الغرابة فيه؟
- هناك شجرة ليمون نبتت وكبرت في حرج البطم والملّول.
ساعتئذٍ ضحكتُ؛ فسأل ابني: علامَ تضحك يا أبي؟
- إن ما تراه حرجًا من الملّول والبطم، كان في الحقيقة بستانًا من الليمون لا ورقة صفراء على غصن شجرة منه ولا عشبة بريّة فيه. وهذا البستان كان... لنا.
- لنا!
- لقد ورثتُه عن جدّك. وجدّك ورثه عن أبيه. وعندما آل إليّ، بعتُه لأعلّمك. لكن الذي اشتراه لم يهتمّ به فصارت هذه حاله.
إذّاك خفضتُ رأسي؛ فسالت دمعتان غصبًا عني من عينيّ؛ فتابعتُ أقول بصوت مجروح: أتعتقد أنني طلبتُ منك أن نعرّج على هذا المكان طلباً لجرعة ماء وما بي عطش، أو قليل من الراحة وما بي تعب! لا يا ابني.
لكنني في الحقيــقـة اشتـقـــت إلى هـذه الأرض التـي طالــما تعـبتُ فيها كما تعب من قبلُ أبي وجدّي؛ فأحببتُ أن أراها وأكحّــل عيـنـيّ بمشاهـدتهـا، ربما للمـرّة الأخيـرة قبـل أن أموت.
- يا لهذه الشجرة التي رفضت أن تموت؛ فبقيت تعاند وتجاهد وسط هذا الزحف البريّ نحوها من كلّ الجهات!
- الشرّ يا ابني قويّ. إنه لا يكفّ عن الزحف إلى حقول الخير، والخير يتقهقر ويتراجع... هكذا ينبت الشوك والزؤان بين سنابل القمح، وأشجار البطم والسنديان في بستان الليمون. وما رأيت شجرة ليمون واحدة تنبت في حرج السنديان، أو سنبلة قمح واحدة تعلو في حقل الزؤان والشوك.
- هذه الشجرة علّمتني درسًا كبيرًا لن أنساه. علّمتني أن الصمود يحتاج إرادة صلبة. والإرادة الصلبة هي وحدها الكفيلة بإبقائنا متجذّرين وثابتين في هذه الأرض. أجدادنا فتّتوا الصخر بسواعدهم وإيمانهم وتصميمهم. وحوّلوا الوعر كرومًا وجنائن. وقنعوا بشظف العيش وقساوة الحياة وما تركوا أرضهم. تعرّضوا للظلم والاضطهاد على مرّ العصور وما هجروا قراهم. تحمّلوا وصبروا وجالدوا مثل هذه الشجرة الصابرة المجالدة. هذه الشجرة بقيت حيّة لتشهد لهم.
أما نحن، أبناء هذا الجيل، فنريد الراحة والبحبوحة على طبق من فضّة. قليل من التعب يثني عزائمنا. وقليل من القلق وانشغال البال يدفعنا إلى هجر وطننا. لا يا أبي. لن أسافر من جديد. هذه المرّة سأبقى هنا. رغيف من الخبز المبلّل بعرق العافية يكفي. وجرعة ماء من عين الضيعة تروي. هذه الأرض التي كانت لنا ستعود لنا. سأشتريها، وأحرثها، وأقتلع البرّيّ من شجرها، وأعيدها بستان ليمون نضراً مثلما كان. ولكن هل ستعلّمني كيف أفلح الأرض وأزرعها وأعتني بها؟
هكذا سألني ابني واضعًا يده على كتفي فيما عيناه تبتسمان؛ فهززتُ رأسي مجيبًا أن نعم لأن دموع الفرح والرضا خنقت كلّ الكلمات في فمي.